(151)
دليلا واحدا على صحتها ، ولم يثبت مرجعا واحدا يتتبع هذا الإتهام .
     والمسلمون جميعا قد اتفقوا على سلامة القرآن من التحريف وتبادل الاتهامات كما سترى فيما بعد ، لا يغير من الحقيقة شيئا ، وقد كان الأجدر بالباحث أن يتناول الموضوع بشكل آخر ، فيعرض إلى آراء المسلمين بخلو القرآن من التحريف ، بدلا من تجريح النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ونسبة ما لم يكن إلى المسلمين .
     إن مما يؤسف له حقا أن يستغل ( بول ) نصا من نصوص القرآن في إدانة اليهود ( النساء | 46 ) ليبني عليه حكما طائشا على إدراك خاطىء ، فيعتبر التحريف تغييرا مباشرا لصيغة مكتوبة في القرآن ، ولكنه لم يعطنا نموذجا واحدا على هذا التغيير المباشر ، وهذا المنظور الفاضح لم يوافقه عليه حتى السمتشرقون أنفسهم ، فهناك بضع شهادات لكبار علماء الاستشراق العالمي ، تؤكد سلامة النص القرآني من التحريف والتغيير والتبديل ، دون كتب الديانات الأخرى .
     وقد أورد أبو الحسن الندوي جملة من نصوص وأسماء المستشرقين في هذا الموضوع (1) .
     إن كثيرا من الأحكام الاستشراقية قد تمليها نزعات عدائية حينا ، وتبشيرية حينا آخر ، وهنا يكمن الخطر فيجب ـ والحالة هذه ـ أن يعامل الحكم الاستشراقي بكثير من الحذر .
     ثانيا : الافتراضات : على مدعي التحريف أن يحدد زمن وقوع التحريف كافتراض أولي لإثارة أصل المشكلة ، وإذا أخفق في تحقيق هذا الافتراض بطلت الدعوى من الأساس .
     والتحريف المدعي : إما أن يقع في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإما في عهد الشيخين ، وإما في عصر عثمان ، وإما زمن الإمام علي عليه السلام ، وإما في الحكم الأموي ، إذ لا يخلو ذلك عن أحد هذه الأزمنة ، إذ لم يدع أحد ـ
(1) ظ : الندوي ، النبي الخاتم : 30 ـ 31 .
(152)
على ما افترض ـ وقوع التحريف بعد العصر الأموي .
     أما الافتراض الأول ، وهو وقوع التحريف في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فباطل إجماعا ، بما تبين لنا من مدارسة ظاهرة الوحي ومعطياتها ، فقد ثبت ان الوحي منفصل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شخصيته المستقلة ، وأنه مؤتمن على الرسالة ، وقد أداها متكاملة غير منقوصة بنص القرآن الكريم : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا .. ) (1) .
     فلو كان هناك ما يمنع من الكمال ، لما أيده القرآن ، وأي مانع عنه أفظع من إباحة التحريف في النص الذي ثبت إعجازه ، وكان دليل رسالته ، وبرهان دعواه ، فهذا الافتراض ـ إذن ـ مرفوع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن البيئة التي رافقت القرآن في عصره إذ كان الحاكم والمشرع والآمر .
     وأما ادعاء وقوعه في زمن الشيخين ، فلم يعضده دليل نصي أو عقلي ، وحرص الشيخين على النص القرآني أشهر من أن يذكر ، فالدعوى باطلة .
     وأما في عهد عثمان ، فعثمان هو الذي وحد المصحف على لغة قريش ، والقراءات التي سبقت هذا التوحيد كانت اجتهادية في أغلب الظن ، ومظنة الخطأ لو وقعت في الاجتهاد ، فلا أساس لها في مس القرآن الكريم ، وانتشار القرآن آنذاك مانع كبير من أن يقع عليه شيء من التحريف ؛ وقد تعرض عثمان لثورة مضادة ، فما ادعى عليه شيء من هذا القبيل على الإطلاق ، فالدعوى ـ إذن ـ باطلة .
