( 122 )

المتضادة والمتناقضة ولا يخطأ ولم ينحرف لولا مزاحمة الاسباب .
    من هنا يتبين ان العقل وحده لا يمكنه هداية الانسان الى القانون ، لانه هو الذي يدعو في بعض الاحيان الى الاختلاف ، وهو الذي يوقظ غريزة الاستثمار وجلب النفع بصورة مطلقة وبحرية كاملة ، وهو الذي يضطر الى ان يتقبل المجتمع المجتمع المتوازن ، كل ذلك لما يحس به من المزاحم الذي يزاحمه .
    ومن البديهي ان القوة الواحدة لا يصدر عنها اثرين متناقضين ـ احداث الاختلافات ورفعها .
    ان ما يحدث من سحق الحقوق وعدم الوفاء بالوعود وما اشبه هذا من الامور ، انما يحدث من العقلاء الذين لهم الادراك الكامل ، ولولا العقل لما صح عدما يفعلونه ذنباً ولما صح العقاب عليه . فلو كان العقل يدل حقا على القوانين الرافعة للاختلاف ولم يكن يتخلف عن واجبه ، لما كان يرضى بما يصدر عن الانسان مما ذكرناه ، بل كان يمنع منه اشد المنع .
    العامل الاصلي في التخلي عن الواجب مع وجود العقل ، هو ان العقل يضطر الى الحكم بقبول مجتمع يحافظ على التوازن ويرعى القوانين المتضمنة للعدالة الاجتماعية ، ويوجد هناك مزاحم يحد من الحرية الكاملة في العمل ، ولولا وجود

( 123 )

المزاحم لما كان العقل يحكم برعاية التعاون والعدالة الاجتماعية .
    المتخلفون عن القانون هم الذين يملكون قدرة فوق القدرة المجربة لذلك القانون ، فيتخلفون عنه بلا وجل ولا خوف ، او الذين يلجأون الى مخبأ يصعب الوصول اليهم لبعدهم عن القوة المجرية ، او كونهم في مكان حريز غفل عنهم المراقبون ، او يتخلفون عنه لاعذار تخيلوها في اذهانهم ليظهر اعمالهم بمظاهر قانونية ، او ينتهزون ضعف من يستثمرونه لمصالحهم .. وعلى كل حال لا يجدون من يزاحمهم او يضايقهم ، او يزاحمهم ويضايقهم من هو اضعف منهم ولا يملك القوة الكافية لمقاومتهم وسحقهم . ففي هذا الموضوع ليس للعقل حكم خاص ، وهو لا يجد شيئا من الحرية المطلقة ، ويدع غريزة الاستخدام والاستمثار بحالها .
    فاذن ليس في نطاق العقل وحده ان يرشد الى قانون اجتماعي تام يضمن نفع المجتمع والفرد بشكل عادل ، لان العقل يدفع الى رعاية مثل هذا القانون لو لم يجد مزاحماً ، فاذا وجد مزاحما يمنعه عن حريته المطلقة ، يمتنع هو بدوره عن هذا الدفع ، بل ربما يحكم بخلافه .
    قال تعالى : ( كلا ان الانسان ليطغى * ان رآه استغنى ) (1) .
____________
(1) سورة العلق : 6 ـ 7 .
( 124 )

    من انواع الاستغناء ، الاستغناء عن التعاون الاجتماعي ورعاية القانون في حفظ حقوق الاخرين .

و ـ لا تكون الهداية الا بالوحي :

    لقد علمنا من المباحث السابقة ان الانسان كبقية الموجودات له هدف ذاتي خاص يضمن سعادته ، ولما كان حسب تكوينه محتاجا الى الحياة الاجتماعية فسعادته وشقاؤه في سعادة المجتمع وشقائه ، وهو جزء واحد من الهيكل الاجتماعي ولا بد ان يجد سعادته وحسن عاقبته في سعادة المجتمع .
    وعلمنا ايضا ان الطريق الوحيد للحصول على ضالته المنشودة هو ( القانون المشترك ) الذي فيه السعادة الاجتماعية التي بضمنها سعادة الفردية .
    وتبين ايضا ضرورة هداية الانسان كسائر الاشياء الى ذلك الهدف الذي يشتمل على سعادته ، وارشاده الى المقدمات الموصلة اليه . ومعنى هذا انه يجب ان يدل الى القانون المشترك الذي يلزم مراعاته .
    من كل هذه المقدمات نستنتج انه لا بد للانسان من ادراك يدله على هدفه غير الادراك العقلي والطريق الوحيد الذي نعرفه

