صحفا منشرة . الله أعلم حيث يجعل رسالته : استيناف للرد عليهم بأن النبوة ليست بالنسب والمال ، وإنما هي بفضائل نفسانية يخص الله بها من يشاء من عباده فيجتبي لرسالته من علم أنه يصلح لها ، وهو أعلم بالمكان الذي فيه يضعها ، وقريء رسالاته . سيصيب الذين أجرموا صغار : ذل وحقارة بعد كبرهم . عند الله : يوم القيامة ، وقيل : من عند الله . وعذاب شديد بما كانوا يمكرون : القمي : أي يعصون الله في السر .
(125) فمن يرد الله أن يهديه : يعرفه الحق ويوفقه للأيمان . يشرح صدره للاسلام : فيتسع له ويفسح فيه مجاله ، وهو كناية عن جعل القلب قابلا للحق مهيئا لحلوله فيه ، مصفى عما يمنعه وينافيه .
في المجمع : قد وردت الرواية الصحيحة انه لما نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عن شرح الصدر وما هو ؟ قال : نور يقذفه الله تعالى في قلب المؤمن فينشرح صدره وينفسح ، قالوا : فهل لذلك من إمارة يعرف بها ؟ فقال : نعم ، الأنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والأستعداد للموت قبل نزول الموت . ومن يرد أن يضله (1) يجعل صدره ضيقا حرجا : بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يدخله الأيمان ، وقريء ضيقا بالتخفيف ، وحرجا بالكسر أي شديد الضيق .
في المعاني : عن الصادق عليه السلام : في هذه الآية قال : قد يكون ضيقا وله منفذ يسمع منه ويبصر ، والحرج : هو الملتأم الذي لا منفذ له ، يسمع به ولا يبصر منه .
والعياشي : عنه عليه السلام : إنه قال لموسى بن أسمر أتدري ما الحرج قال : قلت : لا ، فقال بيده وضم أصابعه : كالشيء المصمت(2) الذي لا يدخله فيه شيء ، ولا يخرج منه شيء . كأنما يصعد في السماء : يتصعد ، وقريء بالتخفيف ، ويصاعد بمعنى يتصاعد مبالغة في ضيق
____________
(1) لا يجوز ان يكون المراد بالاضلال في الآية الدعاء الى الضلال ولا الامر به ولا إجبار عليه لاجماع الامة على أن الله تعالى لا يأمر بالضلال ولا يدعوا إليه فيكف يجبر عليه والدعاء إليه أهون من الاجبار عليه وقد ذم الله فرعون والسامري عن إضلالهما عن دين الهدى في قوله وأضل فرعون قومه وما هدى وقوله فاضلهم السامري ولا خلاف في أن أضلالهما اضلال أمر واجبار ودعاء وقد ذمهما الله تعالى عليه مطلقا فكيف بما ذم عليه غيره .
(2) المصمت الذي لا جوف له .

( 156 )

