(21)
ما كان يبدو عل محمد في ساعات الوحي على هذا النحو الخاطىء من الناحية العلمية أفحش الخطأ . فنوبة الصرع لا تذر عند من تصيبه أي ذكر لما مر به أثناءها ، بل هو ينسى هذه الفترة من حياته بعد إفاقته من نوبته نسيانا تاما ، ولا يذكر شيئا مما صنع أو حل به خلالها ، لأن حركة الشعور والتفكير تتعطل فيه تمام العطل . هذه أعراض الصرع كما يثبتها العلم ، ولم يكن ذلك ما يصيب النبي صلى الله عليه واله وسلم العربي أثناء الوحي ، بل كانت تتنبه حواسه المدركة في تلك الأثناء تنبها لا عهد للناس به ، يذكر بدقة ـ غاية الدقة ـ ما يتلقاه ، وما يتلوه بعد ذلك على أصحابه ، ثم نزول الوحي لم يكن يقترن حتما بالغيبوبة الحسية مع تنبه الإدراك الروحي غاية التنبه ، بل كثيرا ما يحدث والنبي صلى الله عليه واله وسلم في تمام يقظته العادية » (1).
     وفي ضوء ما تقدم يمكن أن نرصد في ظاهرة الوحي عملية إرسال واستقبال بوقت واحد ، إرسال بوساطة الملك المؤتمن ، واستقبال من قبل النبي صلى الله عليه واله وسلم المصطفى صلى الله عليه واله وسلم ، يتم ذلك في حالة إدراك متماسكة ، يسيطر فيها الوعي والشعور والإحساس ، كما لو كان أمرا عاديا في يقظة حقيقية ، قبل الوحي ، وأثناء الوحي ، وبعد الوحي ، مهما صاحب عملية الوحي من شدة ووطأة ومفاجئة . فالوحي حقيقة خارجية مستقلة عن كيان النبي صلى الله عليه واله وسلم النفسي ، ولكنها لا تغير ذلك الواقع النفسي ، بل تزيده جلاء وفطنة وذاكرة ، ويمثل فيها النبي صلى الله عليه واله وسلم دور المتلقي الواعي من جهة ، ودور المبلغ الأمين من جهة أخرى ، لا يقدم ولا يؤخر ، ولا يغير ولا يقترح ، ولا يفتر ولا يتكاسل .
     ولقد كان ذلك بحق :
     « استقبالا من النبي صلى الله عليه واله وسلم لحقيقة ذاتية مستقلة ، خارجة عن كيانه وشعوره الداخلي ، وبعيدة عن كسبه أو سلوكه الفكري أو العملي » (2).
     وليس من الضروري أن تتوافق هذه الظاهرة مع رغبات النبي صلى الله عليه واله وسلم الآنية ، أو تطلعاته النفسية الملحة ، فقد ينقطع عنه الوحي ، وقد يتقاطر
(1) ظ : بكري أمين ، التعبير الفني في القرآن : 19 .
(2) المصدر السابق ، نفس الصفحة .

(22)
عليه ، ولكنه لا يعدو الوقت المناسب في تقدير الله عز وجل ، وما تحويل القبلة إلى الكعبة ، وإبطاء الوحي في حادثة الإفك ، وفترة الوحي حينا ، والتلبث في قصة أهل الكهف ، إلا شواهد تطبيقية على ما نقول ، وأدلة مثبتة : أن الوحي خاج عن إرادته ، ومستقل عن ذاته .
     ولا شك أن النبي صلى الله عليه واله وسلم آمن منذ اللحظة الأولى ـ بقناعة شخصية متوازنة ـ بأن ما يوحى إليه ليس من جنس الأحلام وأضغاثها ، ولا من سنخ الرياضيات ومسالكها ، ولا من باب الأحاسيس القائمة على أساس من الذكاء والفطنة ، ولا من قبيل التخيلات المستنبطة من الحدس والفراسة ، وإنما كان بإيمان نفسي محض بأنه نبي يوحى إليه من قبل الله تعالى ، وما الروايات والإسرائيليات القائلة بشكه في الظاهرة إلا ضرب من الأخيلة التي لا يدعمها دليل .
     « والحق أن وحي النبوة والرسالة يلازم اليقين من النبي صلى الله عليه واله وسلم والرسول بكونه من الله تعالى على ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام » (1).
     ويوحي الله عز وجل لملك الوحي ، ما يوحيه الملك إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم عن الله ، ويتسلم النبي صلى الله عليه واله وسلم الوحي ، فالوحي واحد هنا مع تقاسم المسؤولية ، وهو عام بالنسبة لكل الأنبياء ، وخاص بالنسبة لوحي القرآن ايضا ، فالملك يؤدي عن الله لمحمد ، ومحمد يتلقى ذلك الوحي من الملك ، ويؤدي ما يوحي به إليه إلى الناس ، وكان ذلك طريق الوحي القرآني فحسب ، وقد صرح به القرآن الكريم بقوله تعالى :
     ( وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * ) (2).
     والروح الأمين هو جبرائيل عليه السلام بإجماع الأمة والروايات ؛ قال طبرسي ( ت : 548 هـ ) : « يعني جبرائيل عليه السلام ، وهو أمين الله لا يغيره ، ولا يبدله ... لأن الله تعالى يُسمِعه جبرائيل عليه السلام فيحفظه ، وينزل به على الرسول
(1) الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن : 20 | 328 .
(2) الشعراء : 192 ـ 194 .

