السيد محمد باقر الصدر

مُقدّمَاتٌ
في التفسير الموضوعي للقرآن



( 4 )



( 5 )

مقدمة الناشر

« السيد محمد باقر الصدر » التعريف عنه يبقى موجزا مهما طال وتشعب ، وما قدمه للفكر الانساني عامة والاسلامي بوجه خاص يغني عن أي تعريف فمن كتاباته « البنك اللاربوي في الاسلام » الى كتاب « فلسفتنا » الى كتاب « اقتصادنا » ثم « الاسس المنطقية للاستقراء » اضافة الى العديد من كتاباته الاخرى التي أصبحت مرجعاً فلسفياً يعتمد عليه اساتذة الفلسفة الحديثة على اختلاف اتجاهاتها ، حتى اعتبر « مجدداً » بحق ، ولم تكن جهوده هذه كل همه فكانت جنبا الى جنب مع مساعيه من دروس ومحاضرات يلقيها على طلبة العلوم الدينية في النجف الأشرف . فكان بحد ذاته مدرسة يعتمد عليها في مختلف العلوم .
وهذا الكتاب الذي بين يديك أخي القارئ « مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم » يمثل محاضرات ألقاها سماحته متوجا فيها أعماله باتجاه تجديدي يكون مكملا لجهود المفسرين باضافته الاتجاه الموضوعي في التفسير الى الاتجاه التجزيئي ، وليكون بذلك أثباتا فعليا وعصريا لمقولة « الاسلام نظام شامل وكامل للحياة » .
وقد قام بعض الافاضل من تلامذته بمراجعة هذه الدروس وتحقيقها لتكون على شكل كتاب ، فجزاه الله واياهم عن الاسلام أفضل الجزاء .

الناشر


( 6 )



( 7 )

تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم

وأفضل الصلوات على سيد الخلق محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين .
ربنا فقهنا في كتابك وأكشف عن قلوبنا ظلمات الذنوب لكي نتفهم آياتك وأزح عن بصائرنا غشاوة الدنيا وبريقها الكاذب لكي تملأ قلوبنا بهداك واجعلنا من حملة قرآنك وسنة نبيك والسائرين على طريق طاعتك ...
ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا أنك على كل شيء قدير ، ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو اخطأنا ، ربنا ولا تحمل علينا اصراً كما حملته على الذين من قبلنا ، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وأعف عنا وأغفر لنا وانصرنا ، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ،


( 8 )

ربنا وأغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا للايمان ، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ، ربنا انك رؤوف رحيم .


( 9 )

الدرس الاول :
لا شك في تنوع التفسير واختلاف مذاهبه وتعدد مدارسه والتباين في كثير من الاحيان بين اهتماماته واتجاهاته ، فهناك التفسير الذي يهتم بالجانب اللفظي والادبي والبلاغي من النص القرآني وهناك التفسير الذي يهتم بجانب المحتوى والمعنى والمضمون وهناك التفسير الذي يركز على الحديث ويفسر النص القرآني بالمأثور عن الرسول وأهل بيته (ع) أو بالمأثور عن الصحابة والتابعين . وهناك التفسير الذي يعتمد العقل أيضاً كأساس من أسس التفسير وفهم كتاب الله سبحانه وتعالى ، وهناك التفسير المتميز الذي يتخذ مواقف مذهبية مسبقة ويحاول أن يطبق النص القرآني على أساسها . وهناك التفسير غير المتحيز الذي يحاول أن يستنطق النص القرآني ويطبق الرأي على القرآن لا القرآن على الرأي والى غير ذلك من الاتجاهات المختلفة في التفسير الاسلامي . الا ان الذي يهمنا ونحن على أبواب هذه الدراسة القرآنية أن نركز على ابراز اتجاهين رئيسيين لحركة التفسير في الفكر


( 10 )

