الدرس الثالث عشر :
قلنا أن خط علاقات الانسان مع الطبيعة مختلف مشكلة وقانونا عن خط علاقات الانسان مع أخيه الانسان ، وذكرنا ان هذين الخطين كل واحد منهما مستقل استقلالا نسبيا عن الخط الاخر لكن هذا الاستقلال النسبي لا ينفي التفاعل والتأثير المتبادل الى حد ما بين هذين الخطين ، فلكل منهما لون من التاثير الطردي أو العكسي على الخط الاخر وهذا التأثير المتبادل بين الخطين يمكن ابرازه ضمن علاقتين قرآنيتين بين هذين الخطين ، العلاقة الاولى تبرز مدى تأثير خط علاقات الانسان مع الطبيعة على خط علاقات الانسان مع أخيه الانسان والعلاقة القرآنية الثانية تبرز من الجانب الاخر مدى تأثير علاقات الانسان مع أخيه الانسان على علاقات الانسان مع الطبيعة ، أما العلاقة الاولى التي تبرز تأثير علاقات الانسان مع الطبيعة على


( 187 )

الخط الاخر فمؤدى هذه العلاقة هو أنه كما نمت قدرة الانسان على الطبيعة واتسعت سيطرته عليها وازداد اغتناءا بكنوزها ووسائل انتاجها ، تحققت بذلك امكانية اكبر فاكبر للاستغلال على خط علاقات الانسان مع أخيه الانسان « كلا ان الانسان ليطغى ، ان رآه استغنى » (1) هذه الآية الكريمة تشير الى هذه العلاقة الى ان الانسانية بقدر ما تتمكن وتستقطب الطبيعة وتتوصل الى وسائل انتاج أقوى وأدوات توليد أوسع تكون انعكاسات ذلك على حقل علاقات الانسان مع أخيه الانسان ، انعكاساته على شكل امكانيات واغراءات وفتح الشهية للاقوياء لكي يستثمروا أداة الانتاج في سبيل استغلال الضعفاء ، تصوروا مجتمعا يعيش على الصيد باليد والحجارة والهراوة ، مثل هذا المجتمع لا يتمكن من أن يمارس بذور الاقوياء ، بذور الوحوش فيه لا يتمكنون على الاغلب من أن يمارسوا أدوارا خطيرة من الاستغلال الاجتماعي لان مستوى الانتاج محدود والقدرة محدودة وكل انسان لا يكسب عادة بعرق جبينه الا قوت يومه فلا توجد امكانية الاستغلال بشكله الاجتماعي الواسع وان كان توجد ألوان اخرى من الاستغلال الفردي ولكن لاحظوا من الجانب الاخر
____________
(1) سورة الفلق : الآية ( 6ـ7 ) .
( 188 )

مجتمعا متطورا استطاع الانسان فيه أن يصنع الآلة البخارية والآلة الكهربائية استطاع فيه أن يخضع الطبيعة لارادته في مثل هذا المجتمع سوف تكون الالة البخارية والآلة الكهربائية المعقدة المتطورة الصنع تكون أداة ، امكانية على ساحة علاقات الانسان مع اخيه الانسان تشكل بحسب مصطلح الفلاسفة ما بالقوة للاستغلال ويبقى ان يخرج ما بالقوة الى ما بالفعل وذلك على عهدة الانسان ودوره التاريخي على الساحة الاجتماعية ، فالانسان هو الذي يصنع الاستغلال ، هو الذي يفرز النظام الرأسمالي المستغل حينما يجد الآلة البخارية والكهربائية ، ولكن الآلة البخارية والكهربائية هي التي تعطيه امكانية هذا الاستغلال ، هي التي تهيىء له فرصة تفتح شهيته ، توقظ مشاعره ، تحرك جدله الداخلي وتناقضه الداخلي من اجل أن يبرز صيغة تتناسب مع ما يوجد على الساحة من قوى الانتاج ووسائل التوريد ، وهذا هو الفرق بيننا وبين المادية التاريخية ، المادية التاريخية اعتقدت بأن الآلة هي التي تصنع الاستغلال ، هي التي تصنع النظام المتناسب لها ولكننا نحن لا نرى ان دور الآلة هو دور الصانع ، وانما دور الآلة هو دور الامكانية ، دور توفير الفرصة والقابلية وأما الصانع الذي يتصرف ايجابا وسلبا ،