صدره بتشبيهه بمن يزاول ما لا يقدر عليه فإن صعود السماء مثل فيما يبعد عن الأستطاعة ويضيق عند القدرة . كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون .
العياشي عن الصادق عليه السلام هو الشك .
وفي الكافي : عنه عليه السلام إن القلب ليتخلخل (1) في الجوف يطلب الحق فإذا أصابه إطمأن به وقر ثم تلا ( فمن يرد الله أن يهديه ) الآية .
والعياشي : مثله . وفي رواية : قال : إن القلب ينقلب عن موضعه إلى حنجرته ما لم يصب الحق فإذا أصاب الحق قر ، ثم تلا هذه الآية .
وفي المجمع : عنه عليه السلام : مثله .
أقول : يتخلخل بالخاءين المعجمتين أو الجيمين أي يتحرك .
وفي الكافي : عن الصادق عليه السلام : إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا نكت (2) في قلبه نكتة من نور فأضاء لها سمعه وقلبه حتى يكون أحرص على ما في أيديكم منكم ، وإذا أراد بعبد سوء نكت في قلبه نكتة سوداء فأظلم لها سمعه وقلبه ، ثم تلا : ( فمن يرد الله أن يهديه ) الآية .
وفيه ، وفي التوحيد ، والعياشي : عنه عليه السلام : إن الله تبارك وتعالى إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور ، وفتح مسامع قلبه ، ووكل به ملكا يسدده ، وإذا أراد بعبد سوء نكت في قلبه نكتة سوداء سد مسامع قلبه ، ووكل به شيطانا يضله ، ثم تلا هذه الآية .
وفي الكافي : عنه عليه السلام : في حديث واعلموا أن الله إذا أراد بعبد خيرا شرح الله صدره للأسلام ، فإذا أعطاه ذلك نطق لسانه بالحق ، وعقد قلبه عليه فعمل به . فإذا جمع الله له على ذلك تم له إسلامه ، وكان عند الله إن مات على ذلك الحال من المسلمين حقا ، وإذا لم يرد الله بعبد خيرا وكله إلى نفسه فكان صدره ضيقا حرجا فإن
____________
(1) ليتخلخل اي يتحرك ويضطرب كالخلخال الملبوس .
(2) النكتة في الشيء كالنقطة والجمع نقط .

( 157 )

جرى على لسانه حق لم يعقد قلبه عليه ، وإذا لم يعقد قلبه عليه لم يعطه الله العمل به ، فإذا اجتمع ذلك عليه حتى يموت وهو على تلك الحال كان عند الله من المنافقين ، وصار ما جرى على لسانه من الحق الذي لم يعطه الله أن يعقد قلبه عليه ولم يعطه العمل به حجة (1) عليه فاتقوا الله وسلوه أن يشرح صدوركم للأسلام وأن يجعل ألسنتكم تنطق بالحكمة حتى يتوفاكم وأنتم على ذلك .
وفي التوحيد ، والمعاني ، والعيون : عن الرضا عليه السلام : إنه سئل عن هذه الآية فقال : من يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا وإلى جنته ودار كرامته في الآخرة يشرح صدره للتسليم لله ، والثقة به ، والسكون إلى ما وعده من ثوابه حتى يطمئن به إليه ، ومن يرد أن يضله عن جنته ودار كرامته في الآخرة لكفره به وعصيانه له في الدنيا يجعل صدره ضيقا حرجا حتى يشك في كفره ويضطرب من اعتقاد قلبه حتى يصير ( كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) .
(126) وهذا صراط (2) ربك : قيل يعني طريقته وعادته في التوفيق والخذلان . مستقيما : عادلا مطردا لا إعوجاج فيه . القمي : يعني الطريق الواضح . قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون : فيعلمون أن القادر هو الله ، وأن كل ما يحدث من خير أو شر فهو بقضائه ، وأنه عليم بأحوال العباد حكيم عدل فيما يفعل بهم .
(127) لهم : للذين تذكروا وعرفوا الحق . دار السلام : دار الله أو دار السلامة من كل آفة وبلية .
القمي : يعني في الجنة ، والسلام : الأمان والعافية والسرور . ويأتي في سورة يونس فيه حديث بالمعنى الأول . عند ربهم : في ضمانه يوصلهم إليها لا محالة . وهو وليهم : قيل : مولاهم ومحبهم . القمي : أي أولى بهم . بما كانوا يعملون : بسبب أعمالهم .
____________
(1) فإن العلم إذا لم يقارن العمل فهو مخاصم صاحبه .
(2) وصف الصراط الذي هو أدلة الحق بالاستقامة مع اختلاف وجوه الادلة لانها مع اختلافها تؤدي الى الحق فكأنها طريق واحد لسلامة جميعها من التناقض والفساد .

