|
|||
(271)
وقد
ذم الله سبحانه الاستهانة بأمر البنات بمثل قوله وهو من أبلغ الذم : « وإذا بشر
أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على
هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون » النحل ـ 59 ، ولم يكن تواريهم إلا لعدهم
ولادتها عارا على المولود له ، وعمدة ذلك انهم كانوا يتصورون أنها ستكبر فتصير لعبة
لغيرها يتمتع بها ، وذلك نوع غلبة من الزوج عليها في أمر مستهجن ، فيعود عاره إلى
بيتها وأبيها ، ولذلك كانوا يئدون البنات وقد سمعت السبب الاول فيه فيما مر ، وقد
بالغ الله سبحانه في التشديد عليه حيث قال : « وإذا الموئودة سئلت بأي ذنب قتلت »
التكوير ـ 9.
وقد بقي من هذه الخرافات بقايا عند المسلمين ورثوها من أسلافهم ، ولم يغسل رينها من قلوبهم المربون ، فتراهم يعدون الزنا عارا لازما على المرأة وبيتها وإن تابت دون الزاني وإن أصر ، مع أن الاسلام قد جمع العار والقبح كله في المعصية ، والزاني والزانية سواء فيها. واما وزنها الاجتماعي : فإن الاسلام ساوى بينها وبين الرجل من حيث تدبير شئون الحياة بالارادة والعمل فإنهما متساويان من حيث تعلق الارادة بما تحتاج إليه البنية الانسانية في الاكل والشرب وغيرهما من لوازم البقاء ، وقد قال تعالى : « بعضكم من بعض » آل عمران ـ 195 ، فلها ان تستقل بالارادة ولها أن تستقل بالعمل وتمتلك نتاجهما كما للرجل ذلك من غير فرق ، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. فهما سواء فيما يراه الاسلام ويحقه القرآن والله يحق الحق بكلماته غير أنه قرر فيها خصلتين ميزها بهما الصنع الالهي : احديهما : أنها بمنزلة الحرث في تكون النوع ونمائه فعليها يعتمد النوع في بقائه فتختص من الاحكام بمثل ما يختص به الحرث ، وتمتاز بذلك من الرجل. والثانية أن وجودها مبني على لطافة البنية ورقة الشعور ، ولذلك أيضا تأثير في أحوالها والوظائف الاجتماعية المحولة إليها. فهذا وزنها الاجتماعي ، وبذلك يظهر وزن الرجل في المجتمع ، واليه تنحل جميع الاحكام المشتركة بينهما وما يختص به احدهما في الاسلام ، قال تعالى : « ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن (272)
واسئلوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما » النساء ـ 32 ، يريد أن الاعمال
التي يهديها كل من الفريقين إلى المجتمع هي الملاك لما اختص به من الفضل ، وان من
هذا الفضل ما تعين لحوقه بالبعض دون البعض كفضل الرجل على المرأة في سهم الارث ،
وفضل المرأة على الرجل في وضع النفقة عنها ، فلا ينبغي أن يتمناه متمن ، ومنه ما لم
يتعين إلا بعمل العامل كائنا من كان كفضل الايمان والعلم والعقل والتقوى وسائر
الفضائل التي يستحسنها الدين ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، واسئلوا الله من فضله ،
والدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى بعده : الرجال قوامون ، على ما سيجئ بيانه.
واما الاحكام المشتركة والمختصة : فهي تشارك الرجل في جميع الاحكام العبادية والحقوق الاجتماعية فلها أن تستقل فيما يستقل به الرجل من غير فرق في إرث ولا كسب ولا معاملة ولا تعليم وتعلم ولا اقتناء حق ولا دفاع عن حق وغير ذلك إلا في موارد يقتضى طباعها ذلك. وعمدة هذه المورد : أنها لا تتولى الحكومة والقضاء ، ولا تتولى القتال بمعنى المقارعة لا مطلق الحضور والاعانة على الامر كمداواة الجرحى مثلا ، ولها نصف سهم الرجل في الارث ، وعليها : الحجاب وستر مواضع الزينة ، وعليها : أن تطيع زوجها فيما يرجع إلى التمتع منها ، وتدورك ما فاتها بأن نفتتها في الحياة على الرجل : الاب أو الزوج ، وان عليه ان يحمي عنها منتهى ما يستطيعه ، وأن لها حق تربية الولد وحضانته. وقد سهل الله لها أنها محمية النفس والعرض حتى عن سوء الذكر ، وان العبادة موضوعة عنها أيام عادتها ونفاسها ، وأنها لازمة الارفاق في جميع الاحوال. والمتحصل من جميع ذلك : انها لا يجب عليها في جانب العلم إلا العلم باصول المعارف والعلم بالفروع الدينية ( أحكام العبادات والقوانين الجارية في الاجتماع ) ، واما في جانب العمل فأحكام الدين وطاعة الزوج فيما يتمتع به منها ، وأما تنظيم الحياة ـ الفردية بعمل أو كسب بحرفة أو صناعة وكذا الورود فيما يقوم به نظام البيت وكذا ـ المداخلة في ما يصلح المجتمع العام كتعلم العلوم واتخاذ الصناعات والحرف المفيدة ـ للعامة والنافعة في الاجتماعات مع حفظ الحدود الموضوعة فيها فلا يجب عليها شيء من (273)
ذلك ، ولازمه أن يكون الورود في جميع هذه الموارد من علم أو كسب أو شغل أو تربية
ونحو ذلك كلها فضلا لها تتفاضل به ، وفخرا لها تتفاخر به ، وقد جوز الاسلام بل ندب
إلى التفاخر بينهن ، مع أن الرجال نهوا عن التفاخر في غير حال الحرب.