     وأما في عهد الإمام علي عليه السلام فلا يصح أن يقع التحريف للأسباب المتقدمة ، ولاعتبارات أخرى :
     1 ـ إن حريجة الإمام علي عليه السلام في الدين بل وفي الجزئيات التشريعية معلومة الحال ، فكيف تجاه أصل الدين ، ونظام الإسلام ، وهو القرآن ، فلو سبق أن امتدت له يد التحريف ، لما وقف مترددا في إرجاع الحق إلى
(1) المائدة : 3 .
(153)
نصابه ، وإلغاء سمات التحريف ، فكيف يصح أن يقع في عهده ، وهو من هو في ذات الله .
     2 ـ إن الإمام علي عليه السلام احتج بالقرآن على أهل الجمل ، ودعي إليه في التحكيم مع أهل صفين ، فلو كان في القرآن ما ليس منه ، أو أنه لم يشتمل على كل القرآن ، لما صح له به الاحتجاج ، ولا قبوله في التحكيم ، وهذا أمر مشهور لا يحتاج معه إلى برهان .
     3 ـ إن خطب الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة ، تشير إلى القرآن في كثير من التفصيلات هداية واسترشادا وتوجيها للناس ، فلو كان هناك مما يدعى شيء لأبان ذلك على الأقل وأنكره ، ولاحتج فيه على من تقدمه ، فلما لم يفعل ذلك علمنا بسلامة القرآن .
     « أما دعوى وقوع التحريف بعد زمان الخلفاء لم يدعها أحد فيما تعلم ، غير أنها نسبت إلى بعض القائلين بالتحريف ، فادعى أن الحجاج لما قام بنصرة بني أمية اسقط من القرآن آيات كثيرة كانت قد نزلت فيهم ...
     وهذه الدعوى تشبه هذيان المحمومين ... فإن الحجاج واحد من ولاة بني أمية ، وهو أقصر باعا ، وأصغر قدرا من أن ينال القرآن بشيء ، بل وهو أعجز من أن يغير شيئا من الفروع الإسلامية ، فكيف يغير ما هو أساس الدين وقوام الشريعة ، وكيف لم يذكر هذا الخطب العظيم مؤرخ في تأريخه » (1) .
     إذن فالافتراضات الموهومة جميعا لا تقوم على أساس علمي أو عقلي ، فهي مرفوضة جملة وتفصيلا ، بعد أن ثبت بطلانها جزئية جزئية ، وفرضية فرضية .
     ثالثا : الروايات ، والتي عبرنا عنها بأنها أخبار أحاد ، وهو كذلك ، فهي متناثرة هنا وهناك ، ويستنتج منها وقوع التحريف تصريحا أو تلميحا ، ولكنها لا تصلح دليلا في قضية ، ولا برهانا على دعوى ، إذ لم تبلغ حد
(1) الخوئي ، البيان : 219 .
(154)
الشهرة فضلا عن التواتر ، ولأن الضعف الكذب والتدليس واضح الإمارات في الرواة ، والاضطراب والتناقض متوافر في الأسانيد ، وأبرزها كالتالي :
     1 ـ نسبوا إلى ابن مسعود (رض) أنه أسقط سورة الفاتحة من مصحفه (1) .
     أقول وهي رواية يجوز معها الشك والسهو والنسيان وإن لم نقل الكذب للأسباب التالية :
     أ ـ قال ابن حزم : هذا كذب على ابن مسعود (2) .
     ب ـ إنها معارضة بقراءة ابن مسعود لها في الصلاة ، ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب .
     ج ـ إن صحت الرواية ، فقد غلب على ظن ابن مسعود أن الفاتحة لا يمكن أن تنسى لوجوب تعلمها على المسلمين كافة ، وإن ما كتب من القرآن كان لمخافة النسيان والضياع .
