الفصل الثالث

الأقوال والآراء في أهل السنّة
حول التحريف وأحاديثه



( 214 )


( 215 )

لقد تقدّم ذكر الأحاديث الدالّة على التحريف ... وعرفت من خلال ذلك أنّ القول بنقصان القرآن مضاف إلى جماعة كبيرة من صحابة رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وعلى راسهم :
عمر بن الخطّاب ، عثمان بن عفّان ، عبدالله بن العبّاس ، عبدالله بن عمر ، عبدالرحمن بن عوف ، اُبيّ بن كعب ، عبدالله بن مسعود ، زيد بن ثابت ، أبو موسى الأشعري ، خديفة بن اليمان ، جابر بن عبدالله ، زيد بن أرقم ، عائشة بنت أبي بكر ، حفصة بنت عمر ...
ومن مشاهير التابعين ... وعلى رأسهم :
سعيد بن جبير ، عكرمة ، الضحّاك ، سعيد بن المسّيب ، عروة بن الزبير ، محمد بن مسلم الزهري ، زرّ بن حبيش ، مجاهد ، الحسن البصري ...
وعرفت أنّ تلك الاحاديث مخرجة في أهمّ كتب أهل السنّة وأسفارهم ، ومن أشهرها :
الموطّأ ، صحيح البخاري ، صحيح مسلم ، صحيح الترمذي ، صحيح النسائي ، صحيح ابن ماجة ، المصنّف لابن أبي شيبة ، المسند لأحمد ، المستدرك للحاكم ، الجوامع الثلاثة للطبراني ، المسند لأبي يعلى ، السنن للبيهقي ، جامع الاصول ، فتح الباري ، إرشاد الساري ، المصاحف لابن الأنباري ، الدرّ المنثور ، كنز العمّال ، تاريخ دمشق ، تفسير الطبري ، تفسير الرازي ، تفسير القرطبي ، تفسير البغوي ، تفسير الخازن ، الكشّاف ، البحر المحيط تفسير ابن كثير ، مشكل


( 216 )

الآثار ، التسهيل لعلوم التنزيل ، البرهان في علوم القرآن ، مناهل العرفان في علوم القرآن ، الإتقان في علوم القرآن ، وغيرها من الكتب في الحديث والفقه والتفسير ...

موقف علماء الشيعة من هذه الأخبار والآثار :
أمّا علماء الشيعة فإنّ موقفهم من هذه الأحاديث والآثار المنقولة عن الصحابة نفس الموقف الذي اتّخذوه تجاه الأحاديث المرويّة في كتبهم أنفسهم ... فإنّهم بعدما قالوا بعدم تحريف القرآن ـ للأدلّة القائمة عليه كتاباً وسنّة وإجماعاً ـ حملوا ما أمكن حمله من أحاديثهم المعتبرة سنداً على بعض الوجوه ، وطرحوا كل خبر غير معتبر سنداً أو غير قابل للتأويل ... كما عرفت في ( الباب الأول ) بالتفصيل .
وهذا هو النهج الذي ينبغي اتّباعه بالنسبة إلى أحاديث التحريف في كتب أهل السنّة ... وبه يتمّ الجمع بين الإعتقاد بعدم التحريف والإعتقاد بصحّة أخبار الصحيحين وغيرهما ... على اصول أهل السنّة ...
إنّ التأويل إمّا الحمل على التفسير ، وإمّا الحمل على اختلاف القراءة ، وإمّا الحمل على نسخ التلاوة . لكنّ التأويل على الوجهين الأوّلين لا يتمّ إلاّ بالنسبة إلى قليل جدّاً من الأحاديث ، والحمل على نسخ التلاوة غير تامّ صغروياً وكبروياً ، كما ستعرف في « الفصل الرابع » .
فلا مناص من الردّ والتكذيب ... ولا مانع ، إلاّ ما اشتهر بينهم من عدالة جميع الصحابة وصحّة أخبار الصحيحين وأمثالها ... لكنّ هذين المشهورين لا أصل لهما ... كما ستعرف في « الفصل الخامس » .


( 217 )

هذه خلاصة الطريقة الصحيحة لعلاج هذه الأحاديث ، وعليها المحقّقون من أهل السنّة ، كما سيظهر في هذا الفصل والفصلين اللاحقين .

موقف أهل السنّة من هذه الأحاديث والآثار :
وأمّا أهل السنّة فالرواة لهذه الأحاديث منهم من يلتزم بصحّتها كأصحاب الصحاح الستّة وأمثالهم من أرباب الكتب المشهورة والمسانيد ، ومنهم من لا ندري رأيه فيها ... كما لا ندري أنّ القائلين بالحصّة يحملون تلك الآيات المحكيّة في هذه الأحاديث على النسخ ، أو يقولون بالتحريف تبعاً لمن قال به من الصحابة والتابعين ...
وفي المقابل طائفتان من المحدّثين والعلماء ؛ طائفة تقول بالتحريف صراحة ، أخذاً بالأحاديث الظاهرة فيه ، واقتداءاً بالصحابة المصرّحين به ، وطائفة تقول ببطلان الأحاديث وتردّها الردّ القاطع ...
فأهل السنّة بالنسبة إلى أحاديث التحريف على ثلاثة طوائف :

طائفة يروون التحريف ولا نعلم رأيهم فيه
وهم المحدّثون والعلماء الّذين يروون أحاديث التحريف وينقلونها في كتبهم الحديثية وغيرها ، ولا سبيل لنا إلى الوقوف على آرائهم في تلك الأحاديث ، فهل يقولون بصحّتها أولا ؟ وعلى الأول هل يحملونها على النسخ ؟ أو يقولون بالتحريف حقيقة ؟
وهؤلاء كثيرون ، بل هم أكثر رجال الحديث والمحدّثين والعلماء الرواة


( 218 )

والناقلين لهذه الأحاديث ...

