الفصل الرابع

نقد وتمحيص



( 262 )


( 263 )

قد ذكرنا أهمّ ما ورد في كتب أهل السنّة ممّا هو نصّ أو ظاهر في نقص القرآن وتحريفه ... ثمّ عقبناه بما قاله أكابرهم في توجيهه وتأويله أو ردّه وتزييفه ...
7 لقد استمعنا القول من هؤلاء وهؤلاء فأيّهما الأحسن حتى نتّبعه ؟

1 ـ في الآثار في خطأ القرآن
إنّ هذه الآثار تفيد أنّ اؤلئك الأصحاب نسبوا « اللحن » و « الخطأ » و « الغلط » إلى القرآن .. وهذه جرأة على الله تعالى ، وإثبات نقص له ولكتابه ، وفي ذلك خروج عن الإسلام بلا كلام .
أمّا ما كان من هذه الآثار في الصحاح فأصحابها والقائلون بصحّة جميع أحاديثها ملزمون بها ، فإمّا الإلتزام بما دلّت عليه ، وإمّا التأويل اللائق والحمل على بعض الوجوه المحتملة .
وكذا الكلام بالنسبة إلى ما روي من هذا القبيل بأسانيد صحاح عندهم في خارج الصحاح .

دليل الرادّين لهذه الآثار
وأمّا الّذين ردّوا هذه الأحاديث وهم كثيرون جدّاً ، فقد اختلفت كلماتهم في كيفية الردّ ، لأنّ منهم من يضعّف الرواية أو يستبعدها تنزيهاً للصحابي عن


( 264 )

التفوّه بمثل الكلام ، حتى أنّ بعضهم قال : « ومن روى عن ابن عبّاس ... فهو طاعن في الإسلام ، ملحد في الدين ، وابن عبّاس بريء من هذا القول » (1) . ومنهم من يقول : « هذا القول فيه نظر » أو : « لا يخفى ركاكة هذا القول » ونحو ذلك ... وظاهر هؤلاء تصحيح الحديث اعتماداً على رجاله ، ثمّ الردّ على الصحابة أنفسهم .
وعلى كل حال ... فإنّ هذه الفئة من العلماء متّفقة على أنّ هذه الأحاديث لا يجوز تصديقها ... قال الزمخشري بتفسير : ( أفلم ييئس الّذين آمنوا ... ) (2) : « ومعنى أفلم ييئس : أفلم يعلم ... ويدلّ عليه : أنّ علياً وابن عبّاس وجماعة من الصحابة والتابعين قرؤوا : أفلم يتبيّن ، وهو تفسير أفلم ييئس . وقيل : إنّما كتبه الكاتب وهو ناعس مستوي السينات .
وهذا ونحوه ممّا لا يصدّق في كتاب الله ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتاً بين دفّتي الإمام ، وكان متقلّباً في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله ، المهيمنين عليه ، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه ، خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجع ، والقاعدة التي عليها البناء ؟!! وهذه ـ والله ـ فرية ما فيها مرية » (3) .
فهذا موقف القائلين ببطلان هذه الآثار .
أمّا الفئة الاولى الدائر أمرهم بين الالتزام بمداليل الآثار وبين التأويل المقبول لدى الأنظار ، فقد اختار جمع منهم طريق التأويل :
____________
(1) البحر المحيط 6 : 445 .
(2) سورة الرعد : 31 .
(3) الكشّاف 2 : 531 .

( 265 )