     د ـ إن مصحف ابن مسعود وأمثاله ليست إلا مصاحف فردية ، كمن يكتب لنفسه سورة ، ويغفل سورة ، فإن سقط من مصحفه شيء فلا ينسحب ذلك على القرآن .
     هـ ـ أن المصحف الإمام المتداول بالأمس واليوم عند المسلمين قد اشتمل على الفاتحة ، فلا تحريف إذن بهذا الملحظ .
     و ـ يبدو لي أن الرواية مكذوبة على ابن مسعود جملة وتفصيلا للإيهام بدافع سياسي ـ بأن عدم اشتراكه عند جمع المصحف ـ كما يدعى ـ كان لهذا ولامثاله .
     2 ـ ما أورده السيوطي وغيره ، أن هناك سورتين لم تكتبا بالمصحف ، وهما سورة الحفد وسورة الخلع ، وذلك عند الجمع ، وقد علمهما علي وعمر ، وكان أبي يقنت بهما على ما أورده المروزي ، وأنه كان قد كتبهما في مصحفه ، وهناك طائفة من الصحابة تستظهرهما وتقرؤهما في الصلاة أو القنوت (3) .
(1) السيوطي ، الاتقان : 1 | 83 .
(2) المصدر نفسه : 1 | 221 .
(3) ظ : السيوطي ، الاتقان : 1 | 184 وما بعدها .

(155)
ويرد على هذه الروايات ما يلي :
     أ ـ إننا قد رجحنا أن يكون القرآن مجموعا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإذا ثبت ذلك بطلت هذه الدعاوى .
     ب ـ لو أن عليا وعمر ، كانا قد علما بأن هاتين سورتان ، فما يمنعهما من إلحاقهما بالمصحف ، وهما من القوة بحيث لا يستطيع أحد معارضتها مجتمعين إطلاقا .
     ج ـ لو كان الإمام علي عليه السلام يعلم هاتين السورتين ، فلم لم يشر بهما إلى أحد ذريته وشيعته لحفظهما من الضياع ، وذلك في عهد خلافته ، ولا رواية واحدة تدل على ذلك .
     د ـ إن السياق الجملي للسورتين المزعومتين ، لا يتناسب مع مناخ القرآن البلاغي ، ولا أسلوبه الإعجازي ، ولا لغته المتميزة ، فلغة القرآن « سبوح لها منها عليها شواهد ، ولغة هاتين السورتين الموهومتين لغة دعاء مجرد » (1) .
     3 ـ نسب إلى عكرمة أنه قال : لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان ، فوجد حروفا من اللحن ، فقال : لا تغيروها ، فإن العرب ستغيرها ، أو قال ستعربها بألسنتها » (2) .
     ولا دلالة في هذا على التحريف إطلاقا ، وإذا صح ، ففيه دلالة على اشتباه الكتبة ، ولكن الأمر المشكل فيها هو لماذا أمر عثمان بعدم تغييرها ، ولماذا لا يكون هذا الأمر مخترعا لا سيما وأن الرواية منقطعة غير متصلة ـ لأن عكرمة هذا لم يسمع من عثمان شيئا بل لم يره كما يرى ذلك الداني (3) .
     4 ـ روى ابن عباس عن عمر أنه قال : « إن الله عز وجل بعث محمدا بالحق ، وأنزل معه الكتاب ، فكان مما أنزل إليه آية الرجم ، فرجم
(1) ظ : نص هاتين السورتين في : السيوطي ، الاتقان : 1 | 184 وما بعدها .
(2) المصدر نفسه : 1 | 183 .
(3) ظ : الداني ، المقنع : 115 .

(156)
رسول الله صل الله عليه وآله وسلم ورجمناه بعده ، ثم قال : كنا نقرأ : ( ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم ) أو : ( إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم ) (1) .