والسنة النبوية تؤيد ما ذكرناه ، ولو لا بلوغ الكلام في طوله إلى ما لا يسعه هذا المقام لذكرنا طرفا من سيرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع زوجته خديجة ومع بنته سيدة النساء فاطمة ( عليها السلام ) ومع نسائه ومع نساء قومه وما وصى به في أمر النساء والمأثور من طريقة أئمة أهل البيت ونسائهم كزينب بنت علي وفاطمة وسكينة بنتي الحسين وغيرهن على جماعتهم السلام ، ووصاياهم في أمر النساء. ولعلنا نوفق لنقل شطر منها في الابحاث الروائية المتعلقة بآيات النساء فليرجع المراجع إليها. واما الاساس الذي بنيت عليه هذه الاحكام والحقوق فهو الفطرة ، وقد علم من الكلام في وزنها الاجتماعي كيفية هذا البناء ونزيده هيهنا إيضاحا فنقول : لا ينبغي أن يرتاب الباحث عن أحكام الاجتماع وما يتصل بها من المباحث العلمية أن الوظائف الاجتماعية والتكاليف الاعتبارية المتفرعة عليها يجب انتهائها بالاخرة إلى الطبيعة ، فخصوصية البنية الطبيعية الانسانية هي التي هدت الانسان إلى هذا الاجتماع النوعي الذي لا يكاد يوجد النوع خاليا عنه في زمان ، وإن أمكن أن يعرض لهذا الاجتماع المستند إلى اقتضاء الطبيعة ما يخرجه عن مجرى الصحة إلى مجرى الفساد كما يمكن أن يعرض للبدن الطبيعي ما يخرجه عن تمامه الطبيعي إلى نقص الخلقة ، أو عن صحته الطبيعية إلى السقم والعاهة. فالاجتماع بجميع شؤنه وجهاته سواء كان اجتماعا فاضلا أو اجتماعا فاسدا ينتهي بالاخرة إلى الطبيعة وان اختلف القسمان من حيث ان الاجتماع الفاسد يصادف في طريق الانتهاء ما يفسده في آثاره بخلاف الاجتماع الفاضل. فهذه حقيقة ، وقد أشار إليها تصريحا أو تلويحا الباحثون عن هذه المباحث وقد سبقهم إلى بيانه الكتاب الالهي فبينه بأبدع البيان ، قال تعالى : « الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى » طه ـ 50 ، وقال تعالى : « الذي خلق فسوى والذي قدر (274)
فهدى » الاعلى ـ 3 ، وقال تعالى : « ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقويها » الشمس ـ
8 ، إلى غير ذلك من آيات القدر.
