(71)
وفيهم الخلفاء الأربعة وأمهات المؤمنين وذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدا آلاف المسلمين في طول البلاد وعرضها .
     لقد عقب الماوردي على الرواية القائلة ، بأنه لم يجمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أربعة ، واستقل ذلك بل استنكره ، فقال :
     « وكيف يمكن الإحاطة بأنه لم يكمله سوى أربعة ، والصحابة متفرقون في البلاد ؟ وإن لم يكمله سوى أربعة ، فقد حفظ جميع أجزائه مئون لا يحصون » (1) .
     فالماوردي هنا يفرق بين الجمع والحفظ ، وهو من علماء القرن الخامس الهجري ، ممن يعرف فحوى الخطاب ، ومنطوق العبارة ، ودلالة الألفاظ .
     والفرق بين الجمع والقراءة والحفظ جلي لا يحتاج معه إلى بيان ، قد ذكر أبو عبيد في كتاب القراءات : القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعد الخلفاء الأربعة ، وطلحة ، وسعدا ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وسالما ، وأبا هريرة ، وعبد الله بن السائب ، والعبادلة (2) ، وعائشة ، وحفصة ، وأم سلمة .
     ومن الأنصار : عبادة بن الصامت ، ومعاذ الذي يكنى أبا حليمة ، ومجمع بن جارية ، وفضالة بن عبيد ، ومسلم بن مخلد (3) .
     وهذا العدد يقتضي أن يكون على سبيل النموذج والمثال ، لا على سبيل الحصر والاستقصاء ، أو أن هؤلاء ممن اشتهر بالحفظ والقراءة أكثر من غيرهم .
     ومما يؤيد صدق الروايات المتقدمة في إرادة الجمع المتعارف هو تداول جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما روي عن زيد بن ثابت فإنه يقول
(1) الزركشي ، البرهان : 1 | 242 .
(2) العبادلة ؛ عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، ظ : ابن منظور ، لسان العرب : 4 | 269 .
(3) السيوطي ، الاتقان : 1 |202 .

(72)
     « كنا حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نؤلف القرآن من الرقاع » (1) . ودلالة التأليف ، تعني الجمع والتدوين ، وضم شيء إلى شيء ، ليصح أن يطلق عليه اسم التأليف .
     ولا دليل على ادعاء الزركشي : بأن بعض القرآن جمع بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم (2) . فلم لا يكون كل القرآن جمع في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم علما بأنه قد سبقه من صرح بجمع القرآن كله لا بعضه في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما نصه : « أنه لم يكن يجمع القرآن كله إلا نفر يسير من أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم » (3) .
     ولا ريب ـ بعد هذا كله ـ أن هناك بعض المصاحف المتداولة عند بعض الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والأخبار مجمعة على صحة وجودها ، وعلى تعدد مصاحف الصحابة أيضا ، إذ لو لم يكن هناك جمع بالمعنى المتبادر إليه ، لما كانت تلك المصاحف أصلا ، إن وجودها نفسه هو دليل الجمع ، إذ لم يصدر منع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جمعه ، بل هناك رواية عنه صلى الله عليه وآله وسلم تقول : « لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن ، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه » (4) .
     وجمع هؤلاء الصحابة للقرآن هو الجمع الذي نقول به ، لا الحفظ ، وإلا فما معنى تسميتها بالمصاحف ؟ وما معنى اختلاف هذه المصاحف فيما تدعي الروايات .
     لقد أورد ابن أبي داود قائمة طويلة بأسماء مصاحف الصحابة ، وعقب عليها بما فيها من الاختلاف ، هذا الاختلاف الذي قد يعود في نظرنا إلى التأويل لا إلى التنزيل ، أو إلى عدم الضبط في أسوأ الاحتمالات ، وقد عقد لذلك بابا سماه « باب اختلاف مصاحف الصحابة » (5) .
(1) أبو شامة ، المرشد الوجيز : 44 .
(2) ظ : الزركشي ، البرهان : 1 | 237 .
(3) مقدمتان في علوم القرآن : 25 .
(4) الخطيب البغدادي ، تقييد العلم : 29 .
(5) ابن أبي داود ، كتاب المصاحف : 50 ـ 88 .