الاسلامي ونطلق على أحدهما اسم « الاتجاه التجزيئي في التفسير » وعلى الآخر اسم « الاتجاه التوحيدي أو الموضوعي في التفسير » الاتجاه الاول : الاتجاه التجزيئي المنهج الذي يتناول المفسر ضمن اطاره القرآن الكريم آية فآية وفقا لتسلسل تدوين الآيات في المصحف الشريف ، والمفسر في نطاق هذا المنهج يسير مع المصحف ويفسر قطعاته تدريجياً بما يؤمن به من أدوات ووسائل للتفسير من الظهور أو المأثور من الاحاديث أو العقل أو الآيات الاخرى التي تشترك مع تلك الآية في مصطلح أو مفهوم بالقدر الذي يلقي ضوءا على مدلول القطعة القرآنية التي يراد تفسيرها مع أخذ السياق الذي وضعت تلك القطعة ضمنه بعين الاعتبار في كل تلك الحالات . وطبعا نحن حينما نتحدث عن التفسير التجزيئي نقدمه في أوسع وأكمل صوره التي انتهى اليها فان التفسير التجزيئي تدرج تاريخيا الى أن وصل الى مستوى الاستيعاب الشامل للقرآن الكريم بالطريقة التجزيئية وكان قد بدأ في عصر الصحابة والذي يعين على مستوى شرح تجزيئي لبعض الآيات القرآنية وتفسير لمفرداتها ، وكلما امتد الزمن ازدادت الحاجة الى تفسير المزيد من الآيات الى أن انتهى الى الصورة التي قدم فيها ابن ماجة والطبري وغيرهما كتبهما في


( 11 )

التفسير في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع وكانت تمثل أوسع صورة للمنهج التجزيئي في التفسير . فالمنهج التجزيئي في التفسير حيث أنه كان يستهدف فهم مدلول اللفظ ، وحيث أن فهم مدلول اللفظ كان في البداية ميسرا لعدد كبير من الناس ثم بدأ اللفظ يتعقد من حيث المعنى بمرور الزمن وازدياد الفاصل وتراكم الخبرات والتجارب وتطور الاحداث والاوضاع من هنا توسع التفسير التجزيئي تبعا لما أعتبر النص القرآني من غموض ومن شك في تحديد مدلول اللفظ حتى تكامل بالطريقة التي نراها في موسوعات التفسير حيث ان المفسر يبدأ من الآية الاولى من سورة الفاتحة الى سورة الناس فيفسر القرآن آية آية ، لان كثير من الآيات بمرور الزمن أصبح معناها ومدلولها اللفظي بحاجة الى ابراز أو تجربة أو تأكيد ونحو ذلك ، هذا هو التفسير التجزيئي ، طبعا نحن لا نعني بالتجزيئية في هذا المنهج التفسيري ان المفسر يقطع نظره عن سائر الآيات ولا يستعين بها في فهم الآية المطروحة للبحث ، بل انه قد يستعين بآيات أخرى في هذا المجال كما يستعين بالاحاديث والروايات ، ولكن هذه الاستعانة تتم بقصد الكشف عن المدلول اللفظي الذي تحمله الآية المطروحة للبحث ، فالهدف في كل خطوة من هذا التفسير


( 12 )

فهم مدلول الآية التي يواجهها المفسر بكل الوسائل الممكنة أي أن الهدف « هدف تجزيئي » ، لانه يقف دائما عند حدود فهم هذا الجزء أو ذاك من النص القرآني ولا يتجاوز ذلك غالبا ، وحصيلة تفسير تجزيئي للقرآن الكريم كله تساوي على أفضل تقدير مجموعة مدلولات القرآن الكريم ملحوظة بنظرة تجزيئية أيضا ، أي أنه سوف نحصل على اعداد كبيرة من المعارف والمدلولات القرآنية ، لكن في حالة تناثر وتراكم عددي دون أن نكتشف أوجه الارتباط ، دون أن نكتشف التركيب العضوي لهذه المجاميع من الافكار ، دون أن نحدد في نهاية المطاف نظرية قرآنية لكل مجال من مجالات الحياة فهناك تراكم عددي للمعلومات ، الا أن الخيوط بين هذه المعلومات ، أي الروابط والعلاقات التي تحولها الى مركبات نظرية ومجاميع فكرية بالامكان ان نحصر على أساسها نظرية القرآن لمختلف المجالات والمواضيع ، أما هذا فليس مستهدفا بالذات في منهج التفسير التجزيئي وان كان قد يحصل احيانا ، وقد أدى هذا التناثر ونزعه الاتجاه التجزيئي الى ظهور التناقضات المذهبية العديدة في الحياة الاسلامية ، لانه كان يكفي ان يجد هذا المفسر أو ذاك آية تبرر مذهبه لكي يعلن عنه ويجمع حوله


( 13 )