( 125 )

غير طريق العقل هو ما نجده في اشخاص يسمونهم بـ « الانبياء » ومبعوثي الاله ، وهو الذي يسميه الانبياء بـ « الوحي السماوي » ويقيمون على اثبات مدعاهم الادلة والحجج .
    قال تعالى : ( كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) (1) .
    ويقول : ( انا اوحينا اليك كما اوحينا الى نوح والنبيين من بعده ) الى ان يقول ( رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) (2) .
    الاية الاولى تصرح بأن لا يمكن حل الاختلافات الا من طريق الوحي والنبوة ، والاية الثانية تعتبر الوحي والنبوة الدليل الوحيد لاتمام الحجة على العباد . ولازم هاتين الايتين ان العقل لا يكفي لان يكون دليلاً للهداية واتمام الحجة . بمعنى ان الانبياء لو لم يبعثوا ولم يبلغوا الاحكام الالهية ، لم
____________
(1) سورة البقرة : 213 .
(2) سورة النساء : 165 .
( 126 )

يكن مجرد ان الناس عقلاء يدركون قبح الظلم والفساد موجبا للعقاب في العالم الاخر بدون بعث الانبياء وبيان الاحكام الالهية .

ز ـ اشكال وجواب :

    الاشكال : انكم جردتم العقل عن قابلية وضع القوانين والارشاد الى السعادة النوعية بحجة انه لا يمكنه منع الناس عن المخالفات التي تصدر منهم ، وسلمتم القياد الى الوحي والنبوة لوضع الدستور الصالح الذي يتكفل اسعاد البشرية . ولكن نرى ان قوانين الوحي ايضا لا تتمكن من السيطرة التامة على الانسان وضبطه ، بل نرى انه يبتعد عن الاديان والشرائع اكثر مما يبتعد عن القوانين الوضعية ؟ ! .
    الجواب : اراءة الطريق والهداية الى السعادة شيء ومتابعة الناس لتلك الهداية واتباعهم ذلك الطريق او عدم متابعتهم واتباعهم شيء اخر . فان الذي يقتضيه قانون الهداية العامة هو ارشاد الناس وهدايتهم الى وسيلة توصلهم الى دستور يضمن سعادتهم ، وليس من واجبها الالزام العملي بالاتباع .
    والذي استدللنا به على عدم كفاية العقل من التخلفات القانونية التي تنجم عن الحرية التامة في التصرف ، لمن يكن هذا الاستدلال لان العقل لم يحد بعض هذه الحرية في قضايا

( 127 )

خاصة ، بل لانه ليس له حكم بات في هذه الحرية المطلقة ، ولم يدع الى التعاون الاجتماعي التام واتباع القانون ، لان ما قام به من بعض التحديد والدعوة الى اتباع القانون انما كان نتيجة الضغط والضرورة المتأتية من المزاحم الذي يمنع عن حرية التصرف ، وهو علمه بأن مساوىء الحرية المطلقة في التصرف اكثر من محاسنها . وبديهي ان العقل لو لم يقع تحت هذا الضغط ولم يكن هناك مزاحم ومانع عن الحرية في التصرف ، لم يحد عن الحرية المطلقة ولم يدع الى اتباع القانون الذي هو بدوره تحديد للحرية .
    فاذا لاننا لا نرى العقل دائما يدعو الى اتباع القانون نقول بأنه وحده لا يكفي للهداية ، بل نقول بضرورة اتباع الانبياء والرسل ، لان الوحي دائم الدعوة الى السير على ضوء القانون الالهي الذي يراقب الانسان في كل حالاته ، فيثيب المحسن على احسانه ويعاقب المسيء على اساءته بدون تمييز بعض على بعض .
    قال تعالى : ( ان الحكم الا لله ) (1) .
    وقال : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ) (2) .
____________
(1) سورة يوسف : 40 .
(2) سورة الزلزال : 7 ـ 8 .
( 128 )

