موقع النبوة الاجتماعي في حياة الناس على الساحة التاريخية والموقع الاجتماعي للمترفين والمسرفين ، هذه العلاقة ترتبط في الحقيقة بدور النبوة في المجتمع ودور المترفين والمسرفين في المجتمع . هذه العلاقة جزء من رؤية موضوعية عامة للمجتمع ، بما سوف يتضح انشاء الله حينما نبحث عن دور النبوة في المجتمع والموقع الاجتماعي للنبوة ، سوف يتضح حينئذ ان النقيض الطبيعي للنبوة هي موقع المترفين والمسرفين . اذن هذه سنة من سنن التاريخ « .. واذا أردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عبادة خبيرا بصيرا » (1) .
هذه الآية أيضا تتحدث عن علاقة معينة بين ظلم يسود ويسيطر وبين هلاك تجر اليه الامة جرا . وهذه العلاقة ايضا الآية تؤكد انها علاقة مطردة على مر التاريخ وهي سنة من سنن التاريخ « ولو انهم اقاموا التوراة والانجيل وما أنزل اليهم من ربهم لاكلو من فوقهم ومن تحت أرجلهم ... » (2) . « ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض
____________
(1) سورة الاسراء : الآية (16ـ17) .
(2) سورة المائدة : الآية (66) .

( 56 )

ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون » (1) . « وألو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا » « بل قالوا انا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثارهم مهتدون » (2) .
هذه الآيات الثلاث تتحدث عن علاقة معينة هي علاقة بين الاستقامة وتطبيق احكام الله سبحانه وتعالى وبين وفرة الخيرات وكثرة الانتاج ـ وبلغة اليوم بين عدالة التوزيع وبين وفرة الانتاج ـ القرآن يؤكد ان المجتمع الذي تسوده العدالة في التوزيع هذه العدالة في التوزيع التي عبر عنها القرآن ـ تارة ـ « ألو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا » ـ وأخرى ـ « لو ان اهل القرى آمنوا واتقوا » ـ واخرى ـ بأنهم « لو أنهم اقاموا التوراة والانجيل » ، لان شريعة السماء نزلت من اجل تقرير عدالة التوزيع ، من اجل انشاء علاقات التوزيع على اسس عادلة ، يقول لو انهم طبقوا عدالة التوزيع لما وقعوا في ضيق من ناحية الثروة المنتجة وفي فقر بل لازداد الثراء والمال وازدادت الخيرات والبركات . لكنهم تخيلوا ان عدالة التوزيع تقتضي الفقر بينما الحقيقة السنة التاريخية تؤكد عكس ذلك ، تؤكد بأن
____________
(1) سورة الاعراف : الآية (96) .
(2) سورة الزخرف : الآية (22) .

( 57 )

تطبيق شريعة السماء وتجسيد احكامها في علاقات التوزيع تؤدي دائما وباستمرار الى زيادة الانتاج والى كثرة الثروة ، الى ان يفتح على الناس بركات السماء والارض . اذن هذه ايضا سنة من سنن التاريخ . وهناك آيات اخرى اكدت على الاستقراء والنظر والتدبر في الحوادث التاريخية من اجل تكوين نظرة استقرائية من اجل الخروج بنواميس وسنن كونية للساحة التاريخية « ... افلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين امثالها .. » (1) . « افلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم » (2) . « وكأي من قرية أهلكناها وهي ظالمة وهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد ، أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها او آذان يسمعون بها فانها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ... » (3) . « وكم اهلكنا قبلهم من قرية هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص ، ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب او ألقى السمع وهو
____________
(1) سورة محمد : الآية (10) .
(2) سورة يوسف : الآية (109) .
(3) سورة الحج : الآية (120) .

( 58 )

شهيد ... » (1) .
من مجموع هذه الآيات الكريمة يتبلور المفهوم القرآني .. وهو تأكيد القرآن على ان الساحة التاريخية لها سنن ولها ضوابط كما يكون هناك سنن وضوابط لكل الساحات الكونية الاخرى .. وهذا المفهوم القرآني يعتبر فتحا عظيما للقرآن الكريم .. لاننا بحدود ما نعلم القرآن اول كتاب عرفه الانسان أكد على هذا المفهوم وكشف عنه وأصر عليه وقاوم بكل ما لديه من وسائل الاقناع والتفهيم ، قاوم النظرة العفوية او النظرة الغيبية الاستسلامية بتفسير الاحداث ، الانسان الاعتيادي كان يفسر احداث التاريخ بوصفها كومة متراكمة من الاحداث ، يفسرها على اساس الصدفة تارة وعلى اساس القضاء والقدرة والاستسلام لامر الله سبحانه وتعالى . القرآن الكريم قاوم هذه النظرة العفوية وقام هذه النظرة الاستسلامية ونبه العقل البشري الى ان هذه الساحة لها سنن ولها قوانين وانه لكي تستطيع ان تكون انسانا فاعلا مؤثرا لا بد لك ان تكتشف هذه السنن ، لا بد وان تتعرف على هذه القوانين لكي تستطيع ان تتحكم فيها والا تحكمت هي فيك وانت مغمض العينين ، افتح عينيك على هذه
____________
(1) سورة ق : الآية (36ـ37) .
( 59 )