( 158 )

(128) ويوم نحشرهم جميعا : واذكر يوم نحشرهم أو يوم يحشرهم ، وقريء بالياء ثم يقول يا معشر الجن يعني الشياطين قد استكثرتم من الاءنس : أضللتم منهم كثيرا .
القمي قال كل من والى قوما فهو منهم ، وإن لم يكن من جنسهم وقال أولياؤهم من الاءنس الذين اتبعوهم وأطاعوهم ربنا استمتع بعضنا ببعض أي انتفع الأنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وما يوصل إليها ، وانتفع الشياطين بالأنس حيث أطاعوهم وحصلوا مرادهم . وبلغنا أجلنا الذي أجّلت لنا .
القمي : يعني القيامة . قال : قال الله لهم . النار مثواكم : مقامكم . خالدين فيها : مؤبدين . إلا ما شاء الله إن ربك حكيم : في أفعاله . عليم : بأعمال الثقلين (1) وأحوالهم .
(129) وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون : نكل بعضهم إلى بعض .
القمي : قال : نولي كل من يولي أولياءهم فيكونون معهم .
وفي الكافي ، والعياشي : عن الباقر عليه السلام : ما انتصر الله من ظالم ، إلا بظالم وذلك قوله عز وجل : ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا ) .
(130) يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا : يعني يوم القيامة . في العيون : في خبر الشامي أنه سأل أمير المؤمنين عليه السلام : هل بعث الله نبيا إلى الجن فقال : نعم . بعث الله نبيا يقال له : يوسف فدعاهم إلى الله فقتلوه .
وعن الباقر عليه السلام : في حديث أن الله عز وجل أرسل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجن والأنس .
أقول : وعموم رسالته الثقلين مستفيض . قالوا شهدنا على أنفسنا : بالجرم والعصيان ، وهو اعتراف منهم بالكفر واستيجاب العذاب . وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا
____________
(1) الثقل محركة متاع المسافر وحشمه وكل شي نفيس مصون ومنه الحديث إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي والثقلان الانس والجن .
( 159 )

على أنفسهم أنهم كانوا كافرين : ذم لهم على سوء نظرهم وخطأ رأيهم فإنهم اغتروا بالحياة الدنيا واللذات المخدجة (1) وأعرضوا عن الآخرة بالكلية حتى كان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والأستسلام للعذاب المخلد تحذيرا للسامعين من مثل حالهم .
(131) ذلك : أي إرسال الرسل ان لم يكن لان لم يكن ربك مهلك القرى بظلم : ظالما أو بسبب ظلم فعلوه . وأهلها غافلون : لم ينبهوا برسول .
(132) ولكل : من المكلفين . درجات : مراتب . مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون : فيخفى عليه عمل أو قدر ما يستحق به من ثواب أو عقاب ، وقريء بالخطاب .
(133) وربك الغني : عن عباده ، وعن عبادتهم . ذو الرحمة : يترحم عليهم بالتكليف ليعرضهم (2) للمنافع العظيمة التي لا يحسن إيصالهم إليها إلا بالأستحقاق إن يشأ يذهبكم : أيها العصاة . ويستخلف من بعدكم ما يشاء : وينشيء من بعد هلاككم و إذهابكم خلقا غيركم يطيعونه يكونوا خلفا لكم . كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين : قرنا بعد قرن .
(134) إن ما توعدون : من الحشر والثواب والعقاب . لآت لكائن لا محالة وما أنتم بمعجزين : بخارجين من ملكه يقال : أعجزني كذا أي فاتني وسبقني .
(135) قل يا قوم اعملوا على مكانتكم : قيل : على غاية تمكنكم واستطاعتكم أو على حالكم التي أنتم عليها ، وقريء مكاناتكم حيث ما وقع . إني عامل : على مكانتي التي أنا عليها وهو تهديد ، والمعنى أثبتوا على كفركم وعداوتكم فإني ثابت
____________
(1) في الخبر كل صلاة لا يقرء فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج أي نقصان وصف بالمصدر للمبالغة يقال خدجت الناقة فهي خادج إذا ألقت ولدها قبل تمام الايام وان كان تمام الخلق وفي حديث علي ( عليه السلام ) في ذي الثدية مخدج اليد أي ناقص اليد .
(2) قوله تعالى وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا أي اظهرناها حتى يراها الكفار يقال عرضت الشيء فأعرض أي أظهرته فظهر .