طريق الـتأويل لها
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني : « الطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل ، بل الروايات صحيحة والتأويل محتمل » (1) وقال أيضاً في الآية : ( أفلم ييأس ) :
« وروى الطبري وعبد بن حميد ـ بإسناده صحيح كلّهم من رجال البخاري ـ عن ابن عبّاس : أنّه كان يقرؤها : أفلم يتبيّن : ويقول : كتبها الكاتب وهو ناعس . ومن طريق ابن جريح ، قال : زعم ابن كثير وغيره أنّها القراءة الاولى : وهذه القراءة جاءت عن علي وابن عبّاس وعكرمة وابن أبي مليكة وعلي بن بديمة وشهر بن حوشب وعلي بن الحسين وابنه زيد وحفيده جعفر بن محمد ، في آخرين قرؤوا كلّهم : أفلم يتبيّن .
وأمّا ما أسنده الطبري عن ابن عبّاس فقد اشتدّ إنكار جماعة ممّن لا علم له بالرجال صحّته ، وبالغ الزمخشري في ذلك كعادته ـ إلى أن قال : ـ وهي والله فرية مافيها مرية ، وتبعه جماعة بعده والله المستعان ، وقد جاء عن بن عبّاس نحو ذلك في قوله تعالى : ( وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه ) قال : ( ووصّى ) التزقت الواو في الصاد . أخرجه سعيد بن منصور بإسناد جيّد عنه .
وهذه الإشياء ـ وإن كان غيرها المعتمد ـ لكن تكذيب المنقول بعد صحّته ليس من دأب أهل التحصيل ، فلينظر في تأويله بما يليق به » (2) .
أقول : وظاهر كلمات ابن حجر في الموردين هو العجز عن الإتيان بتأويل ،
____________
(1) فتح الباري وعنه في الإتقان 1 : 270 .
(2) فتح الباري 8 : 301 .

( 266 )

يساعده اللفظ ويرضاه « أهل التحصيل » ...
نعم ذكر في قوله تعالى : ( يا أيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم ... ) (1) : « أخرج سعيد بن منصور والطبري والبيهقي في الشعب بسند صحيح : أنّ ابن عبّاس كان يقرأ : ( حتى تستأذنوا ) ويقول : أخطأ الكاتب ، وكان يقرأ على قراءة اُبيّ بن كعب ، ومن طريق مغيرة بن مقسم ، عن إبراهيم النخعي ، قال : في مصحف ابن مسعود ( حتى تستأذنوا ) . وأخرج سعيد بن منصور من طريق مغيرة ، عن إبراهيم : في مصحف عبدالله : ( حتى تسلّموا على أهلها وتستأذنوا ) . وأخرجه إسماعيل بن إسحاق في أحكام القرآن عن ابن عبّاس واستشكله . وكذا طعن في صحّته جماعة ممّن بعده .
وأجيب : بأنّ ابن عبّاس بناها على قراءته التي تلقّاها عن ابيّ بن كعب . وأمّا اتّفاق الناس على قراءتها بالسين فلموافقة خطّ المصحف الذي وقع الاتّفاق على عدم الخروج عمّا يوافقه . وكان قراءة ابيّ من الأحرف التي تركت القراءة بها ـ كما تقدّم تقريره في فضائل القرآن ـ . وقال البيهقي : يحتمل أن يكون ذلك كان في القراءة الاول ثمّ نسخت تلاوته . يعني : ولم يطّلع ابن عبّاس على ذلك » (2) .

مناقشة هذا التأويل
أقول : وفي هذا الجواب نظر من وجوه :
أولاً : إنّ هذا الجواب ـ إن تمّ ـ فهو توجيه لقراءة ابن عبّاس ، لا لقوله في كتابة المصحف : « أخطأ الكاتب » .
____________
(1) سورة النور : 27 .
(2) فتح الباري : 11 :6 .

( 267 )

وثانياً : كون هذه القراءة « من الأحرف التي تركت القراءة بها » يبتني على ما رووه من أنّه « نزل القرآن على سبعة أحرف » هذا المبنى الذي اختلفوا في معناه وتطبيقه اختلافاً شديداً ، وذكروا له وجوهاً كثيرة جداً لا يرجع شيء منها الى محصّل (1) .
وثالثاً : ما احتمله البيهقي يبتني على القول بنسخ التلاوة ، وسيأتي البحث عنه مفصّلاً .
ورابعاً : قول ابن حجر : « يعني : ولم يطّلع ابن عبّاس » غريب جدّاً ، إذ كيف يخفى على مثل ابن عبّاس نسخ تلاوة شيء من القرآن وهو حبر هذه الأمّة وإمام الأئمة في علوم القرآن ؟! .
هذا النسبة إلى ما رووه عن ابن عبّاس ونصّوا على صحّته ، ثمّ عجزوا عن تأويله « التأويل اللائق » .