    وقال : ( ان الله يفصل بينهم يوم القيامة ان الله على كل شيء شهيد ) (1) .
    وقال : ( اولا يعلمون ان الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) (2) .
    وقال : ( وكان الله على كل شيء رقيباً ) (3) .
    ومن هنا يتبين ان الدين السماوي الذي يؤخذ من طريق الوحي هو اقدر من القوانين الوضعية في تحديد المتخلفين عن الاتباع ، لان آخر ما يتشبث به القانون الوضعي انه يجعل مراقبين على اعمال الناس الظاهرة ويضع للمجرم منهم مواد جزائية يعاقبون بها .
    اما الدين فله : اولا مراقبون على الاعمال الظاهرة كما القانون الوضعي ، وثانيا فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تجعل كل واحد من الناس مكلفا بمراقبة اعمال البقية ، وثالثاً من العقائد الدينية ان الاعمال كلها تحفظ وتضبط ليوم يجمع الناس في مجمع عام ويحاسبون عليها الحساب الدقيق ، ورابعاً ـ وهو اهمها واعظمها ـ الاعتقاد بأن
____________
(1) سورة الحج : 17 .
(2) سورة البقرة : 77 .
(3) سورة الاحزاب : 52 .
( 129 )

الله تعالى محيط بالكون وما فيه وهو يعلم ويرى كل الاعمال الصادرة من الانسان .
    وبالاضافة الى المواد الجزائية التي يجازى بها المجرمون في الدنيا ، فان من جملة العقائد الدينية ان في الاخرة ايضا موادا جزائية وضعت للمتخلفين عن الاوامر الالهية ، ولا يستثنى منها احد ابداً .
    قال تعالى : ( اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم ) (1) .
    وقال : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) (2) .
    وقال : ( وان عليكم لحافظين * كراماً كاتبين * يعلمون ما تفعلون ) (3) .
    وقال : ( وربك على كل شيء حفيظ ) (4) .
*    *    *
    اشكال آخر : نستنتج مما مضى ان العقل لا يحكم دائماً
____________
(1) سورة النساء : 59 .
(2) سورة التوبة : 71 .
(3) سورة الانفطار : 9 ـ 11 .
(4) سورة سبأ : 21 .
( 130 )

بضرورة رعاية القانون واجتناب التخلف عنه ، وهذا ينافي ما ورد عن ائمة اهل البيت عليهم السلام في احاديث ان لله تعالى على العباد حجتين ظاهرية وباطنية هما النبي والعقل ، لان العقل ليس له حكم قاطع في موارد تخلف الانسان عن بعض واجباته فكيف يكون حجة عليه ؟ .
    الجواب : العقل العملي يدعو دائما الى ما ينفع والاجتناب عما يضر ، ولكن الانسان المستثمر عندما يرضخ للتعاون الاجتماعي وتبادل الجهد المشترك انما يفعل ذلك اضطراراً ، ومنشأ الاضطرار هو القدرة التي يملكها ويستثمر بها بحرية تامة جهود الاخرين او القوة التي تقع في يد من يضع القوانين . وغير ذلك من الاسباب التي فصلناها قبل هذا . في هذه الحالة لو لم تكن قوانين خاصة تحد من هذه القوة والقدرة ، لا يحكم العقل في نفسه بلزوم اتباع القوانين ، كما لا ينهي عن تخلف الانسان عن القوانين ونقضه لها .
    ولكن لو رجعنا الى نظرية الوحي ، وكان منشأ الاضطرار المذكور هو الحكم الالهي ومراقبة الاعمال والعقيدة بالثواب والعقاب والجزاء وانها كلها بيد الله تعالى المنزه عن الغفلة والجهل والعجز . في هذا الوقت لم يكن مكان للعقل حتى يتخلى عن الحكم لعدم احساسه بالاضطرار ، فلا بد ان يتبع العقل الوحي في احكامه .

( 131 )

    قال تعالى : ( افمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) (1) .
    وقال : ( ان كل نفس لما عليها حافظ ) (2) .
    وقال : ( كل نفس بما كسبت رهينة ) (3) .

ح ـ لا يتسرب الخطأ الى الوحي :

    لقد سبق ان من سنن الكون تعليم برامج الحياة الاجتماعية من طريق الوحي ، وتبين ايضا ان الخلقة لا تخطأ في اعمالها ، فالمواد الدينية السماوية التي علم الانسان بها من طريق الوحي لا يتسرب اليها الخطأ على طول الخط . قال تعالى : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً * الا من ارتضى من رسول فانه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً * ليعلم ان قد ابلغوا رسالات ربهم واحاط بما لديهم واحصى كل شيء عدداً ) (4) .
    من هنا نعرف ان الانبياء رسل الله يجب ان يكونوا
____________
(1) سورة الرعد : 33 .
(2) سورة الطارق : 4 .
(3) سورة المدثر : 38 .
(4) سورة الجن : 26 ـ 28 .
( 132 )