القوانين وعلى هذه السنن لكي تكون أنت المتحكم لا لكي تكون هذه السنن هي المتحكمة فيك .
هذا الفتح القرآني الجليل هو الذي مهد الى تنبيه الفكر البشري بعد ذلك بقرون الى ان تجرى محاولات لفهم التاريخ فهما عمليا بعد نزول القرآن بثمانية قرون بدأت هذه المحاولات على أيدي المسلمين انفسهم فقام ابن خلدون بمحاولة لدراسة التاريخ وكشف سننه وقوانينه ثم بعد ذلك بأربعة قرون ( على اقل تقدير ) اتجه الفكر الاوربي في بدايات ما يسمى بعصر النهضة ، بدأ لكي يجسد هذا المفهوم الذي ضيعه المسلمون ، والذي لم يستطع المسلمون ان يتوغلوا الى اعماقه ، هذا المفهوم اخذه الفكر الغربي في بدايات عصر النهضة وبدأت هناك ابحاث متنوعة ومختلفة حول فهم التاريخ وفهم سننه ونشأت على هذا الاساس اتجاهات مثالية ومادية ومتوسطة ومدارس متعددة ، كل واحدة منها تحاول ان تحدد نواميس التاريخ . وقد تكون المادية التاريخية اشهر هذه المدارس واوسعها تغلغلا واكثرها تأثيرها في التارخ نفسه ، اذن كل هذا الجهد البشري في الحقيقة هو استمرار لهذا التنبيه القرآني ويبقى للقرآن الكريم مجده في انه طرح هذه الفكرة لاول مرة على ساحة المعرفة البشرية .


( 60 )

الدرس الخامس :
من خلال استعراضنا السابق للنصوص القرآنية البينة التي اوضحت فكرة السنن التاريخية واكدت عليها ، يمكننا ان نستلخص من خلال المقارنة بين تلك النصوص ثلاث حقائق اكد عليها القرآن الكريم بالنسبة الى سنن التاريخ .
الحقيقة الاولى :
هي الاضطراد بمعنى ان السنة التاريخية مضطردة ليست علاقة عشوائية ذات طابع موضوعي لا تتخلف في الحالات الإعيادية التي تجري فيها الطبيعة والكون وعلى السنن العامة وكان التأكيد على طابع الاضطراد في السنة تأكيدا على الطابع العلمي للقانون التاريخي ، لان القانون العلمي أهم مميز يميزه عن بقية المعادلات والفروض والاضطراد والتتابع وعدم التخلف .
ومن هنا استهدف القرآن الكريم من خلال التأكيد على طابع الاضطراد في السنة التاريخية ، استهدف ان


( 61 )

يؤكد على الطابع العلمي لهذه السنة وان يخلق في الانسان المسلم شعورا على جريان احداث التاريخ متصبرا لا عشوائيا ولا مستسلما ولا ساذجا .
« ولن تجد لسنة الله تبديلا .. » (1) ، « ولا تجد لسنتنا تحويلا .. » (2) ، « ولا مبدل لكلمات الله ... » (3) هذه النصوص القرآنية تقدم استعراضا تؤكد فيه طابع الاستمرارية والاضطارد أي طابع الموضوعية والعلمية للسنة التاريخية ، وتستنكر هذه النصوص الشريفة كما تقدم في بعضها ان يكون هناك تفكير او طمع لدى جماعة من الجماعات بأن تكون مستثناة من سنة التاريخ « أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا ان نصر الله قريب » (4) هذه الآية تستنكر على من يطمع في أن يكون حالة استثنائية من سنة التاريخ كما شرحنا في ما مضى . اذن الروح العامة للقرآن تؤكد على هذه الحقيقة الاولى وهي حقيقة
____________
(1) سورة الاحزاب : الآية (62) .
(2) سورة الاسراء : الآية (77) .
(3) سورة الانعام : الآية (34) .
(4) سورة البقرة : الآية (214) .

