الفصل الخامس

مشهوران لا أصل لهما


      * صحّة أخبار البخاري ومسلم
      * عدالة الصّحابة أجمعين


( 314 )


( 315 )

* لقائل أن يقول : لقد أوضحت ما كان غامضاً من أمر التحريف والقائلين به .. ولكنّ بحثك يشتمل على التجهيل والتفسيل لبعض الصحابة ، والطعن في الصحيحين ، وهذا مذهب جمهور أبناء السنّة في المسألتين !!
وأقول : نعم .. إنّ المشهور بين أهل السنّة هو القول بصحّة أخبار كتب اشتهرت بالصحاح .. فقالوا بصحّة كتب : البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجة وأبي داود .. وهذه هي الكتب المعروفة عندهم بالصحاح .. ومنهم من زاد عليها الموطّأ ، أو نقص منها سنن ابن ماجة .. لكن لا كلام بينهم في كتابي البخاري ومسلم ، بل ادّعي الإجماع على صحّة ما في هذين الكتابين وأنّهما أصحّ الكتب بعد القرآن المبين ـ وإن اختلفوا في ترجيح أحدهما على الآخر ـ بل ادّعى جماعة منهم القطع بأحاديثهما ، وعلى هذا الأساس قالوا بأنّ من روى له الشيخان فقد جاز القنطرة (1) .
قال ابن حجر المكّي : « روى الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما اللذين هما أصحّ الكتب بعد القرآن بإجماع من يعتدّ به » (2) .
وقال أبو الصلاح : « أوّل من صنّف في الصحيح : البخاري أبو عبدالله محمد ابن إسماعيل ، وتلاوه أبو الحسين مسلم بن الحجّاج القشيري ، ومسلم مع أنّه أخذ عن البخاري واستفاد منه فإنّه يشارك البخاري في كثير من شيوخه ، وكتاباهما
____________
(1) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجّاج ـ مقدّمة الكتاب .
(2) الصواعق المحرقة : 5 .

( 316 )

أصحّ الكتب بعد كتاب الله العزيز » (1) .
وقال الجلال السيوطي : « وذكر الشيخ ـ يعني ابن الصلاح ـ أنّ ما روياه أو أحدهما فهو مقطوع بصحّته ، والعلم القطعي حاصل فيه . قال : خلافاً لمن نفى ذلك ، محتجّا بأنّه لا يفيد إلاّ الظنّ ، وإنّما تلقّته الأمّة بالقبول لأنّه يجب عليهم العمل بالظنّ والظّن قد يخطئ ، قال : وكنت أميل إلى هذا وأحسبه قويّاً ، ثمّ بان لي أن الذي اخترناه أوّلاً هو الصحيح ، لأنّ ظنّ من هو معصوم عن الخطأ لا يخطئ ، والامّة في إجماعها معصومة من الخطأ ، ولهذا كان الإجماع المبني على الإجتهاد حدّة مقطوعاً بها ، وقد قال إمام الحرمين : لو حلف إنسان بطلان امرأته أنّ ما في الصحيحين ـ ممّا حكما بصحّته ـ من قول النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ ألزمته الطلاق ، لإجماع علماء المسلمين على صحّته .
قال المصنّف : وخالفه المحقّقون والأكثرون فقالوا : يفيد الظنّ ما لم يتواتر . قال في شرح مسلم : لأنّ ذلك شأن الآحاد ، ولا فرق في ذلك بين الشيخين وغيرهما ، وتلقّي الامّة بالقبول إنّما أفاد وجوب العمل بما فيهما من غير توقّف على النظر فيه ، بخلاف غيرهما فلا يعمل به حتى ينظر فيه يوجد فيه شروط الصحيح ، ولا يلزم من إجماع الامّة على العمل بما فيهما إجماعهم على القطع بأنّه كلام النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ . قال : وقد اشتدّ إنكار ابن برهان على من قال بما قاله الشيخ ، وبالغ في تغليطه .
وكذا عاب ابن عبدالسلام على ابن الصلاح هذا القول وقال : إنّ بعض المعتزلة يرون أنّ الامّة إذا عملت بحديث اقتضى ذلك القطع بصحّته ، قال : وهو مذهب رديء .
____________
(1) علوم الحديث لأبي الصلاح . وعنه في مقدّمة فتح الباري : 8 .
( 317 )