تأويل « اللحن » و « الخطأ » وجوابه
وأجابوا عمّا رووه عن عثمان بجوابين ، ذكر هما السيوطي ـ بعد أن قال :
____________
(1) يمكن الاطلاّع على ما ذكروه بمراجعة مقدّمات التفاسير ، وكتب علوم القرآن ، وفتح الباري في شرح البخاري 9 : 22 ـ 30 وغيرها . وقد وقع القوم بالتزامهم بصحّة أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف في مأزق كبير جدّاً ، وكان عليهم الالتزام بلوازمه الفاسدة التي منها القول بتحريف القرآن وضياع حروف نزّل عليها من السماء ... ولو أردنا الدخول في هذا البحث لطال بنا المقام ، وقد تقدّم بعض ما يتعلّق به فيما سبق ، ويكفي أن نقول بأنّ المرويّ صحيحاً عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام : « إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد ، ولكنّ الاختلاف يجيء من قبل الرواة » وفي آخر : « كذبوا أعداء الله ، ولكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد » [ الكافي 2 : 461 باب النوادر | حديث 12 و 13 ] .
( 268 )

« هذا الآثار مشكلة جدّاً » ـ وقد نقلنا عبارته سابقاً .
وقال الشهاب الخفاجي ـ بعد كلام الكشّاف : « ولا يلتفت ... » ـ : « وقيل عليه : لا كلام في نقل النظم تواتراً ، فلا يجوز اللحن فيه أصلاً ، وهل يمكن أن يقع في الخطّ لحن بأن يكتب « المقيمون » بصورة « المقيمين » بناءً على عدم تواتر صورة الكتابة ؟ وما روي عن عثمان وعائشة أنّهما قالا : إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها ـ على تقدير صحّة الرواية ـ يحمل على اللحن في الخطّ . لكنّ الحقّ : ردّ هذه الرواية وإليه أشار ـ أي الكشّاف ـ بقوله : إنّ السابقين ...
( قال ) : أقول : هذا إشارة إلى ما نقله الشاطبي في الرائية وبيّنه شرّاحه وعلماء الرسم العثماني بسند متّصل إلى عثمان أنّه لمّا فرغ من المصحف ... قال السخاوي : وهو ضعيف والإسناد فيه اضطراب وانقطاع ... وتأوّل قوم ( اللحن ) في كلامه على تقدير صحّته عنه بأنّ المراد الرمز والإيماء .
( قال ) : تنبيه : قد نخلنا القول وتتبّعنا كلامهم ما بين معسول ومغسول فآل ذلك إلى أنّ قول عثمان فيه مذهبا ، أحدهما : أنّ المراد باللحن ما خالف الظاهر ، وهو موافق له حقيقة ليشمل الوجوه تقديراً واحتمالاً . وهذا ما ذهب إليه الداني وتابعه كثيرون . والرواية فيه صحيحة .
والثاني : ما ذهب إليه ابن الأنباري من أنّ ( اللحن ) على ظاهره ، وأنّ الرواية غير صحيحة » (1) .
أقول : وكأن المتأوّلين التفتوا إلى كون تأويلاتهم مزيّفة ، فالتجؤوا إلى القول بأنّ تلك الآثار « محرّفة » ... فقد جاء في الإتقان عن ابن أشتة : أنّه روى الحديث بإسناده عن عثمان وليس فيه لفظ « اللحن » بل إنّه لمّا نظر في المصحف
____________
(1) عناية القاضي 3 : 201 .
( 269 )