( 62 )

الاضطراد في السنة التاريخية الذي يعطيها الطابع العلمي من اجل تربية الانسان على ذهنية واعية علمية يتصرف في اطارها ومن خلالها مع احداث التاريخ .
الحقيقة الثانية :
الحقيقة الثانية التي اكدت عليها النصوص القرآنية هي ربانية السنة التاريخية ، ان السنة التاريخية ربانية مرتبطة بالله سبحانه وتعالى ، سنة الله ، كلمات الله على اختلاف التعبير ، بمعنى ان كل قانون من قوانين التاريخ ، هو كلمة من الله سبحانه وتعالى ، وهو قرار رباني ، هذا التأكيد من القرآن الكريم على ربانية السنة التاريخية وعلى طابعها الغيبي يستهدف شد انسان حتى حينما يريد ان يستفيد من القوانين الموضوعية للكون شده بالله سبحانه وتعالى ، واشعار الانسان بان الاستعانة بالنظام الكامل لمختلف الساحات الكونية والاستفادة من مختلف القوانين والسنن التي تتحكم في هذه الساحات ، ليس ذلك انعزالا عن الله سبحانه وتعالى لان الله يمارس قدرته من خلال هذه السنن ، ولان هذه السنن والقوانين هي ارادة الله وهي ممثلة لحكمة الله وتدبيره في الكون وقد يتوهم البعض ان هذا الطابع الغيبي الذي يلبسه القرآن


( 63 )

الكريم للتارخ وللسنن التاريخية يبعد القرآن عن التفسير العلمي الموضوعي للتاريخ ويجعله يتجه اتجاه التفسير الالهي للتاريخ الذي مثلته مدرسة من مدارس الفكر اللاهوتي على يد عدد كبير من المفكرين المسيحيين واللاهوتيين حيث فسروا تفسيرا الهيا قد يخلط هذا الاتجاه القرآني بذلك التفسير الالهي الذي اتجه اليه أغسطين وغيره من المفكرين اللاهوتيين فيقال بأن اسباغ هذا الطابع الغيبي على السنة التاريخية يحول المسألة الى مسألة غيبية وعقائدية ويخرج التاريخ عن اطاره العلمي الموضوعي ولكن الحقيقة ان هناك خلطا اساسيا بين الاتجاه القرآني وطريقة القرآن في ربط التاريخ بعالم الغيب وفي اسباغ الطابع الغيبي على السنة التاريخية وبين ما يسمى بالتفسير الالهي للتاريخ الذي تبناه اللاهوت ، هناك فرق كثير بين هذين الاتجاهين وهاتين النزعتين وحاصل هذا الفرق هو ان الاتجاه اللاهوتي للتفسير الالهي للتاريخ يتناول الحادثة نفسها ويربط هذه الحادثة بالله سبحانه وتعالى قاطعا صلتها وروابطها مع بقية الحوادث فهو يطرح الصلة مع الله بديلا عن صلة الحادثة مع بقية الحوادث ، بديلا عن العلاقات والارتباطات التي تزخر بها الساحة


( 64 )

التاريخية والتي تمثل السنن والقوانين الموضوعية لهذه الساحة بينما القرآن الكريم لا يسبغ الطابع الغيبي على الحادثة بالذات ولا ينتزع الحادثة التاريخية من سياقها ليربطها مباشرة بالسماء ، ولا يطرح صلة الحادثة بالسماء كبديل عن أوجه الانطباق والعلاقات والاسباب والمسببات على هذه الساحة التاريخية بل أنه يربط السنة التاريخية بالله ، يربط أوجه العلاقات والارتباطات بالله ، فهو يقرر اولا ويؤمن بوجود روابط وعلاقات بين الحوادث التاريخية ، الا ان هذه الروابط والعلاقات بين الحوادث التاريخية هي في الحقيقة تعبير عن حكمة الله سبحانه وتعالى وحسن تقديره وبناءه التكويني للساحة التاريخية اذا أردنا ان نستعين بمثال لتوضيح الفرق بين هذين الإتجاهين من الظواهر الطبيعية . نستطيع ان نستخدم هذا المثال : قد يأتي انسان فيفسر ظاهرة المطر التي هي ظاهرة طبيعية فيقول بان المطر نزل بارادة من الله سبحانه وتعالى ، ويجعل هذه الارادة بديلا عن الاسباب الطبيعية التي نجم عنها نزول المطر ، وكأن المطر حادثة لا علاقة لها ولا تنسب لها ، وانما هي مفردة ترتبط مباشرة بالله سبحانه وتعالى بمعزل عن تيار الحوادث ، هذا النوع من الكلام يتعارض مع التفسير العلمي لظاهرة المطر .