الانصار والاشياع كما وقع في كثير من المذاهب الكلامية كمسألة الجبر والتفويض والاختيار مثلا ، بينما كان بالامكان تفادي كثير من هذه التناقضات لو أن المفسر التجزيئي خطى خطوة أخرى ولم يقتصر على هذا التجميع العددي كما نرى ذلك في الاتجاه الثاني .
الاتجاه الثاني : ونسميه الاتجاه التوحيدي أو الموضوعي في التفسير .
هذا الاتجاه لا يتناول تفسير القرآن آية فآية في الطريقة التي يمارسها التفسير التجزيئي ، بل يحاول القيام بالدراسة القرآنية لموضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية فيبين ويبحث ويدرس . مثلا عقيدة التوحيد في القرآن أو يبحث عقيدة النبوة في القرآن او عن المذهب الاقتصادي في القرآن او عن سنن التاريخ في القرأن او عن السماوات والارض في القرآن الكريم وهكذا .
ويستهدف التفسير التوحيدي او الموضوعي من القيام بهذه الدراسات تحديد موقف نظري للقرآن الكريم وبالتالي للرسالة الاسلامية من ذلك الموضوع من موضوعات الحياة او الكون ، وينبغي ان يكون واضحا أن الفصل بين الاتجاهين المذكورين ليس حديا على


( 14 )

مستوى الواقع العملي والممارسة التاريخية لعملية التفسير لان الاتجاه الموضوعي بحاجة قطعا الى تحديد المدلولات التجزيئية في الآيات التي يريد التعامل معها ضمن اطار الموضوع الذي يتبناه ، كما أن الاتجاه التجزيئي قد يعثر في اثناء الطريق بحقيقة قرآنية من حقائق الحياة الاخرى ، ولكن الاتجاهين على أي حال يظلان على الرغم من ذلك مختلفين في ملامحهما واهدافهما وحصيلتهما الفكرية ، ومما ساعد على شيوع الاتجاه التجزيئي للتفسير وسيطرته على الساحة قرونا عديدة ، النزعة الروائية والحديثية للتفسير حيث أن التفسير لم يكن في الحقيقة وفي البداية الا شعبة من الحديث بصورة او بأخرى وكان الحديث هو الاساس الوحيد تقريباً ، مضافا الى بعض المعلومات اللغوية والادبية والتاريخية ، التي يعتمد عليها التفسير طيلة فترة طويلة من الزمن ، ومن هنا لم يكن بامكان تفسير يقف عند حدود المأثور من الروايات عن الصحابة والتابعين وعن الرسول والائمة أن يتقدم خطوة اخرى وان يحاول تركيب مدلولات القرآن والمقارنة بينها واستخراج النظرية من وراء هذه المدلولات اللفظية . التفسير كان بطبعه تفسيرا لفظيا تفسيرا للمفردات وشرح بعض المستجد من المصطلحات


( 15 )

وتطبيق بعض المفاهيم على اسباب النزول ومثل هذه العملية لم يكن بامكانها ان تقوم بدور اجتهادي مبدع في التوصل الى ما وراء المدلول اللغوي واللفظي في التوصل الى الافكار الاساسية التي حاول القرآن الكريم ان يعطيها من خلال المتناثر من آياته الشريفة ويمكننا ان نقرب الى اذهانكم فكرة هذين الاتجاهين المختلفين في تفسير القرآن الكريم بمثال من تجربتكم الفقهية ، فالفقه هو بمعنى من المعاني تفسير الأحاديث الواردة عن النبيين والأئمة (ع) ونحن نعرف من البحث الفقهي ان هناك كتبا فقهية شرحت الاحاديث حديثا حديثا ، تناولت كل حديث وشرحته وتكلمت عنه دلالة او سندا أو متنا ، أو دلالة وسندا ومتنا على اختلاف اتجاهات الشراح كما نجد ذلك في شراح الكتب الاربعة وشراح الوسائل غير ان القسم الاعظم من الكتب الفقهية والدراسات العلمية في هذا المجال لم تتجه هذا الاتجاه بل صنف البحث الى مسائل وفقا لوقائع الحياة وجعلت في اطار كل مسألة الاحاديث التي تتصل بها وفسرتها بالقدر الذي يلقي ضوءا على تلك المسألة ويؤدي الى تحديد موقف الاسلام من تلك الواقعة التي تفترضها المسألة المذكورة وهذا هو الاتجاه الموضوعي على الصعيد الفقهي بينما ذاك هو الاتجاه التجزيئي في