قال : « أحسنتم وأجملتم ، أرى شيئاً سنقيمه بألسنتنا » . قال : « فهذا الأثر لا إشكال فيه وبه يتّضح معنى ما تقدّم ... ولعلّ من روى تلك الآثار السابقة عنه حرّفها ولم يتقن اللفظ الذي صدر عن عثمان ، فلزم ما لزم من الإشكال . فهذا أقوى ما يجاب عن ذلك » .
قال السيوطي بعد إيراد الأجوبة عن حديث عثمان : « وبعد ، فهذه الأجوبة لا يصحّ منها شيء من حديث عائشة . أمّا الجواب بالتضعيف فلأنّ إسناده صحيح كما ترى ... » (1) .
أقول : هذه عمدة ما ورد في هذا الباب ممّا التزموا بصحّته ، وقد عرفت أن لا تأويل صحيح له عندهم ، فهم متورّطون في أمر خطره عظيم ، إمّا الطعن في القرآن ، وإمّا الطعن في هؤلاء الصحابة الأعيان !!!
ولا ريب في أنّ نسبة « الخطأ » إلى « الصحابة » أولى منه إلى « القرآن » وسيأتي ـ في الفصل الخامس ـ بعض التحقيق في حال الصحابة علماً وعدالة ، هذا أولاً .
وثانياً : إنّ القول بعدم جواز تكذيب المنقول بعد صحّته ـ كما هو مذهب الحافظ ابن حجر العسقلاني ـ غير صحيح ، إذ الحديث إذا خالف الكتاب أو السنّة القطعية أو الضروري من الدين أو الجمع عليه بين المسلمين يطرح وإن كان في الكتب المسمّاة بالصحاح ... كما سيأتي ـ في الفصل الخامس ـ ذكر نماذج من ذلك ...
____________
(1) الإتقان 2 : 320 ـ 326 .
( 270 )

ترجمة عكرمة مولى ابن عباس
أقول : والذي يهوّن الخطب في هذا المقام : أنّ كثيراً من هذه الآثار في سندها « عكرمة مولى ابن عبّاس » وخاصّة الحديث عن عثمان : « إنّ المصاحف لمّا نسخت عرضت عليه فوجد فيها حروفاً من اللحن فقال : اتركوها ... » والحديث عن ابن عبّاس في الآية : ( أفلم ييئس ... ) حيث قال : « أظنّ الكتاب كتبها وهو ناعس » .
« وعكرمة » من أظهر مصاديق « الزنادقة » و « أعداء الإسلام » الّذين نسب إليهم اختلاق مثل هذه الآثار ، في كلام جماعة من العلماء الكبار ، كالحكيم الترمذي ، وأبي حيّان الأندلسي ، وصاحب « المنار » ...

1 ـ طعنه في الدين :
لقد كان هذا الرجل طاعناً في الإسلام ، مستهتراً بالدين المسلمين ، من أعلام الضلالة ودعاة السوء :
فقد نقلوا عن قوله : إنّما أنزل الله متشابه القرآن ليضلّ به .
وأنّه قال في وقت الموسم : وددت أنّي اليوم بالموسم وبيدي حربة فأعترض بها من شهد الموسم يميناً وشمالاً .
وأنّه وقف على باب مسجد النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وقال : ما فيه إلاّ كافر .
وأنّه قدم البصرة فأتاه أيّوب وسليمان التميمي ويونس ، فبينما هو يحدّثهم سمع صوت غناء ، فقال عكرمة : اسكتوا فنستمع . ثم قال : قاتله الله ، لقد أجاد .


( 271 )

وعن أبي بكر بن أبي خيثمة : رأيت في كتاب علي بن المديني : سمعت يحيى ابن سعيد يقول : حدّثوني ـ والله ـ عن أيّوب أنّه ذكر : أنّ عكرمة لا يحسن الصلاة : قال أيّوب ، أو كان يصلّي ؟!
وعن سماك ، قال : رأيت في يد عكرمة خاتماً من الذهب .
وعن رشدين بن كريب : رأيت عكرمة قد أقيم قائماً في لعب النرد .

2 ـ إنّه كان يرى رأي الخوارج :
وإنّما أخذ أهل إفريقية رأي الصفرية ـ وهم من غلاة الخوارج ـ من عكرمة وذكروا أنه نحل ذلك الرأي إلى ابن عبّاس .
وعن يحيى بن معين : إنّما لم يذكر مالك بن أنس عكرمة ، لأنّ عكرمة كان ينتحل رأي الصفرية .
وقال الذهبي : قد تكلّم الناس في عكرمة ، لأنّه كان يرى رأي الخوارج .
ثمّ إنّه نسب تارة إلى « الإباضية » واخرى إلى « الصفرية » وثالثة إلى « نجدة الحروري » وكأنّه كان كلّما جاء فرقة جعل نفسه منهم طمعاً في دنياهم ... قالوا : وقد طلبه والي المدينة فتغيّب عند داود بن الحصين حتى مات عنده .