     ويرد على هذه الرواية ما يأتي :
     أ ـ لم ترو هذه الرواية متواترة عن عمر ، وإنما رويت بطريق الآحاد ، وهي بعيدة الصدور عن عمر ، إذ لو اعتقد أنها آية ( آية الرجم ) لأثبتها لأنه كان يحتل الموقع الأول في الدولة مع وجود أبي بكر ، وأية قوة تقف في صدر عمر إذا أراد شيئاُ آنذاك ، وعلى فرض صحة وجود الآية فلا دلالة فيها على التحريف لأنها من نسخ التلاوة ، وإن كنا نعارضه . ونعتبره أساساً للقول بالتحريف .
     ب ـ إن حكم الرجم ثابت في السنة ، ولا يعني ذلك أن ما ثبت في السنة ثابت في القرآن ، بل كلا هما يشكلان أساس التشريع . وهناك جملة من الأحكام كانت السنة أصلاً لها ولا ذكر لها في القرآن كإعداد الصلاة ، وبعض مراسيم الحج ، وأنصبة الزكاة ، وهكذا .
     5 ـ روى عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت : « كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مئتي آية ، فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر إلا ما هو الآن » (2) .
     ويرد على هذه الرواية إشكالان :
     أ ـ إن عروة بن الزبير ضعيف الرواية .
     ب ـ لو كانت عائشة وهي أم المؤمنين ومسموعة الكلمة ، ولها أثرها في الدولة الإسلامية آنذاك تعتقد هذا الأمر فلماذا أخفته ، وحينما عارضت عثمان لماذا لم تذكر في معارضتها هذا الأمر وهو خطير جدا .
     فالأحرى إذن أن تكون الرواية موضوعة لا أصل لها .
     6 ـ قال لبيب السعيد في نفي أدلة التحريف وذكر رواياتها : ما ادعاه
(1) مسند أحمد : 1 | 47 .
(2) السيوطي ، الاتقان : 2 | 40 .

(157)
بعض الغلاة المنتسبين إلى الشيعة : أن عليا عليه السلام جمع القرآن فكان فيه ما سموه « فضائح المهاجرين والأنصار » وأن عمر طلب إلى زيد بن ثابت أن يسقط من القرآن هذه الفضائح ... (1) .
     وهذه الرواية ظاهرة النحل والبطلان من وجوه :
     أ ـ إن الروايات متظافرة على جمع الإمام علي للقرآن حتى سمي ذلك بمصحف علي ، وهذا المصحف لا يختلف عن مصاحف بقية الصحابة ممن جمعوا القرآن ، ولا عن القرآن المعاصر بشيء ، لأن الإمام علي عليه السلام كان قد ولي الخلافة ، ولو كان في القرآن شيء منه لم يثبت لأثبته وفق ما يراه وهو الإمام الحاكم آنذاك .
     ب ـ قد يستفاد من كثير من النصوص ـ كما أسلفنا القول فيه ـ (2) أن الإمام علي عليه السلام قد جمع القرآن ورتبه تأريخيا بحسب النزول وأسبقيته ، ولا مانع من هذا ، كما أنه قد قسمه على سبعة أجزاء بحسب ما أثبته الزنجاني بعنوان ( ترتيب السور في مصحف علي ) وقد طبع في لايبزيك عام 1871 م (3) .
     ومع هذا فلا تختلف سور القرآن ونصوصه عن مصاحف المسلمين في شيء ، إلا أنه قد يجمع التأويل إلى جنب التنزيل ـ كما سترى هذا فيما بعد في دفع الشبهات ـ فيكون مصحفه قد اشتمل على التأويل الصادر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبر به الإمام ، أو الصادر عنه هو بالذات مضافا إلى أصل القرآن الكريم ، ومن قال بغير هذا فأهل البيت والإمامية براء منه .