( 189 )

أمانة وخيانة ، صمودا وانهيارا ، انما هو الانسان وفقا لمحتواه الداخلي . لمثله الاعلى لمدى التحامة مع هذا المثل الاعلى . هذه هي العلاقة الاولى وأما العلاقة القرآنية الثانية التي تمثل وتجسد تأثير علاقات الانسان مع الطبيعة ، فمؤدى هذه العلاقة القرآنية هو أنه كلما جسدت علاقات الانسان مع اخيه الانسان العدالة وكلما استطاعت ان تستوعب قيم هذه العدالة وان تبتعد عن أي لون من ألوان الظلم والاستغلال من الانسان لاخيه الانسان ، كلما وقع ذلك ازدهرت علاقات الانسان مع الطبيعة وتفتحت الطبيعة عن كنوزها وأعطت المخبوء من ثرواتها ونزلت البركات من السماء وتفجرت الارض بالنعمة والرخاء ، هذه العلاقة القرآنية هي العلاقة التي شرحها القرآن الكريم في نصوص عديدة قال سبحانه وتعالى « وألوا استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماءا غدقا » (1) « ولو انهم أقاموا التوراة والانجيل وما أنزل اليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم » (2) ، « ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا
____________
(1) سورة الجن : الآية (16) .
(2) سورة المائدة : الآية (66) .

( 190 )

يكسبون » (1) ، هذه العلاقة مؤداها ان علاقات الانسان مع الطبيعة تتناسب عكسيا مع ازدهار العدالة في علاقات الانسان مع اخيه الانسان فكلما ازدهرت العدالة في علاقات الانسان مع اخيه الانسان اكثر فأكثر ازدهرت علاقات الانسان مع الطبيعة ، وكلما أنحسرت العدالة عن الخط الاول انحسر الازدهار عن الخط الثاني ، أي ان مجتمع العدل هو الذي يصنع الازدهار في علاقات الانسان مع الطبيعة ومجتمع الظلم هو الذي يؤدي الى انحسار تلك العلاقات ، علاقات الانسان مع الطبيعة ، وهذه العلاقة ليست ذات محتوى غيبي فقط ، نعم نحن نؤمن أيضا بمحتواها الغيبي ولكن اضافة الى محتواها الغيبي الرباني هي تشكل سنة من سنن التاريخ بحسب مفهوم القرآن الكريم وذلك لان مجتمع الظلم ، مجتمع الفراعنة على مر التاريخ مجتمع ممزق ، مشتت ، الفرعونية على مر التاريخ حينما تتحكم في علاقات الانسان مع اخيه الانسان تستهدف تمزيق طاقات المجتمع ، وتشتيت فئاته ، وبعثرة امكانياته ، ومن الواضح أنه تشتيت وبعثرة وتفتيت وتجزئة من هذا القبيل لا يمكن لافراد المجتمع ان يحشدوا قواهم الحقيقية والسيطرة على الطبيعة وهذا هو الفرق بين
____________
(1) سورة الاعراف : الآية (96) .
( 191 )

المثل العليا المنخفضة الفرعونية وبين المثل الاعلى الحق مثل التوحيد سبحانه وتعالى ، فان المثل الاعلى يوحد الجامعة البشرية ويلغي كل الفوارق والحدود باعتبار شمولية هذا المثل الاعلى باعتبار شموليته فهو يستوعب كل الحدود وكل الفوارق ، يهضم كل الاختلافات ، يصهر البشرية كلها في وحدة متكافئة ، لا يوجد ما يميز بعضها عن بعض ، لا من دم ولا من جنس ولا من قومية ولا من حدود جغرافية أو طبقية . المثل الاعلى بشموليته يوحد البشرية ولكن المثل العليا المنخفضة تجزيء البشرية وتشتت البشرية انظروا الى المثل الاعلى كيف يقول « وان هذه امتكم امة واحدة وأنا ربكم فأعبدون » (1) ، « ان هذه امتكم امة واحدة وأنا ربكم فاتقون » (2) ، هذا هو منطق شمولية المثل الاعلى التي لا تعترف بحد وبحاجز في داخل هذه الاسرة البشرية انظروا ، استمعوا الى المثل المنخفض ، الى مجتمع الظلم وآلهة مجتمع الظلم كيف يقولون ، أو كيف يتحدث عنهم القرآن الكريم « ان فرعون علا في الارض وجعل أهلها شيعا » (3) ، فرعون المثل الاعلى المنخفض ،
____________
(1) سورة الانبياء : الآية (92) .
(2) سورة المؤمنون : الآية (52) .
(3) سورة القصص : الآية (4) .