3 ـ إنّه كان كذّاباً :
كذب على ابن عبّاس ، وقد أوثقه علي بن عبدالله بن العبّاس على باب كنيف الدار فقيل له : أتفعلون هذا بمولاكم ؟ قال : إنّ هذا يكذب على أبي .
وعن سعيد بن المسيّب أنّه قال لمولاه : يا برد ، إيّاك أن تكذب عليّ كما يكذب عكرمة على ابن عبّاس .


( 272 )

وعن القاسم : إنّ عكرمة كذّاب ، يحدّث غدوة ويخالفة عشيّة .
وقال ابن عمر لنافع : إتّق الله ـ ويحك يا نافع ـ لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عبّاس .
وعن ابن سيرين ويحيى بن معين ومالك بن أنس : كذّاب .
وعن ابن ذويب : رأيت عكرمة مولى ابن عبّاس وكان غير ثقة .
وقال طاوس : لو أنّ عبد ابن عبّاس إتّقى الله وأمسك عن بعض حديثه لشدّت إليه المطايا .
وقد اشتهر تكذيب الناس إيّاه وطعنهم فيه حتى أنه كان يقول : « هؤلاء يكذّبون من خلفي ، أفلا يكذّبوني في وجهي » (1) .

4 ـ عكوفه على أبواب الامراء للدنيا :
قال موسى بن يسار : رأيت عكرمة جائياً من سمرقند وهو على حمار تحته جوالقان ـ أو خرجان ـ حرير أجازه بذلك عامل سمرقند ومعه غلام . قال : وسمعت عكرمة بسمرقند وقيل له : ما جاء بك إلى هذه البلاد ؟ قال : الحاجة .
وقال عبد المؤمن بن خالد الحنفي : قدم علينا عكرمة خراسان فقلت له : ما أقدمك إلى بلادنا ؟ قال : قدمت آخذ من دنانير ولاتكم ودراهمهم .
وقال عبدالعزيز بن أبي رواد : قلت لعكرمة : تركت الحرمين وجئت إلى خراسان ! قال : أسعى على بناتي .
____________
(1) حاول ابن حجر العسقلاني [ مقدّمة فتح الباري : 427 ] توجيه الكلام ، ولكن لا ينفعه ذلك ، فحال عكرمة تشبه حال أبي هريرة الذي قال للناس : أتزعمون أنّي أكذب على الله ورسوله وأحرق نفسي بالنار ... ؟!
( 273 )

وقال أبو نعيم : قدم على الوالي بأصبهان فأجازه بثلاثة آلاف درهم .
وقال عمران بن حدير : رأيت عكرمة وعمامته منخرقة فقلت : ألا اعطيك عمامتي ؟ فقال : إنّا لا نقبل إلاّ من الامراء .
أبو طالب : سمعت أحمد بن حنبل يقول : كان عكرمة من أعلم الناس ولكنّه كان يرى رأي الصفرية ولم يدع موضعاً إلاّ خرج إليه ، خراسان والشام واليمن ومصر وإفريقية ، كان يأتي الامراء فيطلب جوائزهم ، وأتى الجند إلى طاووس فأعطاه ناقة .
ومن الطبيعي أن يستجيب هكذا رجل لرغبات الولاة والامراء فيضع كل ما تقتضيه السياسة ويدعم الحكومات الجائرة ...
5 ـ ترك الناس جنازته :
ومن الطبيعي أيضاً سقوط هكذا إنسان في المجتمع الإسلامي ، فلا تبقى قيمة لا له ولا لأحاديثه حتى إذا مات فلا تشيّع جنازته ولا يصلّى عليه ... كما ذكر المؤرّخون في ترجمة عكرمة ... وأضافوا أنّه قد اتّفق موت عكرمة وكثير عزّة الشاعر الشيعي في يوم واحد فشهد الناس جنازة كثير وتركوا جنازة عكرمة . قيل : فما حلمه أحد واكتروا له أربعة رجال من السودان .