(73)
     وقد عدد ابن أبي داود منها : مصحف عمر بن الخطاب ، مصحف علي بن أبي طالب ، مصحف أُبَيّ بن أبي كعب ، مصحف عبد الله بن مسعود ، مصحف عبد الله بن عباس ، مصحف عبد الله بن الزبير ، مصحف عبد الله بن عمرو بن العاص ، مصحف عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، مصحف حفصة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصحف أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم (1) .
     قال الآمدي ( ت : 617 هـ ) في كتابه ( الأفكار الأبكار ) : « إن المصاحف المشهورة في زمن الصحابة كانت مقروءة عليه ومعروضة » (2) .
     فالآمدي يجيبنا على سؤال دقيق هو : متى كتبت هذه المصاحف ؟ ومتى جمعت ؟ وكيف أقرت ؟ والجواب أنها كتبت في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقرئت عليه ، بل هي معروضة عليه للضبط والدقة والاتقان .
     وهناك دليل جوهري ، آخر وهو أن الروايات في قراءة القرآن كله ، وختمه ، في عهد رسول الله تنطق بوجود جمعي له ، إذ كيف يقرأ فيه من لم يحصل عليه .
     1 ـ « عن عبد الله بن عمرو ، قال : قلت : يا رسول الله ، في كم أقرأ القرآن ؟ قال اختمه في شهر ، قلت إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : اختمه في عشرين ، قلت إني اطيق أفضل من ذلك ، قال : إختمه في خمس عشرة ، قلت إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : إختمه في عشر . قلت إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : إختمه في خمس ، قلت إني أطيق أفضل من ذلك فما رخص لي » (3) .
     وقد روي في غير هذا الحديث ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له أول مرة ، إقرأ القرآن في أربعين (4) .
     2 ـ وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله : « لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث » (5) . فأي قرآن يشير إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن لم يكن مجموعا ، ومتداولا بما تتيسر قراءته عند المسلمين .
(1) المصدر نفسه : والصفحات .
(2) الزنجاني ، تأريخ القرآن : 39 .
(3) ، (4) ، (5) مقدمتان في علوم القرآن : 27 ـ 28 .

(74)
     3 ـ ومن المشهور الذي لا يجهل أن عمر بن الخطاب ( رض ) أقام من صلى التراويح بالناس في ليالي رمضان ، وأمره أن يقرأ في الركعة الواحدة نحوا من عشرين آية ، فكان يحيى القرآن في الشهر مرتين . ومعلوم أن ذلك لم يكن من المصحف الذي كتبه زيد ، لأن المصاحف لم تنسخ منه (1) .
     وهذا تصريح بوجود المصاحف المغايرة لما استنسخه زيد ، وأن سيرة المسلمين عليها إذ لم يعمم مصحف زيد .
     وصاحب الرأي السابق يذهب صراحة أن القرآن كان منظوما ومجموعا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2) .
*      *      *
     وقد يقال بأن الكتابة كانت محدودة في عصر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وقد يحول هذا دون تدوين القرآن ، فيقال إن عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصر أبي بكر واحد ، فما يقال هناك يقال هنا . على أن موضوع الكتابة لا يخلو من مبالغة ، فهي وإن كانت محدودة النطاق ، ومقتصرة على طبقة من الناس ، فإننا نشكك كثيرا في تحديد الأرقام التي أوردها المؤرخون ، ولنا عليها مؤاخذات ليس هذا موطن بحثها ، ويزداد شكنا حينما نلمح البلاذري يقول : « دخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلا يكتب » (3) .
     أو ما أورده ابن عبد ربه الأندلسي « لم يكن أحد يكتب بالعربية حين جاء الإسلام ، إلا بضعة عشر رجلا » (4) .
     لا ريب أن العرب كانت أمة أمية ، إلا أن هذه الأرقام لا تتناسب مع ذكر القرآن للكتابة وأدواتها ومشتقاتها بهذه الكثرة . على أن للأمية دلالات أخرى لعل من أفضلها تعليلا ما رواه ابن أبي عمير ، عن معاوية بن عمار ، عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى (هو الذي بعث
(1) ، (2) المصدر نفسه : 31 .
(3) البلاذري ، فتوح البلدان : 477 .
(4) ابن عبد ربه ، العقد الفريد : 4 | 242 .

(75)
في الأميين رسولا ... ) (1) .