( 192 )

الفرعونية على مر التاريخ التي تبني العلاقات بين الانسان وأخيه الانسان علىاساس الظلم والاستغلال ، الفرعونية تجزيء المجتمع ، تبعثر امكانيات المجتمع ، وطاقات المجتمع ومن هنا تهدر ما في الانسان من قدرة على الابداع والنمو الطبيعي على ساحة علاقات الانسان مع الطبيعة ، وعملية التجزئة الفرعونية للمجتمع تقسم المجتمع الى فصائل وجماعات الجماعة الاولى ظالمون مستضعفون ، هذه الجماعة الاولى في التقسيم الفرعوني هم الظالمون المستضعفون في نفس الوقت الظالمون الثانويون أو بحسب تعبير أئمتنا عليهم الصلاة والسلام « اعوان الظلمة » هؤلاء الظالمون المستضعفون يشكلون حماية لفرعون وللفرعونية وسندا في المجتمع لبقاء الفرعونية واستمرار وجودها واطارها . قال الله سبحانه وتعالى « اذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم الى بعض القول ، يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا انتم لكنا مؤمنين » (1) . هنا القرآن يتحدث عن الظالمين يقول « اذ الظالمون موقوفون » لكن الظالمين صنفهم الى قسمين : الى من استضعفت منهم ومن استكبر منهم . اذن فالظالمون فيهم مستكبرون وهم الذين يمثلون الفرعونية في المجتمع وفيهم
____________
(1) سورة سبأ : الآية (31) .
( 193 )

مستضعفون ، فالطائفة الاولى اذن في التجزئة الفرعونية لمجتمع الظلم هم الظالمون المستضعفون هؤلاء الذين يحشرون يوم القيامة في زمرة الظالمين ثم يقولون للمستكبرين من الظالمين لولا انتم لكنا مؤمنين ، هذه هي الطائفة الاولى التي تشكل الحماية والسند للفرعونية . الطائفة الثانية في عملية التمزقة الفرعونية لمجتمع الظلم ظالمون يشكلون حاشية ومتملقين ، اولئك الذين قد لا يمارسون ظلما بأيديهم بالفعل ولكنهم دائما وابدا على مستوى نزوات فرعون وشهوات فرعون ورغبات فرعون يسبقونه بالقول من أجل ان يصححوا مسلكه ومسيرته . قال الله سبحانه وتعالى « وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الارض ويذرك وآلهتك ، قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وانا فوقهم قاهرون » (1) ، شكلوا دور الاثارة لفرعون ، هؤلاء كانوا يعرفون انهم بهذا الكلام يضربون على الوتر الحساس في قلب فرعون ، وان فرعون كان بحاجة الى كلام من هذا القبيل ، فتسابقوا الى هذا الكلام لكي يجعلوا فرعون يعبر عما في نفسه ويتخذ الموقف المنسجم مع مشاعره وعواطفه وفرعونيته . الطائفة الثالثة في عملية
____________
(1) سورة الاعراف : الآية (127) .
( 194 )