طائفة يروونه ويقولون به :
وهم الّذين أوردوا الأحاديث والآثار الظاهرة أو الصريحة في نقصان القرآن من غير جواب أو تأويل ، وهؤلاء عدّة من العلماء وليس عددهم بقليل ...
فمثلاً :
يقول ابن جزي الكلبي في تفسيره : « والصابئون . قراءة السبعة بالواو ، وهي مشكلة ، حتى قالت عائشة : هي من لحن كتاب المصحف » (1) .
ـ « والمقيمين » منصوب على المدح بإضمار فعل ، وهو جائز كثيراً في الكلام ، وقالت عائشة : هو من لحن كتّاب المصحف ، وفي مصحف ابن مسعود : ( والمقيمون ) على الأصل » (2) .
ـ « إنّ هذان لساحران » قرىء : إنّ هذين ، بالياء ، ولا إشكال في ذلك ... وقالت عائشة رضي الله عنها : هذا ممّا لحن فيه كتاب المصحف » (3) .
ويقول الخطيب الشربيني في تفسيره :
« وحكي عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ وأبان بن عثمان : أنّ ذلك غلط من الكتاب ، ينبغي أن يكتب « والمقيمون الصلاة » . وكذلك قوله في سورة
____________
(1) التسهيل لعلوم التنزيل 1 : 173 وابن جزي الكلبي المالكي وصفه الداودي في طبقات المفسرين 1 : 101 بقوله : كان شيخاً جليلاً ورعاً زاهداً عابداً متقلّلاً من الدنيا وكان فقيهاً مفسّراً وله تفسير القرآن العزيز ، توفّي في حدود العشرين وستمّائة .
(2) التسهيل لعلوم التنزيل 1 : 164 .
(3) التسهيل لعلوم التنزيل 3 : 15 .

( 219 )

المائدة : ( إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والصابئون والنصارى ) وقوله تعالى : ( إنّ هذان لساحران ) قالا : ذلك خطأ من الكاتب ، وقال عثمان : إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها ، فقيل له : ألا تغيّره ؟! فقال : دعوه فإنّه لا يحلّ حراماً ولا يحرّم حلالاً . وعامّة الصحابة وأهل العلم على أنّه صحيح » (1) .
وإذا ما قارنت بين هذا الموقف وموقف الطائفة الثالثة من هذه الأحاديث ، وأساليبهم في ردّها ، أمكنك نسبة القول بالتحريف إلى هذين العالمين الجليلين وأمثالهما من أهل السنّة ...

التصريح بوقوع التحريف
بل في علماء أهل السنّة من يعتقد بتحريف القرآن الكريم وينادي به بأعلى صوته ... إمّا اعتماداً على ما روي في كيفية جمع القرآن ، وإمّا اعتقاداً بصحّة كل ما اخرج في كتابي البخاري ومسلم ، وإمّا إنكاراً لنسخ التلاوة ... وعلى كلّ حال ... فقد ذهب جماعة منهم إلى القول بسقوط شيء من القرآن ، قال الرافعي ما نصّه : « ... فذهب جماعة من أهل الكلام ـ ممّن لا صناعة لهم إلاّ الظّن والتأويل واستخراج الأساليب الجدليّة من كلّ حكم وكلّ قول ـ إلى جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شيء ، حملاً على ما وصفوا من كيفيّة جمعه » (2) .
وقال القرطبي : « قال أبو عبيد : وقد حدّثت عن يزيد بن زريع ، عن عمران بن جرير ، عن أبي مجلز ، قال : طعن قوم على عثمان رحمه الله ـ بحمقهم ـ
____________
(1) السراج المنير 1 : 345 لمحمد بن أحمد الخطيب الشربيني الفقيه الشافعي المفسّر ، توفي سنة 977 ، له ترجمة في الشذرات 8 : 384 .
(2) إعجاز القرآن : 41 .

( 220 )

جمع القرآن ، ثمّ قرأوا بما نسخ » (1) .
وقال : « قال أبو عبيد : لم يزل صنيع عثمان ـ رضي الله عنه ـ في جمعه القرآن يعدّ له بأنّه من مناقبه العظام ، وقد طعن عليه فيه بعض أهل الزيغ ، فانكشف عواره ووضحت فضائحه » (2) .
وقال أيضاً : « قال الإمام أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن محمد الأنباري : ولم يزل أهل الفضل والعقل يعرفون من شرف القرآن وعلوّ منزلته ما يوجب الحقّ والإنصاف والديانة ، وينفون عنه قول المبطلين وتمويه الملحدين وتحريف الزائغين ، حتى نبغ في زماننا هذا زائغ زاغ عن الملّلة وهجم على الامّة بما يحاول به إبطال الشريعة التي لا يزال الله يؤيّدها ويثبت اسّها وينمي فرعها ويحرسها عن معايب اولي الجنف والجور ومكائد أهل العداوة والكفر .
فزعم أنّ المصحف الذي جمع عثمان رضي الله عنه ـ باتّفاق أصحاب رسول الله [ صلّى الله عليه وآله وسلّم ] على تصويبه فيما فعل ـ لا يشتمل على جميع القرآن ، إذ كان قد سقط منه خمسمائة حرف ، قد قرأت ببعضها وسأقرأ ببقيّتها ، فمنها [ والعصر ـ ونوائب الدهر ـ ] فقد سقط من القرآن على جماعة المسلمين « ونوائب الدهر » ومنها [ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّيّنت وظنّ أهلها أنّهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس ـ وما كان الله ليهلكها إلاّ بذنوب أهلها ـ ] فادّعى هذا الإنسان أنّه سقط عن أهل الإسلام من القرآن « وما كان الله ليهلكها إلاّ بذنوب أهلها » وذكر ممّا
____________
(1) الجامع لأحكام القرآن 1 : 84 .
(2) الجامع لأحكام القرآن 1 : 84 .