     قال الصادق : « كانوا يكتبون ، ولكن لم يكن معهم كتاب من عند الله ولا بُعث إليهم رسول فنسبهم الله إلى الأميين » (2) .
     ومهما يكن من أمر فأمية من أسلم ، وقلة الكتبة ، وتضاؤل وسائل الكتابة ، لم تكن موانع تحول دون تدوين القرآن .
     فلقد اتخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عددا من الكتاب للقرآن الكريم في كل من مكة والمدينة في طليعتهم الخلفاء الأربعة ، وزيد ، وأبي (3) .
     قال القاضي أبو بكر الباقلاني : « وما على جديد الأرض أجهل ممن يظن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أهمل في القرآن أو ضيعه ، مع أن له كتّابا أفاضل معروفين بالانتصاب لذلك من المهاجرين والأنصار ، فممن كتب له من قريش من المهاجرين : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وزيد بن أرقم ، وخالد بن سعيد ، وذكر أهل التفسير أنه كان يملي على خالد بن سعيد ثم يأمره بطي ما كتب وختمه .. ومنهم الزبير بن العوام ، وحنظلة ، وخالد بن أسد ، وجهم بن الصلت ، وغير هؤلاء .. » (4) .
     ولا شك أن الكتابة كانت تخضع للإشراف المباشر من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالذات ، ليكون النص مطابقا للوحي ، كما مر في حديث خالد بن سعيد ، وكما روى زيد بن ثابت : « كنت أكتب الوحي عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يملي عليّ ، فإذا فرغت ، قال : إقرأه ، فأقرأه ، فإن كان فيه سقط أقامه ، ثم أخرج به إلى الناس » (5) .
     ولقد كان العرب في جاهليتهم يهتمون اهتماما كبيرا في تقييد المأثور الديني ، ففي حديث سويد بن الصامت :
(1) الجمعة : 2 .
(2) ظ : الطباطبائي ، الميزان : وانظر مصدره .
(3) ظ : الجهشياري ، الوزراء والكتاب : 14 .
(4) الباقلاني ، نكت الانتصار : 100 .
(5) الصولي ، أدب الكتاب : 165 .

(76)
     أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعل الذي معك مثل الذي معي ، فقال : وما الذي معك ؟ قال سويد : مجلة لقمان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إعرضها عليّ فعرضها عليه ، فقال له : إن هذا الكلام حسن ، والذي معي أفضل من هذا ، قرآن أنزله الله تعالى ، هو هدى ونور (1) .
     وإذا كان اهتمام العرب في الجاهلية ، بمثل هذا المستوى من الجمع والتدوين للموروث الثقافي أو الديني ، فكيف يكون اهتمامها بالقرآن الكريم ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم يدعوهم إلى حفظه ومدارسته والقيام به . لكأنني بالآية حينما يتلوها الرسول الأعظم تتلاقفها الصدور لتدونها في السطور ، ولقد كان من سيرته متى ما أسلم أحد من العرب دفعه إلى الذين معه ، فعلموه القرآن . وإذا هاجر له أحد من أصحابه أوكله إلى من يعلمه القرآن : « فكان الرجل إذا هاجر دفعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى رجل من الصحابة يعلمه القرآن ، وكان يسمع لمسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضجة بتلاوة القرآن ، حتى أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا » (2) .
     إذن ، كيف كان يتم تعليم القرآن ؟ وكيف كانت تلاوته ؟ لا أشك أن ذلك كان في مدون ما ، ولا يمنع ذلك من الحفظ في الصدور .
     يقول محمد عبد الله دراز : « إن النص المنزل لم يقتصر على كونه ( قرآنا ) أو مجموعة من الآيات تتلى أو تقرأ ، وتحفظ في الصدور ، وإنما كان أيضا ( كتابا ) مدونا بأعداد . فهاتان الصورتان تتضافران وتصحح كل منهما الأخرى . ولهذا كان الرسول كلما جاءه الوحي وتلاه على الحاضرين أملاه من فوره على كتبة الوحي » (3) .
     ومما يدل على تدوينه وكتابته مجموعا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ مضافا إلى ما سبق بيانه ـ ما يلي :
     1 ـ كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزلت عليه الآية من السورة دعا من يكتب له فيقول : ضعها في موضع كذا وكذا من السورة . وهذا من أوضح الأدلة على أن
(1) ظ : ابن هشام ، السيرة النبوية : 2 | 68 + الزمخشري ، الفائق : 1 | 206 .