( 160 )

على الأسلام وعلى مصابرتكم . فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار : أينا تكون له العاقبة الحسنى التي خلق الله لها هذه الدار ؟ وقريء يكون بالياء ، والتهديد بصيغة الأمر مبالغة في الوعيد وتسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلا الشر وهذا كقوله تعالى : ( اعملوا ما شيءتم ) . إنه لا يفلح الظالمون : وضع الظالمين موضع الكافرين لأنه أعم وأكثر فائدة .
(136) وجعلوا لله : يعني مشركي العرب مما ذرأ : مما خلق الله . من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم : من غير أن يؤمروا به ، وهذا لشركائنا : أصنامهم التي أشركوها في أموالهم وقريء بضم الزاي وكذا فيما يأتي فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون : حكمهم هذا . روي أنهم كانوا يعينون شيئا من حرث ونتاج لله ويصرفونه إلى الضيفان والمساكين ، وشيئا منهما لالهتهم وينفقون على سدنتها (1) ويذبحون عندها ثم إن رأوا ما عينوا لله أزكى بدلوه بما لآلهتهم وإن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها حبا لآلهتهم واعتلوا لذلك بأن الله غني .
وفي المجمع : عن أئمتنا عليهم السلام : كان إذا اختلط ما جعل للأصنام بما جعل لله ردوه وإذا اختلط ما جعل لله بما جعلوه للأصنام تركوه ، وقالوا : الله غني وإذا إنخرق الماء من الذي لله في الذي للأصنام لم يسدوه وإذا انخرق (2) من الذي للأصنام في الذي لله سدوه وقالوا إن الله غني قيل : وفي قوله ( مما ذرأ ) تنبيه على فرط جهالتهم فإنهم أشركوا الخالق في خلقه جمادا لا يقدر على شيء ثم رجحوه عليه بأن جعلوا الزاكي له .
(137) وكذلك : ومثل ذلك التزيين . زين لكثير من المشركين قتل أولادهم : بالوأد (3) خيفة العيلة أو العار أو بالنحر لآلهتهم . شركاؤهم : من الشياطين أو السدنة . ليردوهم : ليهلكوهم بالأغواء . وليلبسوا عليهم دينهم : وليخلطوا عليهم ما كانوا عليه . ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون .
____________
(1) سدن سدنا وسدانة خدم الكعبة أو بيت الصنم وعمل الحجابة فهو سادن .
(2) قوله إذا انخرق أي انفتح وخرج .
(3) وأدبنته يئدها دفنها حية فهي وئيد ووئيدة وموؤدة .

( 161 )