(23)
ويقرأه عليه ، فيعيه ويحفظه بقلبه ، فكأنه نزل به على قلبه » (1).
     وهذا صريح بكيفية تلقي النبي صلى الله عليه واله وسلم للقرآن من جبرائيل عليه السلام ، على قلبه تثبيتا وحفظا ورعاية ، والقلب أشرف الأعضاء للتدبر والتفكر إن أريد به هذا الجهاز العضلي ، وإلا فهو الإدراكات النفسية الخاصة لدى النبي صلى الله عليه واله وسلم المستعدة للتلقي والصيانة والاستيعاب دون ريب .
     وكان ما نزل به جبرائيل عليه السلام بإيحاء من الله تعالى هو النص الصريح من الوحي القرآني دون زيادة أو نقصان ، بألفاظه المدونة في المصحف من ألفه إلى يائه .
     ولما كان الأمر كذلك ، فقد تحدث هذا النص المحفوظ بين الدفتين عن ظاهرة الوحي بوحي القرآن وسواه ، وطرقها ، وكيفيتها ، وأقسامها . ومن الضروري حقا استعراض مختلف أنشطة الموضوع من القرآن نفسه ، مع الاستعانة باللغة حينا ، وبالتبادر العربي العام حينا آخر ، لأن القرآن عربي ، والتبادر علامة الحقيقة .
     صرّحت الآية التالية :
     ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من ورآئ حجاب أو يرسل رسولا فيوحِيَ بإذنه ما يشاء إنه عليّ حكيم ) (2) .
     بطرق الوحي الإلهي ، وحددت كيفية هذا الوحي ، ومراتب إيصاله على النحو التالي :
     1 ـ الوحي ، وأصل الوحي هو : الإشارة السريعة على سبيل الرمز والتعريض ، وما جرى مجرى الإيماء والتنبيه على الشيء من غير أن يفصح به (3).
     وقد يكون أصل الوحي في اللغة كلها الإعلام في خفاء (4).
(1) الطبرسي ، مجمع البيان : 4 | 204 .
(2) الشورى : 51 .
(3) قارن في ذلك بين : الراغب ، المفردات : 515 + الطبرسي ، مجمع البيان : 5 | 37 .
(4) ظ : ابن منظور ، لسان العرب : 20 | 258 .

(24)
     ومؤدى التعريفات واحد فيما يبدو ، إذ الإشارة السريعة ، إعلام عن طريق الرمز ، والرمز إيماء يستفيد منه المتلقي أمرا إعلاميا قد يخفى على الآخرين .
     ومن ثم قيل « للكلمة الإلهية التي تلقى إلى أنبيائه وحي » (1) باعتبار إسرارها إليهم من قبل ملك الوحي ، واختصاصها بهم دون سائر الناس .
     قال ابن الأنباري : سمي الوحي وحيا لأن الملك أسرّه على الخلق وخص به النبي صلى الله عليه وآله وسلم (2).
     ومن هنا يبدو أن التعريف الشرعي متحدر عن الأصل اللغوي في خصوصية الإسرار والإعلام السريع ، وما يصاحب ذلك من الإشارة والرمز اللذين يخفيان على الآخرين .
     وقد عبر الأستاذ محمد عبده عن ذلك بما يقارب هذا المؤدى فقال : « بأنه عرفان يجده الشخص في نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة ، أو بغير واسطة ، والأول بصوت يتمثل لسمعه ، أو بغير صوت » (3).
     ولعل المراد بما يتلقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من العرفان اليقيني بغير صوت هو الإلقاء في الروع ، وذلك بأن ينفث الله في روع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يشاء من أمر ، أو ينفث روح القدس ما أوحي إليه بتبليغه إياه ، فيكون ذلك من الوحي بوجه من الوجوه .
     وقد يؤيد هذا الملحظ ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : « إن روح القدس نفث في روعي » (4) .
     2 ـ سماع كلام الله تعالى مباشرة من وراء حجاب دون معاينة أو رؤية ، لامتناع ذلك عقلا وشرعا ، كما كلم الله موسى بن عمران عليه السلام : ( وكلم الله موسى تكليما ) (5) . وكان ذلك من وراء حجاب « وهو
(1) الراغب الأصبهاني ، المفردات : 515 .
(2) ابن منظور ، لسان العرب : 20 | 258 .
(3) ظ : محمد رشيد رضا ، الوحي المحمدي : 28 .
(4) ظ : الحديث في الاتقان للسيوطي : 1 | 129 + المفردات للراغب : 515 .
(5) النساء : 164 .