معصومين اي لا يخطأون في تلقي الوحي من العالم العلوي وفي ابقاء وفي تبليغ ما تعلموه . لانهم عليهم السلام الواسطة في الهداية العامة التي يسير الخلق اليها بطبيعة خلقتهم ، فلو اخطأوا في التلقي او الابقاء او التبليغ او خانوا لوسائس شيطانية او نفسية او اذنبوا ذنبا ما ، فيكون نتيجة كل هذا الخطأ منعكسة في سنة الكون الدالة على الهداية العامة ، وهذا لا يكون ابداً . قال تعالى : ( وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ) (1) .

ط ـ حقيقة الوحي مخفية علينا :

    ما استنتجناه من الابحاث السابقة هو ان حياة الانسان مقدمة للوصول الى سعادته النوعية ، ووظيفة الارشاد اليها على عاتق الخلقة ولا يمكن الوصول اليها من طريق العقل ، فلا بد من طريق غير العقل يتمكن الانسان من معرفة واجبه في الحياة بدلالته ، وهذه الدلالة هي دلالة الوحي .
    ان ما يقتضيه الدليل هو هذا القدر من وجود التنبه الخاص في نوع الانسان ، ولا نقول ان هذا الالتفات والتنبه يجب ان يكون في جميع الناس ، لانهم يختلفون كثيراً في صفاء الضمائر وخبثها ، والتنبه المذكور لا يكون الا في من بلغ
____________
(1) سورة النحل : 9 .
( 133 )

الغاية في الصفاء والاستقامة ، وهو نادر يتحقق في الاوحدي من الناس . ولذا نرى القرآن الكريم يذكر جماعة على انهم رسل الله وانبياؤه ولا يذكر اعدادهم كاملة ، كما لم يصرح الا باسم اربعة وعشرين منهم (1) .
    اما نحن حيث لم ندرك هذه المنزلة لم نعرف حقيقتها وماهيتها ، لم نعرف الا بعض النزر اليسير الذي منه القرآن الكريم وبعض الاوصاف التي علمناها بواسطة النبوة ، ومع هذا لا يمكن ان نقول انها هي التي علمناها نحن ، بل يمكن ان يكون هناك اوصاف وخواص وطرق اخرى لم تشرح لنا .

ي ـ كيفية وحي القرآن :

    مختصر ما نفهمه من القرآن الكريم في كيفية وحيه هو :
____________
(1) آدم ، نوح ، هود صالح ، ابراهيم ، لوط ، اسماعيل ، اليسع ، ذو الكفل ، الياس ، يونس ، اسحاق ، يعقوب ، يوسف ، شعيب ، موسى ، هارون ، داود ، سليمان ، ايوب ، زكريا ، يحيى ، اسماعيل صادق الوعد عيسى ، محمد .
    هؤلاء الانبياء المذكورين في القرآن بأسمائهم ، وهناك بعض الانبياء اشير اليهم فيه كالاسباط في سورة النساء الاية 163 ، والنبي الذي اشار على بني اسرائيل بانتخاب لوط للملك في سورة البقرة آية 246 ، والنبي المشار اليه في سورة البقرة آية 258 ، والانبياء المشار اليهم في سورة يس آية 14 .
( 134 )

كان وحي هذا الكتاب السماوي بشكل التكليم ، كلم الله تعالى مع الرسول الكريم وتلقى الرسول ذلك الكلام بكل وجوده ( لا بأذنه فقط ) .
    قال تعالى : ( وما كان لبشر ان يكلمه الله الا وحياً او من وراء حجاب او يرسل رسولاً فيوحي باذنه ما يشاء انه علي حكيم * وكذلك اوحينا اليك روحا من امرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وانك لتهدي الى صراط مستقيم ) (1) .
    ذكروا في تكليم الله تعالى انه ثلاثة اقسام ، بقرينة الترديد الموجود في الاية الاولى وان الوحي في القسم الاول لم ينسب الى مكان خاص وفي القسم الثالث نسب الى الرسول ، والاقسام الثلاثة هي :
    1 ـ التكليم الذي لم يكن فيه واسطة بين الله والبشر .
    2 ـ التكليم الذي يكون من وراء الحجاب ، كشجرة طور حيث كان موسى عليه السلام سمع كلام الله من تلك الناحية .
    3 ـ التكليم الذي يحمله الملك ويبلغه الى الانسان ، فيسمع كلام الملك وحياً وهو يحكي كلام الله .
____________
(1) سورة الشورى : 51 ـ 52 .
( 135 )