قال البلقيني : ما قاله النووي وابن عبدالسلام ومن تبعهما ممنوع ، فقد نقل بعض الحفّاظ المتأخّرين مثل قول ابن الصلاح عن جماعة من الشافعية ، كأبي إسحاق وأبي حامد الإسفرانيّين ، والقاضي أبي الطيّب ، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي ، وعن السرخسي من الحنفية ، والقاضي عبدالوهّاب من المالكية ، وأبي يعلى وابن الزاغوني من الحنابلة ، وابن فورك وأكثر أهل الكلام من الأشعرية ، وأهل الحديث قاطبة ، ومذهب السلف عامّة . بل بالغ ابن طاهر المقدسي في ( صفوة التصوّف ) فألحق به ما كان على شرطها وإن لم يخرجاه . وقال شيخ الإسلام : ما ذكره النووي مسلّم من جهة الأكثرين ، أمّا المحقّقون فلا . وقد وافق ابن اصلاح أيضاُ محقّقون ... وقال ابن كثير : وأنا مع ابن الصلاح فيما عوّل عليه وأرشد إليه .
قلت : وهو الذي أختاره ولا اعتقد سواه » (1) .
وقال أحمد بن عبدالرحيم الدهلوي في ( حجّة الله البالغة ) : « وأمّا الصحيحان فقد اتّفق المحدّثون على أنّ جميع ما فيهما من المتّصل المرفوع صحيح بالقطع ، وأنّهما متواتران إلى مصنّفيهما وأنّ كلّ من يهوّن أمرهما فهو مبتدع متّبع غير سبيل المؤمنين » .
أقول : إنّ البحث عن « الصحيح » و « الصحاح » و « الصحيحين » طويل عريض لا نتطرّق هنا إليه ، عسى أن نوفّق لتأليف كتاب فيه ... لكنّا نقول بأنّ الحقّ مع من خالف ابن الصلاح ، وأنّ ما ذكره الدهلوي مجازفة ، وأنّ الإجماع على أحاديث الصحيحين (2) غير قائم .. نعم .. ذاك هو المشهور .. لكنّه لا أصل له .. وسنبّين هذا بإيجاز :
____________
(1) تدريب الراوي ـ شرح تقريب النواوي 1 : 131 ـ 134 .
(2) ونخصّ الصحيحين بالبحث ، لأنّه إذا سقط ما قيل في حقّهما سقط ما قيل في حق غيرهما بالأولوية ، ونعبّر عنهما بالصحيحين لأنّهما موسوما بهذا الاسم .

( 318 )

الكلام حول الصحيحين

والحقيقة ... أنّا لم نفهم حتى الآن السبب في تخصيص هذا الشأن بالكتابين ، وذكر تلك الفضائل لهما (1) دون غيرهما من كتب المصنّفين !!
ألم يصنّف مشايخ الرجلين وأئمّة الحديث من قبلهما في الحديث ؟!
ألم يكن في المتأخّرين عنهما من هو أعرف بالحديث الصحيح منهما ؟!
ألم يكن في المتأخرين عنهما من هو أعرف بالحديث الصحيح منهما ؟!
أليس قد فضّل بعضهم كتاب أبي داود على البخاري ، وقال الخطابي : « لم يصنّف في علم الحديث مثل سنن أبي داود ، وهو أحسن وضعاً وأكثر فقهاً من الصحيحين » (2) ؟!
أليس قد قال ابن الأثير : « في سنن الترمذي ما ليس في غيرها من ذكر
____________
(1) ذكروا للبخاري خاصّة ما لا يصدّق ، ففي مقدّمة فتح الباري ـ ص 11 ـ : ذكر الإمام القدوة أبو محمد بن أبي جمرة في اختصاره للبخاري ، قال : قال لي من لقيمته من العارفين ممّن لقي من السادة المقرّ لهم بالفضل : إنّ صحيح البخاري ما قرئ في شدّة إلاّ فرّجت ، ولا ركب به في مركب فغرق ؛ قال : وكان مجاب الدعوة وقد دعا لقارئه » وفيها ـ ص 490 ـ : قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي ـ فيما قرأنا على فاطمة وعائشة بنتي محمد بن الهادي ـ : إنّ أحمد بن أبي طالب أخبرهم ، عن عبدالله بن عمر بن علي ، أنّ أبا الوقت أخبرهم عنه سماعاً ، أخبرنا أحمد بم محمد بن إسماعيل الهروي ، سمعت خالد بن عبدالله المروزي ، يقول : سمعت أبا سهل محمد بن أحمد المروزي ، يقول : سمعت أبا زيد المروزي ، يقول : كنت نائماً بين الركن والمقام فرأيت النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ في المنام فقال لي : يا أبا زيد ، إلى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي ؟! فقلت : يا رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وما كتابك ؟! قال : جامع محمد بن إسماعيل .
(2) ذكره الأدفوي في عبارته الآتية .