التجزئة الفرعونية لمجتمع الظلم أولئك الذين عبر عنهم الامام علي عليه الصلاة والسلام « بالهمج الرعاع » جماعة هم مجرد آلات مستسلمة للظلم ، لا تحس بالظلم لا تدرك انها مظلومة ولا تدرك ان في المجتمع ظلما ، هي آلات تتحرك تحركا آليا ، تحركا يشبه التحرك الميكانيكي للآلة ، تحرك التبعية والطاعة دون تدبير ، دون وعي ، سلب فرعون منها تدبرها ، عقلها ، وعيها ، ربط يدها به لا عقلها به ، ولهذا فهي تحرك يدها تحريكا آليا وتستسلم للاوامر ، للاوامر الفرعونية دون أن تناقشها حتى دون ان تتدبرها ، حتى بينها وبين نفسها لا بينها وبين الآخرين ، هذه الفئة طبعا تفقد كل قدرة على الابداع البشري في مجال التعامل مع الطبيعة ، تفقد كل قابليات النمو لانها تحولت الى آلات ، اذا وجد أن هناك ابداع في هذه الفئة انما هو ابداع من يحرك هذه الآلات ، ابداع تلك الفرعونية التي تحرك هذه الآلات ، وأما هذه الفئة فلم تعد أناسا وبشرا يفكرون ويتدبرون لكي يستطيعوا أن يحققوا لونا من الابداع على هذه الساحة . قال الله سبحانه وتعالى « وقالوا ربنا انا أطعنا سادتنا وكبراءنا فاضلونا السبيلا » (1) لا يوجد في كلام هؤلاء ما يشعر بأنهم
____________
(1) سورة الاحزاب : الآية (67) .
( 195 )

كانوا يحسون بالظلم أو كانوا يحسون بأنهم مظلومون ، وانما هو مجرد طاعة ، مجرد تبعية ، هؤلاء هم القسم الثالث في تقسيم مولانا أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام حينما قال « الناس ثلاثة : عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق » وهذا القسم الثالث يشكل مشكلة بالنسبة الى أي مجتمع صالح وبقدر ما يمكن للمجتمع الصالح أن يستأصل هذا القسم الثالث بتحويله الى القسم الثاني ، بتحويله الى متعلم على سبيل النجاة على حد تعبير الامام ، الى تابع باحسان على حد تعبير القرآن ، الى مقلد بوعي وتبصر على حد تعبير الفقه ، بقدر ما يمكن تحويل هذا القسم الثالث الى القسم الثاني يمكن للمجتمع الصالح أن يستمر وأن يمتد ولهذا كان من ضرورات المجتمع الصالح في نظر الامام عليه الصلاة والسلام هو شجب هذا القسم الثالث ، هؤلاء همج ، رعاع ينعقون مع كل ناعق ليس لهم عقل مستقل ، وارادة مستقلة . كان الامام (ع) يرى ان هذا القسم الثالث يجب تصفيته من المجتمع الصالح ، ذلك لا بالقضاء عليه فرديا ، بل بتحويله الى القسم الثاني ضمن أحد الصيغ الثلاثة التي ذكرناها ، لكي يستطيع المجتمع الصالح أن يواصل ابداعه ، ولكي يستطيع كل أفراد


( 196 )

المجتمع الصالح ، ان يشكلوا مشاركة حقيقية في مسيرة الابداع . وخلافا لذلك الفرعونية ، الفرعونية تحاول ان توسع من هذا القسم الثالث ، هؤلاء الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كل ناعق تحاول الفرعونية ان توسع منهم وكلما توسعت هذه الفئة اكثر فأكثر قدمت المجتمع نحو الدمار خطوة بعد خطوة لان هذه الفئة لا تستطيع بوجه من الوجوه ان تدافع عن المجتمع اذا حلت كارثة في الداخل أو طرأت كارثة من الخارج ، فكلما توسعت هذه الفئة ، هذا القسم الثالث ، هؤلاء الذين ينعقون مع كل ناعق ، كلما توسعوا في المجتمع ازداد خطر فناء المجتمع وبهذا تموت المجتمعات موتا طبيعيا . مفهوم الموت لدى القرآن للمجتمعات وللاقوام وللامم الموت الطبيعي للمجتمع لا الموت المخروم . المجتمع له موتان : موت طبيعي وموت مخروم . الموت الطبيعي للمجتمع يكون عن طريق توسع هذه الفئة الثالثة وازديادها نوعيا وعدديا في المجتمع الى ان تحل الكارثة فينهار المجتمع . هذه الطائفة الثالثة في عملية التجزئة الفرعونية أما الطائفة الرابعة : هم اولئك الذين يستنكرون الظلم في أنفسهم ، اولئك الذين لم يفقدوا لبهم أمام فرعون والفرعونية فهم يستكنرون الظلم لكنهم يهادنونه ويسكتون عنه فيعيشون حالة التوتر


( 197 )