    واما الاية الثانية فانها تدل على ان القرآن اوحى الى النبي بهذا الشكل ، ومنه يعلم ان وحي القرآن كان من طريق التكليم والخطاب الشفوي .
    وقال تعالى : ( نزل به الروح الامين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين ) (1) .
    وقال : (من كان عدواً لجبريل فانه نزله على قلبك ) (2) .
    يستفاد من هذه الايات ان القرآن كله او بعضاً منه انزل بواسطة ملك الوحي جبرائيل وروح الامين ( وهو القسم الثالث من التكليم ) كما يستفاد منها ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتلقى الوحي من ذلك الملك بأعماق وجوده (3) . لا باذنه فقط .
    وقال تعالى : ( فأوحى الى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * افتمارونه على ما يرى ) (4) .
____________
(1) سورة الشعراء : 193 ـ 195 .
(2) سورة البقرة : 97 .
(3) بدليل ان الايتين قد صرحتا بتنزيل القرآن على قلب الرسول ، وفي عرف القرآن يراد من القلب النفس ، كما نرى في عدة من الايات نسبت الادراك والشعور والمعصية الى القلب وهي من النفس .
(4) سورة النجم : 10 ـ 12 .
( 136 )

    وفي مكان آخر عبر عن الوحي بالتلاوة في الالواح ، فقال : ( رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ) (1) .
*    *    *
    وقبل ان نختم البحث نود ان نقول : في اقسام الوحي وصفاته وخواصه مباحث اخرى تستفاد من القرآن الكريم ، الا ان الالتزام بالاختصار في فصول هذا الكتاب لم يدع المجال للتحدث عنها طويلاً وبسط القول فيها .
____________
(1) سورة البينة : 2 .
( 136 )


( 137 )

( الفصل الرابع )
القرآن والعلوم

    * تعظيم القرآن مكانة العلم
    * العلوم التي يدعو القرآن الى تعلمها
    * العلوم الخاصة بالقرآن
    * العلوم التي كان القرآن عاملا في ظهورها
( 138 )


( 139 )

تعظيم القرآن مكانة العلم والحث على طلبه :

    عظم القرآن الكريم مكانة العلم تعظيما لم يسبق له مثيل في الكتب السماوية الاخرى ، ويكفي انه نعت العصر العربي قبل الاسلام ، بـ « الجاهلية » ، وفيه مئات من الايات يذكر فيها العلم والمعرفة وفي اكثرها ذكرت جلالة العلم ورفيع منزلته .
    قال تعالى ممتنا على الانسان : ( علم الانسان ما لم يعلم ) (1) .
    وقال : ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات ) (2) .
    وقال : ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) (3) .
    الى غير ذلك من الايات الكثيرة التي تنادي بعظمة العلم . وفي احاديث الرسول واهل بيته عليهم السلام التالية
____________
(1) سورة العلق : 5 .
(2) سورة المجادلة : 11 .
(3) سورة الزمر : 9 .
( 140 )

للقرآن الكريم شواهد لا تحصر في الحث على طلب العلم واهميته وعظيم شأنه .

العلوم التي يدعو القرآن الى تعلمها :

    يدعو القرآن الكريم في كثير من آياته ( لم ننقلها هنا لوفرتها ) الى التفكر في الايات السماوية والنجوم المضيئة والاختلافات العجيبة في اوضاعها والنظام المتقن الذي تسير عليه .
    ويدعو الى التفكر في خلق الارض والبحار والجبال والاودية وما في بطون الارض من العجائب واختلاف الليل والنهار وتبدل الفصول السنوية .
    ويدعو الى التفكر في عجائب النبات والنظام الذي يسير عليه وفي خلق الحيوانات وآثارها وما يظهر منها في الحياة .
    ويدعو الى التفكر في خلق الانسان نفسه والاسرار المودعة فيه ، بل يدعو الى التفكر في النفس واسرارها الباطنية وارتباطها بالملكوت الاعلى . كما يدعو الى السير في اقطار الارض والتفكر في آثار الماضين والفحص في احوال الشعوب والجوامع البشرية وما كان لهم من القصص والتواريخ والعبر .
    بهذا الشكل الخاص يدعو الى تعلم العلوم الطبيعية