(138) وقالوا هذه : إشارة إلى ما جعل لآلهتهم . أنعام وحرث حجر : حرام . لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم : من غير حجة .
القمي : قال : كانوا يحرمونها على قوم . وأنعام حرمت : حرام . ظهورها : قال : يعني البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام . وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها : في الذبح والنحر . وقيل : لا يحجون عليها ولا يلبون على ظهورها ، والمعنى إنهم قسموا أنعامهم فقالوا : هذه أنعام حجر ، وهذه أنعام محرمة الظهور ، وهذه أنعام لا يذكر عليها اسم الله فجعلوها أجناسا بدعواهم الباطلة ، ونسبوا ذلك التقسيم إلى الله . افتراء عليه : أي فعلوا ذلك كله على جهة الأفتراء . سيجزيهم بما كانوا يفترون .
(139) وقالوا ما في بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء .
القمي : كانوا يحرمون الجنين الذي يخرجونه من بطون الأنعام على النساء ، فإذا كان ميتا يأكله الرجال والنساء . قيل : وانث ـ خالصة ـ لأن ما في معنى الأجنة ، والتاء فيه للمبالغة كما في رواية الشعر ، أو هو مصدر كالعافية ، وقريء تكن بالتاء وميتة بالنصب ، بوجوه أخر سيجزيهم وصفهم : أي جزاء وصفهم الكذب على الله في التحريم والتحليل من قوله : وتصف ألسنتهم الكذب هذا حلال وهذا حرام ) . إنه حكيم عليم .
(140) قد خسر الذين قتلوا أولادهم : كانوا يقتلون بناتهم مخافة السبي والفقر ، وقريء ( قتلوا ) بالتشديد بمعنى التكثير . سفها بغير علم : لخفة عقلهم وجهلهم بأن الله رازق أولادهم . لا هم . وحرموا ما رزقهم الله : من البحاير ، ونحوها . افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين : إلى الحق والصواب .
(141) وهو الذي أنشأ جنات : من الكروم . معروشات : مرفوعات على ما يحملها . وغير معروشات : ملقيات على وجه الأرض . والنخل والزرع مختلفا أكله : أكل ذلك أي ثمره الذي يؤكل في اللون والطعم والحجم والرائحة . والزيتون والرمان متشابها


( 162 )

وغير متشابه : يتشابه بعض أفرادهما في الطعم واللون والحجم ولا يتشابه بعضها . كلوا من ثمره : من ثمر كل واحد من ذلك . إذا أثمر : وإن لم يدرك ولم يينع بعد ، وقيل : فائدته رخصة المالك في الأكل منه قبل أداء حق الله .
أقول : وإنما يصح ذلك إذا خرص ما يأكل . وءاتوا حقه يوم حصاده : وقريء بكسر الحاء . في قرب الأسناد : إنه قرء عند الرضا عليه السلام : فقال للقاريء : هكذا يقرؤها من كان قبلكم قال : نعم قال : افتح الفم بالحاء . كأنه كان يقرؤها : بالكسر ، وكأن القمي أيضا بهذا أشار حيث قال : كذا نزلت . قيل : يريد بالحق : ما يتصدق به يوم الحصاد ، لا الزكاة المقدرة ، لأن الزكاة فرضت بالمدينة ، والآية مكية . وقيل : بل هي : الزكاة أي لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الأيتاء ، والآية مدنية .
والمروي عن أهل البيت عليهم السلام : إنه غير الزكوة . ففي الكافي ، والعياشي : عن الصادق عليه السلام : في الزرع حقان : حق تؤخذ به ، وحق تعطيه ، أما الذي تؤخذ به : فالعشر ونصف العشر ، وأما الذي تعطيه فقول الله عز وجل : ( وآتوا حقه يوم حصاده ) فالضغث (1) نعطيه ثم الضغث حتى تفرغ .
وعن الباقر عليه السلام : هذا من الصدقة تعطي المسكين القبضة بعد القبضة ، ومن الجذاذ(2) الحفنة بعد الحفنة (3) .
والقمي : عن الصادق عليه السلام : في هذه الآية قال : الضغث : من السنبل ، والكف من التمر إذا خرص .
والعياشي : عنه عليه السلام : فيها قال : إعط من حضرك من مشرك وغيره .
____________
(1) الضغث بالكسر والفتح قبضة الحشيش المختلط رطبها ويابسها ويقال ملأ الكف من القضبان والحشيش والشماريخ .
(2) جذذت الشيء جذا من باب قتل كسرته وقطعته فهو مجذوذ والجذاذ ضما وكسرا والضم أفصح قطع ما يكسر . الجداد بالفتح والكسر صرام النخل وهو قطع ثمرتها .
(3) الحفنة بالفتح فالسكون ملأ الكفين من طعام والجمع حفنات كسجدة وسجدات وحفنت لفلان من باب ضرب أعطيته قليلا .