( 65 )

لكن اذا جاء شخص وقال بان الظاهرة ، ظاهرة المطر لها اسبابها وعلاقاتها وانها مرتبطة بالدورة الطبيعية للماء مثلا ، يتبخر فيتحول الى غاز والغاز يتصاعد سحابا والسحاب يتحول بالتدريج الى سائل نتيجة انخفاض الحرارة فينزل المطر الا ان هذا التسلسل السببي المتقن ، هذه العلاقات المتشابكة بين الظواهر الطبيعية هي تعبير عن حكمة الله وتدبيره وحسن رعايته فمثل هذا الكلام لا يتعارض مع الطابع العلمي للتفسير الموضوعي لظاهرة المطر لاننا ربطنا هنا السنة بالله سبحانه وتعالى للحادثة مع عزلها عن بقية الحوادث وقطع ارتباطها مع مؤثراتها وأسبابها . اذن القرآن الكريم حينما يسبغ الطابع الرباني على السنة التاريخية لا يريد ان يتجه اتجاه التفسير الالهي في التاريخ ولكنه يريد ان يؤكد ان هذه السنن ليست خارجة من وراء قدرة الله سبحانه وتعالى وانما هي تعبير وتجسيد وتحقيق لقدرة الله ، هي كلماته وسننه وارادته وحكمته في الكون لكي يبقى الانسان دائما مشدودا الى الله لكي تبقى الصلة الوثيقة بين العلم والايمان فهو في نفس الوقت الذي ينظر فيه الى هذه السنن نظرة علمية ينظر ايضا اليها نظرة ايمانية ، وقد بلغ القرآن الكريم في حرصه على تأكيد الطابع الموضوعي للسنن التاريخية


( 66 )

وعدم جعلها مرتبطة بالصدف ، ان نفس العمليات الغيبية أناطها في كثير من الحالات بالسنة التاريخية نفسها أيضا ، عملية الامداد الالهي بالنص ، الامداد الالهي الغيبي الذي يساهم في كسب النص . هذا الامداد جعله القرآن الكريم مشروطا بالسنة التاريخية ، مرتبطا بظروفها غير منفك عنها وهذه الروح ابعد ما تكون عن ان تكون روحا تفسر التاريخ على أساس الغيب وانما هي روح تفسر التاريخ على أساس المنطق والعقل والعلم وحتى ذاك الامداد الالهي الذي يساهم بالنص ذاك الامداد أيضا ربط بالنسنة التاريخية . قرأنا في ما سبق صيغة من صيغ السنن التاريخية للنص حينما قرأنا قوله سبحانه وتعالى « ... أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا ... » والان تعالوا نتحدث عن الامداد الغيبي لنلاحظ كيف ان هذه الآيات ربطت هذا الامداد الالهي الغيبي بتلك السنة نفسها أيضا : « اذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم اني ممدكم بألف من الملائكة مردفين . وما جعله الله الا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر الا من عند الله ان الله عزيز حكيم » (1) . اذن فمن الواضح ان الطابع الرباني الذي يسبقه القرآن الكريم ليس بديلا عن التفسير
____________
(1) سورة الأنفال الآية (9ـ10) .
( 67 )

الموضوعي وانما هو ربط هذا التفسير الموضوعي بالله سبحانه وتعالى من اجل اتمام اتجاه الاسلام نحو التوحيد بين العلم والايمان في تربية الانسان المسلم .
الحقيقة الثالثة :
الحقيقة الثالثة التي اكد عليها القرآن الكريم من خلال النصوص المتقدمة هي حقيقة اختيار الانسان وإرادة الانسان والتأكيد على هذه الحقيقة في مجال استعراض سنن التاريخ مهم جدا اذ سوف يأتي انشاء الله تعالى بعد محاضرتين .
ان البحث في سنن التاريخ خلق وهما ، وحاصل هذا الوهم الذي خلقه هذا البحث عند كثير من المفكرين أن هناك تعارضا وتناقضا بين حرية الانسان واختياره وبين سنن التاريخ ، فاما ان نقول بان للتاريخ سننه وقوانينه وبهذا نتنازل عن ارادة الانسان واختياره وحريته ، واما ان نسلم بان الانسان كائن حر مريد مختار وبهذا يجب ان نلغي سنن التاريخ وقوانينه ونقول بان هذه الساحة قد أعفيت من القوانين التي لم تعفى منها بقية الساحات الكونية . هذا الوهم وهم التعارض والتناقض بين فكرة السنة التاريخية أو القانون الترايخي وبين فكرة اختيار الانسان وحريته . هذا


