فقام القوم فشهدوا إلاّ ثلاثة منهم لم يقوموا فدعا عليهم فأصابتهم دعوته ، منهم أنس بن مالك .. إذا قال له الإمام : « يا أنس ، ما يمنعك أن تقوم فتشهد ولقد حضرتها ؟ فقال : يا أمير المؤمنين كبرت ونسيت ، فقال : اللّهم إن كان كاذباً فارمه بيضاء لا تواريها العمامة ، فكان عليه البرص » (1) .
ووجدناه كاذباً في قضية حديث الطائر .. فإنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ لمّا اتي إليه طائر مشوي ليأكل منه وقال : « اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك وإليّ يأكل معي من هذا الطائر » كان يترقّب دخول علي ـ عليه السلام ـ عليه ، وكان أنس كلّما جاء علي ليدخل ردّه قائلاً : « إنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ على حاجة » حتى كانت المرة الأخيرة ، فرفع علي يده فوكز في صدر أنس ثمّ دخل .. فلما نظر إليه رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قام قائماً فضمّه إليه وقال : ما أبطأ بك يا علي ؟! قال : يا رسول الله ، قد جئت ثلاثاً كل ذلك يردّني أنس ، قال أنس : فرأيت الغضب في وجه رسول الله وقال : يا أنس ، ما حملك على ردّه ؟! قلت : يا رسول الله سمعتك تدعو ، فأحببت أن تكون الدعوة في الأنصار ، قال : « لست بأوّل رجل أحبّ قومه ، أبي الله يا أنس إلاّ أن يكون ابن أبي طالب » (2) .
إنّه يكذب غير مرّة ، ويمنع أحبّ الناس إلى الله ورسوله من الدخول ،
____________
(1) انظر : نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار | قسم حديث الغدير ، والغدير 1 : ـ 191 : 195 .
(2) حديث الطير من الأحاديث المتواترة ، تجده في جلّ كتب الحديث والفضائل ، وله طرق كثيرة جدّاً حتى أفرده بعضهم بالتأليف ... وكلّها تشتمل على صنيع أنس بن مالك ... وهذا الحديث أيضاً من الأحاديث المبحوث عنها بالتفصيل في كتابنا ( نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار ) في الجزئين : 13 ـ 14 .

( 281 )

ويتسبّب في تأخير استجابة دعوة الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ ، و ... كما يحصر حفّاظ القرآن في أربعة من الأنصار .. حبّاً لهم ..!! .
إنّ الباعث له على ما فعل في قصّة الطائر ليس « حبّ الأنصار » بل « بغض الأمير » ... هذه الحقيقة التي كشف عنها بكتمان الشهادة بحديث « الغدير » ...

رفض أحاديث جمع القرآن على عهدي أبي بكر وعمر
وعلى كلّ حال ، فإن القرآن كان مجموعاً على عهد الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وإنّ الجامعين له ـ حفظاً وكتابة ـ على عهده كثيرون ...
وإذا كان القرآن مكتوباً على عهد النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وكان الأصحاب يؤلّفونه بأمره ـ كما يقول زيد بن ثابت ـ (1) فلا وزن لما رووه عن زيد أنّه قال : قبض رسول الله ولم يكن القرآن جمع في شيء » (2) لأنّ « التأليف » هو « الجمع » قال ابن حجر : « تأليف القرآن : أي جمع آيات السورة الواحدة أو جمع السور مرتّبة في المصحف » (3) .
وعلى هذا الأساس ، يجب رفض ما رووه من الأحاديث في أنّ « أوّل من جمع القرآن أبوبكر » أو « عمر » أو غيرهما من الأصحاب بأمرهما ... لأنّ الجمع في المصحف قد حصل قبل أبي بكر ... فلا وجه لقبول هذه الأحاديث ـ حتى لو كانت صحيحة سنداً ـ كي نلتجئ إلى حمل « فكان [ عمر ] أوّل من جمعه في
____________
(1) المستدرك 2 : 662 .
(2) الإتقان 1 : 202 .
(3) فتح الباري 9 : 8 .