( 16 )

تفسير الاحاديث على هذا الصعيد . كتاب الجواهر في الحقيقة شرح كامل شامل لروايات الكتب الاربعة ولكنه ليس شرحا يبدأ بالكتب الاربعة رواية رواية وانما يصنف روايات الكتب الاربعة وفقا للحياة ، وفقا لمواضيع الحياة ، كتاب البيع ، كتاب الجعالة ، كتاب احياء الموات ، كتاب النكاح ، ثم يجمع تحت كل عنوان من هذه العناوين الروايات التي تتصل بذلك الموضوع ويشرحها ويقارن فيما بينها فيخرج بنظرية لانه لا يكتفي بأن يفهم معنى الرواية فقط بصورة مفردة ، ومعنى هذه الرواية بصورة منفردة مع هذه الحالة من الفردية لا يمكن ان يصل الى الحكم الشرعي . وانما يصل الى الحكم الشرعي عن طريق دراسة مجموعة من الروايات التي تحمل مسؤولية توضيح حكم واحد أو باب واحد من ابواب الحياة ثم عن طريق هذه الدراسة الشاملة تخرج نظرية واحدة من قبل مجموعة من الروايات لا من قبل رواية واحدة . هذا هو الاتجاه الموضوعي في شرح الاحاديث ومن خلال المقارنة بين الدراسات القرآنية والدراسات الفقهية نلاحظ اختلاف مواقع الاتجاهين على الصعيدين فبينما انتشر الاتجاه الموضوعي والتوحيدي على الصعيد الفقهي وما خطا الفقه والفكر الفقهي خطوات في مجال تطوره حتى ساد هذا


( 17 )

الاتجاه جل البحوث الفقهية نجد ان العكس هو الصحيح على الصعيد القرآني حيث سيطر الاتجاه التجزيئي للتفسير على الساحة عبر ثلاثة عشر قرنا تقريبا اذ كان كل مفسر يبدأ كما بدأ سلفه مفسرا القرآن آية آية . اذن الاتجاه الموضوعي هو الذي سيطر على الساحة الفقهية بينما الاتجاه التجزيئي هو الذي سيطر على الساحة القرآنية واما ما ظهر على الصعيد القرآني من دراسات تسمى بالتفسير الموضوعي احيانا من قبيل دراسات بعض المفسرين حول موضوعات معينة تتعلق بالقرآن الكريم كاسباب النزول في القرأن أو الناسخ والمنسوخ أو مجازات القرآن فليست من التفسير التوحيدي والموضوعي بالمعنى الذي نريده فان هذه الدراسات ليس في الحقيقة الا تجميعا عدديا لقضايا من التفسير التجزيئي لوحظ فيما بينها شيء من التشابه وفي كلمة اخرى ليست كل عملية تجميع أو عزل دراسة موضوعية . وانما الدراسة الموضوعية هي التي تطرح موضوعا من موضوعات الحياة العقائدية او الاجتماعية او الكونية وتتجه الى درسه وتقييمه من زاوية قرآنية للخروج بنظرية قرآنية بصدده . واكثر ظني ان الاتجاه التوحيدي والموضوعي في الفقه بامتداده وانتشاره ساعد بدرجة كبيرة على تطوير الفكر الفقهي واثراء


( 18 )

الدراسات العلمية في هذا المجال بقدر ما ساعد انتشار الاتجاه التجزيئي في التفسير على اعاقة الفكر الاسلامي القرآني عن النمو المستمر وساعد على اكسابه حالة تشبه الحالات التكرارية حتى تكاد تقول ان قرونا من الزمن متراكمة مرت بعد تفاسير الطبري والرازي والطوسي لم يحقق فيها الفكر الاسلامي مكاسب حقيقية جديدة وظل التفسير ثابتا لا يتغير الا قليلا من خلال تلك القرون على الرغم من الوان التغير التي حفلت بها الحياة بمختلف الميادين وسوف يتضح انشاء الله تعالى من خلال المقارنة بين الاتجاهين السبب والسر الذي يكمن وراء هذه الظاهرة . لماذا كانت الطريقة التجزيئية عاملا في اعاقة النمو ولماذا تكون الطريقة الموضوعية والاتجاه التوحيدي عاملا في النمو والابداع وتوسيع نطاق حركة الاجتهاد لكي نعرف لماذا كان هذا ولماذا كان ذاك ، يجب أن نكون انطباعات أوضح وأكثر تحديدا عن هذين الاتجاهين ، وان يتضح ذلك بعد ان نشرح بعض اوجه الاختلاف بين هذين الاتجاهين التفسيريين فيما يلي :
اولا : ان دور المفسر التجزيئي سلبي على الاغلب فهو يبدأ اولا بتناول النص القرآني المحدد آية مثلا أو مقطعا قرآنيا من دون أي افتراضات او طروحات مسبقة