( 163 )

والأخبار في هذا المعنى : كثيرة .
وفي الكافي : عن الصادق عليه السلام : لا تصرم (1) بالليل ، ولا تحصد بالليل ، ولا تضح بالليل ، ولا تبذر بالليل إلى قوله : وإن حصدت بالليل لم يأتك السؤال وهو قول الله : ( وآتوا حقه يوم حصاده ) يعني القبضة بعد القبضة إذا حصدته فإذا خرج فالحفنة بعد الحفنة ، وكذلك عند الصرام ، وكذلك عند البذر ولا تبذر بالليل لأنك تعطي من البذر كما تعطي في الحصاد .
وعنه عليه السلام : في هذه الآية تعطي المسكين يوم حصادك الضغث ، ثم إذا وقع في البيذر ، ثم إذا وقع في الصاع العشر ونصف العشر .
والقمي : قال : فرض الله يوم الحصاد من كل قطعة أرض قبضة للمساكين ، وكذا في جذاذ النخل وفي التمر ، وكذا عند البذر ، وإن الرضا عليه السلام : سئل إن لم يحضر المساكين وهو يحصد كيف يصنع ؟ قال : ليس عليه شيء . وأن الصادق عليه السلام : سئل هل يستقيم إعطاؤه إذا أدخله ؟ قال : لا هو أسخى لنفسه قبل أن يدخله بيته . ولا تسرفوا : في التصدق ، كقوله : ( ولا تبسطها كل البسط ) . إنه لا يحب المسرفين : لا يرتضي فعلهم .
في الكافي ، والعياشي : عن الرضا عليه السلام : إنه سئل عن هذه الآية فقال : كان أبي يقول : من الأسراف في الحصاد والجذاذ أن يتصدق الرجل بكفيه جميعا ، وكان أبي إذا حضر شيئا من هذا فرأى أحدا من غلمانه يتصدق بكفيه صاح به اعط بيد واحدة القبضة بعد القبضة ، والضغث بعد الضغث من السنبل .
وعن الصادق عليه السلام : إنه سئل عن هذه الآية فقال : كان فلان بن فلان الأنصاري وسماه كان له حرث ، وكان إذا أخذه تصدق به ، ويبقى هو وعياله بغير شيء فجعل الله عز وجل ذلك سرفا . وفي الكافي : عنه عليه السلام : في حديث قال : وفي غير آية من كتاب الله يقول : ( إنه لا يحب المسرفين ) فنهاهم عن الأسراف ، ونهاهم عن التقتير ، لكن
____________
(1) الصرام وجذاذ النخل وهذا أول الصرام بالفتح والكسر والصرمة القطعة من النخل نحوا من ثلاثين .
( 164 )