6 ـ قدح الأكابر فيه وتكذيبه :
ولهذه الأور وغيرها كذّب عكرمة كبار الأئمّة الأعلام ـ الّذين طالما اكتفى علماء الجرح والتعديل بطعن واحدٍ منهم ـ منهم : ابن عمر ، ومجاهد ، وعطاء ، وابن سيرين ، ومالك بن أنس ، والشافعي ـ حيث حكى كلام مالك وقرّره ـ


( 274 )

وسعيد بن المسيّب ، والقاسم ، ويحيى بن سعيد .
وحرّم مالك الرواية عنه ، وأعرض عنه مسلم ، وقال مسلم محمد بن سعد : ليس يحتجّ بحديثه ، وقال غيره : غير ثقة (1) .
ومع هذا كلّه ... فإنّ البخاري يروي عنه !! ولكن لا عجب .. إذ « كلّ يعمل على شاكلته » بل العجب من ابن حجر ، حيث ينبري للدفاع عن « عكرمة البربري » والمقصود هو الدفاع عن « صحيح البخاري » ... فكيف يدافع عمّن تجرّأ على الله ، واستهزأ بشعائره ، واستخفّ بأحكامه ، وطعن في القرآن ، واستحلّ دماء المسلمين ... ؟ وكيف يدافع عمّن كذّبه الأئمة الثقات حتى ضربوا بكذبه المثل لاشتهاره بهذه الصفة ؟ وكيف يدافع عمّن امتنع الناس من حمل جنازته والصلاة عليها ؟!

خلاصة البحث
ويتلخّص البحث في هذه الناحية في النقاط التالية :
1 ـ إنّ الآثار المشتملة على وقوع « الخطأ » في القرآن الكريم باطلة وإن كانت مخرّجة في الصحاح وفي غيرها بأسانيد صحيحة .. وفاقاً لمن قال بهذا من أعلام المحقّقين من أهل السنّة كما عرفت .. ووجود الأحاديث الباطلة في الصحاح الستّة أم ثابت ، وعدد الاحاديث من هذا القبيل فيها ليس بقليل .. كما ستعرف .
2 ـ إنّ التأويلات التي ذكرت من قبل القائلين بصحّة هذه الآثار لا تحلّ
____________
(1) المصادر المنقول ترجمة عنها عكرمة هي : تهذيب الكمال ، تهذيب التهذيب 7 : 273 ـ 263 ، طبقات ابن سعد 5 : 287 ، وفيات الأعيان 1 : 319 ميزان الاعتدال 3 : 93 ، المغني في الضعفاء 2 : 84 ، سير أعلام النبلاء 5 : 9 ، الضعفاء الكبير 3 : 373 .
( 275 )

المشكلة كما عرفت ، ولذا اضطرّ بعضهم إلى القول بأنّها محرّمة ، والتزم بالإشكال بعض آخر ، ومنه قول ابن قتيبة : « ليست تخلو من أن تكون على مذهب من مذاهب أهل الإعراب أو تكون غلطاً من الكاتب كما ذكرت عائشة ، فإن كانت على مذاهب النحو والنحويّين فليس ها هنا لحن والحمدالله ، وإن كانت على خطأ في الكتاب فليس على الله ولا على رسوله جنابة الكاتب في الخطّ » (1) .
3 ـ إنّ مصادرة كتاب « الفرقان » ـ إن كانت لأجل إثبات « اللحن » في الكتاب ـ لا تحلّ المشكلة بشكل من الأشكال ، فإنّ صاحب هذا الكتاب ينقل الآثار المتضمّنة لهذا المعنى عن الكتب المعتبرة والتي اخرجت فيها تلك الآثار بأسانيد صحيحة على شرط الشيخين ، ثمّ يؤكّدها بقوله : « ليس ما قدّمناه من لحن الكتاب في المصحف بضائرة أو بمشكّك في حفظ الله تعالى له ، بل إنّ ما قاله ابن عبّاس وعائشة وغيرهما من فضلاء الصحابة وأجلاًء التابعين أدعى لحفظه وعدم تغييره وتبديله . وممّا لا شكّ فيه أنّ كتّاب المصحف من البشر يجوز عليهم ما يجوز على سائرهم من السهو والغفلة والنسيان . والعصمة لله وحده ...
ومثل لحن الكتّاب كلحن المطابع ... » (2) .
وعلى هذا الأساس يدعو هذا المؤلف إلى تغيير الرسم العثماني وجعل الألفاظ كما ينطق بها اللسان وتسمعها الآذان ، بل ينقل عن العزّ ابن عبد السلام أنّه قال بعدم جواز كتابه المصحف بالرسم الأول ... (3) .
أقول : إنّ مسألة الرسم والخطّ هي أيضاً من المشاكل المترتّبة على القول
____________
(1) مشكل القرآن : 40 .
(2) الفرقان : 41 ـ 46 .
(3) الفرقان : 58 .