(25)
أن يحجب ذلك الكلام عن جميع خلقه إلا من يريد أن يكلمه به نحو كلامه لموسى عليه السلام لأنه حجب ذلك عن جميع الخلق إلا عن موسى عليه السلام وحده ، لأن الحجاب لا يجوز إلا على الأجسام المحدودة » (1) .
     3 ـ أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ، كما في تبليغ جبرائيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صورة معينة ، أو صور متعددة ، وحي القرآن الكريم عن الله ، من غير أن يكلم الله نبيه على النحو الذي كلم به موسى عليه السلام .
     هذه الأصناف والمراتب في الإيحاء حددتها الآية الكريمة السابقة فيما يتعلق بوحي الأنبياء عليهم السلام كما يبدو ، إلا أننا من متابعة هذه الظاهرة في القرآن الكريم ، لاحظنا بعض الدلالات الإيحائية لهذا التعبير قد تختلف عما تقدم ، ويمكن الإشارة إلى أهمها بما يلي :
     أ ـ الإلهام ، وهو أن يلقي الله تعالى في النفس أمرا يبعث على الفصل أو الترك ، وهو نوع من الوحي ، يخص به الله من يشاء من عباده ، غير قابل للتفكير به ، أو التخطيط له مسبقا ، ليفرق بينه وبين الحالات اللاشعورية من جهة ، والسلوك الكسبي من جهة أخرى ، كما يدل على ذلك قوله تعالى : ( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ... ) (2) . وقوله تعالى : ( إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى ) (3) .
     ب ـ التسخير ، وهو أن يسخر الله تعالى بعض مخلوقاته إلى عمل ما ، بهديه وإشاءته وتسخيره ، بشكل من الأشكال التي لا تستوعبها بعض مداركنا أحيانا ، ويستيقنها الذين آمنوا دون أدنى شبهة ، كما يدل على هذا النوع قوله تعالى :
     ( وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا ... ) (4) .
     ج ـ الرؤيا الصادقة ، وهي وحي إلهي بالنسبة للأنبياء عليهم السلام خاصة ،
(1) الطبرسي ، مجمع البيان : 5 | 37 .
(2) القصص : 7 .
(3) طه : 38 .
(4) النحل : 68 .

(26)
يتلقون فيها الأوامر ، ويتسلمون التعليمات من السماء ، كما دل على ذلك قوله تعالى ـ فيما اقتص الله من خبر إبراهيم عليه السلام مع ولده ـ :
     ( فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين * فلما أسلما وتلّه للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين ) (1) .
     فأشارت الآيات إلى الرؤيا الصادقة في المنام ، وإلى استفادة إبراهيم عليه السلام وولده عليهما السلام ، الأمر الإلهي فيها ، للدلالة على أنها وحي يستلزم العمل به ، بدليل تعقيب ذلك من قبل الله في خطاب إبراهيم عليه السلام بتصديق الرؤيا وجزاء المحسنين .
     وقد تكون الرؤيا في جزء من هذا الملحظ تمهيدا للوحي المباشر ، وقد يعبر عنها بالصادقة أو الصالحة ، كما حصل هذا المعنى بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أول بدء الوحي ، كما في رواية أم المؤمنين عائشة :
     « أول ما بدىء به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة ( الصالحة ) في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح » (2) .
     وقد تكون الرؤيا نوعا من الوعد الحق الذي يقطعه الله لنبيه عليه السلام كما هو الحال في شأن فتح مكة ، قال تعالى :
     ( لقد صدق الله رسوله الرءيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ءامنين ... ) (3) .
     وقد دل على جميع ما تقدم مضافا لللالات القرآنية ما يروى عنه صلى الله عليه وآله وسلم :
     « انقطع الوحي ، وبقيت المبشرات : رؤيا المؤمن ، فالإلهام ، والتسخير والمنام » (4) .
(1) الصافات : 102 ـ 105 .
(2) البخاري ، الجامع الصحيح : 1 | 7 .
(3) الفتح : 27 .
(4) الراغب ، المفردات : 516 .