والقلق في أنفسهم وهذه الحالة ، حالة التوتر والقلق أبعد ما تكون عن حالة تسمح للانسان بالابداع والتجديد والنمو على ساحة علاقات الانسان مع الطبيعة . هؤلاء يسميهم القرآن الكريم « ظالمي انفسهم » ، قال الله سبحانه وتعالى « الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ، قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض ، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها » (1) هؤلاء لم يظلموا الاخرين ، ليسوا من الظالمين المستضعفين كالطائفة الاولى ، وليسوا من الحاشية المتملقين ، وليسوا أيضا من الهمج الرعاع الذين فقدوا لبهم بل بالعكس هم يشعرون بأنهم مستضعفون . « قالوا كنا مستضعفين في الارض » هؤلاء لم يفقدوا لبهم ، يدركون واقعهم ولكنهم كانوا عمليا مهادنين ولهذا عبر عنهم القرآن بأنهم ظلموا أنفسهم هذه الطائفة هل يترقب منها أن تساعد بابداع حقيقي في مجال علاقات الانسان مع الطبيعة ؟ طبعا كلا الطائفة الخامسة في عملية التجزئة الفرعونية للمجتمع هي : الطائفة التي تتهرب من مسرح الحياة ، تبتعد عن المسرح وتتهرب منه وتترهب . وهذه الرهبانية موجودة في كل مجتمعات الظلم على مر التاريخ وهي تتخذ
____________
(1) سورة النساء : الآية (97) .
( 198 )

صيغتين الاولى صيغة جادة ، رهبانية جادة تريد ان تفر بنفسها لكي لا تتلوث بأوحال المجتمع ، هذه الرهبانية الجادة التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله « ورهبانية ابتدعوها » (1) هذه الرهبانية يشجبها الاسلام لانها موقف سلبي تجاه مسؤولية خلافة الانسان على الارض . وهناك صيغة مفتعلة للرهبانية ، يترهب ويلبس مسوح الرهبان ولكنه ليس راهبا في اعماق نفسه ، وانما يريد بذلك ان يخدر الناس ويشغلهم عن فرعون وظلم فرعون ويسطو عليهم نفسيا وروحيا . وهذا هو الذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله « ان كثيرا من الاحبار والرهبان ليأكلون اموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله » (2) الجماعة السادسة والاخيرة في عملية التجزئة الفرعونية للمجتمع هم : المستضعفون . الفرعونية حينما جزأت المجتمع الى طوائف ، فرعون حينما اتخذ من قومه شيعا استضعف طائفة معينة منهم خصها بالاستضعاف والاذلال وهدر الكرامة لانها كانت هي الطائفة التي يتوسم ان تشكل اطارا للتحرك ضده ولهذا استضعفها بالذات . « واذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ، يذبحون ابناءكم ويستحييون
____________
(1) سورة الحديد : الآية (27) .
(2) سورة التوبة : الآية (34) .

( 199 )

نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم » (1) هذه هي الطائفة السادسة وقد علمنا القرآن الكريم ضمن سنة من سنن التاريخ ايضا ان موقع اي طائفة في التركيب الفرعوني لمجتمع الظلم يتناسب عكسا مع موقعه بعد انحسار الظلم ، وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى « ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض فنجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين » (2) . تلك الطائفة السادسة التي كانت هي منحدر التركيب يريد الله سبحانه وتعالى ان يجعلهم ائمة ويجعلنم الوارثين وهذه علاقة اخرى وسنة تاريخية اخرى يأتي الحديث عنها انشاء الله تعالى ، اذن فالى هنا استخلصنا هذه الحقيقة وهي : ان المجتمع يتناسب مدى الظلم فيه تناسبا عكسيا مع ازدهار علاقات الانسان مع الطبيعة ، ويتناسب مدى العدل فيه تناسبا طرديا مع ازدهار علاقات الانسان مع الطبيعة . مجتمع الفرعونية المجزأ المشتت مهدور القابليات والطاقات والامكانيات ومن هنا تحبس السماء قطرها ، وتمنع الارض بركاتها . واما مجتمع العدل فهو على العكس تماما هو مجتمع تتوحد فيه كل القابليات وتتساوى فيه كل الفرص والامكانيات هذا المجتمع الذي تحدثنا الروايات عنه ،
____________
(1) سورة البقرة : الآية (49) .
(2) سورة القصص : الآية (5) .