( 19 )

ويحاول أن يحدد المدلول القرآني على ضوء ما يسعفه به اللفظ مع ما يتاح له من القرائن المتصلة والمنفصلة العملية في طابعها العام ، عملية تفسير نص معين وكان دور النص فيها دور المتحدث ودور المفسر هو الاصغاء والتفهم وهذا ما نسميه بالدور السلبي ، المفسر هنا شغله ان يستمع لكن بذهن مضيء ، بفكر صاف ، بروح محيطة بآداب اللغة واساليبها ، في التعبير بمثل هذه الروح ، بمثل هذه الذهنية وبمثل هذا الفكر يجلس بين يدي القرآن ليستمع وهو ذو دور سلبي والقرآن ذو دور ايجابي والقرآن يعطي حينئذ وبقدر ما يفهم هذا المفسر من مدلول اللفظ يسجل في تفسيره . وخلافا لذلك المفسر التوحيدي والموضوعي فانه لا يبدأ في عمله من النص بل من واقع الحياة فيركز نظره على موضوع من موضوعات الحياة العقائدية او الاجتماعية او الكونية ويستوعب ما اثارته تجارب الفكر الانساني حول ذلك الموضوع من مشاكل وما قدمه الفكر الانساني من حلول وما طرحه التطبيق التاريخي من اسئلة ومن نقاط فراغ ثم يأخذ النص القرآني ، لا ليتخذ من نفسه بالنسبة الى النص دور المستمع والمسجل فحسب ، بل ليطرح بين يدي النص موضوعا جاهزا مشرقا بعدد كبير من الافكار والمواقف البشرية ويبدأ


( 20 )

مع النص القرآني حوارا ، المفسر يسأل والقرأن يجيب المفسر على ضوء الحصيلة التي استطاع ان يجمعها من خلال التجارب البشرية النافعة وهو يستهدف من ذلك ان يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح والنظرية التي بامكانه ان يستلهمها من النص من خلال مقارنة هذا النص بما استوعبه الباحث عن الموضوع من افكار واتجاهات ومن هنا كانت نتائج التفسير الموضوعي نتائج مرتبطة دائما بتيار التجربة البشرية لانها تمثل المعالم والاتجاهات القرآنية لتحديد النظرية الاسلامية بشأن موضع من مواضيع الحياة ومن هنا ايضا كانت عملية التفسير الموضوعي عملية حوار مع القرآن الكريم واستنطاق له ، وليست عملية استجابة سلبية بل استجابة فعالة وتوظيفا هادفا للنص القرآني في سبيل الكشف عن حقيقة من حقائق الحياة الكبرى ، قال امير المؤمنين (ع) وهو يتحدث عن القرآن الكريم « ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكن أخبركم عنه ، ألا ان منه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم » التعبير بالاستنطاق الذي جاء في كلام ابن القرآن (ع) اروع تعبير عن عملية التفسير الموضوعي بوصفها حوارا مع القرآن الكريم وطرحا للمشاكل الموضوعية عليه بقصد الحصول على الاجابة


( 21 )