(2) الزرقاني ، مناهل العرفان : 1 | 234 .
(3) محمد عبد الله دراز ، مدخل إلى القرآن : الكريم : 34 .

(77)
هذا الترتيب الذي رتبه الله عليه . ولأجله كان صلى الله عليه وآله وسلم يدلهم على موضع السور من القرآن ، والآية من السورة ، ليكتب ويحفظ على نظمه وترتيبه (1) .
     2 ـ لقد ورد لفظ الكتاب في القرآن والسنة النبوية القطعية الصدور ، للدلالة على ماله كيان جمعي محفوظ ، والإشارة بل التصريح في ذلك الكتاب إلى القرآن الكريم ، فقد استعمل لفظ الكتاب في القرآن بهذا الملحظ في أكثر من مائة موضع ، ونضرب لذلك بعض النماذج :
     أ ـ (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ... ) ـ البقرة | 2 .
     ب ـ (نزل عليك الكتاب بالحق ... ) ـ آل عمران | 3 .
     ج ـ (هو الذي أنزل عليك الكتاب ... ) ـ آل عمران |7 .
     د ـ (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ...) ـ النساء | 105 .
     هـ ـ (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق ... ) ـ المائدة | 48 .
     و ـ (وهذا كتاب أنزلناه مبارك ... ) ـ الأنعام | 92 .
     ز ـ (كتاب أنزل إليك ... ) ـ الأعراف | 2 .
     ح ـ (الر تلك آيات أحكمت ءاياته ... ) ـ يونس | 1 .
     ط ـ (الر كتاب أحكمت ءاياته ... ) ـ هود | 1 .
     ي ـ (الر كتاب أنزلناه إليك ... ) إبراهيم | 1 .
     أفلا يدل هذا الحشد الهائل إلى أن القرآن كان كتابا مجموعا يشار إليه . ومما يعضده ما ورد في السنة الشريفة من التصريح بالكتاب في عدة مواضع أبرزها :
     أ ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله
(1) مقدمتان في علوم القرآن : 41 .
(78)
وعترتي أهل بيتي » (1) .
     ب ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « إني مخلف فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي » (2) .
     فهل يعني استخلاف الكتاب أن يترك بين عسب ورقاع وألواح تارة ، أو بين أقتاب وأكتاف ولخاف تارة أخرى ، أم أن استخلافه له ينبغي أن يكون مجموعا منظما صالحا لمعنى الخلافة .
     3 ـ مما لا شك فيه أن الاسم البارز والأمثل لسورة الحمد هو ( فاتحة الكتاب ) ، ولو لم يكن القرآن مدونا من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بوحي من جبرئيل عليه السلام : « لما كان لتسميته هذه السورة فاتحة الكتاب معنى ، إذ قد ثبت بالإجماع أن هذه السورة ليست بفاتحة سور القرآن نزولا ، فثبت أنها فاتحته نظما وترتيبا وتكلما » (3) .
     4 ـ قد يقال بأن جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو حفظه في الصدور ، وهذا وإن كان دعوى لا دليل عليها ، فإن من أبسط لوازمها أن الحفظ في الصدور مما يستدعي توافر النص بين الأيدي وتداوله للمعارضة بين ما يحفظ وبين ما هو مثبت ، ولا دليل أنهم كانوا يحفظونه مباشرة عند تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له ، إذ هذه الميزة من مميزات الرسول الأعظم فبمعارضة جبرئيل عليه السلام له يحفظ النص القرآني ويستظهره وبتعهد من الله له كما دل على ذلك قوله تعالى :
     ( لا تحرك به لسانك لتجعل به * إن علينا جمعه وقرءانه ) (4) .
     والكثرة الكاثرة كانت تحفظ القرآن بمدارسته وتكرار تلاوته ، وأقل ما في ذلك أن تقارن الحفظ والإستظهار بما لديها من نصوص قرآنية ، وهذا هو المتعين من قبل المسلمين نظرا لورعهم واحتياطهم من جهة ، وتعبيرا
(1) ابن الأثير ، جامع الأصول : 1 | 187 .
(2) الطوسي ، التبيان : 1 | 3 .