     ج ـ كيف يصح أن تكون هناك سور وآيات قد فاتت جميع المسلمين ، والقرآن منتشر بين ظهرانيهم ، ولم يستطع أحد أن يحفظ منها شيئا ، وقد سبق لنا القول بأن حفاظ القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمئات (4) .
(1) لبيب السعيد ، الجمع الصوتي الأول للقرآن .
(2) ظ : فيما سبق : الفصل الثاني : نزول القرآن .
(3) ظ : الزنجاني ، تأريخ القرآن : 69 ـ 73 .
(4) ظ : فيما سبق . الفصل الثالث : جمع القرآن .

(158)
     د ـ إن ما قدمه المهاجرون والأنصار للإسلام والقرآن يعد مفخرة وأي مفخرة بحد ذاته ، فما هو الذنب الذي اقترفه هؤلاء في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرادى أو مجتمعين ، حتى ينزل فيهم ما يسمها بالفضائح ، وهب أن معدودين تجاوزوا حدودهم ، فما نصنع بأولئك الذين يقول فيهم القرآن جهارا نهارا في سورة الفتح :
     ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوهم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فأزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين امنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) (1) .
     قال الاستاذ لبيب السعيد : « وعندي أن نسبة هذه المزاعم إلى الشيعة ـ بعامة ـ هو قول تنقصه الدقة فضلاً عن الصحة . فهذه طائفة من علماء الشيعة يتبرأون من هذه المزاعم » (2) .
     7 ـ روى المسور بن مخرمة : « قال عمر لعبد الرحمن بن عوف : ألم تجد فيما أنزل علينا : ( أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة ) فإنا لا نجدها . قال : أسقطت فيما أسقط من القرآن » (3) .
     ويرد على هذه الرواية أمران :
     الأول : ما هي القيمة الكبرى التي يتمتع بها عبد الرحمن بن عوف في المجتمع الإسلامي ـ آنذاك ـ ولا يتمتع بها عمر حتى يسأله عن شيء يجيبه به عبد الرحمن بأنه أسقط فيما أسقط من القرآن .
     الثاني : من هؤلاء القوم الذين أسقطوا من القرآن ما هو منهم ، وكيف يصح التصديق بمثل هذه الأباطيل .
     وهناك روايات تجري بهذا المضمار أعرضنا عن ذكرها ، ولا كبير أمر
(1) الفتح : 29 .
(2) لبيب السعيد ، الجمع الصوتي الأول للقرآن : 449 .
(3) السيوطي ، الاتقان : 2 |42 .

(159)
بمناقشتها ، إذ لا تختلف عما تقدم إملاها الكذب والاستهانة بمقدرات الكتاب العظيم . وجميعها لا يشكل دليلا واحدا مقنعا على دعوى التحريف .
     وفي نهاية هذا الجانب نشير أن صاحب كتاب المباني قد عقد فصلا قيما في مقدمته بعنوان الفصل الرابع : ( في بيان ما ادعوا على المصحف من الزيادة والنقصان والخطأ والنسيان والكشف عنها بأوجز بيان ) .
     وقد تتبع فيه هذا الباب تتبعا إحصائيا وفند فيه مزاعم التحريف (1) .
     رابعا : الاتهامات ، يبدو أن العصر العباسي الأول قد اختار لدوافع سياسية أن ينمي روح التفرقة والخلاف بين مختلف المسلمين ، وأن يخلق من قضايا جزئية متواضعة أمورا كلية مهمة ، فنشأ عن ذلك القول بخلق القرآن بين قدمه وحدوثه ، وما جر ذلك من الولايات بين المسلمين على أنها قضية فكرية ، ويومها وجدنا التيارات تتقاذف بالآراء على السطح ، لتصم هذا بالكفر تارة ، وغيره بالنفاق تارة أخرى ، وسواهما بالزندقة أحيانا ، ونشأت هذه البذرة الخبيثة بين صفوف المسلمين ، ووجدت لها مناخا صالحا في تربة العصر العباسي الثاني ، حيث عمّق الفرقة ، وعصف بالوحدة ، فكانت الاتهامات المتبادلة تحبك بالظلام فتلقي بجرانها بين المسلمين ، فينقض هذا ما أبرم ذلك ، ويردّ ذلك على اتهامات ذه .