( 282 )

المصحف » (1) مثلاً على أنّ المراد : « أشار على أبي بكر أن يجمعه » (2) جمعاً بينه وبين ما دلّ على أنّ « الأول » هو « أبو بكر » .
وكذا نرفض ما أخرجه البخاري عن زيد بن ثابت أنّه قال : « أرسل إليّ أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة ... » (3) لوجوه منها :
أولاً : إنّ القرآن كان مجموعاً مؤلّفاً على عهد النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أو بعيد وفاته بأمر منه ، وإذ قد فعل رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ذلك كيف يقول زيد لأبي بكر : « كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ » ؟!
وثانياً : قوله : « فتتبّعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال » يناقضه ما دلّ على كونه مؤلّفاً ومدوّناً على عهد النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وقد رواه هو ... بل رووا أنّ جبريل عرض القرآن على النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ في عام وفاته مرّتين ، بل ذكر ابن قتيبة أنّه كا آخر عرض قام به رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ للقرآن على مصحف زيد بن ثابت نفسه (4) .
وثالثاً : قوله : « حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري ، لم أجدها مع أحد غيره » ممّا اضطرب القوم في معناه ، كما اختلفوا في اسم هذا الرجل الذي وجد عنده ذلك (5) .
____________
(1) الإتقان 1 : 204 .
(2) فتح الباري 9 : 10 .
(3) صحيح البخاري 6 : 225 .
(4) المعارف : 260 .
(5) فتح الباري 9 : 12 ، إرشاد الساري 7 : 448 ، المرشد الوجيز : 43 ، البرهان 1 : 236 ،

=


( 283 )

رفض أحاديث قبول الآية بشاهدين
وكذا نرفض ما أخرجه ابن أبي داود : « إنّ أبا بكر قال لعمر ولزيد : اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين من كتاب الله فاكتباه » (1) قال ابن حجر : « رجاله ثقات مع انقطاعه » . فإنّه بغضّ النظر عمّا في سنده تدفعه الضرورة ، فلا حاجة إلى الوجوه التي ذكرها ابن حجر التوجيهه حيث قال : « كأنّ المراد بالشاهدين الحفظ والكتابة ، أو المراد أنّهما يشهدان على أنّ ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله ـ صلّى عليه وآله وسلّم ـ ، أو المراد أنّهما يشهدان على أنّ ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن ، وكان غرضهم أن لا يكتب إلاّ من عين ما كتب بين يدي النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ لا مجرّد الحفظ » (2) مع أنّ بعض تلك الوجوه غير قابل للتصديق به أبداً .
ولهذا الحديث ـ في الدلالة على كتابة القرآن بشهادة شاهدين ـ نظائر في كتبهم نذكر بعضها مع إسقاط أسانيده :
1 ـ « لمّا قتل أهل اليمامة أمر أبو بكر عمر بن الخطّاب وزيد بن ثابت فقال : أجلسا على باب المسجد فلا يأتينّكما أحد بشيء من القرآن تنكرانه يشهد عليه رجلان إلاّ أثبتمّاه ؛ وذلك لأنّه قتل باليمامة ناس من أصحاب رسول الله قد جمعوا القرآن » (3) .
____________
=
مناهل العرفان 1 : 266 .
(1) المصاحف : 55 .
(2) فتح الباري 9 : 11 .
(3) منتخب كنز العمّال 2 : 45 .

( 284 )