( 221 )

يدّعي حروفاً كثيرة ... » (1) .
ولقد نسب هذا القول إلى الحشوية من أهل السنّة والجماعة ـ وهم أصحاب أبي الحسن البصري ـ فإنّهم ذهبوا إلى وقوع التحريف في القرآن تغييراً ونقصاناً (2) .
وفي كلام النحّاس : إنّ العلماء تنازعوا حديث عائشة في الرضاع ، فردّه جماعة وصحّحه آخرون ، قال :
« وأمّا قول من قال : إنّ هذا كان يقرأ بعد وفاة رسول الله ـ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ـ فعظيم ... » وستأتي عبارته كاملة .
ومن الواضح : أنّه إذا كان يقرأ بعد وفاته ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في أصل القرآن وأنّه لا نسخ بعده ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بالإجماع ... فهو إذاً ساقط من القرآن ، فالقرآن محرّف ... ومن ثمّ استعظم النّحّاس هذا القول .
وأمّا توجيه البيهقي لهذا الحديث : فإقرار منه بأنّ هذا كان من القرآن حتى بعد وفاة النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وكان المسلمون يتلونه في أصل القرآن .
وزعمه : أنّ الآية كانت منسوخة على عهده ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وأنّ الذّين كانوا يتلونها لم يبلغهم النسخ ، عارٍ عن الصحّة ولا دليل يدلّ عليه ، على أنّا نقطع بأنّه كما كان النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ينشر سور القرآن وآياته ويأمر بقراءتها بمجّرد نزولها ، فإنّه كان عليه ـ على فرض وجود النسخ بصورة عامّة ـ أن يذيع ذلك بين الامّة ويبلّغهم جميعاً ليطّلع الكلّ على ذلك ، كما
____________
(1) الجامع لأحكام القرآن 1 : 81 ـ 82 .
(2) مجمع البيان وغيره .

( 222 )

كان يفعل بالنسبة إلى نشر الآيات والسور النازلة .
على أنّ كلامه يستلزم أن تكون الآية من القرآن وأن لا تكون منه في وقت واحد ، وهو باطل ... وسيأتي مزيد بحث حوله في « الفصل الرابع » .
وقال الشعراني (1) : « ولو لا ما يسبق للقلوب الضعيفة ووضع الحكمة في غير أهلها لبيّنت جميع ما سقط من مصحف عثمان » (2) .
وقال الزرقاني ـ في بيان الأقوال في معنى حديث نزول القرآن على سبعة أحرف ـ ما نصّه : « وهو : أنّ المراد بالأحرف : السبعة أوجه من الألفاظ المختلفة في كلمة واحدة ومعنى واحد ، وإن شئت فقل : سبع لغات من لغات العرب المشهورة في كلمة واحدة ومعنى واحد ، نحو : هلمّ وأقبل وتعال وعجّل وأسرع وقصدي ونحوي ، فهذه ألفاظ سبعة معناها واحد هو : طلب الإقبال .
وهذا القول منسوب لجمهور أهل الفقه والحديث ، منهم : سفيان ، وابنه وهب ، وابن جرير الطبري ، والطحاوي » .
قال : « إنّ أصحاب هذا القول ـ على جلالة قدرهم ونباهة شأنهم ـ قد وضعوا أنفسهم في مأزق ضيق ، لأنّ ترويجهم لمذهبهم اضطرّهم إلى أن يتورّطوا في أمور خطرها عظيم ، إذ قالوا : إنّ الباقي الآن حرف واحد من السبعة التي نزل عليها القرآن ، أمّا الستّة الاخرى فقد ذهبت ولم يعد لها وجود ألبتّة ، ونسوا أو تناسوا تلك الوجوه المتنوّعة القائمة في القرآن على جبهة الدهر إلى اليوم .
ثمّ حاولوا أن يؤيّدوا ذلك فلم يستطيعوا أن يثبتوا للأحرف السّتة التي
____________
(1) الشيخ عبد الوهاب بن أحمد الشعراني ، من فقهاء الحنفية ومن علماء المتصوّفين ، له مؤلفات كثيرة في الحديث والمواعظ والتراجم وغيرها من العلوم ، توفّي سنة 973 ، وله ترجمة في الشذرات : 8 : 372 وغيرها .
(2) الكبريت الاحمر ـ المطبوع على هامش اليواقيت والجواهر : 143 .