( 68 )

الوهم كان من الضروري للقرآن الكريم ان يزيحه وهو يعالج هذه النقطة بالذات ومن هنا اكد سبحانه وتعالى على أن المحور في تسلسل الاعداد والقضايا انما هو ارادة الانسان ، وسوف أتناول انشاء الله تعالى بعد محاضرتين الطريقة الفنية في كيفية التوجيه بين سنن التاريخ وارادة الانسان ، وكيف استطاع القرآن الكريم أن يجمع بين هذين الامرين من خلال فحص للصيغ التي يمكن في اطارها صياغة السنة التاريخية ، سوف اتكلم عن ذلك بعد محاضرتين لكن يكفي الان ان نستمع الى قوله تعالى « ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » (1) « وألو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماءا غدقا » (2) « ... وتلك القرى اهلكناهم لما ظلموا انفسهم وجعلنا لمهلكهم موعدا » (3) انظروا كيف أن السنن التاريخية لا تجري من فوق يد الانسان بل تجري من تحت يده ، فان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم « وألو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماءا غدقا » اذن هناك مواقف ايجابية للانسان تمثل حريته واختياره وتصميمه وهذه المواقف تستتبع ضمن
____________
(1) سورة الرعد : الآية (11) .
(2) سورة الجن : الآية (16) .
(3) سورة الكهف : الآية (59) .

( 69 )

علاقات السنن التاريخية ، تستتبع جزاءاتها المناسبة ، تستتبع معلولاتها المناسبة ، اذن فاختيار الانسان له موضعه الرئيسي في التصور القرآني لسنن التاريخ وسوف أعود الى هذه النقطة مرة أخرى بإذن الله تعالى اذن نستخلص مما سبق ان السنن التاريخية ، ان السنن القرآنية في التاريخ ذات طابع علمي لانها تتميز بالاطراد الذي يميز القانوني العلمي ، وذات طابع رباني لانها تمثل حكمة الله وحسن تدبيره على الساحة التاريخية وذات طابع انساني لانها لا تفصل الانسان عن دوره الايجابي ولا تعطل فيه ارادته وحريته واختياره وانما تؤكد اكثر فاكثر مسؤوليته على الساحة التاريخية . الان بعد استعرضنا الخصائص الثلاث التي تتميز بها السنن التاريخية في القرآن الكريم نواجه هذا السؤال : ما هو ميدان هذه السنن التاريخية ؟ كنا حتى الان نعبر ونقول بان هذه السنن تجري على الساحة التاريخية ، لكن ، هل أن الساحة التاريخية بامتدادها هي ميدان لسنن التاريخية أو ان ميدان السنن التاريخية يمثل جزأ من الساحة التاريخية بمعنى ان الميدان الذي يخضع للسنن التاريخية بوصفها قوانين ذات طابع نوعي مختلف عن القوانين الاخرى الفيزيائية


( 70 )

والفسلجية والبيولوجية والفلكية . هذا الميدان الذي يخضع لقوانين ذات طابع نوعي مختلف ، هذا الميدان هل تتسع له الساحة التاريخية ، هل يستوعب كل الساحة التاريخية ، أو يعبر عن جزء من الساحة التاريخية ؟ لكن قبل هذا يجب أن نعرف ماذا نقصد بالساحة التاريخية الساحة التاريخية عبارة عن الساحة التي تحوي تلك الحوادث والقضايا التي يهتم بها المؤرخون ، المؤرخون أصحاب التواريخ بمجموعة من الحوادث والقضايا يسجلونها في كتبهم والساحة التي تزخر بتلك الحوادث التي يهتم بها المؤرخون ويسجلونها هي الساحة التاريخية فالسؤال هنا اذن هكذا ، هل ان كل هذه الحوادث والقضايا التي يربطها المؤرخون وتدخل في نطاق مهمتهم التاريخية والتسجيلية هل كلها محكومة بالسنن التاريخية ، بسنن التاريخ ذات الطابع النوعي المتميز عن سنن بقية حدود الكون والطبيعة ، أو أن جزءاً معينا من هذه الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ ؟ الصحيح ان جزءاً معينا من هذه الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ ، هناك حوادث لا تنطبق عليها سنن التاريخ بل تنطبق عليها القوانين الفيزيائية او الفسلجية أو قوانين الحياة او أي قوانين اخرى لمختلف الساحات الكونية الاخرى مثلا : موت ابي طالب ، موت خديجة في سنة معينة حادثة تاريخية مهمة