2 ـ « أراد عمر بن الخطّاب أن يجمع القرآن فقام في الناس فقال : من كان تلقّى من رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ شيئاً من القرآن فليأتنا به ، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب ، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شهيدان ، فقتل وهو يجمع ذلك إليه ، فقام عثمان فقال : من كان عنده من كتاب الله شيء فليأتنا به ، وكان لا يقبل من ذلك شيئاً حتى يشهد عليه شهيدان ، فجاء خزيمة بن ثابت فقال : إنّي قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما ، قالوا : وما هما ؟ قال : تلقّيت من رسول الله ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم ... ) إلى آخر السورة . فقال عثمان : وأنا أشهد أنّهما من عند الله ، فأين ترى أن نجعلهما ؟ قال : اختم بهما آخر ما نزل من القرآن ، فختمت بهما براءة » (1) .
3 ـ « كان عمر لا يثبت آية في المصحف حتى يشهد رجلان ، فجاء رجل من الأنصار بهاتين الآيتين : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ... ) إلى آخرها ، فقال عمر : لا أسألك عليها بيّنة أبداً ، كذلك كان رسول الله » (2) .
4 ـ خزيمة بن ثابت : « جئت بهذا الآية : ( لقد جاءكم ... ) على عمر بن الخطّاب وإلى زيد بن ثابت ، فقال زيد : من يشهد معك ؟ قلت : لا والله ما أدري . فقال عمر : أنا أشهد معه على ذلك » (3) .
5 ـ زيد بن ثابت : « لمّا كتبنا المصاحف فقدرت آية كنت أسمعها من رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فوجدتها عند خزيمة بن ثابت : ( من المؤمنين رجال صدقوا ... ) وكان خزيمة يدعى ذا الشهادتين ، أجاز رسول الله ـ صلّى الله
____________
(1) منتخب كنز العمّال 2 : 45 .
(2) منتخب كنز العمّال 2 : 45 ـ 46 .
(3) منتخب كنز العمّال 2 : 46 .

( 285 )

عليه وآله وسلّم ـ شهادته بشهادة رجلين » (1) .
6 ـ « أول من جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد ، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت فكان لا يكتب إلاّ بشهادة عدلين ، وإنّ آخر سورة براءة لم توجد إلاّ مع أبي خزيمة ابن ثابت ، فقال : اكتبوها فإنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ جعل شهادته بشهادة رجلين ، فكتب . وإنّ عمر أتى بآية الرجم فلم نكتبها لأنّه كان وحده » (2) .
وممّا يزيد بطلان هذه الأحاديث وضوحاً وجود التكاذب فيما بينها ، وبيان ذلك :
إنّ الحديث الثاني صريح في أنّ الجمع كان في زمن عمر والآتي بالآيتين خزيمة بن ثابت والشاهد معه عثمان . لكن في الثالث « جاء رجل من الأنصار » وقال عمر : « لا أسألك عليها بيّنة أبداً كذلك كان رسول الله » . وفي الرابع : « فقال زيد : من يشهد معك ؟ » قال خزيمة : « لا والله ما أدري ، فقال عمر : أنا أشهد معه » . وفي السادس : أنّ الجمع كان في زمن أبي بكر والكاتب زيد « فكان لا يكتب آية إلاّ بشهادة عدلين » وأنّ آخر سورة براءة لم توجد إلاّ مع خزيمة بن ثابت ، فقال : «أكتبوها فإنّ رسول الله جعل شهادته بشهادة رجلين » .
وأيضاً : وجود التكاذب بينها وبين الحديث التالي : « إنّهم جمعوا القرآن في المصاحف في خلافة أبي بكر ، وكان رجال يكتبون ويملي عليهم اُبَيّ ، فلمّا انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة : ( ثم انصرفوا صرف الله ... ) فظنّوا أنّ هذا آخر ما نزل من القرآن ، فقال اُبَيّ بن كعب : أقرأني بعدها آيتين : ( لقد جاءكم
____________
(1) منتخب كنز العمّال 2 : 49 و 52 .
(2) الإتقان 1 : 101 .

( 286 )

رسول ... ) (1) .
وهكذا ترتفع جميع الشبهات حول القرآن الكريم بعد سقوط الأحاديث التي هي المناشيء الأصليّة لها ...