( 200 )

تحدثنا عنه من خلال ظهور الامام المهدي عليه الصلاة والسلام ، تحدثنا عما تحتفل به الارض والسماء في ظل الامام المهدي (ع) من بركات وخيرات وليس ذلك الا لان العدالة دائما وأبدا تتناسب طردا مع ازدهار علاقات الانسان مع الطبيعة ، هذه العلاقة الثانية بين الخطين .


( 201 )

الدرس الرابع عشر :
خرجنا مما سبق بنظرية تحليلية قرآنية كاملة لعناصر المجتمع ولادوار هذه العناصر وللعلاقة القائمة بين الخطين المزدوجين في العلاقة الاجتماعية ، خط علاقات الانسان مع اخيه الانسان ، وخط علاقات الانسان مع الطبيعة ، وانتهينا على ضوء هذه النظرية القرآنية الشاملة الى ان هذين الخطين احدهما مستقل عن الآخر استقلالا نسبينا ولكن كل واحد منهما له نحو تأثير في الآخر على الرغم من ذلك الاستقلال النسبي وهذه النظرية القرآنية في تحليل عناصر المجتمع وفهم المجتمع فهما موضوعيا تشكل اساسا للاتجاه العام في التشريع الاسلامي فان التشريع الاسلامي في اتجاهاته العامة وخطوطه يتأثر وينبثق ويتفاعل مع وجهة النظر القرآنية والاسلامية الى المجتمع وعناصره وادوار هذه العناصر والعلاقات المتبادلة بين الخطين ، هذه النظريات التي قرأناها والتي


( 202 )

انتهينا اليها على ضوء المجموعة المذكورة سابقا من أن النصوص القرآنية هذه النظريات هي في الحقيقة الاساس النظري للاتجاه العام للتشريع الاسلامي فان الاستقلال النسبي بين الخطين ، خط علاقات الانسان مع اخيه الانسان وخط علاقات النسان مع الطبيعة ، هذا الاستقلال النسبي يشكل القاعدة لعنصر الثبات في الشريعة الاسلامية والاساس لتلك المنطقة الثابتة من التشريع التي تحتوي على الاحكام العامة المنصوصة ذات الطابع الدائم المستمر في التشريع الاسلامي بينما منطقة التفاعل بين الخطين ، بين خط علاقات الانسان مع الطبيعة وخط علاقات الانسان مع اخيه الانسان ، منطقة التفاعل والمرونة تشكل في الحقيقة الاساس لما أسميناه في كتاب « اقتصادنا » بمنطقة الفراغ تشكل الاساس للعناصر المرنة والمتحركة في التشريع الاسلامي ، هذه العناصر المرنة والمتحركة في التشريع الاسلامي هي انعكاس تشريعي لواقع تلك المرونة وذلك التفاعل بين الخطين ، والعناصر الاولى الثابتة والصامدة في التشريع الاسلامي هي انعكاس تشريعي لذلك الاستقلال النسبي الموجود بين الخطين ، بين خط علاقات الانسان مع اخيه الانسان وخط علاقات الانسان مع الطبيعة ، ومن هنا نؤمن بان الصورة التشريعية الاسلامية الكاملة لمجتمع


( 203 )

هي في الحقيقة تحتوي على جانبين ، تحتوي على عناصر ثابتة ، وتحتوي على عناصر متحركة ومرنة وهذه العناصر المتحركة والمرنة التي ترك للحاكم الشرعي ان يملأها فرضت امامه مؤشرات اسلامية عامة ايضا لكي يملأ هذه العناصر المتحركة وفقا لتلك المؤشرات الاسلامية العامة ، وهذا بحث يحتاج الى كلام اكثر من هذا ، تفصيلا واطنابا ، من المفروض ان نستوعب هذا البحث انشاء الله تعالى لكي نربط الجانب التشريعي من الاسلام بالجانب النظري التحليلي من القرآن الكريم لعناصر المجتمع وبعد ذلك يبقى علينا بحث آخر في نظرية الاسلام عن ادوار التاريخ ، عن ادوار الانسان على الارض فان القرآن الكريم يقسم حياة الانسان على الارض الى ثلاثة ادوار ، دور الحضانة ، ودور الوحدة ، ودور التشتت والاختلاف . وهذه ادوار ثلاثة تحدث عنها القرآن الكريم ، بين لكل دور الحالات والخصائص والمميزات التي يتميز بها ذلك الدور ، هذا أيضا بحث سوف نخرج منه بنظرية شاملة كاملة لهذا الجانب من تاريخ الانسان ، كل ذلك لا يمكن ان يسعه يوم واحد وبحث واحد اذن فمن الافضل ان نؤجل ذلك ، وننصرف الان من منطقة الفكر الى منطقة القلب ، من منطقة العقل الى منطقة الوجدان ،