فالاشياء ومن جملتها الانسان إنما تهتدي في وجودها وحياتها إلى ما خلقت له وجهزت بما يكفيه ويصلح له من الخلقة ، والحياة القيمة بسعادة الانسان هي التي تنطبق أعمالها على الخلقة والفطرة انطباقا تاما ، وتنتهي وظائفها وتكاليفها إلى الطبيعة انتهائا صحيحا ، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى : « فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم » الروم ـ 30 ، والذي تقتضيه الفطرة في أمر الوظائف والحقوق الاجتماعية بين الافراد ـ على أن الجميع إنسان ذو فطرة بشرية ـ أن يساوي بينهم في الحقوق والوظائف من غير ان يحبا بعض ويضطهد آخرون بإبطال حقوقهم ، لكن ليس مقتضى هذه التسوية التي يحكم بها العدل الاجتماعي أن يبذل كل مقام اجتماعي لكل فرد من أفراد المجتمع ، فيتقلد الصبي مثلا على صباوته والسفيه على سفاهته ما يتقلده الانسان العاقل المجرب ، أو يتناول الضعيف العاجز ما يتناوله القوي المتقدر من الشؤون والدرجات ، فإن في تسوية حال الصالح وغير الصالح إفسادا لحالهما معا. بل الذي يقتضيه العدل الاجتماعي ويفسر به معنى التسوية ، ان يعطى كل ذي حق حقه وينزل منزلته ، فالتساوي بين الافراد والطبقات إنما هو في نيل كل ذي حق خصوص حقه من غير أن يزاحم حق حقا ، أو يهمل اويبطل حق بغيا أو تحكما ونحو ذلك ، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى : ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة الآية ، كما مر بيانه ، فإن الآية تصرح بالتساوي في عين تقرير الاختلاف بينهن وبين الرجال. ثم إن اشتراك القبيلين اعني الرجال والنساء في اصول المواهب الوجودية اعني ، الفكر والارادة المولدتين للاختيار يستدعي اشتراكها مع الرجل في حرية الفكر والارادة اعني الاختيار ، فلها الاستقلال بالتصرف في جميع شؤون حياتها الفردية والاجتماعية عدا ما منع عنه مانع ، وقد اعطاها الاسلام هذا الاستقلال والحرية ه على أتم الوجوه كما سمعت فيما تقدم ، فصارت بنعمة الله سبحانه مستقلة بنفسها منفكة الارادة والعمل عن (275)
الرجال وولايتهم وقيمومتهم ، واجدة لما لم يسمح لها به الدنيا في جميع ادوارها وخلت
عنه صحائف تاريخ وجودها ، قال تعالى : « فلا جناح عليكم فيما فعلن في انفسهن بالمعروف الآية » ، البقرة ـ 234.
لكنها مع وجود العوامل المشتركة المذكورة في وجودها تختلف مع الرجال من جهة أخرى ، فإن المتوسطة من النساء تتأخر عن المتوسط من الرجال في الخصوصيات الكمالية من بنيتها كالدماغ والقلب والشرائين والاعصاب والقامة والوزن على ما شرحه فن وظائف الاعضاء ، واستوجب ذلك أن جسمها ألطف وأنعم كما أن جسم الرجل أخشن وأصلب ، وأن الاحساسات اللطيفة كالحب ورقة القلب والميل إلى الجمال والزينة أغلب عليها من الرجل كما أن التعقل أغلب عليه من المرأة ، فحياتها حياة إحساسية كما أن حياة الرجل حياة تعقلية. ولذلك فرق الاسلام بينهما في الوظائف والتكاليف العامة الاجتماعية التي يرتبط قوامها بأحد الامرين أعني التعقل ، والاحساس فخص مثل الولاية والقضاء والقتال بالرجال لاحتياجها المبرم إلى التعقل والحياة التعقلية إنما هي للرجل دون المرأة ، وخص مثل حضانة الاولاد وتربيتها وتدبير المنزل بالمرأة ، وجعل نفقتها على الرجل ، وجبر ذلك له بالسهمين في الارث ( وهو في الحقيقة بمنزلة ان يقتسما الميراث نصفين ثم تعطى المرأة ثلث سهمها للرجل في مقابل نفقتها أي للانتفاع بنصف ما في يده فيرجع بالحقيقة إلى أن ثلثي المال في الدنيا للرجال ملكا وعينا وثلثيها للنساء انتفاعا فالتدبير الغالب إنما هو للرجال لغلبة تعقلهم ، والانتفاع والتمتع الغالب للنساء لغلبة إحساسهن. وسنزيده إيضاحا في الكلام على آيات الارث إنشاء الله تعالى ) ثم تمم ذلك بتسهيلات وتخفيفات في حق المرأة مرت الاشارة إليها. فان قلت : ما ذكر من الارفاق البالغ للمرأة في الاسلام يوجب انعطالها في العمل فإن ارتفاع الحاجة الضرورية إلى لوازم الحياة بتخديرها ، وكفاية مؤونتها بإيجاب الانفاق على الرجل يوجب إهمالها وكسلها وتثاقلها عن تحمل مشاق الاعمال والاشغال فتنمو على ذلك نمائا رديا وتنبت نباتا سيئا غير صالح لتكامل الاجتماع ، وقد أيدت التجربة ذلك. (276)
قلت : وضع القوانين المصلحة لحال البشر أمر ، وإجراء ذلك بالسيرة الصالحة والتربية
الحسنة التي تنبت الانسان نباتا حسنا أمر آخر ، والذي أصيب به الاسلام في مدة سيرها
الماضي هو فقد الاولياء الصالحين والقوام المجاهدين فارتدت بذلك أنفاس الاحكام ،
وتوقفت التربية ثم رجعت القهقرى.