حول ما صنعه عثمان
ويبقى الكلام حول ما صنعه عثمان ... فهل جمع القرآن من جديد ؟ وكيف ؟ وبواسطة من ؟
لقد اختلفت أحاديث القوم وكلمات علمائهم في هذا المقام أيضاً ، وقد أشرنا إلى بعض ذلك فيما تقدّم ... ولمّا كان الصحيح كون القرآن مكتوباً على عهد الرسول ـ صّلى الله عليه و آله وسلّم ـ ومجموعاً مدوّناً قبل عهد عثمان بزمن طويل ، بل لا دور لمن تقدّم عليه في جمعه ... فالصحيح أنّ الذي فعله عثمان على عهده لم يكن إلاّ جمع المسلمين على قراءة واحدة ، وهي القراءة المشهورة المتعارفة بينهم ، المتواترة عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ ... ومنعهم عن القراءات الاخرى المبنيّة على أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف .
أمّا هذا العمل فلم ينتقده عليه أحد من المسلمين ، لأنّ مصاحف الصحابة والتابعين كانت مختلفة ، حتى أنّ بعض العلماء ألّف في أختلافها كتاباً خاصاً ، (2) وكان لكل من الصحابة أتباع في البلاد يقرؤون على قراءته ، ومن الطبيعي أن يؤدّي الإختلاف في قراءة القرآن إلى ما لا تحمد عقباه ...
بل أعلن بعض الأصحاب تأييده لما قام به عثمان ، ورووا عن أمير المؤمنين
____________
(1) مجمع الزوائد 7 : 35 .
(2) أنظر : المصاحف لابن أبي داود السجستاني .

( 287 )

ـ عليه السلام ـ أنّه قال : « لا تقولوا في عثمان إلاّ خيراً ، فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلاّ عن ملأٍ منّا . قال : ما تقولون في هذه القراءة ، فقد بلغني أنّ بعضهم يقول : إنّ قراءتي خير من قراءتك ، وهذا يكاد يكون كفراً ، قلنا : فما ترى ؟ قال : أرى أن يجمع الناس على مصحف واحد ، فلا يكون فرقة ولا اختلاف . قلنا : فنعم ما رأيت (1) .
وعنه أنّه قال : « لو ولّيت لفعلت مثل الذي فعل » (2) .
وقد يؤيّده نقل السيّد ابن طاووس ذلك وسكوته عليه ، حيث جاء في الباب الثاني الذي عقده لنقل أشياء من كتب التفاسير ونقدها : « فصل فيما نذكره من كتاب عليه : جزء فيه اختلاف المصاحف تأليف أبي جعفر محمد بن منصور رواية محمد بن زيد بن مروان ، قال في السطر الخامس من الوجهة الاولة منه : إن القرآن جمعه على عهد أبي بكر زيد بن ثابت ، وخالفة في ذلك أبي وعبدالله بن مسعود وسالم ومولى أبي حذيفة ، ثم عاد عثمان جمع القرآن برأي مولانا علي بن أبي طالب ... » (3) .
وأيضاً : أنّ عدج الآي والسور الذي عليه أكثر القرّاء كما تقدم في الفصل الخامس من الباب الأول عن عدةٍ من أعلام الإمامية ، هو العدد الكوفي كما ذكر الشيخ الطوسي (4) وقد ذكر الشيخ الطبرسي في أوّل تفسيره . « أن عدد أهل الكوفة أصح الأعداد وأعلاها إسناداً ، لأنه مأخوذ عن أمير المؤمنين علي بن أبي
____________
(1) فتح الباري 9 : 15 .
(2) إرشاد الساري 7 : 448 ، البرهان 1 : 240 وغيرهما .
(3) سعد السعود : 278 .
(4) التبيان 10 : 438 .

( 288 )

طالب » (1) .
وأيضاً : قول العلاّمة الحلّي : « يجب أن يقرأ بالمتواتر من الآيات وهو ما تضمنّه مصحف علي عليه السلام ، لأن أكثر الصحابة اتّفقوا عليه ، وأحرق عثمان ما عداه ، ولا يجوز أن يقرأ مصحف ابن مسعود ولا أبي ولا غيرهما » (2) .