( 319 )

المذاهب ووجوه الإستدال وتبيين أنواع الحديث من الصحيح والحسن والغريب » ؟!
أليس قد قيل في النسائي : إنّ له شرطاً في الرجال أشدّ من شرط البخاري ومسلم ؟! (1) .
أليس قد وصف غير الكتابين من كتب الحديث بما يقتضي الترجيح عليهما ؟!
إنّه لم يكن للرجلين هذا الشأن في عصرهما وبين أقرانها .. فلماذا هذا التضخيم لهما فيما بعد ؟!
لا ندري .. هل للسياسة دور في هذه القضية كما كان في قضية حصر المذاهب ؟ أو أنّ شدّة تعصّبهما ضدّ أهل البيت عليهم السّلام هو الباعث لترجيح أبناء السنّة كتابيهما على سائر الكتب ؟!
لكنّي أرى أنّ السبب كلا الأمرين .. لأنّ السلطات ـ في الوقت الذي كانت تضيّق على أئمّة أهل البيت عليهم السّلام وتلامذتهم ورواة حديثهم وعلماء مدرستهم ـ كانت تدعو إلى عقائد المخالفين لهم وتروّج كتبهم وتساعد على نشرها .. ومن الطبيعي أن يتقدّم كلّ من كا أكثر عداوة وأشدّ تعصّباً في هذا الميدان ..
قال السيد شرف الدين : « .. وأنكى من هذا كلّه عدم احتجاج البخاري في صحيحه بأئمّة أهل البيت النبوي ، إذ لم يرو شيئاً عن الصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والزكي والعسكري وكان معاصراً له ، ولا روى عن الحسن بن
____________
(1) البداية والنهاية 11 : 123 ، تهذيب الكمال ذ1 : 172 ، طبقات الشافعية للسبكي 3 : 16 ، الوافي بالوفيات 6 : 417 .
( 320 )

الحسن ، ولا عن زيد بن علي بن الحسين ، ولا عن يحيى بن زيد ، ولا عن النفس الزكيّة محمد بن عبدالله الكامل ابن الحسن الرضا به الحسن السبط ، ولا عن أخيه إبراهيم بن عبدالله ، ولا عن الحسين الفخّي ابن علي بن الحسن بن الحسن ، ولا عن يحيى بن عبدالله بن الحسن ، ولا عن أخيه إدريس بن عبدالله ، ولا عن محمد بن جعفر الصادق ، ولا عن محمد بن إبراهيم بن إسماعيل ابن إبراهيم بن الحسن بن الحسن المعروف بابن طباطبا ، ولا عن أخيه القاسم الشرسي ، ولا عن محمد بن زيد بن علي ، ولا عن محمد بن القاسم بن علي بن عمر الأشرف بن زيد العابدين صاحب الطالقان المعاصر للبخاري ، ولا عن غيرهم من أعلام العترة الطاهرة وأغصان الشجرة الزاهرة ، كعبدالله بن الحسن وعلي بن جعفر العريضي وغيرهما ، ولم يرو شيئاً عن حديث سبطه الأكبر وريحانته من الدنيا أبي محمد الحسن المجتبى سيّد شباب أهل الجنّة .. مع احتجاجه بداعية الخوارج وأشدّهم عداوة لأهل البيت عمران بن حطّان القائل في ابن ملجم وضربته لأمير المؤمنين عليه السّلام :

يا ضربة من تقيّ ما أراد بها * إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكـره يـوماً فأحسبه * أوفى البريّة عند الله ميزانا » (1)
نعم .. هكذا فعلت السلطات .. والعلماء والمحدّثون .. المتربّعون على موائدهم ، والسائرون على ركابهم ، الآخذون منهم مناصبهم ورواتبهم ، يتسابقون في تأييد خططهم وتوجيهها ، تزلّفاً إليهم وتقرّباً منهم .. حتى بلغ الأمر بهم إلى وضع الفضائل للكتابين ومؤلفيهما .. ثم دعوى الإجماع على قطعيّة أحاديثهما ، وعلى تلقّي الامّة إيّاها بالقبول .. ثم القول بأنّ كلّ من يهوّن أمرهما فهو
____________
(1) الفصول المهمّة في تأليف الامّة : 168 .
( 321 )