(27)
     وفيه ـ إذا صح ـ تفريق بين الوحي المباشر ، وهو جبرائيل عليه السلام ، وبين ما أشار إليه من المبشرات التي يبدو أنها غير الوحي الذي يريده الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث .
     وقد يكون الوحي بملحظ آخر عاما بين جميع الأنبياء والرسل ، وقد يكون خاصا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فما كان عاما يكون مشتركا بينه وبين الأنبياء والمرسلين لأنه أحدهم بل سيدهم ، وما كان خاصا ينفرد به وحده .
     فالأول : كقوله تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) (1) .
     ويبدو أن هذا الوحي يشتمل على جميع أقسام الوحي وكيفياته ، ولا يختص بالايحاء بمعناه الدقيق ، لأن الإيمان بالوحدانية فطرة إنسانية تحتمها طبيعة العقل السوي ، والأنبياء بعامة يتمتعون بهذه الفطرة نفسيا وعقليا .
     قال الراغب الأصبهاني ( ت : 502 هـ ) : « فهذا الوحي هو عام في جميع أنواعه ، وذلك أن معرفة وحدانية الله تعالى ، ومعرفة وجوب عبادته ليست مقصورة على الوحي المختص بأولي العزم من الرسل ، بل يعرف ذلك بالعقل والإلهام كما يعرف بالسمع ، فإذن المقصود من الآية تنبيه أنه من المحال أن يكون رسول لا يعرف وحدانية الله ، ووجوب عبادته » (2) .
     والثاني : ما هو مختص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده ، كالأمر له في قوله تعالى : ( اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو ... ) (3) .
     وكأخباره عن نفسه ، محكيا بقوله تعالى :
     ( إن أتبع إلا ما يوحى إليّ وما أنا إلا نذير مبين ) (4) وكالطلب إليه بقوله تعالى :
(1) الأنبياء : 25 .
(2) الراغب ، المفردات : 516 .
(3) الأنعام : 106 .
(4) الاحقاف : 9 .

(28)
     ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد ...) (1) .
     وفي هذا الضوء ، فإن ما يوحى به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يخلو : إما أن يكون تعليمات يؤمر بإشاعة مفاهيمها بين الناس بحال من الأحوال ، وإما أن يكون كلاما يؤمر بتدوينه ، ويثبته الله في قلبه ، ويتلوه بلسانه ، فيكون كتابا فيما بعد ، وإلى هذا أشار الزهري بقوله :
     « ما يوحي الله به إلى نبي من الأنبياء فيثبته في قلبه ، فيتكلم به ويكتبه ، وهو كلام الله . ومنه ما لا يتكلم به ولا يكتبه لأحد ، ولا يأمر بكتابته ، ولكنه يحدث الناس به حديثا ، ويبين لهم أن الله أمره ، أن يبينه للناس ويبلغهم إياه » (2) .
     والقرآن الكريم من النوع الذي ثبت في قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتكلم به وأمر بكتابته وتدوينه ، بعد إنزاله وحيا من قبله .
     وقد أورد الزركشي عن السمرقندي ثلاثة أقوال في المنزل من القرآن :
     1 ـ أنه اللفظ والمعنى ، وأن جبرائيل عليه السلام حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به .
     2 ـ إن جبرائيل عليه السلام إنما نزل بالمعاني الخاصة ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم تلك المعاني ، وعبر عنه بلغة العرب .
     3 ـ إن جبرائيل عليه السلام ، إنما ألقي إليه المعنى ، وأنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب (3) .
     والأول هو الصحيح دون ريب ، لأن جبرائيل عليه السلام وصف بالروح الأمين لأمانته المتناهية ، فلا يضيف ولا يغير ، ولا يبدل ولا ينسى ، ولا يخوّل ولا يتجوز ، كيف لا وهو روح القدس بقوله تعالى : ( قل نزله روح القدس من ربك ... ) (4) .
(1) الكهف : 110 .
(2) السيوطي ، الاتقان : 1 | 128 .
(3) الزركشي ، البرهان : 1 | 229 + السيوطي ، الاتقان : 1 | 126 .
(4) النحل : 102 .