ما كان بين عثمان وابن مسعود
نعم ، انتقد على عثمان أخذه المصاحف من أصحابها بالقوّة وإحراقه لها ، وقد رووا عن ابن مسعود الإمتناع من تسليم مصحفه .. والإنتقاد الشديد لتقديم زيد بن ثابت عليه ...
قلت : أمّا امتناعه من تسليم مصحفه فهو من الامور الثابتة التي لا تقبل الخدش ، ولا حاجة إلى ذكر أخباره ومصادر ، وأمّا اعتراضه على تقديم زيد بن ثابت ففيه روايات صحيحة عندهم ... فقد روى الحافظ ابن عبدالبرّ ، عن الأعمش ، عن شقيق ، قال : « لمّا أمر عثمان في المصاحف بما أمر قام عبدالله بن مسعود خطيباً فقال : أيأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت ؟! والّذي نفسي بيده لقد أخذت من فيّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ سبعين سورة وأنّ زيد بن ثابت لذو ذؤابة يلعب به الغلمان ، والله ما نزل من القرآن شيء إلاّ وأنا أعلم في أيّ شيء نزل ، وما أحد أعلم بكتاب الله منّي ، ولو أعلم أحداً تبلّغنيه الإبل أعلم بكتاب الله منّي لأتيته . ثمّ استحيى ممّا قال فقال : وما أنا بخيركم ، قال شقيق : فقعدت في الحلق فيها أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فما
____________
(1) مجمع البيان 1 : 11 .
(2) تذكرة الفقهاء 1 : 115 .

( 289 )

سمعت أحداً أنكر ذلك عليه ولا ردّ ما قال » (1) .

إضطراب القوم في ما رووه عن ابن مسعود في زيد
فهذا الحديث يكشف عن مدى تألّم ابن مسعود وتضجره وشدّة اعتراضه وانتقاده لتقديم زيد بن ثابت عليه ... ومثله أحاديث وآثار اخرى .
وهذا الموضع أيضاً من المواضع المشكلة ... ولذا اضطرب القوم فيه إضطراباً شديداً ، أمّا البخاري فقد أخرج الحديث محرّفاً وتصّرف فيه تستّراً على عثمان وزيد ، فرواه عمن الأعمش ، عن شقيق ، قال : « خطبنا عبد الله فقال : والله لقد أخذت من فيّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بضعاً وسبعين سورة ، والله لقد علم أصحاب النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أنّي من أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم . قال شقيق : فجلست في الحلق أسمع ما يقولون ، فما سمعت رادّاً يقول غير ذلك » (2) .
وأمّا إبن أبي داود فقد ترجم باب رضى ابن مسعود بعد ذلك بما صنع عثمان ، لكن لم يورد ما يصّرح بمطابقة ما ترجم به (3) .
وقال بعضهم : ما رووا عن ابن مسعود من الطعن في زيد بن ثابت كلّه موضوع (4) .
وأمّا ما كان من عثمان بالنسبة إلى ابن مسعود فمشهور في التاريخ ، فقد
____________
(1) الإستيعاب 3 : 993 .
(2) صحيح البخاري بشرح ابن حجر 9 : 39 .
(3) فتح الباري 9 : 40 .
(4) مباحث في علوم القرآن ، لصبحي الصالح : 82 .

( 290 )

ضربه حتى كسر بعض أضلاعه ، ومنعه عطاءه ، ووقعت بينهما منافرة شديدة حتى عهد ابن مسعود إلى عمّار أن لا يصلّي عثمان عليه . وعاده عثمان في مرض الموت فقال له : ما تشتكي ؟ فقال : ذنوبي . فقال : فما تشتهي ؟ قال : رحمة ربي . قال : أدعو لك طبيباً ؟ قال : الطيب أمرضني . قال : أفلا آمر لك بعطائك ؟ قال : منعتنيه وأنا محتاج إليه وتعطينية وأنا مستغن عنه ؟ قال : يكون لولدك . قال : رزقهم على الله تعالى . قال : إستغفر لي يا أبا عبد الرحمن . قال : أسأل الله أن يأخذ لي عنك حقّي » (1) .