( 71 )

تدخل في نطاق ضبط المؤرخين واكثر من هذا هي حادثة ذات بعد في التاريخ ترتبت عليها آثار كثيرة ولكنها لا يحكمها سنة تاريخية بل تحكمها قوانين فسلجية ، تحكمها قوانين الحياة التي فرضت ان يموت ابو طالب ( صلوات الله عليه ) وان تموت خديجة ( ع ) في ذلك الوقت المحدد ، هذه الحادثة تدخل في نطاق صلاحيات المؤرخين ولكن الذي يتحكم في هذه الحادثة هي قوانين فسلجة جسم أبي طالب وجسم خديجة ، قوانين الحياة التي تفرض المرض والشيخوخة ضمن شروط معينة وظروف معينة ، حياة عثمان بن عفان الخليفة الثالث ، طول عمره حادثة تاريخية فقد ناهز الثمانين ، طبعا هذه الحادثة التاريخية كان لها أثر عظيم في تاريخ الاسلام ، لو قدر لهذا الخليفة أن يموت موتا طبيعيا وفقا لقوانينه الفسلجية قبل يوم الثورة كان من الممكن ان تتغير كثير من معالم التاريخ ، كان من المحتمل ان يأتي الامام أمير المؤمنين الى الخلافة بدون تناقضات وبدون ضجيج وبدون خلاف لكن قوانين فسلجة جسم عثمان بن عفان اقتضت ان يمتد به العمر الى ان يقتل من قبل الثائرين عليه من المسلمين هذه حادثة تاريخية تعني انها تدخل في اهتمامات المؤرخين ولها بعد تاريخي ايضا ولعبت


( 72 )

دورا سلبا أو ايجابا في تكييف الاحداث التاريخية الاخرى ، ولكنها لا تتحكم فيها سنن التاريخ . ان الذي يتحكم في ذلك قوانين بنية جسم عثمان ، قوانين الحياة وقوانين جسم الانسان التي اعطت لعثمان بن عفان عمر ناهز الثمانين ، مواقف عثمان بن عفان وتصرفاته الاجتماعية تدخل في نطاق سنن التاريخ ، لكن طول عمر عثمان بن عفان لمسألة اخرى ، مسألة حياتية أو مسألة فسلجية أو مسألة فيزيائية وليست مسألة تتحكم فيها سنن التاريخ . اذن سنن التاريخ لا تتحكم على كل الساحة التاريخية ، لا تتحكم على كل القضايا التي يدرجها الطبري في تاريخه بل على ميدان معين من هذه الساحات يأتي ذكره انشاء الله .


( 73 )

الدرس السادس :
قلنا ان الساحة التاريخية ساحة اهتمامات المؤرخين لا يستوعبها كل التاريخ لان هذه الساحة تشتمل على ظواهر كونية وطبيعية ، فيزيائية وحياتية وفسلجية ايضا . هذه الظواهر تحكمها قوانينها النوعية على الرغم من ان بعض هذه الظواهر ذات اهمية بالمنظار التاريخي . من منظار المؤرخين تعتبر هذه حوادث ذات اهمية لها بعد زمني في امتداد وتيار الحوادث التاريخية ولكنها مع هذا لا تحكمها سنن التاريخ بل تحكمها سننها الخاصة . سنن التاريخ تحكم ميدانا معينا من الساحة التاريخية ، هذا الميدان يشتمل على ظواهر متميزة تميزا نوعيا عن سائر الظواهر الكونية والطبيعية وباعتبار هذا التميز النوعي استحقت سننا متميزة ايضا تميزا نوعيا عن سنن بقية الساحات الكونية . المميز العام للظواهر التي تدخل في نطاق سنن التاريخ هو ان هذه الظواهر تحمل علامة جديدة لم تكن موجودة في سائر الظواهر الاخرى الكونية


( 74 )