القرآنية عليها ، اذن فاول اوجه الاختلاف الرئيسية بين الاتجاه التجزيئي في التفسير والاتجاه الموضوعي في التفسير ان الاتجاه التجزيئي يكون دور المفسر فيه دورا سلبيا يستمع ويسجل بينما التفسير الموضوعي ليس هذا معناه وليس هذا كنهه وانما وظيفة التفسير الموضوعي دائما في كل مرحلة وفي كل عصر ان يحمل كل تراث البشرية الذي عاشه ، يحمل افكار عصره ، يحمل المقولات التي تعلمها من تجربته البشرية ثم يضعها بين يدي القرآن الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ليحكم على هذه الحصيلة بما يمكن لهذا المفسر ان يفهمه من خلال مجموعة آياته الشريفة ، اذن فهنا يلتحم القرآن مع الواقع ، واقع الحياة ، لان التفسير يبدأ من الواقع وينتهي الى القرآن لا انه يبدأ من القرآن وينتهي في القرآن فيكون عملية منعزلة عن الواقع ، بل هذه العملية تبدأ من الواقع وتنتهي بالقرأن بوصفه القيم والمصدر الذي يجدد على ضوئه الاتجاهات الربانية بالنسبة الى ذلك الواقع ومن هنا تبقى للقرآن حينئذ قدرته على القيمومة والعطاء المستجد بشكل دائم فالقرآن الكريم دلت الروايات على انه لا ينفد وصرح القرآن نفسه بأن كلمات الله لا تنفد ، عطاء القرآن لا ينفد بينما


( 22 )

التفسير اللغوي ينفد لان اللغة لها طاقات محدودة وليس هناك تجدد في الملول اللغوي ولو وجد تجدد في المدلول اللغوي فلا معنى لتحكيمه على القرآن ، ولو وجدت لغة اخرى بعد القرآن فلا معنى لان يفهم القرآن من خلال لغة جديدة او ألفاظ تحمل مصطلحات جديدة استحدثت بعد القرآن اذن فحالة عدم النفاد تكمن في منهج التفسير الموضوعي لاننا نستنطق القرآن وفيه علم ما كان وعلم ما يأتي ودواء دائنا ، ونظم ما بيننا ، ما يمكن ان نستشف منه مواقف السماء تجاه تجربة الارض . فمن هنا كان التفسير الموضوعي قادرا على التطور والنمو لان التجربة البشرية تثريه والدرس القرآني والتأمل القرآني على ضوء التجربة البشرية يجعل هذا الثراء محولا الى فهم اسلامي قرآني صحيح والحمد لله رب العالمين .


( 23 )

الدرس الثاني :
ان الاتجاهات الفقهية سارت في الاتجاه الموضوعي بينما الابحاث التفسيرية سارت في الاتجاه التجزيئي طبعا لم نكن نعني من ذلك ايضا ان البحث الفقهي استنفذ طاقة الاتجاه الموضوعي فالبحث الفقهي اليوم مدعو ايضا الى ان يستنفذ طاقة هذا الاتجاه الموضوعي افقيا وعموديا باعتبار ان الاتجاه الموضوعي كما قلنا عبارة عن ان الانسان يبدأ من الواقع وينتهي الى الشريعة .
هكذا كان ديدن العلماء والفقهاء كانوا يبدأون بالحياة ، يبدأون من الواقع ، وقائع الحياة كانت تنعكس عليهم على شكل جعالة ومضاربة ومزارعة ومساقات ليستنبطوا الحكم من مصادرها ثم يردونها الى الشريعة هذا اتجاه موضوعي لانه يبدأ بالواقع وينتهي الى الشريعة في مقام التعريف على حكم هذا الواقع لكن هنا لا بد ان يمتد الفقه افقيا على هذه الساحة اكثر لان العلماء الذين ساهموا في تكوين هذا الاتجاه الموضوعي عبر قرون متعددة كانوا حريصين على ان يأخذوا هذه


( 24 )

الوقائع ويحيلوها الى الشريعة ليستنبطوا احكام الشريعة المرتبطة بتلك الوقائع لكن وقائع الحياة تتكاثر وتتجدد باستمرار وتتولد ميادين جديدة فلابد لهذه العملية من النمو باستمرار فتبدأ من الواقع لكن لا ذاك الواقع الساكن المحدود والذي كان يعيشه الشيخ الطوسي او المحقق الحلي ، لان ذاك الواقع كان يفي بحاجات عصرهما فالاجار والمضاربة والمزارعة والمساقات كانت تمثل السوق قبل ألف سنة أو قبل ثمانمائة سنة لكن ابواب السوق قد اتسعت ففيها العلاقات الاقتصادية اوسع واكثر تشابكا من هذا النطاق ، فلا بد للفقه من ان يكون كما كان على يد هؤلاء العلماء الذين كانوا حريصين على ان يعكسوا كل ما يستجد من وقائع الحياة على الشريعة ليأخذوا حكم الشريعة . لا بد ايضا من ان هذه العملية تسير افقيا كما سارت افقيا في البداية . هذا من الناحية الافقية .
من الناحية العمودية ايضا لا بد من ان يتوغل هذا الاتجاه الموضوعي في الفقه ، لا بد وان يتوغل ، لا بد وان ينفذ عموديا ، لا بد وان يصل الى النظريات الاساسية ، لا بد وان لا يكتفي بالبناءات العلوية وبالتشريعات التفصيلية ، لا بد وان ينفذ من خلال هذا التشريعات التي تمثل وجهة نظر الاسلام لاننا نعلم ان