مبتدع متبّع غير سبيل المؤمنين .
تماماً كالذي فعلوا ـ بوحي من السلطات ـ في قضية حصر المذاهب ، حيث أفتوا بحرمة الخروج عن تقليد الأربعة مستدلّين بالإجماع ، فعودي من تمذهب بغيرها ، وانكر عليه ، ولم يولّ قاضٍ ولا قبلت شهادة أحد ما لم ملّقداً لأحد هذه المذاهب .
لقد كان التعصّب ضدّ أهل البيت الأطهار عليهم السّلام ، خير وسيلة للتقرّب إلى أحكّام وللحصول على الجاه والمقام .. في بعض الأدوار .. فكلّما كان التعصّب أشدّ وأكثر كان صاحبه أفضل وأشهر .. ولذا تراهم يقدّمون كتاب البخاري ـ بالرغم من أنّ لكتاب مسلم مزايا لأجلها قال جماعة بأفضليّته ـ لأنّه لم يخرّج ما أخرجه مسلم من مناقب أهل البيت كحديث الثقلين .. وتراهم يقدحون في الحاكم وفي مستدركه على الصحيحين .. لأنّه أخرج فيه فيما ما لم يخرجاه .. وإن كان واجداً لكلّ ما اشترطاه .
ويشهد بذلك تضعيفهم الحديث الوارد فيهما إذا كان فيه دلالة أو تأييد لمذهب الشيعة .. كما طعن ابن الجوزي وابن تيميّة في حديث الثقلين .. وطعن الآمدي ومن تبعه في حديث : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى » .. المخرّج في الصحيحين .
فهذا هو الأصل في كلّ ما ادّعوا في حقّ الكتابين .. إنّه إلاّ التعصّب .. وإلاّ فإنّهما يشتملان على الصحيح وغيره كسائر الكتب ، وصاحباهما محدّثان كسائر الرجال .. فها هنا مقامات ثلاثة :


( 322 )

(1)
آراء العلماء في الشيخين

إمتناع أبي زرعة من الرواية ع البخاري
1 ـ لقد امتنع أبو زرعة عبدالله بن عبدالكريم الرازي من الرواية عن البخاري ، أمّا مسلم فقد ذكر صحيحه فقال : « هؤلاء قوم أرادوا التقدّم قبل أوانه فعملوا شيئاً يتسوّقون به » .
* هذا رأي أبي زرعة في الرجلين ، ذكر ذلك جماعة من الأعلام ، قال الذهبي : « قال سعيد البرذعي : شهدت أبا زرعة ذكر صحيح مسلم فقال : هؤلاء قوم أرادوا التقدّم قبل أوانه فعملوا شيئاً يتسوّقون به ، وأتاه رجل ـ وأنا شاهد ـ بكتاب مسلم ، فجعل ينظر فيه فإذا حديث عن أسباط بن نصر فقال : ما أبعد هذا عن الصحيح ! .. ثم رأى قطن بن نسير فقال لي : وهذا أطمّ من الأول ، قطن بن نسير يصل أحاديث عن ثابت جعلها عن أنس .. ثم نظر فقال : يروي عن أحمد ابن عيسى في الصحيح ! ما رأيت أهل مصر يشكّون في أنّه ـ وأشار إلى لسانه ـ » (1) .
وقال : « قال أبو قريش الحافظ : كنت عند أبي زرعة فجاء مسلم بن الحجّاج فسلّم عليه وجلس ساعة وتذاكرا ، فلمّا قام قلت له : هذا جمع أربعة آلاف حديث في الصحيح . قال : فلمن ترك الباقي ؟! ثمّ قال : هذا ليس له عقل ، لو
____________
(1) تذهيب التهذيب ـ ترجمة أحمد بن عيسى المصري ، ميزان الاعتدال 1 : 125 .
( 323 )