والطبيعية والبشرية . الظواهر الكونية والطبيعية كلها تحمل علاقة ظاهرة بسبب مسبب بسبب نتيجة بمقدمات ، هذه العلاقة موجدوة في كل الظواهر الكونية والطبيعية ، الغليان ظاهرة طبيعية مرتبطة بظروف معينة ، بدرجة حرارة معينة ، بدرجة معينة ممن قرب هذا الماء من النار . هذا الارتباط ارتباط المسبب بالسبب ، العلاقة هنا علاقة السببية ، علاقة الحاضر بالماضي ، بالظروف المسبقة المنجزة ، لكن هناك ظواهر على الساحة التاريخية تحمل علاقة من نمط آخر وهي علاقة ظاهرة بهدف علاقة نشاط بغاية او ما يسميه الفلاسفة بالعلة الغائية تميزا عن العلة الفاعلية ، هذه العلاقة علاقة جديدة متميزة ، غليان الماء بالحرارة ، يحمل مع سببه مع ماضيه لكن لا يحمل علاقة مع غاية ومع هدف مالم يتحول الى فعل انساني والى جهد بشري بينما العمل الانساني الهادف يحتوي على علاقة لا فقط مع السبب ، لا فقط مع الماضي ، بل مع الغاية التي هي غير موجودة حين انجاز هذا العمل وانما يترقب وجودها . أي العلاقة هنا علاقة مع المستقبل لا مع الماضي ، الغاية دائما تمثل المستقبل بالنسبة الى العمل ، بينما السبب يمثل الماضي بالنسبة الى هذا العمل . فالعلاقة التي يتميز بها العمل التاريخي ، العمل الذي


( 75 )

تحكمه سنن التاريخ هو انه عمل هادف ، عمل يرتبط بعلة غائية سواءا كانت هذه الغاية صالحة او طالحة ، نظيفة أو غير نظيفة ، على أي حال يعتبر هذا عملا هادفا ، يعتبر نشاطا تاريخيا يدخل في نطاق سنن التاريخ على هذا الاساس وهذه الغايات التي يرتبط بها هذا العمل الهادف المسؤول ، هذه الغايات حيث انها مستقبلية بالنسبة الى العمل فهي تؤثر من خلال وجودها الذهني في العامل لا محالة ، لانها بوجودها الخارجي ، بوجودها الواقعي ، طموح وتطلع الى المستقبل ، ليست موجودة وجودا حقيقيا وانما تؤثر من خلال وجودها الذهني في الفاعل . اذن المستقبل أو الهدف الذي يشكل الغاية للنشاط التاريخي يؤثر في تحريك هذا النشاط وفي بلورته من خلال الوجود الذهني أي من خلال الفكر الذي يمثل فيه الوجود الذهني للغاية ضمن شروط ومواصفات ، حينئذ يؤثر في ايجاد هذا النشاط ، اذ حصلنا الان على مميز نوعي للعمل التاريخي لظاهرة على الساحة التاريخية ، هذا المميز غير موجود بالنسبة الى سائر الظواهر الاخرى على ساحات الطبيعة المختلفة ، هذا المميز ظهور علاقة فعل بغاية نشاط بهدف في التفسير الفلسفي ، ظهور دور العلة الغائية ، كون هذا الفعل متطلعا الى المستقبل ، كون المستقبل


( 76 )

محركا لهذا الفعل من خلال الوجود الذهني الذي يرسم للفاعل غايته أي من خلال الفكر اذن هذا هو في الحقيقة دائرة السنن النوعية للتاريخ . السنن النوعية للتاريخ موضوعها ذلك الجزء من الساحة التاريخية الذي يمثل عملا له غاية ، عملا يحمل علاقة اضافية الى العلاقات الموجودة في الظاهرة الطبيعية وهي العلاقة بالغاية والهدف ، بالعلة الغائية ، لكن ينبغي هنا أيضا انه ليس كل عمل له غاية هو عمل تاريخي ، هو عمل تجري عليه سنن التاريخ بل يوجد بعد ثالث لا بد ان يتوفر لهذا العمل لكي يكون عملا تاريخيا أي عملا تحكمه سنن التايخ . البعد الاول كان هو « السبب » و البعد الثاني كان هو الغاية « الهدف » .
لا بد اذن من بعد ثالث لكي يكون هذا العمل داخلا في نطاق سنن التاريخ ، هذا البعد الثالث هو ان يكون لهذا العمل أرضية تتجاوز ذات العامل ، ان تكون ارضية العمل هي عبارة عن المجتمع ، العمل الذي يخلق موجا ، هذا الموج يتعدى الفاعل نفسه ويكون أرضيته الجماعة التي يكون هذا الفرد جزءا منها طبعا الامواج على اختلاف درجاتها هناك موج محدود ، هناك موج كبير . لكن العمل لا يكون عملا تاريخيا الا اذا كان له موج يتعدى حدود العامل الفردي ، قد يأكل الفرد اذا جاع ،