( 25 )

كل مجموعة من التشريعات في كل باب من ابواب الحياة ترتبط بنظريات اساسية ، ترتبط بتطورات رئيسية لأحكام الاسلام ، تشريعات الاسلام ، في المذهب الاقتصادي بالاسلام ، احكام الاسلام في مجال النكاح والطلاق والزواج وعلاقات المرأة مع الرجل ترتبط بنظرياته الاساسية عن المرأة والرجل ودور المرأة والرجل هذه النظريات الاساسية التي تشكل القواعد النظرية لهذه الابنية العلوية ، لا بد ايضا من التوغل اليها ، لا ينبغي ان ينظر الى ذلك بوصفه عملا منفصلا عن الفقه ، بوصفه ترفا ، أدبا ، بل بوصفه ضرورة وينبغي اكتشافها بقدر الطاقة البشرية .
الان نعود الى التفسير بما ذكرناه من اوجه الخلاف بين التفسير الموضوعي والتفسير التجزيئي ، تبينت عدة افضليات تدعو الى تفضيل المنهج الموضوعي في التفسير على المنهج التجزيئي في التفسير فان المنهج الموضوعي في التفسير على ضوء ما ذكرناه يكون اوسع افقا وأرحب وأكثر عطاء باعتبار ان يتقدم خطوة عن التفسير التجزيئي كما أنه قادر على التجدد باستمرار ، على التطور والابداع باستمرار ، باعتبار ان التجربة البشرية تغني هذا التفسير بما تقدمه من مواد ، ثم هذه


( 26 )

المواد تطرح بين يدي القرآن الكريم وهذا هو الطريق الوحيد للحصول على النظريات الاساسية للاسلام وللقرآن ازاء موضوعات الحياة المختلفة وقد يقال بأنه ما الضرورة الى تحصيل هذه النظريات الاساسية ، ما الضرورة الى ان نفهم نظرية الاسلام في النبوة مثلا بشكل عام او نفهم نظرية الاسلام في سنن التاريخ او في التغير الاجتماعي بشكل عام او ان نفهم سنن الاسلام والارض ، ما الضرورة الى ان ندرس ونحدد هذه النظريات فاننا نجد بان النبي (ص) لم يعط هذه النظريات على شكل نظريات محدودة وصيغ عامة ، وانما اعطى القرآن بهذا الترتيب للمسلمين ، ما الضرورة الى ان نتعب انفسنا في سبيل هذه النظريات وتحديدها بعد ان لا حظنا ان النبي (ص) اكتفى باعطاء هذا المجموع ، هذا الشكل المتراكم بهذا الشكل ما الضرورة ان نستحصل هذه النظريات الحقيقة بأنه هناك اليوم ضرورة اساسية لتحديد هذه النظريات ولتحصيل هذه النظريات ولا يمكن ان يفترض الاستغناء عنها . النبي (ص) كان يعطي هذه النظريات ولكن من خلال التطبيق من خلال المناخ القرآني العام الذي كان بينه في الحياة


( 27 )

الاسلامية ، وكان كل فرد مسلم في إطار هذا المناخ ، كان يحمل نظرية ولو فهما اجماليا ارتكازيا لان المناخ والاطار الروحي والاجتماعي والفكري والتربوي الذي وصفه النبي (ص) كان قادرا على ان يعطي النظرة السليمة ، والقدرة السليمة على تقييم المواقع والمواقف والاحداث اذا اردنا ان نقرب هذه الفكرة نقول : قايسوا بين حالتين حالة الانسان الذي يعيش داخل عرف لغة من اللغات وانسان يريد ان يعرف ابناء هذه اللغة ، ابناء هذا العرف ، كيف تتمثل اذهانهم هذه المعاني الى الالفاظ ، كيف يحددون المعاني من الألفاظ ، هنا توجد حالتين احداهما : ان تأتي بهذا الانسان وتجعله يعيش في اعماق هذا العرف وفي اعماق هذه اللغة واذا صار كذلك واستمرت به الحياة في اطار هذا العرف وهذه اللغة فترة طويلة من الزمن سوف يتكون لديه الاطار اللغوي ، والعرفي الذي يستطيع من خلاله ان يتحرك ذهنه وفقا لما يريده العرف واللغة منه لان مدلولات تكون موجودة وجودا اجماليا ارتكازيا في ذهنه ، النظرة السليمة والتفهم السليم للكلمة الصحيحة ، وتمييزها عن الكلمة غير الصحيحة تكون موجودة عنده باعتبار انه عاش عرف اللغة ووجدانها في ممارساته بينما اذا كان الانسان خارج جناح تلك اللغة وعرفها واردت ان تنشئ