(29)
     والقرآن نازل من عند الله بألفاظه نفسها ، وما مهمة جبرائيل عليه السلام إلا تبليغ الوحي كما تسلمه ، وهو آيات الكتاب الكريم بنصوصها خالصة بدلالة قوله تعالى : ( تلك ءايات الله نتلوها عليك ... ) (1) .
     وقد اختار السيوطي ذلك تعبدا بلفظ القرآن إعجازا ، فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه ، وإن تحت كل حرف منه معاني لا يحاط بها كثرة ، فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه (2) .
     وخصوصية القرآن التعبد بتلاوته لأن ألفاظه نازلة من الله تعالى فلا تدانيها خصوصية أخرى ، لأن هناك ما هو نازل من السماء كالأحاديث القدسية ، ولكنها ليست بقرآن ، فلا خصوصية للتعبد بتلاوتها . وإن أخذنا بمضامينها حرفيا ، ولكنها لم تنزل بألفاظها المخصوصة لها كما هو شأن القرآن .
     والحديث النبوي نتعبد به أمرا ونهيا ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرسل الحديث ويقوله ، ويتبع ذلك أهله وأصحابه ، ثم يتلو القرآن ويقرؤه ، فما اتفق يوما أن تشاكل النصان ، أو تشابه القولان ، ولو كان معنى القرآن ينقل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحيا ، أو وحيه ينقل إليه معنى ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يصوغه بلفظه ، ويعبر عنه بكلامه ، لاشتبه القرآن بالحديث ، والحديث بالقرآن ، من وجهة نظر بلاغية على الأقل ، بينما العكس هو الصحيح ، فالخصائص الأسلوبية في القرآن تدل عليه ، وخصائص الحديث تدل عليه ، فكل له أسلوبه المتميز ، ومنهجه الخاص حتى عرف ذلك القاصي والداني ، ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن وممن جحدهما ، فالقرآن كلام الله ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم ينقله كما سمعه ، بلفظه الدال على معناه ، وبمعناه الذي نطق به لفظه ، لا شيء من محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا النقل الأمين ، والحديث كلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتفوه به فيشرع ويحكم ، لأنه المصدر الثاني بعد القرآن للشريعة الإسلامية ، قال تعالى : ( وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ... ) (3) .
(1) آل عمران : 108 .
(2) ظ : السيوطي ، الاتقان : 1 | 128 .
(3) الحشر : 7 .

(30)
     وثمت دليل قرآني آخر في توجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعبارة « قل » في القرآن الكريم ، وتكرارها فيه أكثر من ثلاثمائة مرة ، تصريح وأي تصريح بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « لا دخل له في الوحي ، فلا يصوغه بلفظه ، ولا يلقيه بكلامه ، وإنما يلقى إليه الخطاب إلقاء ، فهو مخاطب لا متكلم ، حاك لما يسمعه ، لا معبر عن شيء يجول في نفسه » (1) .
     لهذا كان إذا نزلت عليه آية أو سورة ، بل وجزء من آية ، يدعو كتبته لتدوينها على الفور نصا .
*      *      *
     ولقد بهت العرب أمام ظاهرة الوحي القرآني ، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة ، وأئمة البيان والفن القولي ، وتذرعوا للتشكيك فيها بمختلف الوسائل ، فأثاروا الشبهات ، وتعلقوا بالأوهام ، فوصفوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالضلال ، والقرآن من ورائهم يناديهم بقوله : ( والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى ) (2) .
     وتداعوا مرة أخرى إلى افتراضات متناقضة ، فقالوا : أضغاث أحلام ، وقد أيقنوا بصحوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقظته ، وردوه إلى الكذب والاختلاق ، وهم أنفسهم وصفوه من ذي قبل بالصادق الأمين ونسبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الشعر ، وقد علموا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبعد ما يكون عن مزاج الشاعر وأخيلته ، وما ترك في هذا المجال أثرا يركن إليه بهذه السمة ، وقد عبر القرآن عن ذلك :
     ( بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر ... ) (3) .
     وما استقامت لهم الدعوى في شيء ، ووصموه بالجنون :
     ( وقالوا يأيها الذي نزّل عليه الذكر إنك لمجنون ) (4) .
(1) صبحي الصالح ، مباحث في علوم القرآن : 30 .
(2) النجم : 1 ـ 4 .
(3) الأنبياء : 5 .
(4) الحجر : 6 .