( 276 )

بصحّة هذه الآثار عن الصحابة والالتزام بصدورها عنهم ـ فإن لم تكن مترتّبة عليه فلا أقلّ من أن يكون القول بصحّة تلك الآثار سنداً ومتناً مؤيّداً لمن يدعو إلى تغيير الرسم والكتابة ـ ونحن هنا لا نتعرّض لهذه المسألة ، بل نقول بأنّ استدلال مؤلف كتاب « الفرقان » أو استشهاده بهذه الآثار تامّ ، وأنّه لا يلام على إيراده تلك الآثار في كتابه ، بل اللوم على من يرويها ويصحّح أسانيدها ويخرجها في كتابه ... وأنّ طريق الجواب هو ردّها وإبطالها على ما ذكرناه بالتفصيل ...

2 ـ في أحاديث جمع القرآن
لقد وعد الله سبحانه نبيّه بحفظ القرآن وبيانه ، وضمن له عدم ضياعه ونسيانه .
وكان النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كلّما نزل من القرآن شيء أمر بكتابته ويقول في مفرقات الآيات : ضعوا هذا في سورة كذا ... (1) .
وكان ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يعرضه على جبرئيل في شهر رمضان في كل عام مرّة ، وعرضه عليه عام وفاته مرّتين ... (2) .
وحفظه في حياته جماعة من أصحابه ، وكل قطعة كان يحفظها جماعة كبيرة أقلّهم بالغون حدّ التواتر .. هذا هو الحقّ والأمر الواقع ...
وقد أوردنا أحاديث القوم في قضية جمع القرآن ووجدناها متناقضة وعقّبناها بذكر ما قيل أو يمكن أن يقال في معناها ووجه الجمع فيما بينها ... فهل ترتفع المشكلة بهذا الاسلوب ؟
____________
(1) مسند أحمد 1 : 57 ، الترمذي 11 : 225 ، أبو داود 1 : 290 ، المستدرك 2 : 230 .
(2) صحيح البخاري 1 : 101 وغيره .

( 277 )

إعراض القوم عن علي في جمع القرآن
لابدّ قبل الورود في البحث من أن نقول :
لقد كان أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ أعلم الناس بكتاب الله ـ عزّ وجلّ ـ عند المخالف والمؤالف ، وهو القائل : « والله ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت » (1) والقائل : « سلوني عن كتاب الله ، فإنّه ليس آية إلاّ وقد عرفت أبليل نزلت أن بنهار ، في سهل أو جبل » (2) .
وهو الذي قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في حقّه :
« علي مع القرآن والقرآن مع علي » (3) .
وناهيك بحديث : « أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها » (4) .
وعلي عليه السلام استاذ ابن عبّاس في التفسير ، وقد ذكر القوم أنّ « أعلم الناس بالتفسير أهل مكّة لأنّهم أصحاب ابن عبّاس » (5) .
فلماذا لم يعدّه أنس بن مالك ـ ولا غيره ـ من حفّاظ القرآن ، ومن الّذين أم الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بتعلّمه منهم والرجوع إليهم فيه ، فيما رواه البخاري في صحيحه ؟!
____________
(1) حلية الأولياء 1 : 67 ، أنساب الأشراف 1 : 99 .
(2) أنساب الأشراف 1 : 99 ، الاستيعاب 3 : 1107 .
(3) المستدرك 3 : 124 ، الصواعق : 76 و 77 ، كفاية الطاب : 254 .
(4) من الأحاديث المتواترة بين المسلمين . بحثنا عنه سنداً ودلالةً في الجزء العاشر وتالييه من أجزاء كتابنا ( نفحات الازهار في خلاصة عبقات الأنوار ) .
(5) الإتقان 2 : 385 .