ومن
أوضح ما أفاده التجارب القطعي : أن مجرد النظر والاعتقاد لا يثمر أثره ما لم يثبت في
النفس بالتبليغ والتربية الصالحين ، والمسلمون في غير برهة يسيرة لم يستفيدوا من
الاولياء المتظاهرين بولايتهم القيمين بامورهم تربية صالحة يجتمع فيها العلم
والعمل ، فهذا معاوية ، يقول على منبر العراق حين غلب على أمر الخلافة ما حاصله : إني
ما كنت أقاتلكم لتصلوا أو تصوموا فذلك اليكم وإنما كنت أقاتلكم لا تامر عليكم وقد
فعلت ، وهذا غيره من الامويين والعباسيين فمن دونهم.
ولو
لا استضائة هذا الدين بنور الله الذي لا يطفأ والله متم نوره ولو كره الكافرون لقضى
عليه منذ عهد قديم.
( حرية المرأة في المدنية الغربية )
لا شك ان الاسلام له التقدم الباهر في إطلاقها عن
قيد الاسارة ، وإعطائها الاستقلال في الارادة والعمل ، وأن امم الغرب فيما صنعوا من
أمرها إنما قلدوا الاسلام ـ وان اساؤوا التقليد والمحاذاة ـ فإن سيرة الاسلام حلقة
بارزة مؤثرة أتم التأثير في سلسلة السير الاجتماعية وهي متوسطة متخللة ، ومن المحال
أن يتصل ذيل السلسلة بصدرها دونها.
وبالجملة فهؤلاء بنوا على المساواة التامة بين الرجل والمرأة في الحقوق في هذه الازمنة بعد ان اجتهدوا في ذلك سنين مع ما في المرأة من التأخر الكمالي بالنسبة إلى الرجل كما سمعت إجماله. والرأي العام عندهم تقريبا : أن تأخر المرأة في الكمال والفضيلة مستند إلى سوء التربية التي دامت عليها ومكثت قرونا لعلها تعادل عمر الدنيا مع تساوي طباعها طباع الرجل. ويتوجه عليه : أن الاجتماع منذ أقدم عهود تكونه قضى على تأخرها عن الرجل (277)
في
الجملة ، ولو كان الطباعان متساويين لظهر خلافه ولو في بعض الاحيان ولتغيرت خلقة
أعضائها الرئيسة وغيرها إلى مثل ما في الرجل.
ويؤيد ذلك أن المدنية الغربية مع غاية عنايتها في تقديم المرأة ما قدرت بعد على إيجاد التساوي بينهما ، ولم يزل الاحصاءات في جميع ما قدم الاسلام فيه الرجل على المرأة كالولاية والقضاء والقتال تقدم الرجال وتؤخر النساء ، وأما ما الذي أورثته هذه التسوية في هيكل الاجتماع الحاضر فسنشرح ما تيسر لنا منه في محله إنشاء الله تعالى. ( بحث علمي آخر )
عمل النكاح من اصول الاعمال الاجتماعية ، والبشر منذ أول تكونه
وتكثره حتى اليوم لم يخل عن هذا العمل الاجتماعي ، وقد عرفت أن هذه الاعمال لا بد
لها من أصل طبيعي ترجع إليه ابتدائا أو بالاخرة.
وقد وضع الاسلام هذا العمل عند تقنينه على أساس خلقة الفحولة والاناس إذ من البين أن هذا التجهيز المتقابل الموجود في الرجل والمرأة ـ وهو تجهيز دقيق يستوعب جميع بدن الذكور والاناث ـ لم يوضع هبائا باطلا ، ومن البين عند كل من أجاد التأمل أن طبيعة الانسان الذكور في تجهيزها لا تريد إلا الاناث وكذا العكس ، وأن هذا التجهيز لا غاية له إلا توليد المثل وإبقاء النوع بذلك ، فعمل النكاح يبتني على هذه الحقيقة وجميع الاحكام المتعلقة به تدور مدارها ، ولذلك وضع التشريع على ذلك أي على البضع ، ووضع عليه أحكام العفة والمواقعة واختصاص الزوجة بالزوج وأحكام الطلاق والعدة والاولاد والارث ونحو ذلك. وأما القوانين الاخر الحاضرة فقد وضعت أساس النكاح على تشريك الزوجين مساعيهما في الحياة ، فالنكاح نوع اشتراك في العيش هو أضيق دائرة من الاجتماع البلدي ونحو ذلك ، ولذلك لا ترى القوانين الحاضرة متعرضة لشئ مما تعرض له الاسلام من أحكام العفة ونحو ذلك. وهذا البناء على ما يتفرع عليه من انواع المشكلات والمحاذير الاجتماعية على ما سنبين إنشاء الله العزيز لا ينطبق على أساس الخلقة والفطرة اصلا ، فإن غاية ما نجده (278)
في
الانسان من الداعي الطبيعي إلى الاجتماع وتشريك المساعي هو أن بنيته في سعادة حياته
تحتاج إلى امور كثيرة وأعمال شتى لا يمكنه وحده ان يقوم بها جميعا إلا بالاجتماع
والتعاون فالجميع يقوم بالجميع ، والاشواق الخاصة المتعلق كل واحد منها بشغل من
الاشغال ونحو من انحاء الاعمال متفرقة في الافراد يحصل من مجموعها مجموع الاشغال
والاعمال.