دارى محمد بن يحيى لصار رجلاً » (1) .
وقال الذهبي في ترجمة على بن المديني شيخ البخاري : « علي بن عبدالله بن جعفر ابن الحسن الحافظ ، أحد الأعلام الأثبات ، وحافظ العصر ، ذكره العقيلي في كتاب الضعفاء فبئس ما صنع ، فقال : جنح إلى ابن داود والجهمية ، وحديثه مستقيم إن شاء الله . قال لي عبدالله بن أحمد : كان أبي حدّثنا عنه ، ثم أمسك عن اسمه وكان يقول : حدّثنا رجل ، ثمّ ترك حديثه بعد ذلك . قلت : بل حديثه عنه في مسنده ، وقد تركه إبراهيم الحربي وذلك لميلة إلى أحمد بن أبي داود ، فقد كان محسناً إليه .
وكذا امتنع مسلم عن الرواية عنه في صحيحة لهذا المعنى ، كما امتنع أبو زرعة وأبو حاتم من الرواية عن تلميذه محمد (2) لأجل مسألة اللفظ . وقال عبدالرحمن بن أبي حاتم : كان أبو زرعة ترك الرواية عنه من أجل ما كان منه في المحنة » (3) .
وقال المناوي في ترجمة البخاري : « زين الامّة ، إفتخار الأئمّة ، صاحب أصحّ الكتب بعد القرآن .. وقال المذهبي : كان من أفراد العالم مع الدين والورع والمتانة . هذه عبارته في الكاشف . ومع ذلك غلب عليه الغضّ من أهل السنّة ، فقال في كتاب الضعفاء والمتروكين : ما سلم من الكلام لأجل مسألة اللفظ ، تركه لأجلها الرازيّان (4) . هذه عبارته واستغفر الله تعالى ، نسأل الله السلامة ونعوذ به
____________
(1) سير أعلام النبلاء ـ ترجمة محمد بن يحيى الذهلي 12 : 280 .
(2) هو محمد بن إسماعيل البخاري .
(3) ميزان الاعتدال 3 : 138 .
(4) هما : أبو زرعة الرازي وأبو حاتم الرازي .

( 324 )

من الخذلان » (1) .

ترجمة أبي زرعة الرازي
وقد ترجم الذهبي وابن حجر وغيرهما أبا زرعة ترجمة حافلة وأوردوا كلمات القوم في إمامته وثقته وحفظه وورعه بما يطول ذكره ، والجدير بالذكر قول الذهبي في آخر ترجمته : « قلت : يعجبني كثيراً كلام أبي زرعة في الجرح والتعديل يبين عليه الورع والخبرة » (2) .
وقول أبي حاتم في حقّه : « إذا رأيت الرازي ينتقص أبا زرعة فاعلم أنّه مبتدع » (3) .
وقول ابن حبّان : « كان أحد أئمّة الدنيا في الحديث ، مع الدين والورع والمواظبة على الحفظ والمذاكرة وترك الدنيا وما فيه الناس » (4) .
وقول ابن راهويه : « كلّ حديث لا يعرفه أبو زرعة فليس له أصل » (5) .

إمتناع أبي حاتم من الرواية عن البخاري
2 ـ وامتنع أبو حاتم الرازي من الرواية عن البخاري .. كما عرفت .
____________
(1) فيض القدير 1 : 24 .
(2) سير أعلام النبلاء 13 : 81 .
(3) تهذيب التهذيب 7 : 30 .
(4) تهذيب التهذيب 7 : 30 .
(5) سير أعلام النبلاء 13 : 71 ، تهذيب التهذيب 7 : 29 ، الكاشف 2 : 201 .

( 325 )