(3) مقدمتان في علوم القرآن : 41 وما بعدها .
(4) القيامة : 16 ـ 17 .

(79)
عن شغفهم بالقرآن وحبهم لمتابعته من جهة أخرى ، فقد يظهر من كثير من الروايات كونهم يتحلقون لتلاوته ليلا ، فقد رفع إليه :
     « إني لأعرف أصوات الرفقة الأشعريين بالليل حين يدخلون وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار » (1) .
     5 ـ « ومن المعلوم الذي لا خفاء به أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد كان يؤم أصحابه في الصلوات الخمس لا يخل بذلك في سفر ولا حضر ، فقرأ في الركعتين من كل صلاة بسورة مع فاتحة الكتاب ، ويسمعهم ذلك في الغداة والعشي . فماذا كان يسمعهم ليت شعري ، إن كانت آيات القرآن متفرقة ولم تنظم السور حتى أنها نظمت في أيام أبي بكر وعثمان ، فبماذا كان يقرع العرب حيث يقول الله تعالى : (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ... ) (2) . وذلك مما نزل بمكة ، ثم قال تعالى : (فأتوا بسورة من مثله ... ) (3) . ونزل ذلك بالمدينة ، ولو كان على ما خيلوا لم يكن العباس ابن عبد المطلب يهرب يوم حنين حيث انهزم القول فيقول : يا أصحاب سورة البقرة ، وسورة آل عمران ، هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . يستدعيهم بذلك إليه » (4) .
     6 ـ أورد ابن حجر ما أخرجه أحمد وأبو داود عن أوس بن أبي أوس ، وكان في الوفد الذين أسلموا على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلنا : كيف تحزبون القرآن ؟ قالوا : نُحزّبه ثلاث سور ، وخمس سور ، وسبع سور ، وتسع سور ، وإحدى عشرة ، وثلاث عشرة ، وحزب المفصل من ( ق ) حتى نختم ( يعني القرآن ) .
     قال ابن حجر : ( فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو عليه في المصحف الآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) (5) .
(1) الزرقاني ، مناهل العرفان : 1 | 313 .
(2) هود : 13 .
(3) البقرة : 23 .
(4) مقدمتان في علوم القرآن : 27 .
(5) ابن حجر ، فتح الباري : 9 | 42 .

(80)
     7 ـ أورد السيوطي في مسألة القراءة في المصحف أفضل من القراءة من حفظه ، لأن النظر في المصحف عبادة مطلوبة ، أورد عدة روايات مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها ذكر المصحف ، مما يعني أن لفظ « المصحف » المجموع فيه القرآن ، كان شائعا ومعروفا ، وذا دلالة معينة منذ عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فما رفع إليه على سبيل المثال (1) :
     أ ـ ما أخرجه الطبراني ، والبيهقي في الشعب من حديث أوس الثقفي مرفوعا :
     « قراءة الرجل في غير المصحف ألف درجة ، وقراءته في المصحف تضاعف ألفي درجة » .
     ب ـ ما أخرجه البيهقي عن ابن مسعود مرفوعا : « من سره أن يحب الله ورسوله ، فليقرأ في المصحف » .
     ج ـ وأخرج بسند حسن مرفوعا : « أديموا النظر في المصحف » .
     د ـ وأخرج غير السيوطي ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الغرباء في الدنيا أربعة ، وعد منها مصحفا لا يقرأ فيه (2) .
     هـ ـ وروى ابن ماجة ، وغيره ، عن أنس مرفوعا : « سبع يجري للعبد أجرهن بعد موته ، وهو في قبره ، وعدّ منهن : من ورث مصحفا » (3) .
     و ـ وعن ابن عمر ، قال نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يسافر بالمصاحف إلى أرض العدو ، مخافة أن ينالوها ، وفي لفظ آخر : نهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو (4) .
     فهذه الأحاديث وأمثالها ـ إن صحت ـ دليل صريح على وجود جمعي وكيان تأليفي للقرآن في مصحف ، بل في المصحف نفسه .
(1) الأحاديث أ ، ب ، ج ، في السيوطي : الاتقان : 1 | 34 وما بعدها .
(2) المناوي ، فيض القدير .
(3) ظ : السيوطي ، الاتقان : 4 | 166 .
(4) ابن أبي داود ، كتاب المصاحف : 180 ـ 181 .