وهذا الداعي إنما يدعو إلى الاجتماع والتعاون بين الفرد والفرد أيا ما كانا وأما الاجتماع الكائن من رجل وامرأة فلا دعوة من هذا الداعي بالنسبة إليه ، فبناء ـ الازدواج على أساس التعاون الحيوي انحراف عن صراط الاقتضاء الطبيعي للتناسل والتوالد إلى غيره مما لا دعوة من الطبيعة والفطرة بالنسبة إليه. ولو كان الامر على هذا ، أعني وضع الازدواج على أساس التعاون والاشتراك في الحياة كان من اللازم أن لا يختص أمر الازدواج من الاحكام الاجتماعية بشيء اصلا إلا الاحكام العامة الموضوعة لمطلق الشركة والتعاون ، وفي ذلك إبطال فضيلة العفة رأسا وإبطال أحكام الانساب والمواريث كما التزمته الشيوعية ، وفي ذلك إبطال جميع الغرائز الفطرية التي جهز بها الذكور والاناث من الانسان ، وسنزيده إيضاحا في محل يناسبه إنشاء الله ، هذا إجمال الكلام في النكاح ، واما الطلاق فهو من مفاخر هذه الشريعة الاسلامية ، وقد وضع جوازه على الفطرة إذ لا دليل من الفطرة يدل على المنع عنه ، واما خصوصيات القيود المأخوذة في تشريعه فسيجئ الكلام فيها في سورة الطلاق إنشاء الله العزيز. وقد اضطرت الملل المعظمة اليوم إلى ادخاله في قوانينهم المدنية بعد ما لم يكن. ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ـ 243. (279)
( بيان )
قوله تعالى : « ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم الوف حذر الموت » ، الرؤية
ههنا بمعنى العلم ، عبر بذلك لدعوى ظهوره بحيث يعد فيه العلم رؤية فهو كقوله تعالى : « ألم تر ان الله خلق السموات والارض بالحق » إبراهيم ـ 19 ، وقوله تعالى : « ألم تر
كيف خلق الله سبع سموات طباقا » نوح ـ 15.
وقد ذكر الزمخشري ان لفظ ألم تر جري مجرى المثل ، يؤتى به في مقام التعجيب فقولنا : ألم تر كذا وكذا معناه الا تعجب لكذا وكذا ، وحذر الموت مفعول له ، ويمكن ان يكون مفعولا مطلقا والتقدير يحذرون الموت حذرا. قوله تعالى : « فقال لهم الله موتوا ثم احياهم » ، الامر تكويني ولا ينافي كون موتهم واقعا عن مجرى طبيعي كما ورد في الروايات : ان ذلك كان بالطاعون ، وإنما عبر بالامر ، دون ان يقال : فاماتهم الله ثم أحياهم ليكون أدل على نفوذ القدرة وغلبة الامر ، فإن التعبير بالانشاء في التكوينيات أقوى وآكد من التعبير بالاخبار كما ان التعبير بصورة الاخبار الدال على الوقوع في التشريعيات أقوى وآكد من الانشاء ، ولا يخلو قوله تعالى : ثم أحياهم عن الدلالة على ان الله أحياهم ليعيشوا فعاشوا بعد حياتهم ، إذ لو كان إحيائهم لعبرة يعتبر بها غيرهم أو لاتمام حجة أو لبيان حقيقة لذكر ذلك على ما هو دأب القرآن في بلاغته كما في قصة أصحاب الكهف ، على ان قوله تعالى بعد : إن الله لذو فضل على الناس ، يشعر بذلك ايضا. قوله تعالى : « ولكن اكثر الناس لا يشكرون » ، الاظهار في موضع الاضمار أعني تكرار لفظ الناس ثانيا لما فيه من الدلالة على انخفاض سطح أفكارهم ، على ان هؤلاء الذين تفضل الله عليهم بالاحياء طائفة خاصة ، وليس المراد كون الاكثر منهم بعينهم غير شاكرين بل الاكثر من جميع الناس ، وهذه الآية لا تخلو عن مناسبة ما مع ما بعدها من الآيات المتعرضة لفرض القتال ، لما في الجهاد من إحياء الملة بعد موتها. وقد ذكر بعض المفسرين ان الآية مثل ضربه الله لحال الامة في تأخرها وموتها باستخزاء الاجانب إياها ببسط السلطة والسيطرة عليها ، ثم حياتها بنهضتها ودفاعها عن حقوقها الحيوية واستقلالها في حكومتها على نفسها. (280)