( 223 )

يقولون بضياعها نسخاً ولا رفعاً ، وأسلمهم هذا العجز إلى ورطة اخرى هي : دعوى إجماع الامّة على أن تثبت على حرف واحد وأن ترفض القراءة بجميع ما عداه ما الاحرف الستّة ، وأنّى يكون لهم هذا الإجماع ولا دليل عليه ؟!
هنالك احتالوا على إثباته بورطة ثالثة وهي : القول بأنّ استنساحخ المصاحف في زمن عثمان ـ رضي الله عنه ـ كان إجماعاً عن الامّة على ترك الحروف الستذة والإقتصار على حرف واحد هو الذي نسخ عثمان المصاحف عليه .
إلاّ إنّ هذه ثغرة لا يمكن سدّها ، وثلمة يصعب جبرها ، وإلاّ فكيف يوافق أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ على ضياع ستّة حروف نزل عليها القرآن دون أن يبقوا عليها مع أنّها لم تنسخ ولم ترفع ؟!
وقصارى القول : إنّنا نربأ بأصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أن يكونوا قد وافقوا أو فكّروا فضلاً في أن يتآمروا على ضياع أحرف القرآن الستّة دون نسخ لها ، وحاشا عثمان ـ رضي الله عنه ـ أن يكون قد أقدم على ذلك وتزعّمه ... » (1) .
قلت : ومثل هذا كثير ، يجده المتتبّع لكلماتهم وآرائهم في كتب الفقه والحديث والتفسير والقراءات .
وعن الثوري (2) أنّه قال : « بلغنا أنّ ناساً من أصحاب النبي ـ صلًى الله عليه وآله وسلّم ـ كانوا يقرأون القرآن اصيبوا يوم مسيلمة فذهبت حروف من
____________
(1) مناهل العرفان 1 : 244 .
(2) سفيان بن سعيد الثوري ، الملقّب عندهم بـ « أمير المؤمنين في الحديث » والموصوف بـ « سيّد أهل زمانه في علوم الدين والتقوى » وغير ذلك . أنظر ترجمته في حلية الأولياء 6 : 356 ، تهذيب التهذيب 4 : 111 ، تاريخ بغداد 9 : 151 ، وغيرها .

( 224 )

القرآن » (1) .
وقال ابن الخطيب في كتابه ( الفرقان ) (2) تحت عنوان « لحن الكتّاب في المصحف » : « وقد سئلت عائشة عن اللحن الوارد في قوله تعالى : ( إنّ هذان لساحران ) وقوله عزّ من قائل : ( والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ) وقوله جلّ وعزّ : ( إنّ الذّين آمنوا والّذين هادوا والصابئون ) . قالت : هذا من عمل الكتّاب ، أخطأوا في الكتاب .
وقد ورد هذا الحديث بمعناه بإسناد صحيح على شرط الشيخين .
وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي خلف ـ مولى بني جمع ـ أنّه دخل على عائشة فقال : جئت أسألك عن آية في كتاب الله تعالى كيف يقرؤها رسول الله ؟ قالت : أيّة آية ؟ قال : الّذين يأتون ما أتوا . أو : الّذين يؤتون ما آتوا ! قالت : أيّهما أحبّ إليك ؟ قال : والذي نفسي بيده ، لإحداهما أحبّ إليّ من الدنيا جميعاً . قالت : أيّتهما ؟ قال : الّذين يأتون ما أتوا . فقالت : أشهد أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كذاك كان يقرأها وكذلك انزلت ، ولكنّ الهجاء حرّف .
وعن سعيد بن جبير ، قال : في القرآن أربعة أحرف لحن : والصّابئون .
____________
(1) الدرّ المنثور 5 : 179 .
(2) طبع هذا الكتاب بمطبعة دار الكتب المصرية سنة 1367 ـ 1948 ، وصاحبه من الكتاب المصريّين المعاصرين ، وهو يشتمل على بحوث قرآنية في فصول تناول فيها بالبحث مسالة القرءآت ، والناسخ والمنسوخ ، ورسم المصحف وكتابته ، وترجمة القرآن إلى اللغات . إلى غير ذلك ، وله في هذا الكتاب آراء وأفكار أهمّها كثرة الخطأ في القرآن ووجوب تغيير رسمه وجعل ألفاظه كما ينطق بها اللسان وتسمعها الآذان ، فطلب علماء الأزهر من الحكومة مصادرة هذا الكتاب ، فاستجابت له وصادرته ، وسنذكر رأينا في خصوص ما ذكره حول خطأ الكتّاب ، في بحوثنا الآتية .

( 225 )

والمقيمين . فاصّدّق وأكن من الصالحين . إنّ هذان لساحران .
وقد سئل أبان بن عثمان كيف صارت : ( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما انزل إليك وما انزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ) ما بين يديها وما خلفها رفع وهي نصب ؟ قال :من قبل الكاتب ، كتب ما قبلها ثمّ سأل المملي : ما أكتب ؟ قال : أكتب المقيمين الصلاة ، فكتب ما قيل له لا ما يجب عربّيةً ويتعيّن قراءةً .
وعن ابن عبّاس في قول تعالى : ( حتى تستأنسوا وتسلّموا ) قال : إنّما هي خطأ من الكاتب ، حتى تستأذنوا وتسلّموا .
وقرأ أيضاً : أفلم يتبيّن الّذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً . فقيل له : إنّها في المصحف : ( أفلم ييأس ) ؟ فقال : أظنّ أن الكاتب قد كتبها وهو ناعس .
وقرأ أيضاً : ووصّى ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه وكان يقول : إنّ الواو قد التزقت بالصاد .
وعن الضحّاك : إنّما هي : ووصّى ربّك ، وكذلك كانت تقرأ وتكتب ، فاستمدّ كاتبكم فاحتمل القلم مداداً كثيراً فالتزقت الواو بالصاد ، ثمّ قرأ : ( ولقد وصّينا الّذين اوتوا الكتاب من قبلكم وإيّاكم أن اتّقوا الله ) . ( ووصّينا الإنسان بوالديه ) . وقال : لو كانت « قضى » من الربّ لم يستطع أحد ردّ قضاء الربّ تعالى . ولكنّها وصيّة أوصى بها عباده .
وقرأ ابن عبّاس أيضاً : ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء . ويقول : خذوا الواو من هنا واجعلوها ها هنا عند قوله تعالى : ( الّذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم


( 226 )

الوكيل ) يريد بذلك أن تقرأ : والّذين قال لهم الناس .
وقرأ أيضاً : مثل نور المؤمن كمشكاة ، وكان يقول : هي خطأ من الكتاب ، هو تعالى أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة .
وذكر ابن أشتة بأنّ جميع ما كتب خطأ يجب أن يقرأ على صحّته لغةً لا على رسمه ، وذلك كما في « لا أوضعوا ، لا أذبحنّه » بزياده ألف في وسط الكلمة . فلو قرء ذلك بظاهر الخطّ لكان لحناً شنيعاً يقلب معنى الكلام ويخلّ بنظامه ، يقول الله تعال : ( إنّا نحن الذكر وإنّا له لحافظون ) .
ومعنى حفظ القرآن : إبقاء شريعته وأحكامه إلى يوم القيامة وإعجازه أبد الدهر ، بحيث يظلّ المثل الأعلى للبلاغة والرصانة والعذوبة ، سهل النطق على اللسان ، جميل الوقع في الآذان ، يملك قلب القارئ ولبّ السامع .
وليس ما قدّمنا من لحن الكتّاب في المصحف بضائره أو بمشكّك في حفظ الله تعالى له ، بل إنّ ما قاله ابن عبّاس وعائشة وغيرهما من فضلاء الصحابة وأجلاّء التابعين أدعى لحفظه وعدم تغييره وتبديله . وممّا لا شك فيه أنّ كتّاب المصحف من البشر ، يجوز عليهم ما يجوز على سائرهم من السهو والغفلة والنسيان . والعصمة لله وحده ، ومثل لحن الكتّاب كلحن المطابع ، فلو أنّ إحدى المطابع طبعت مصحفاً به بعض الخطأ ـ وكثيراً ما يقع هذا ـ وسار على ذلك بعض قرّاء هذا المصحف ، لم يكن ذلك متعارضاً مع حفظ الله تعالى له وإعلائه لشأنه » (1) .
قال : « وإنّما الذي يستسيغه العقل ويؤيّده الدليل والبرهان أنّه إذا تعلّم فرد الكتابة في امّة اميّة ، فإنّ تعلّمه لها يكون محدوداً ويكون عرضة للخطأ في وضع
____________
(1) الفرقان : 41 ـ 46 ملخصاً .
( 227 )

الرسم والكلمات ، ولا يصحّ والحال كما قدّمنا أن يؤخذ رسمه هذا انموذجاً تسير عليه الامم التي ابتعدت عن الاميّة بمراحل ، وأن نوجب عليها أخذه على علاّته وفهمه على ما فيه من تناقض ظاهر وتنافر بيّن ، وذلك بدرجة أنّ العلماء الّذين تخصّصوا في رسم المصحف لم يستطيعوا أن يعلّلوا هذا التباين إلاّ بالتجائهم إلى تعليلات شاذة عقيمة » (1) .
هذا ... ومن المناسب أن ننقل في المقام ما ذكره الحجّة شرف الدين بهذا الصدد ، فقد قال ما نصه :
« وما أدري ـ والله ـ ما يقولون فيما نقله عنهم في هذا الباب غير واحد من سلفهم الأعلام كالإمام أبي محمد بن حزم ، إذ نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري في ص 207 من الجزء الرابع من ( الفصل ) أنّه كان ويقول :
إنّ القرآن المعجز إنّما هو الذّي لم يفارق الله عزّ وجلّ قطّ ، ولم يزل غير مخلوق ولا سمعناه قطّ ولا سمعه جبرائيل ولا محمد عليهما السلام قطّ ، وإلى آخر ما نقله عن الإمام الأشعري وأصحابه ـ وهم جميع أهل السنّة ـ حتى قال في ص 211 ما هذا لفظة :
« وقالوا كلّهم : إنّ القرآن لم ينزل به قطّ جبرائيل على قلب محمد عليه الصلاة والسلام ، وإنّما نزل عليه شيء آخر هو العبارة عن كلام الله ، وإنّ القرآن ليس عندنا ألبتّة إلاّ على هذا المجاز ، وإنّ الذي نرى في المصاحف ونسمع من القرآن ونقرأ في الصلاة ونحفظ في الصدور ليس هو القرآن ألبتّة ، ولا شيء منه كلام الله ألبتة بل شيء آخر ، وإنّ كلام الله تعالى لا يفارق ذات الله عزّ وجلّ » .
ثمّ استرسل في كلامة عن الأشاعرة حتى قال في ص 210 : « ولقد أخبرني
____________
(1) الفرقان : 58 .
( 228 )

علي بن حمزة المرادي الصقلي : أنّه رأى بعض الأشعرية يبطح المصحف برجله ، قال : فأكبرت ذلك وقلت له : ويحك ! هكذا تصنع بالمصحف وفيه كلام الله تعالى ؟! فقال لي : ويلك ! والله ما فيه إلاّ السخام والسواد ، وأمّا كلام الله فلا » .
قال ابن حزم : « وكتب إليّ أبو المرحي بن رزوار المصري : أنّ بعض ثقات أهل مصر من طلاّب السنن أخبره : أنّ رجلاً من الأشعرية قال له مشافهة : على من يقول : إنّ الله قال : قل هو الله أحد الله الصمد ، ألف لعنة » إلى آخر ما نقله عنهم ، فراجعه من ص 204 إلى ص 226 من الجزء الرابع من ( الفصل ) ... » (1) .