( 204 )

أريد ان نعيش معا لحظات بقلوبنا لا بعقولنا فقط ، بوجداننا ، بقلوبنا ، نريد ان نعرض هذه القلوب على القرآن الكريم بدلا عن ان نعرض افكارنا وعقولنا ، نعرض صدورنا ، لمن ولاؤها ؟ ما هو ذاك الحب الذي يسودها ويمحورها ويستقطبها ؟ ان الله سبحانه وتعالى لا يجمع في قلب واحد ولاءين ، لا يجمع حبين مستقطبين . اما حب الله واما حب الدنيا ، اما حب الله وحب الدنيا معا فلا يجتمعان في قلب واحد ، فلنمتحن قلوبنا ، فلنرجع الى قلوبنا لنمتحنها ، هل تعيش حب الله سبحانه وتعالى ، او تعيش حب الدنيا ، فان كانت تعيش حب الله زدنا ذلك تعميقا وترسيخا ، وان كانت « نعوذ بالله » تعيش حب الدنيا ، حاولنا ان نتخلص من هذا الداء الوبيل ، من هذا المرض المهلك . ان كل حب يسقطب قلب الانسان يتخذ احدى صيغتين واحدى درجتين . الدرجة الاولى ان يشكل هذا الحي محورا وقاعدة لمشاعر وعوطف وآمال وطموحات هذا الانسان قد ينصرف عنه في قضاء حاجة في حدود خاصة ولكن يعود ، سرعان ما يعود الى القاعدة لانها هي المركز ، وهي المحور ، قد ينشغل بحديث ، قد ينشغل بكلام ، قد ينشغل بعمل ، بطعام ، بشراب ، بمواجهة ، بعلاقات ثانوية ، بصداقات ، لكن يبقى ذاك الحب هو المحور ، هذه هي الدرجة الاولى ،


( 205 )

والدرجة الثانية من الحب المحور ان يستقطب هذا الحب كل وجدان الانسان ، بحيث لا يشغله شيء عنه على الاطلاق ومعنى انه لا يشغله شيء عنه انه سوف يرى محبوبه وقبلته وكعبته اينما توجه ، اينما توجه سوف يرى ذلك المحبوب ، هذه هي الدرجة الثانية من الحب المحور ، هذا التقسيم الثنائي ينطبق على حب الله وينطبق على حب الدنيا ، حب الله سبحانه وتعالى ، الحب الشريف لله المحور يتخذ هاتين الدرجتين ، الدرجة الاولى يتخذها في نفوس المؤمنين الصالحين الطاهرين الذين نظفوا نفوسهم من اوساخ هذه الدنيا الدنية هؤلاء يجعلون من حب الله محورا لكل عواطفهم ومشاعرهم وطموحاتهم وآمالهم ، قد ينشغلون بوجبة طعام ، بمتعة من المتع المباحة ، بلقاء مع صديق ، بتنزه في شارع ، ولكن يبقى هذا هو المحور الذي يرجعون اليه بمجرد ان ينتهي هذا الانشغال الطارىء ، واما بالدرجة الثانية فهي الدرجة التي يصل اليها اولياء الله من الانبياء والائمة عليهم أفضل الصلاة والسلام ، « علي بن أبي طالب » الذي نحظى بشرف مجاورة قبره ، هذا الرجل العظيم كلكم تعرفون ماذا قال ، هو الذي قال « بأني ما رأيت شيئا الا ورأيت الله معه وقبله وبعده وفيه » لان حب الله في هذا القلب العظيم استقطب وجدانه الى الدرجة التي منعه