تكلّم الذهلي في البخاري ومسلم
3 ـ وتكلّم محمد بن يحيى الذهلي في البخاري ، وكذا إخراجه مسلماً من مجلس بحثه ، مذكور في جميع كتب التراجم ..
قال الذهبي عن الحاكم : « وسمعت محمد بن يعقوب الحافظ يقول : لمّا استوطن البخاري نيسابور أكثر مسلم بن الحجّاج الإختلاف إليه ، فلمّا وقع بين الذهلي وبين البخاري ما وقع في مسألة اللفظ ونادى عليه ومنع الناس عنه ، انقطع عنه أكثر الناس غير مسلم ، فقال الذهلي يوماً : ألا من قال باللفظ فلا يحلّ له أن يحضر مجلسنا ، فأخذ مسلم رداءه فوق عمامته وقام على رؤوس الناس ، وبعث إلى الذهلي ما كتب عنه على ظهر حمّال ، وكان مسلم يظهر القول باللفظ ولا يكتمه .
قال : وسمعت محمد بن يوسف المؤذّن : سمعت أبا حامد بن الشرقي يقول : حضرت مجلس محمد بن يحيى ، فقال : ألا من قال : لفظي بالقرآن مخلوق فلا يحضر مجلسنا ، فقام مسلم بن الحجّاج عن المجلس ، رواها أحمد بن منصور الشيرازي عن محمد بن يعقوب ، فزاد : وتبعه أحمد بن سلمة .
قال أحمد بن منصور الشيرازي : سمعت محمد بن يعقوب الأخرم ، سمعت أصحابنا يقولون : لمّا قام مسلم وأحمد بن سلمة من مجلس الذهلي قال : لا يساكنني هذا الرجل في البلد . فخشي البخاري وسافر » (1) .
____________
(1) سير أعلام النبلاء 12 : 460 ، هدى الساري في مقدّمة فتح الباري 2 : 264 .
( 326 )

ترجمة الذهلي
وترجم له الخطيب فقال : « كان أحد الآئمة والعارفين والحفّاظ المتقنين والثقات المأمونين ، صنّف حديث الزهري وجوّده ، وقدم بغداد وجالس شيوخها وحدّث بها ، وكان الإمام أحمد بن حنبل يثني عليه وينشر فضله ، وقد حدّث عنه جماعة من الكبراء » فذكر كلمات الثناء عليه حتى نقل عن بعضهم قوله : « كان أمير المؤمنين في الحديث » (1) .
والجدير بالذكر رواية البخاري عنه بالرغم ممّا كان منه في حقّه ، لكن مع تدليس في اسمه ، قال الذهبي : « روى عنه خلائق منهم .. محمد بن إسماعيل البخاري ، ويدلّسه كثيراً ، لا يقول : محمد بن يحيى ، بل يقول : محمد فقط ، أو محمد ابن خالد ، أو محمد بن عبدالله ، ينسبه إلى الجدّ ويعمّي اسمه لمكان الواقع بينهما » (2) .

البخاري في كتاب ( الجرح والتعديل )
4 ـ وأورد بن أبي حاتم البخاريّ في كتاب ( الجرح والتعديل ) وقال ما نصّه : « قدم محمد بن إسماعيل الريّ سنة 250 وسمع منه أبي وأبو زرعة ، وتركا حديثه عندما كتب إليهما محمد بن يحيى أنّه أظهر عندهم بنيسابور أنّ لفظه بالقرآن
____________
(1) تاريخ بغداد 3 : 415 .
(2) سير أعلام النبلاء 12 : 274 .

( 327 )

مخلوق » (1) .

ترجمة ابن أبي حاتم
وقد وصفوا ابن أبي حاتم بالإمامة والحفظ والثقة والزهد ، بل قالوا : « كان يعدّ من الأبدال » (2) . وقال الذهبي : « له كتاب نفيس في الجرح والتعديل » (3) . وعن ابن مندة : « له الجرح والتعديل في عدّة مجلّدات ، تدلّ على سعة حفظه وإمامته » (4) .

طعن إبن الأعين في البخاري
5 ـ وقال أبو بكر ابن الأعين : « مشايخ خراسان ثلاثة : قتيبة ، وعلي بن حجر ، ومحمد بن مهران الرازي . ورجالها أربعة : عبدالله بن عبدالرحمن السمرقندي ، ومحمد بن إسماعيل البخاري ـ قبل أن يظهر ـ ومحمد بن يحيى ، وأبو زرعة » (5) .
وقوله : « قبل أن يظهر » طعن كما هو ظاهر .
وابن الأعين من أكابر الحفّاظ الأعلام ، كما في تاريخ بغداد 2 | 128 والمنتظم 6 | 59 وسير أعلام النبلاء 13 | 566 وغيرها . توفي سنة 293 .
____________
(1) الجرح والتعديل 7 : 191 .
(2) سير أعلام النبلاء 103 : 264 ، مرآة الجنان 2 : 289 ، فوات الوفيات 2 : 288 .
(3) سير أعلام النبلاء 13 : 264 .
(4) فوات الوفيات 2 : 288 .
(5) سير أعلام النبلاء ـ ترجمة على بن حجر 11 : 50 .