طائفة يروون ويردّون أو يؤوّلون
وهم الّذين لم يأخذوا بما دلّت عليه تلك الأحاديث ولم يتّبعوا الصحابة فيما تحكيه عنهم تلك الآثار ، وهم بين رادّ عليها الردّ القاطع ، وبين مؤوّل لها على بعض الوجوه ... وقد انصبّت كلمات الردّ والنقد ـ في الأغلب ـ على الآثار المحكيّة ـ التي ذكرنا بعضها في الفصل الأول تحت عنوان « كلمات الصحابة والتابعين في وقوع الحذف والتغيير والخطأ في القرآن المبين » ـ بالطعن في الراوي أو الرواية أو الصحابي ... على تفاوت فيما بينها في المرونة والخشونة ...

ردّ أحاديث الخطأ في القرآن
قال الطبري بعد ذكر مختاره : « وإنّما اخترنا هذا على غيره لأنّه قد ذكر أنّ ذلك في قراءة اُبيّ بن كعب ( والمقيمين ) وكذلك هو في مصحفه فيما ذكروا ، فلو كان
____________
(1) أجوبة مسائل جار الله : 36 .
( 229 )

ذلك خطأ من الكاتب لكان الواجب أن يكون في كلّ المصاحف غير مصحفنا الذي كتبه لنا الكاتب الذي أخطأ في كتابه بخلاف ما هو في مصحفنا ، وفي اتّفاق مصحفنا ومصحف اُبيّ ما يدلّ على أنّ الذي في مصحفنا من ذلك صواب غير خطأ . مع أنّ ذلك لو كان خطأ من جهة الخطّ لم يكن الّذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يعلّمون من علّموا ذلك من المسلمين على وجه اللحن ، ولأصلحوه بالسنتهم ولقّنوه للامّة تعليماً على وجه الصواب ، وفي نقل المسلمين جميعاً ذلك ـ قراءة على ماهو به في الخطّ مرسوماً ـ أدلّ دليل على صحّة ذلك وصوابه ، وأن لا صنع في ذلك للكاتب » (1) .
وقال الداني : « فإن قال قائل : فما تقول في الخبر الذي رويتمره عن يحيى ابن يعمر وعكرمة مولى ابن عبّاس عن عثمان أنّ المصاحف لمّا نسخت عرضت عليه فوجد فيها حروفاً من اللحن ، فقال : أتركوها فإنّ العرب ستقيمها ـ أو ستعربها ـ بلسانها . إذ ظاهره يدلّ على خطأ في الرسم .
قلت : هذا الخبر عندنا لا يقوم بمثله حجّة ، ولا يصحّ به دليل من جهتين ، إحداهما : أنّه ـ مع تخليط في إسناده واضطراب في ألفاظه ـ مرسل ، لأنّ ابن يعمر وعكرمة لم يسمعا من عثمان شيئاً ، ولا رأياه ، وأيضاً ، فإنّ ظاهر ألفاظه ينفي وروده عن عثمان ، لما فيه من الطعن عليه ، مع محلّة من الدين ومكانه من الإسلام ، وشدّة اجتهاده في بذل النصيحة ، واهتباله بما فيه الصلاح للأمّة . فغير متمكّن أن يقول لهم ذلك وقد جمع المصحف مع سائر الصحابة الأخيار الأتقيار الأبرار نظراً لهم ليرتفع الإختلاف في القرآن بينهم ، ثمّ يترك لهم فيه مع ذلك لحناً وخطأً يتولّى تغييره من يأتي بعده ، ممّن لا شكّ أنّه لا يدرك مداه ولا يبلغ غايته ولا غاية من
____________
(1) تفسير الطبري 6 : 19 .
( 230 )

شاهد . هذا ما لا يجوز لقائل أن يقوله ، ولا يحلّ لأحد أن يعتقده .
فإن قال : فما وجه ذلك عندك لو صحّ عن عثمان ؟
قلت : وجهه أن يكون عثمان أراد باللحن المذكور في التلاوة دون الرسم » (1) .
وقال الزمخشري : « ( والمقيمين ) نصب على المدح لبيان فضل الصلاة وهو باب واسع قد ذكره سيبويه على أمثله وشواهد ، ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خطّ المصحف ، وربّما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الإختصاص من الإفتنان ، وغبّي عليه أنّ السابقين الأوّلين الّذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همّة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدّها من بعدهم ، وخرقاً يرفوه من يلحق بهم ... » (2) .
وقال الرازي : « وأمّا قوله : ( والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ) ففيه أقوال ؛ الأول : روي عن عثمان وعائشة أنّهما قالا : إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها . واعلم : أنّ هذا بعيد ، لأنّ هذا المصحف منقول بالنقل المتواتر عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه ؟! » (3) .
وقال الزمخشري في الآية ( ... حتى تستأنسوا ... ) بعد نقل الرواية عن ابن عبّاس فيها : « ولا يعول على هذه الرواية » (4) .
وقال الرازي فيها : « واعلم أنّ هذا القول من ابن عبّاس فيه نظر ، لأنّه
____________
(1) تاريخ القرآن ـ لمحمد طاهر الكردي ـ ص 65 عن المقنع .
(2) الكشّاف 1 : 582 .
(3) التفسير الكبير 11 : 105 ـ 106 .
(4) الكشاف 3 : 59 .