قال
ما حاصله : ان الآية لو كانت مسوقة لبيان قصة من قصص بني إسرائيل كما يدل عليه اكثر
الروايات أو غيرهم كما في بعضها لكان من الواجب الاشارة إلى كونهم من بني إسرائيل ،
وإلى النبي الذي أحياهم كما هو دأب القرآن في سائر قصصه مع ان الآية خالية عن ذلك ،
على ان التوراة ايضا لم تتعرض لذلك في قصص حزقيل النبي على نبينا وآله و ( عليه السلام )
فليست الروايات إلا من الاسرائيليات التي دستها اليهود ، مع ان الموت والحياة
الدنيويتين ليستا إلا موتا واحدا أو حياة واحدة كما يدل عليه قوله تعالى : « لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الاولى » الدخان ـ 56 ، وقوله تعالى : « وأحييتنا
اثنتين » المؤمن ـ 11 ، فلا معنى لحياتين في الدنيا هذا ، فالآية مسوقة سوق المثل ،
والمراد بها قوم هجم عليهم اولوا القدرة والقوة من اعدائهم باستذلالهم واستخزائهم
وبسط السلطة فيهم والتحكم عليهم فلم يدافعوا عن استقلالهم ، وخرجوا من ديارهم وهم
الوف لهم كثرة وعزيمة حذر الموت ، فقال لهم الله موتوا موت الخزى والجهل ، فإن الجهل
والخمود موت كما ان العلم وإباء الضيم حياة ، قال تعالى : « يا أيها الذين آمنوا
استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم » الانفال ـ 24 ، وقال تعالى : « أو من كان
ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها » الانعام ـ 122.
وبالجملة فهؤلاء يموتون بالخزى وتمكن الاعداء منهم ويبقون امواتا ، ثم أحياهم الله بإلقاء روح النهضة والدفاع عن الحق فيهم ، فقاموا بحقوق انفسهم واستقلوا في امرهم ، وهؤلاء الذين احياهم الله وإن كانوا بحسب الاشخاص غير الذين اماتهم الله الا ان الجميع امة واحدة ماتت في حين وحييت في حين بعد حين ، وقد عد الله تعالى القوم واحدا مع اختلاف الاشخاص كقوله تعالى في بني إسرائيل : « انجيناكم من آل فرعون » الاعراف ـ 141 ، وقوله تعالى : « ثم بعثناكم من بعد موتكم » البقرة ـ 56 ، ولو لا ما ذكرناه من كون الآية مسوقا للتمثيل لم يستقم ارتباط الآية بما يتلوها من آيات القتال وهو ظاهر ، انتهى ما ذكره ملخصا. وهذا الكلام كما ترى مبني اولا : على انكار المعجزات وخوارق العادات أو بعضها كإحياء الموتى وقد مر اثباتها ، على ان ظهور القرآن في اثبات خرق العادة باحياء الموتى ونحو ذلك مما لا يمكن انكاره ولو لم يسع لنا اثبات صحته من طريق العقل. (281)
وثانيا : على دعوى ان القرآن يدل على امتناع اكثر من حياة واحدة في الدنيا كما استدل
بمثل قوله تعالى : « لا يذوقون فيها الموت الا الموتة الاولى » الدخان ـ 56 ، وقوله
تعالى : « أحييتنا اثنتين » المؤمن ـ 11.