كلمة في زيد بن ثابت
قلت : ما رواه الأعمش عن شقيق أخرجه مسلم والنسائي وأبو عوانة وابن أبي داود ... وسواء كان صحيحاً أو موضوعاً .. فإنّ أمر جميع ما ورد حول القرآن . مشتملاً على دور لزيد بن ثابت فيه . مريب ...
لأنّ هذا الرجل الذي كان حين قدوم رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ المدينة ابن إحدى عشرة سنة (2) قد جعلوه من مؤلّفي القرآن على عهد الرسول ... وأنّه على قراءة عارض جبريل القرآن مع النبي عام وفاته ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ... وأنّه الذي جمع القرآن الموجود على عهد عثمان بأمره ... وأن القرآن الموجود على حرف زيد ... !!
فإن صحّ هذا كلّه فهي « شنشنة أعرفها من أخزم » .
____________
(1) اُسد الغابة 3 : 259 ، تاريخ ابن كثير 7 : 163 ، الخميس 2 : 268 ، السيرة الحلبيّة 2 : 78 ، شرح النهج 1 : 236 . نقلاً عن هامش نهج الحق : 295 .
(2) الاستيعاب 2 : 536 .

( 291 )

ولكنّ محمد بن كعب القرظي لم يذكر زيداً فيمن جمع القرآن على عهد النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ (1) .
وأمّا على عهد أبي بكر فقد عرفت بطلان أحاديث الجمع على عهده ، على أنّ أبا بكر لم يصفه إلاّ بـ « إنّك رجل شابّ عاقل لا نتّهمك » وما كا فيه شيء يتقدّم به على ابن عبّاس وابن مسعود واُبَيّ بن كعب وأضرابهم من حفّاظ القرآن وقرّائه والعلماء فيه ...
مضافاً إلى أنّ قوماً من أهل السنّة عارضوا بهذا الحديث حديث أنس بن مالك أنّ زيد بن ثابت أحد الّذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قالوا : « فلو كان زيد قد جمع القرآن على عهد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لأملاه من صدره وما احتاج إلى ما ذكر » (2) .
وأمّا حديث معارضة القرآن على قراءته ـ كما عن ابن قتيبة ـ فقد تكذّبه رواية وكيع وجماعة معه ، عن الأعمش عن أبي ظبيان « قال : قال لي عبدالله بن عبّاس : أيّ القراءتين تقرأ ؟ قلت : القراءة الأولى قراءة ابن امّ عبد ، فقال : أجل هي الآخرة ، إنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كان يعرض القرآن على جبرئيل في كلّ عام مرّة ، فلمّا كان العام الذي قبض فيه رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ عرضه عليه مرّتين ، فحضر ذلك عبدالله فعلم ما نسخ من ذلك وما بدّل » (3) .
____________
(1) الإتقان 1 : 272 ، منتخب كنز العمّال 2 : 370 .
(2) الاستيعاب 2 : 538 .
(3) الاستيعاب 3 : 992 .

( 292 )

خلاصة البحث
ويتلخّص البحث في هذه الناحية في النقاط التالية :
1 ـ إنّ القرآن الكريم كان مكتوباً على عهد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، وكان حفّاظه وقرّاؤه يفوق عددهم حدّ التواتر بكثير .
2 ـ إنّ أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ جمع القرآن الكريم على عهد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ثمّ رتّبه ودوّنه بعد وفاته على ترتيب نزوله ، وذكر فيه الناسخ والمنسوخ وبعض التفسير والتأويل .
3 ـ إنّ الخلفاء الثلاثة لا دور لهم في جمع القرآن ولا في كتابته ولا في حفظه ، لا على عهد الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ولا في عهد حكومتهم .
4 ـ إنّ الذي فعله عثمان هو ترتيب سور القرآن كما هو موجود الآن ، من غير زيادة فيه ولا نقصان ، وحمل الناس على قراءة هذا المصحف ونبذ القراءات الاخرى التي كان عليها تبعاً لأصحابها .