( 231 )

يقتضي الطعن في القرآن الذي نقل بالتواتر ، ويقتضي صحّة القرآن الذي لم ينقل بالتواتر ، وفتح هذين البابين يطرق الشكّ في كل القرآن ، وأنّه باطل » (1) .
وقال النيسابوري : « روي عن عثمان وعائشة أنّهما قالا : إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها ، ولا يخفى ركاكة هذا القول ، لأنّ هذا المصحف منقول بالتواتر عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه ؟! » (2) .
وقال ابن كثير في ( ... حتى تستأنسوا ... ) بعد نقل قول ابن عبّاس : « وهذا غريب جدّاً عن ابن عبّاس »(3) .
وقال الخازن في ( ... والمقيمين ... ) : « اختلف العلماء في وجه نصبه ، فحكي عن عائشة وأبان بن عثمان : أنّه غلط من الكتّاب ، ينبغي أن تكتب : والمقيمون الصلاة . وقال عثمان بن عفّان : إنّ في المصحف لحناً ستقيمه العرب بألسنتهم ، فقيل له : أفلا تغيّره ؟! فقال : دعوه ، فإنّه لا يحلّ حراماً ولا يحّرم حلالاً . وذهب عامّة الصحابة وسائر العلماء من بعدهم إلى أنّه لفظ صحيح ليس فيه خطأ من كاتب ولا غيره .
واجيب عمّا روي عن عثمان بن عفّان وعن عائشة وأبان بن عثمان : بأنّ هذا بعيداً جدّاً ، لأنّ الّذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والفصاحة والقدوة على ذلك ، فكيف يتركون في كتاب الله لحناً يصلحه غيرهم ، فلا ينبغي أن ينسب هذا لهم ، قال ابن الأنباري : ما روي عن عثمان لا يصحّ لأنّه غير متصل ، ومحال أن يؤخّر
____________
(1) التفسير الكبير 23 : 196 .
(2) تفسير النيسابوري 6 | 23 هامش الطبري .
(3) تفسير ابن كثير 3 : 280 .

( 232 )
عثمان شيئاً فاسداً ليصلحه غيره . وقال الزمخشري في الكشّاف : ولا يلتفت إلى ما زعموا ... » (1) .
وقال في ( ... حتى تستأنسوا ... ) « وكان ابن عبّاس يقرأ : حتى تستأذنوا . ويقول : تستأنسوا خطأ من الكاتب ، وفي هذه الرواية نظر لأنّ القرآن ثبت بالتواتر » (2) .
وقال الرازي في الآية ( إن هذان لساحران ) :
« القرءة المشهورة إنّ هذان لساحران . ومنهم من ترك هذه القراءة ، وذكروا وجوهاً اخر [ فذكرها ووصفها بالشذوذ ، ثمّ قال : ] واعلم أنّ المحقّقين قالوا : هذا القراءات ال يجوز تصحيحها ، لأنّها منقولة بطريق الآحاد والقرآن يجب أن يكون منقولاً بالتواتر ، إذ لو جوّزنا إثبات زيادة في القرآن بطرق الآحاد لما أمكننا القطع بأنّ هذا الذي هو عندنا كل القرآن ، لأنّه لمّا جاز في هذه القراءات أنّه مع كونها من القرآن ما نقلت بالتواتر جاز في غيرها ذلك ، فثبت أنّ تجويز كون هذه القراءات من القرآن يطرق جواز الزيادة والنقصان والتغيير إلى القرآن ، وذلك يخرج القرآن عن كونه حجّة ، ولمّا كان ذلك باطلاً فكذلك ما أدّى إليه ، وأمّا الطعن في القراءة المشهورة فهو أسوأ ممّا تقدّم من وجوه :
أحدها : أنّها لمّا كان نقل هذه القراءة في الشهرة كنقل جميع القرآن فلو حكمنا ببطلانها جاز مثله في جميع القرآن ، وذلك يفضي إلى القدح في التواتر وإلى القدح في كلّ القرآن ، وأنّه باطل ، وإذا ثبت ذلك امتنع صيرورته معارضاً بخبر الواحد المنقول عن بعض الصحابة .
____________
(1) تفسير الخازن 1 : 422 .
(2) تفسير الخازن 3 : 323 .