     وقد وجدت مسألة القول بالتحريف من هذه المسائل ، إذ استثنينا القول بنسخ التلاوة ، فكل طائفة من المسلمين تنزه نفسها عن القول بها ، وبعض المذاهب تنسب القول بها إلى البعض الآخر ، وبالنتيجة تجد الجميع يبرؤون منها ، وهذا هو الصحيح .
     فالقاضي ابو بكر الباقلاني ( ت : 403 هـ ) يكيل في نكت الانتصار السباب والتهم دون حساب لشيعة أهل البيت عليهم السلام في القول بالزيادة والنقصان وعقد لذلك عدة أبواب (2) من كتابه لا تقوم على أساس علمي على الإطلاق ، ولا تخدم القرآن ولا المسلمين في كل الأحوال .
(1) مقدمتان في علوم القرآن : 78 ـ 116 .
(2) ظ : الباقلاني ، نكت الانتصار : 95 ـ 203 + 239 ـ 242 وغيرها .

(160)
     بينما وجدنا الطبرسي ( ت: 548 هـ ) ينسب الزيادة والنقصان فيه إلى الحشوية من العامة (1) .
     إن ما يؤخذ به هو الاعترافات لا الشهادات التي نجدها هنا وهناك وقد لا تمثل واقعاً ، ولا تدفع شبهة ، إن الروايات المتقدمة لم يقل بها الإمامية ، ولم يؤيدها الجمهور ، والدفاع عنها ، أو تبني نسخ التلاوة منها ، يمهد السبيل إلى القول بالتحريف ، وردّها يعني تزييف مضاميينها .
     أ ـ وفي هذا الضوء كان ماقرره السيد الخوئي جديراً بالاعتبار ، قال : «المعروف بين المسلمين عدم وقوع التحريف ، وأن الموجود بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على النبي صل الله عليه وآله وسلم الأعظم وقد صرح بذلك كثير من الأعلام ، ومنهم رئيس المحدثين الصدوق محمد بن بابويه ، وقد عدّ القول بعدم التحريف من معتقدات الإمامية ، منهم شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي ، وصرح بذلك في أول تفسير « التبيان » ونقل القول بذلك أيضاً عن شيخه علم الهدى السيد المرتظى ، واستدلاله على ذلك بأتم دليل ، ومنهم المفسر الشهير بالطبرسي في مقدمة تفسيره « مجمع البيان » ، ومنهم شيخ الفقهاء الشيخ جعفر كاشف الغطاء في بحث القرآن من كتابه « كشف الغطاء » وادّعى الإجماع على ذلك ، ومنهم العلامة الجليل الشهشهاني في بحث القرآن من كتابه « العروة الوثقى » ونسب القول بعدم بالتحريف إلى جمهور المجتهدين . ومنهم المحدث الشهير المولى محسن القاشاني في كتابيه ( الوافي وعلم اليقين ) . ومنهم بطل العلم المجاهد الشيخ محمد جواد البلاغي وفي مقدمة تفسيره « ألاء الرحمن » .
     وقد نسب جماعة القول بعدم التحريف إلى كثير من الأعاظم ، منهم شيخ المشايخ المفيد ، والمتبحر الجامع الشيخ البهائي ، والمحقق القاضي نور الله ، وأحزابهم » (2) .
     ب ـ وتأسيسا على ما تقدم ، فقد نفى السيد المرتضى علم الهدى ( ت : 436 هـ ) القول بالتحريف جملة وتفصيلا فقال : « إن العلم بصحة نقل
(1) الطبرسي ، مجمع البيان : 1 | 15 .
(2) الخوئي ، البيان : 200 وما بعدها .