وفيه ان جميع الآيات الدالة على احياء الموتى كما في قصص ابراهيم وموسى وعيسى وعزير ، بحيث لا تدفع دلالتها ، يكفي في رد ما ذكره ، على ان الحياة الدنيا لا تصير بتخلل الموت حياتين كما يستفاد احسن الاستفادة من قصة عزير ، حيث لم يتنبه لموته الممتد ، والمراد بما أورده من الآيات الدالة على نوع الحياة. وثالثا : على ان الآية لو كانت مسوقة لبيان القصة لتعرضت لتعيين قومهم وتشخيص النبي الذي احياهم. وانت تعلم ان مذاهب البلاغة مختلفة متشتتة ، والكلام كما ربما يجري مجرى الاطناب كذلك يجري مجرى الايجاز ، وللآية نظائر في القرآن كقوله تعالى : « قتل اصحاب الاخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود » البروج ـ 7 ، وقوله تعالى : « وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون » الاعراف ـ 181. ورابعا : على ان الآية لو لم تحمل على التمثيل لم ترتبط بما بعدها من الآيات بحسب المعنى ، وانت تعلم ان نزول القرآن نجوما يغني عن كل تكلف بارد في ربط الآيات بعضها ببعض الا ما كان منها ظاهر الارتباط ، بين الاتصال على ما هو شأن الكلام البليغ. فالحق ان الآيه كما هو ظاهرها مسوقة لبيان القصة ، وليت شعري اي بلاغة في ان يلقي الله سبحانه للناس كلاما لا يرى اكثر الناظرين فيه الا انه قصة من قصص الماضين ، وهو في الحقيقة تمثيل مبني على التخييل من غير حقيقة. مع ان دأب كلامه تعالى على تمييز المثل عن غيره في جميع الامثال الموضوعة فيه بنحو قوله : « مثلهم كمثل الذي » البقرة ـ 17 ، وقوله : « انما مثل الحياة الدنيا » يونس ـ 24 ، وقوله : « مثل الذين حملوا » الجمعة ـ 5 ، إلى غير ذلك. (282)
( بحث روائي )
في الاحتجاج عن الصادق ( عليه السلام ) في حديث قال ( عليه السلام ) :
أحيى الله قوما خرجوا من اوطانهم هاربين من الطاعون ، لا يحصى عددهم ، فأماتهم الله
دهرا طويلا حتى بليت عظامهم ، وتقطعت أوصالهم ، وصاروا ترابا ، فبعث الله في وقت احب
ان يرى خلقه نبيا يقال له : حزقيل ، فدعاهم فاجتمعت ابدانهم ، ورجعت فيها ارواحهم ،
وقاموا كهيئة يوم ماتوا ، لايفتقدون في اعدادهم رجلا فعاشوا بعد ذلك دهرا طويلا.
أقول : وروي هذا المعنى الكليني والعياشي بنحو ابسط ، وفي آخره : وفيهم نزلت هذه الآية. وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم ـ 244. من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون ـ 245. ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين ـ 246 وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفيه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ـ 247. وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون تحمله الملئكة (283)
إن
في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ـ 248.
فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم
يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو
والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم
ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ـ 249.
ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وأنصرنا على
القوم الكافرين ـ 250.
فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا
دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين ـ 251.
تلك
آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين ـ 252.
( بيان )
الاتصال البين بين الآيات أعني الارتباط الظاهر بين فرض القتال ، والترغيب في
القرض الحسن ، والمعنى المحصل من قصة طالوت وداود وجالوت يعطي ان هذه الآيات نزلت
دفعة واحدة ، والمراد بيان ما للقتال من شؤون الحياة ، والروح الذي به تقدم الامة في
حياتهم الدينية ، والدنيوية ، وسعادتهم الحقيقية ، يبين سبحانه فيها فرض الجهاد ، ويدعو
إلى الانفاق والبذل في تجهيز المؤمنين وتهيئة العدة والقوة ، وسماه إقراضا لله لكونه
في سبيله ، مع ما فيه من كمال الاسترسال والايذان بالقرب ، ثم يقص قصة طالوت وجالوت
وداود ليعتبر بها هؤلاء المؤمنون المأمورون بالقتال مع اعداء الدين ويعلموا ان
الحكومة والغلبة للايمان والتقوى وإن قل حاملوهما ، والخزى والفناء للنفاق والفسق
وإن كثر جمعهما ، فإن بني إسرائيل ، وهم اصحاب القصة ، كانوا
(284)
أذلاء مخزيين ما داموا على الخمود والكسل والتواني ، فلما قاموا لله وقاتلوا في سبيل
الله واستظهروا بكلمة الحق وإن كان الصادق منهم في قوله القليل منهم ، وتولى اكثرهم
عند إنجاز القتال أو لا ، وبالاعتراض على طالوت ثانيا ، وبالشرب من النهر ثالثا ،
وبقولهم : لا طاقة لنا بجالوت وجنوده رابعا ، نصرهم الله تعالى على عدوهم فهزموهم
بإذن الله وقتل داود جالوت واستقر الملك فيهم ، وعادت الحياة إليهم ، ورجع إليهم
سؤددهم وقوتهم ، ولم يكن ذلك كله إلا لكلمة أجراها الايمان والتقوى على لسانهم لما
برزوا لجالوت وجنوده ، وهي قولهم : ربنا افرغ علينا صبرا وانصرنا على القوم الكافرين ،
فكذلك ينبغي للمؤمنين ان يسيروا بسيرة الصالحين من الماضين ، فهم الاعلون إن كانوا
مؤمنين.