( 28 )

في ذهنه القدرة على التمييز اللغوي الصحيح فلا تستطيع التمييز اللغوي حينئذ الا عن طريق الرجوع الى قواعد تلك اللغة ، والى العرف الذي تربى فيه الانسان لكي تستنتج منه القواعد العامة والنظريات الشاملة ومثاله ما وقع بالنسبة الى علوم العربية كيف ان ابن اللغة لم يكن بحاجة الى ان يعلم علوم العربية في البداية لانه كان يعيش في اعماق عرف اللغة ، لكن بعد ان ابتعد عن تلك الاعماق واختلفت الاجواء وضعفت اللغة ، وتراكمت لغات اخرى اندست الى داخل حياة هؤلاء ، بدأ هؤلاء بحاجة الى علم لللغة ، الى نظريات لللغة لان الواقع لا يسفعهم بنظرة سليمة فلا بد حينئذ من علم لا بد من نظريات لكي يفكروا ولكي يناقشوا ولكي يتصرفوا لغويا وفقا لتلك القواعد والنظريات هذا المثال مثال تقريبي لأجل توضيح الفكرة .
اذا الصحابة الذين عاشوا في كنف الرسول الاعظم (ص) اذا كانوا لم يتلقوا النظريات بصيغ عامة فقد تلقوها تلقيا اجماليا ارتكازيا ، انتقشت في اذهانهم وسرت في افكارهم ، كان المناخ العام الاطار الاجتماعي والروحي والفكري الذي يعيشونه كله كان اطارا مساعدا على تفهم هذه النظريات ولو تفهما اجماليا وعلى توليد المقياس الصحيح في مقام التقييم .


( 29 )

اما حيث لا يوجد ذلك المناخ ، ذلك الاطار اذا تكون الحاجة الى دراسة لنظريات القرآن الكريم في الاسلام ، تكون حاجة حقيقية ملحة خصوصا مع بروز نظريات عديدة من خلال التفاعل بين انسان العالم الاسلامي وانسان العالم الغربي بكل ما يملك من رصيد عظيم ومن ثقافة متنوعة في مختلف مجالات المعرفة البشرية حينما وقع هذا التفاعل بين انسان العالم الاسلامي وانسان العالم الغربي وجد الانسان المسلم نفسه امام نظريات كثيرة في مختلف مجالات الحياة فكان عليه لكي يحدد موقف الاسلام من هذه النظريات ، كان لا بد وان يستنطق نصوص الإسلام ، ويتوغل في اعماق هذه النصوص ليصل الى مواقف الاسلام سلبا وايجاباً لكي يكتشف نظريات الاسلام التي تعالج نفس هذه المواضيع التي عاش بحثها التجارب البشرية الذكية في مختلف مجالات الحياة .
اذن فالتفسير الموضوعي في المقام هو افضل الاتجاهين في التفسير الا ان هذا لا ينبغي ان يكون المقصود منه الاستغناء عن التفسير التجزيئي ، هذه الافضلية لا تعني استبدال اتجاه باتجاه او طرح التفسير التجزيئي رأسا والاخذ بالتفسير الموضوعي ، وانما اضافة اتجاه الى اتجاه لان التفسير الموضوعي


( 30 )

ليس الا خطوة الى الامام بالنسبة الى التفسير التجزيئي ولا معنى للاستغناء عن التفسير التجزيئي باتجاه الموضوعي . وانما هي مسألة ضم الاتجاه الموضوعي في التفسير الى الاتجاه التجزيئي في التفسير ، يعني افتراض خطوتين خطوة هي التفسير التجزيئي وخطوة وأخرى هي التفسير الموضوعي .