( 233 )

وثانيها : أنّ المسلمين أجمعوا على أنّ ما بين الدفّتين كلام الله تعالى ، وكلام الله تعالى لا يجوز أن يكون لحناً وغلطاً ، فثبت فساد ما ينقل عن عثمان وعائشة أن فيه لحناً وغلطاً .
وثالثها : قال ابن الأنباري : إنّ الصحابة هم الأئمة والقدوة ، فلو وجدوا في المصحف لحناً لما فوّضوا إصلاحه إلى غيرهم من بعدهم ، مع تحذيرهم من الإبتداع وترغيبهم في الإتّباع .. » (1) .
وقال أبو حيّان الأندلسي في ( ... والمقيمين ... ) بعدما ذكر عن عائشة وأبان بن عثمان فيها : « ولا يصحّ عنهما ذلك ، لأنّهما عربيّان فصيحان » (2) .
وقال القنوجي : « وعن عائشة أنّها سئلت عن ( المقيمين ) وعن قوله ( إنّ هذان لساحران ) و ( الصابئون ) في المائدة ، قالت : يا ابن أخي ، الكتّاب أخطأوا .
وروي عن عثمان بن عفّان أنّه فرغ عن المصحف واتي به قال : أرى فيه شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنتها ، فقيل له : ألا تغيّره ؟! فقال : دعوه ، فإنّه لا يحلّ حراماً ولا يحرّم حلالاً .
قال ابن الأنباري : وما روي عن عثمان لا يصحّ ، لأنّه غير متّصل ، ومحال أن يؤخّر عثمان شيئاً فاسداً ليصلحه غيره ، ولأنّ القرآن منقول بالتواتر عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه ؟!
وقال الزمخشري في الكشّاف : ولا يلتفت ... » (3) .
____________
(1) التفسير الكبير 22 : 74 .
(2) البحر المحيط 3 : 394 .
(3) فتح البيان 6 : 407 ـ 408 .

( 234 )

وقال في ( إنّ هذان لساحران ) : « فهذه أقوال تتضمّن توجيه هذه القراءة بوجه تصحّ به وتخرج به عن الخطأ ، وبذلك يندفع ما روي عن عثمان وعائشة أنّه غلط من الكاتب للمصحف » (1) .
وقال الآلوسي في ( والمقيمين ) : « ولا يلتفت إلى من زعم أنّ هذا من لحن القرآن وأنّ الصواب ( والمقيمون ) بالواو كما في مصحف عبدالله وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي ، إذ لا كلام في نقل النظم متواتراً فلا يجوز اللحن فيه أصلاً . وأمّا ما روي أنّه لمّا فرغ من المصحف أتي به إلى عثمان فقال : قد أحسنتم وأجملتم ... فقد قال السخاوي : إنّه ضعيف ، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع ، فإنّ عثمان جعل للناس إماماً يقتدون به ، فكيف يرى فيه لحناً ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها ، وقد كتب عدّة مصاحف وليس فيها اختلاف أصلاً إلاّ فيما هو من وجوه القراءات . وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع ـ وهم هم ـ كيف يقيمه غيرهم ؟! » (2) .
أقول : فهذه كلمات في ردّ هذه الأحاديث ، ويلاحظ أنّ بعضهم يكتفي « بالاستبعاد » ، وآخر يقول : « فيه نظر » ، وثالث يقول : « لا يخفى ركاكة هذا القول » ، ورابع يقول : « لا يلتفت ... » ، وخامس يقول : « غريب » ...
ومنهم من يتجرّأ على التضعيف بصراحة فيقول : « لا يصحّ » وفي ( الإتقان ) عن ابن الانباري أنّه جنح إلى تضعيف هذه الروايات (3) وعليه الباقلاني في « نكت الإنتصار » (4) وجماعة .
____________
(1) فتح البيان 6 : 49 .
(2) روح المعاني 6 : 13 ـ 14 .
(3) الإتقان 2 : 329 .
(4) نكت الانتصار : 127 .

( 235 )

لكنّ بعضهم يستدلّ ويبرهن على بطلان هذه الأحاديث ، لأنّ القول بها يفضي إلى القدح في تواتر القرآن ، والطعن في الصحابة وخاصة في جامعي المصحف وعلى رأسهم عثمان ، فهذه الأحاديث باطلة لاستلزامها للباطل ...
وجماعة ذهبوا إلى أبعد من كل هذا ، وقالوا بوضع هذه الأحاديث واختلاقها ، من قبل أعداء الإسلام ...
فيقول الحكيم الترمذي (1) : « ... ما أرى مثل هذه الروايات إلاّ من كيد الزنادقة ... » (2) .
ويقول أبو حيّان الأندلسي : « ومن روى عن ابن عبّاس أنّ قوله : ( حتى تستأنسوا ) خطأ أو وهم من الكاتب ، وأنّه قرأ حتى ( تستأذنوا ) فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين ، وابن عبّاس بريء من هذا القول » (3) .
وهكذا عالج بعض العلماء والكتّاب المتأخّرين والمعاصرين هذه الأحاديث ، فنرى صاحب « المنار » يقول :
« وقد تجرّأ بعض أعداء الإسلام على دعوى وجود الغلط النحوي في القرآن ، وعدّ رفع « الصابئين » هنا من هذا الغلط . وهذا جمع بين السخف والجهل ، وإنّما جاءت هذه الجرأة من الظاهر المتبادر من قواعد النحو ، مع جهل أو تجاهل أنّ النحو استنبط من اللغة ولم تستنبط اللغة منه ... » (4) .
ويقول : « وقد عدّ مثل هذا بعض الجاهلين أو المتجاهلين من الغلط في
____________
(1) وهو الحافظ أبو عبدالله محمد بن علي ، صاحب التصانيف ، من أئمّة علم الحديث ، له ترجمة في تذكرة الحفّاظ 2 : 645 وغيرها .
(2) نوادر الاصول : 386 .
(3) البحر المحيط 6 : 445 .
(4) المنار 6 : 478 .