كلمة لابُدّ منها :
وهي أنّه لو أطاع المسلمون نبيّهم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وامتثلوا أمره بالرجوع إلى أهل بيته من بعده والتمسك بهم والتعلم منهم ـ كما في حديث الثقلين المتواتر وغيره ـ لأخذوا القرآن وعلومه من عين صافية ، ولكن هل علم الذي قال : « حسبنا كتاب الله » ثم منع عن كتابة السنّة وسعى وراء عزل أهل البيت عن قيادة الامّة ، وحرمها من العلوم المودعة عندهم ـ عليه السلام ـ بأنّ


( 293 )

القرآن سيمزّقه على المدى البعيد على يد « الوليد » ، فلا يبقى كتاب ولا سنّة ولا عترة ؟!
إنّه قد يصعب على بعض الناس القبول بترتّب كل هذه الآثار ، بل تغيّر مصيرامّة بكاملها على كلمة واحدة قالها قائلها !!

3 ـ في أحاديث نقصان القرآن
وأمّا أخبار نقصان القرآن ... فقد ذكرنا ردّ من ردّها مطلقاً ، وتأويلات من صحّحها ، وأشرنا إلى أنّ المعروف بين المتأوّلين هو الحمل على نسخ التلاوة ... لكنّا نبحث عن هذه الآثار على التفصيل الآتي :
أمّا ما كان من هذه الآثار ضعيفاً سنداً فهو خارج عن دائرة البحث ... وقد عرفت ممّا تقدّم أنّ هذا حال قسم ممّا يدلّ على نقصان .
وأمّا التي صحّت سنداً فهي أخبار آحاد ، ولا كلام ولا ريب في عدم ثبوت القرآن بخبر الواحد .
ثمّ إنّ ما أمكن حمله منها على تفسير وبيان شأن النزول ونحو ذلك فلا داعي للردّ والتكذيب له ـ كما لم يجز الأخذ بظاهره الدالّ عل النقصان ـ فإنّ عدّة من الأصحاب كانوا قد كتبوا القرآن ، وكان بين مصاحفهم الإختلاف في ترتيب السور وقراءة الآيات وما شاكل ذلك ، وإنّ بعضهم قد أصناف إلى الآيات ما سمعه من النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ من التفسير والتوضيح لها ، ومن هذا القبيل جلّ ما في أجزاء الآيات ، كآية ولاية النبي ، وآية المحافظة على الصلوات ، وآية المتعة ، وآية ( يا أيّها الرسول بلّغ ... ) وأمثالها ...
وإن لم يمكن ـ أو لم يتمّ ـ الحمل على بعض الوجوه كما هو الحال فيما ورد


( 294 )

حول سور وآيات كاملة اسقطت من القرآن .. فإمّا الحمل على نسخ التلاوة وإمّا الردّ والتكذيب ...

تحقيق في النسخ
لكنّ الحمل على نسخ التلاوة دون الحكم أو هما معاً غير تامّ لوجوه :

هذا النسخ مستحيل أو ممنوع شرعاً
الأول : إنّه لا أصل للقسمين المذكورين من النسخ ... وتوضيح ذلك : أنّهم قالوا : بأنّ النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب ، أحدها : ما نسخ لفظه وبقي حكمة . والثاني : ما نسخ لفظه وحكمة معاً . والثالث : ما نسخ حكمه دون لفظه . وقد مثّلوا للضرب الأول بآية الرجم ، ففي الصحيح عن عمر : « إنّ الله بعث محمداً بالحقّ وأنزل عليه الكتاب ، فكان ممّا أنزل عليه آية الرجم فقرأتها وعقلتها ووعيتها » . قال ابن حزم : « فأمّا قول من لا يرى الرجم أصلاً فقول مرغوب ، عنه لأنّه خلاف الثابت عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وقد كان نزل به قرآن ، ولكنّه نسخ لفظه وبقي حكمه » (1) .
وعلى ذلك حمل أبو شامة (2) وكذا الطحاوي ، قال : « لكنّ عمر لم يقف على النسخ فقال ما قال ، ووقف على ذلك غيره من الأصحاب ، فكان من علم شيئاً أولى ممّن لم يعلمه ، وكان علم أبي بكر وعثمان وعلي بخروج آية الرجم من القرآن
____________
(1) المحلّى 11 : 334 .
(2) المرشد الوجيز : 42 : 43 .