( 278 )

ثمّ إنّه ـ عليه السلام ـ رتّب القرآن الكريم ودوّنه بعيد وفاة النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ من القراطيس التي كان مكتوباً عليها ، فكان له مصحف تامّ مرتّب يختصّ به كما لعدّة من الصحابة في الأيام اللاحقة ، وهذا من الامور المسلّمة تاريخياً عند جميع المسلمين (1) ومن جلائل فضائل سيّدنا أمير المؤمنين ... فلما ذا لم يستفيدوا منه ؟!
ولعلّ إعراض القوم عن مصحف علي هو السبب في قدح ابن حجر العسقلاني (2) ومن تبعه كالآلوسي (3) في الخبر الحاكي له .. مع أنّ هذا الأمر من الامور الثابتة الضرورية المستغنية عن أيّ خبر مسند .. لكنّ هؤلاء يحاولون توجيه ما فعله القوم أو تركوه كلّما وجدوا إلى ذلك سبيلاً .. !!
ثمّ إنّه لماذا لم يدعوا الإمام ـ عليه السلام ـ ولم يشركوه في جمع القرآن ؟! فإنّا لا نجد ذكراً له فيمن عهد إليهم أمر جمع القرآن في شيء من أخبار القضية ، لا في عهد أبي بكر ولا في عهد عثمان .. فلماذا ؟! ألا ، إنّ هذه امور توجب الحيرة وتستوقف الفكر !!

حصرهم الجامعين على عهد النبوة في عدد !!
وبعد فإنّ التحقيق ـ كما عليه أهله من عامّة المسلمين ـ أنّ القرآن قد كتب
____________
(1) انظر : فتح الباري 9 : 9 ، الاستيعاب ـ ترجمة أبي بكر ـ ، الصواعق : 78 ، الإتقان 1 : 99 ، حلية الأولياء 1 : 67 ، التسهيل لعلوم التنزيل 1 : 4 المصنّف لابن أبي شيب 1 : 545 ، طبقات ابن سعد 2 : 338 .
(2) فتح الباري 9 : 9 .
(3) روح المعاني 1 : 21 .

( 279 )

كلّه في عهد النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بعده ، وجمع في الصدور والسطور معاً من قبل جماعة من أصحابه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ غير أنّ الجامعين له ـ أي : الحافظين في صدورهم ـ أكثر ممّن كتبه ، كما أنّ من كتبه بتمامه فكان ذا مصحف يختصّ به أقلّ ممّن كان عنده سور من القرآن كتبها واحتفظ بها لنفسه .. فهل كان الجامعون له بتمامه أربعة كما عن أنس بن مالك (1) وعبدالله بن عمرو (2) أو خمسة كما عن محمد بن كعب القرظي (3) أو ستّه كما عن الشعبي (4) أو تسعة كما عن النديم (5) ؟!
إنّ الجامعين للقرآن أكثر من هذه الأعداد .. وأمّا حديث الحصر في الأربعة وأنّ كلّهم من الأنصار ـ كما عن أنس بن مالك ـ فنحن نستنكره تبعاً لجماعة من الأئمّة .. كما ذكر الحافظ السيوطي .. ولا نتكلّف تأويله ولا ننظر في سنده ..

كلمة حول أنس بن مالك
بل الكلام في أنس بن مالك نفسه .. لأنّا قد وجدناه رجلاً كاذباً كاتماً للحقّ ، آبياً عن الشهادة به ، في قضية مناشدة أمير المؤمنين بحديث الغدير .. فإنّ أنس بن مالك كان في الناس الّذين نشدهم أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وطلب منهم الشهادة بما سمعوا من رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يوم غدير خم ...
____________
(1) صحيح البخاري 6 : 102 .
(2) صحيح البخاري 6 : 102 ، صحيح مسلم 7 : 149 .
(3) الإتقان 1 : 72 ، منتخب كنز العمّال 2 : 47 .
(4) الإتقان 1 : 72 ، البرهان 1 : 241 .
(5) الفهرست : 30 .