( 328 )

البخاري في كتاب ( الضعفاء للذهبي )
6 ـ وأورد الذهبي البخاري في كتاب « ميزان الإعتدال في نقد الرجال » وكتاب « المغني في الضعفاء » (1) وهو ما استنكره المناوي في عبارته آنفة الذكر .

(2)
آراء العلماء في الصحيحين

وتضمّنت الكلمات السالفة الذكر ـ عن جمع من أعلام الجرح والتعديل الّذين يكفي قدح الواحد منهم للسقوط عن درجة الاعتبار ـ الطعن في الصحيحين أو أحدهما . وفي ذلك كفاية في وهن دعوى الإجماع على تلقّي الامّة (2) أحاديثهما بالقبول .. وهنا نتعرّض لآراء عدّة من الأكابر السابقين واللاحقين في حكم أحاديث الصحيحين .

معلومات عن الصحيحين
وقبل الورود في ذلك نذكر معلوماتٍ نقلاً عن شرّاح الكتابين والعلماء
____________
(1) ميزان الاعتدال 3 : 485 ، المغني 2 : 557 .
(2) مضافاً إلى أنّ الشيعة الاثني عشرية ، والزيدية والحنفية ، والظاهرية لا يقولون بذلك وهم من هذه الأمّة .

( 329 )

المحقّقين في الحديث :
1 ـ قد انتقد حفّاظ الحديث البخاري في «110» أحاديث ، منها «32» حديثاً وافقه مسلم فيها ، و «78» انفرد هو بها (1) .
2 ـ الّذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم « أربعمائة وبضعه وثلاثون » رجلاً . المتكلّم فيه بالضعف منهم «80» رجلاً . والّذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاري «620» رجلاً ، المتكلّم فيه بالضعف منهم «160» رجلاً (2) .
3 ـ الأحاديث المنتقدة المخرّجة عندهما معاً بلغت «210» حديثاً ، اختصّ البخاري منها بأقلّ من «80» حديثاً ، والباقي يختصّ بمسلم (3) .
4 ـ هناك رواة يروي عنهم البخاري ، ومسلم لا يرتضيهم ولايروي عنهم ، ومن أشهرهم : عكرمة مولى ابن عبّاس .
5 ـ قد اتفّق الشيخان على الرواية عن أقوام انتقدهم أصحاب الصحاح الاخرى وأئمّة المذاهب .. ومن أشهرهم : محمد بن بشّار .. حتى نسب إلى الكذب (4) .
6 ـ إنّه قد اختلف عدد أحاديث البخاري في روايات أصحابه لكتابه ، وقال ابن حجر : عدة ما في البخاري من المتون الموصولة بلا تكرار «2602» ومن المتون المعلّقة المرفوعة « 159» ، فالمجموع «2761» ، وقال في شرح
____________
(1) مقدّمة فتح الباري : 9 .
(2) مقدّمة فتح الباري : 9 .
(3) مقدّمة فتح الباري : 9 .
(4) ميزان الاعتدال 3 : 490 .

( 330 )

البخاري : إنّ عدّته على التحرير « 2513 » حديث (1) .
7 ـ إنّ البخاري ما قبل أن يبيّض كتابه ، ولذا اختلفت نسخه ورواياته (2) .
8 ـ إن البخاري لم يكن يكتب الحديث في مجلس سماعه ، بل بلده ؛ فعن البخاري أنّه قال : ربّ حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ، وربّ حديث سمعته بالشام كتبته بمصر ، فقيل له : يا أبا عبدالله بكماله ؟! فسكت » (3) .
أمّا مسلم فقد « صنّف كتابه في بلده بحضور اصوله في حياة كثير من مشايخه ، فكان يتحرّ في الألفاظ ويتحرّى في السياق ... » (4) .
وبعد ، فإنّ دعوى تلقّي الامّة أحاديث الصحيحين بالقبول وقيام الإجماع عن صحّتها .. لا أساس لها من الصحّة .. لما تقدّم .. ويأتي :

النووي
1 ـ النووي : « ليس كلّ حديث صحيح يجوز العمل به فضلاً عن أن يكون العمل به واجباً » (5) وقال : « وما يقوله الناس : إنّ من روى له الشيخان فقد جاز القنطرة ، هذا من التجوّه ولا يقوى » (6) .
____________
(1) أضواء على السنّة المحمّدية : 307 .
(2) انظر : مقدّمة فتح الباري : 6 ، أضواء على السنّة المحمّدية : 301 .
(3) تاريخ بغداد 2 : 11 .
(4) مقدّمة فتح الباري : 10 .
(5) التقريب في علم الحديث ، عنه في منتهى الكلام في الردّ على الشيعة : 27 .
(6) المنهاج في شرح صحيح مسلم ، وعنه أضواء على السنّة المحمّدية : 313 ، « والتجّوه » طلب الجاه بتكلّف .