( 295 )

ونسخها من أولى من ذهاب ذلك على عمر » (1) .
قال السيوطي : « وأمثلة هذا الضرب كثيرة » ثمّ حمل عليه قول ابن عمر : « لا يقولنّ ...» وما روي عن عائشة في سورة الأحزاب ، وما روي عن أبيّ وغيره من سورة الخلع والحفد (2) .
وفي ( المحلّى ) بعد أن روى قال أبيّ في عدد آيات سورة الأحزاب : « هذا إسناد صحيح كالشمس لا مغمز فيه » قال : « ولو لم ينسخ لفظها لأقرأها اُبَيّ بن كعب زرّاً بلا شكّ ، ولكنّه أخبره بأنّها كانت تعدل سورة البقرة ولم يقل له : إنّها تعدل الآن ، فصحّ نسخ لفظها » (3) .
ومثّلوا للثاني بآية الرّضاع عن عائشة : « كان ممّا انزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن ثمّ نسخن بخمس رضعات يحرّمن ، فتوفي رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وهنّ ممّا يقرأ من القرآن » . رواه الشيخان . وقد تكلّموا في قولها : « وهنّ ممّا يقرأ » فإنّ ظاهره بقاء التلاوة بعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وليس كذلك .. وقد تقدّم بعض الكلام فيه ... قال مكّي : « هذا المثال في المنسوخ غير متلوّ ، والناسخ أيضاً غير متلوذ ولا أعلم له نظيرا » (4) .
وقال الآلوسي : « اسقط زمن الصدّيق مالم يتواتر وما نسخت تلاوته ، وكان يقرؤه من لم يبلغه النسخ وما لم يكن في العرضة الأخيرة ، ولم يأل جهداً في تحقيق ذلك ، إلاّ أنّه لم ينتشر نوره في الآفاق إلاّ زمن ذي النورين . فلهذا نسب
____________
(1) مشكل الآثار 3 : 5 ـ 6 .
(2) الإتقان 2 : 81 .
(3) المحلّى 11 : 234 .
(4) الإتقان 2 : 70 .

( 296 )

إليه » ثمّ ذكر طائفة من الآثار الدالّة على نقصان القرآن عن أحمد والحاكم وغيرهما فقال : « ومثله كثير ، وعليه يحمل ما رواه أبو عبيد عن ابن عمر ، قال : لا يقولّون ... والروايات في هذا الباب أكثر من أن تحصى ، إلاّ أنّها محمولة على ما ذكرناه » (1) .
وفي آية الرّضاع قال : « والجواب : أنّ جميع ذلك منسوخ كما صرّح بذلك ابن عبّاس فيما مرّ ، ويدلّ على نسخ ما في خبر عائشة أنّه لو لم يكن منسوخاً لزم ضياع بعض القرآن لم ينسخ ، وإنّ الله تعالى قد تكفّل بحفظه ، وما في الرواية لا ينافي النسخ ... » (2) .
ووافق الزرقاني على حمل هذه الآحاديث على النسخ لورود ذلك في الأحاديث (3) .
لكنّ جماعة من علمائهم المتقدّمين والمـتأخرين ينكرون القسمين المذكورين من النسخ ، ففي الإتقان بعد أن ذكر الضرب الثالث ـ ما نسخ تلاوته دون حكمه ـ وأمثلته : « تنبيه : حكى القاضي أبو بكر في الإنتصار عن قوم إنكار هذا الضرب ، لأنّ الأخبار فيه أخبار آحاد ، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجّة فيها .
وقال أبو بكر الرازي : نسخ الرسم والتلاوة إنّما يكون بأن ينسيهم الله إيّاه ويرفعه من أوهامهم ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكتبه في المصحف ، فيندرس على الأيّام كشائر كتب الله القديمة التي ذكرها في كتابه في قوله : ( إنّ هذا
____________
(1) روح المعاني 1 : 24 .
(2) روح المعاني 1 : 228 .
(3) مناهل العرفان 2 : 225 .