قوله تعالى : « وقاتلوا في سبيل الله » الآية ، فرض وأيجاب للجهاد ، وقد قيده تعالى ههنا وسائر المواضع من كلامه بكونه في سبيل الله لئلا يسبق إلى الوهم ولا يستقر في الخيال ان هذه الوظيفة الدينية المهمة لايجاد السلطة الدنيوية الجافة ، وتوسعة المملكة الصورية ، كما تخيله الباحثون اليوم في التقدم الاسلامي من الاجتماعيين وغيرهم ، بل هو التوسعة سلطة الدين التي فيها صلاح الناس في دنياهم وآخرتهم. وفي قوله تعالى : واعلموا ان الله سميع عليم ، تحذير للمؤمنين في سيرهم هذا السير ان لا يخالفوا بالقول إذا أمر الله ورسوله بشيء ، ولا يضمروا نفاقا كما كان ذلك من بني إسرائيل حيث تكلموا في امر طالوت فقالوا : أنى يكون له الملك علينا الخ ، وحيث قالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ، وحيث فشلوا وتولوا لما كتب عليهم القتال وحيث شربوا من النهر بعد ما نهاهم طالوت عن شربه. قوله تعالى : « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا إلى قوله اضعافا كثيرة » ، القرض معروف وقد عد الله سبحانه ماينفقونه في سبيله قرضا لنفسه لما مر انه للترغيب ، ولانه إنفاق في سبيله ، ولانه مما سيرد إليهم اضعافا مضاعفة. وقد غير سياق الخطاب من الامر إلى الاستفهام فقيل بعد قوله : « وقاتلوا في سبيل الله » : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ، ولم يقل : قاتلوا في سبيل الله واقرضوا ، لينشط بذلك ذهن المخاطب بالخروج من حيز الامر غير الخالي من كلفة (285)
التكليف إلى حيز الدعوة والندب فيستريح بذلك ويتهيج.
قوله تعالى : « والله يقبض ويبصط واليه ترجعون » ، القبض الاخذ بالشئ اليك ويقابله البسط ، والبصط هو البسط قلب سينه صادا لمجاورته حرف الاطباق والتفخيم وهو الطاء. وايراد صفاته الثلاث أعني : كونه قابضا وباسطا ومرجعا يرجعون إليه للاشعار بأن ما أنفقوه بإقراضه تعالى لا يعود باطلا ولا يستبعد تضعيفه اضعافا كثيرة فإن الله هو القابض الباسط ، ينقص ما شاء ، ويزيد ما شاء ، واليه يرجعون فيوفيهم ما أقرضوه أحسن التوفية. قوله تعالى : « ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل » إلى قوله : في سبيل الله ، الملا كما قيل : الجماعة من الناس على رأى واحد ، سميت بالملا لكونها تملا العيون عظمة وأبهة. وقولهم لنبيهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ، على ما يعطيه السياق يدل على ان الملك المسمى بجالوت كان قد تملكهم ، وسار فيهم بما افتقدوا به جميع شؤون حياتهم المستقلة من الديار والاولاد بعد ما كان الله أنجاهم من آل فرعون ، يسومونهم سوء العذاب ببعثة موسى وولايته وولاية من بعده من أوصيائه ، وبلغ من اشتداد الامر عليهم ما انتبه به الخامد من قواهم الباطنة ، وعاد إلى انفسهم العصبية الزائلة المضعفة فعند ذلك سأل الملا منهم نبيهم ان يبعث لهم ملكا ليرتفع به اختلاف الكلمة من بينهم وتجتمع به قواهم المتفرقة الساقطة عن التأثير ، ويقاتلوا تحت امره في سبيل الله. قوله تعالى : قال : « هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ان لا تقاتلوا » ، كان بنوا إسرائيل سألوا نبيهم ان يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله وليس ذلك للنبي بل الامر في ذلك إلى الله سبحانه ، ولذلك ارجع نبيهم الامر في القتال وبعث الملك إلى الله تعالى ، ولم يصرح باسمه تعظيما لان الذي أجابهم به هو السؤال عن مخالفتهم وكانت مرجوة منهم ظاهرة من حالهم بوحيه تعالى فنزه اسمه تعالى من التصريح به بل إنما أشار إلى ان الامر منه واليه تعالى بقوله : إن كتب ، والكتابة وهي الفرض انما تكون من الله تعالى. وقد كانت المخالفة والتولي عن القتال مرجوا منهم لكنه أورده بطريق الاستفهام |
|||
|