( 331 )

ابن الهمام
2 ـ كمال الدين ابن لهمام : « وقول من قال : أصحّ الأحاديث ما في الصحيحين ، ثم ما انفرد به البخاري ، ثم ما انفرد به مسلم ، ثم ما اشتمل على شرطهما ، ثم ما اشتمل على شرط أحدهما ، تحكّم لا يجوز التقليد فيه ، إذا الأصحّيّة ليست إلا لاشتمال رواتهما على الشروط التي اعتبراها ، فإن فرض وجود تلك الشروط في رواة حديث في غير الكتابين ، أفلا يكون الحكم بأصحيّة ما في الكتابين عين التحكّم ؟! » (1) .

أبو الوفاء القرشي (2)
3 ـ أبو الوفاء القرشي : « فائدة : حديث أبي حميد الساعدي في صفة صلاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في مسلم وغيره ـ يشتمل على أنواع منها التورّك في الجلسة الثانية ـ ضعّفه الطحاوي .. ولا يحنق علينا لمجيئه في مسلم ، وقد وقع في مسلم أشياء لا تقوى عند الإصطلاح ، فقد وضع الحافظ الرشيد العطّار على الأحاديث المقطوعة المخرّجة في مسلم كتاباً سماّه بـ ( غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في مسلم من الأحاديث المقطوعة ) وبيّنها الشيخ محيي الدين في أوّل شرح مسلم .
وما يقوله الناس : إن من روى له الشيخان فقد جاز القنطرة ، هذا أيضاً من
____________
(1) شرح الهداية في الفقه ، وعنه في أضواء على السنّة المحمّدية : 312 .
(2) ترجمته في : حسن المحاضرة 1 : 471 ، الدرر الكامنة 2 : 392 ، شذرات الذهب 6 : 238 .

( 332 )

التحنّق ولا يقوى ، فقد روى مسلم في كتابه عن ليث بن أبي مسلم وغيره من الضعفاء ، فيقولون : إنّما روى في كتابه للإعتبار والشواهد والمتابعات والإعتبارات ، وهذا لا يقوى ، لأنّ الحفّاظ قالوا : الإعتبار والشواهد والمتابعات والإعتبارات امور يتعرّفون بها حال الحديث ، وكتاب مسلم التزم فيه الصحّة ، فكيف يتعرّف حال الحديث الذي فيه بطرق ضعيفة .
واعلم أنّ ( عن ) مقتضية للإنقطاع عند أهل الحديث ، ووقع في مسلم والبخاري من هذا النوع شيء كثير ، فيقولون على سبيل التحنّق : ما كان من هذا النوع في غير الصحيحين فمنقطع ، وما كان في الصحيحين فمحمول على الإتّصال .
وروى مسلم في كتابه عن أبي الزبير عن جابر أحاديث كثيرة بالعنعنة ، وقال الحافظ : أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكّي يدلّس في حديث جابر ، فما كان يصفه بالعنعة لا يقبل ، وقد ذكر ابن حزم وعبدالحقّ عن الليث بن سعد أنّه قال لأبي الزبير : علّم لي أحاديث سمعتها من جابر حتى أسمعها منك ، فعلّم لي أحاديث أظنّ أنّها سبعة عشر حديثاً فسمعتها منه ، قال الحافظ : فما كان من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر صحيح .
وقد روى مسلم في كتابه أيضاً عن جابر وابن عمر في حجّة الوداع : إنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ توجّه إلى مكّة يوم النحر ، وطاف طواف الإفاضة ، ثم رجع فصلّى الظهر بمنى ، فينحنقون ويقولون : أعادها لبيان الجواز ، وغير ذلك من التأويلات ، ولهذا قال ابن حزم في هاتين الروايتين : إحداهما كذب بلا شكّ .
وروى مسلم أيضاً حديث الإسراء وفيه : « وذلك قبل أن يوحى إليه » وقد تكلّم الحفّاظ في هذه اللفظة وبيّنوا ضعفها .