( 77 )

ويشرب اذا عطش ، وينام اذا أجس بحاجته الى النوم ، لكن هذه الاعمال على الرغم من انها اعمال هادفة أيضا تريدان تحقق غايات ولكنها اعمال لا يمتد موجها اكثر من العامل خلافا لعمل يقوم به الانسان من خلال نشاط اجتماعي وعلاقات متبادلة مع افراد جماعته ، فمثلا التاجر حينما يعمل عملا تجاريا أو القائد حينما يعمل عملا حربيا أو السياسي حينما يمارس عملا سياسيا ، المفكر حينما يتبنى وجهة نظر في الكون والحياة ، هذه الاعمال موج يتعدى شخص العامل ، يتخذ من المجتمع ارضية له ، ويمكننا ايضا ان نستعين بمصطلحات الفلاسفة فنقول : المجتمع يشكل علة مادية لهذا العمل ، يتبدل من مصطلحات الفلاسفة التمييز الارسطي بين العلة الفاعلية والعلة الغائية والعلة المادية ، هنا نستعين بهذه المصطلحات لتوضيح الفكرة . فنقول المجتمع يشكل علة مادية لهذا العمل ، أي ارضية العمل ، لحالة من هذا القبيل يعتبر هذا العمل عملا تاريخيا ويعتبر عملا للامة وللمجتمع وان كان الفاعل المباشر في جملة من الأحيان هو فرد واحد أو عدد من الافراد ولكن باعتبار الموج يعتبر المجتمع ، اذن العمل التاريخي الذي تحكمه سنن التاريخ هو العمل الذي يكون حاملا لعلاقة مع هدف وغاية ويكون في نفس الوقت ذا ارضية اوسع


( 78 )

من حدود الفرد ، ذا موج يتخذ من المجتمع علة مادية له وبهذا يكون عمل المجتمع .
وفي القرآن الكريم نجد تمييزا بين عمل الفرد وعمل المجتمع ونلاحظ في القرآن الكريم انه من خلال استعراضه للكتب الغيبية الاحصائية تحدث القرآن عن كتاب للفرد وتحدث عن كتاب للامة ، عن كتاب يحصي على الفرد عمله وعن كتاب يحصي على الامة عملها وهذا تمييز دقيق بين العمل الفردي الذي ينسب الى الفرد وبين عمل الامة ، بين العمل الذي له ثلاثة ابعاد والعمل الذي له بعدان ، العمل الذي له بعدان لا يدخل الا في كتاب الفرد واما العمل الذي له ثلاثة ابعاد فهو يدخل في الكتابين . يدخل في كتاب الامة ويعرض على الامة وتحاسب الامة على أساسه . لاحظوا قوله تعالى « وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى الى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون . هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق انا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون » (1) .
هنا القرآن الكريم يتحدث عن كتاب للامة ، أمة جاثية بين يدي ربها ويقدم لها كتابها ، يقدم لها سجل نشاطها وحياتها التي مارستها كأمة ، هذا العمل الهادف
____________
(1) سورة الجاثية : الآية (28 ـ 29) .
( 79 )

ذو الابعاد الثلاثة يحتوي هذا الكتاب ، وهذا الكتاب ـ انتبهوا الى العبارة ـ يقول « انا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون » هذا الكتاب ليس تاريخ الطبري لا يسجل الوقائع الطبيعية ، الفسلجية ، الفيزيائية ، انما يمدد ويستنسخ ما كانوا يعملون كأمة . ما كانت الامة تعمله كأمة يعني العمل الهادف ذو الموج بحيث يكون العمل منسوبا للأمة وتكون الامة مدعوة الى كتابها . هذا العمل هو الذي يحويه هذا الكتاب ، بينما في آية اخرى نلاحظ قوله سبحانه وتعالى « وكل انسان الزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا »(1) هنا الموقف يختلف ، هنا كل انسان مرهون بكتابه ، لكل انسان كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من اعماله من حسناته وسيئاته وهفواته وسقطاته من صعوده ونزوله الا وهو محصي في ذلك الكتاب . والكتاب الذي كتب بعلم من لا يغرب عن علمه مثقال ذرة في الارض . كل انسان قد يفكر ان بامكانه ان يخفي نقطة ضعف ، ان يخفي ذنبا ، سيئة عن جيرانه وقومه وامته ، واولاده ، وحتى عن نفسه ، يخدع نفسه يرى انه لم يركب سيئة ولكن هذا الكتاب الحق
____________
(1) سورة الاسراء : الآية (13) .