أمر بين أمرين لا يعطي جميع ما عنده ثم يدعو الله أن يرزقه فلا يستجيب له .
(142) ومن الانعام حمولة وفرشا : وأنشأ من الأنعام ما تحمل الأثقال ، وما ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش . كلوا مما رزقكم الله منها ولا تتبعوا خطوات الشيطان : في تحريم شيء منها من عند أنفسكم . إنه لكم عدو مبين : ظاهر العداوة .
(143) ثمانية أزواج : بدل من حمولة وفرشا أو مفعول ( كلوا ) ، ( ولا تتبعوا ) معترض ، والزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه ، وقد يقال : لمجموعهما . من الضأن اثنين : الأهلي والوحشي . ومن المعز اثنين : الأهلي والوحشي ، وقريء بفتح العين . قل ءالذكرين : ذكر الضأن وذكر المعز . حرم أم اللأُنثيين : أم انثييهما . أما اشتملت عليه أرحام الأُنثيين : أو ما حملته اناث الجنسين ذكرا كان أو أنثى . نبؤني بعلم : بأمر معلوم يدل على أن الله حرم شيئا من ذلك . إن كنتم صادقين : في دعوى التحريم عليه .
(144) ومن الإبل اثنين : العراب (1) والبخاتي (2) . ومن البقر اثنين : الأهلي والوحشي ، وقيل : اريد بالأثنين الذكر والأنثى من كل صنف ، والصواب ما قلناه كما يأتي بيانه . قل الذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين كما مر والمعنى انكار ان الله حرم من الأجناس الأربعة أهليا كان أو وحشيا ذكرا كان أو أنثى وما تحمل اناثها ردا عليهم فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة ، واناثها تارة ، وأولادها كيف كانت تارة زاعمين أن الله تعالى حرمها . أم كنتم شهداء : بل كنتم حاضرين شاهدين . إذ وصكم الله بهذا : حين وصكم بهذا التحريم فإنكم لا تؤمنون بالرسل فلا طريق لكم إلى معرفة أمثال ذلك إلا المشاهدة أو السماع . فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا : فنسب إليه تحريم ما لم يحرم ، والمراد كبراؤهم المقررون لذلك ، أو عمرو بن لحي المؤسس له الذي بحر البحاير ، وسيب السوائب . ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين .
القمي : فهذه التي أحلها الله في كتابه في قوله : ( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية
____________
(1) الابل العراب خلاف البخاتي
(2) البخت بالضم الابل الخراسانية كالبختية ج بخاتي وبخاتي وبخات .

( 165 )

أزواج ثم فسرها في هذه الآية فقال من الضأن اثنين عنى الأهلي ( والجبلي ) ، ومن المعز اثنين عنى الأهلي والوحشي ( الجبلي ) ومن البقر اثنين عنى الأهلي والوحشي ( الجبلي ) ، ومن الأبل اثنين يعني البخاتي والعراب ، فهذه أحلها الله .
وفي الكافي : عن الصادق عليه السلام : حمل نوح عليه السلام : في السفينة الأزواج الثمانية التي قال الله عز وجل : ( ثمانية أزواج من الضأن اثنين ) الآية فكان من الضأن اثنين زوج داجنة (1) يربيها الناس ، والزوج الآخر الضأن التي تكون في الجبال الوحشية أحل لهم صيدها ، ومن المعز اثنين زوج داجنة يربيها الناس والزوج الآخر الضباء التي تكون في الغار ، ومن الأبل اثنين البخاتي والعراب ، ومن البقر اثنين زوج داجنة للناس ، والزوج الآخر البقر الوحشية ، وكل طير طيب وحشي وانسي .
وفيه ، وفي الفقيه : عن داود الرقي قال : سألني بعض الخوارج عن هذه الآية ( من الضأن اثنين ) الآية ما الذي أحل الله من ذلك وما الذي حرم ؟ فلم يكن عندي فيه شيء فدخلت على أبي عبد الله عليه السلام : وأنا حاج فأخبرته بما كان ، فقال : إن الله تعالى أحل في الأضحية بمنى الضأن والمعز الأهلية ، وحرم أن يضحى بالجبلية ، وأما قوله : ( ومن الأبل اثنين ومن البقر اثنين ) فإن الله تعالى أحل في الأضحية الأبل العراب ، وحرم منها البخاتي (2) وأحل البقر الأهلية أن يضحى بها ، وحرم الجبلية فانصرفت إلى الرجل فأخبرته بهذا الجواب ، فقال : هذا شيء حملته الأبل من الحجاز .
أقول : لعل الخارجي كان قد سمع تحريم الأضحية ببعض هذه الأزواج الثمانية مع حلها كلها فأراد أن يمتحن بمعرفته داود ، ولعل علة تحريم الأضحية بالجبلية منها بمنى كونها صيدا وتحريمها بالبخت لعلة أخرى .
(145) قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرما : طعاما محرما . على طاعم يطعمه : فيه ايذان بأن التحريم إنما يثبت بالوحي لا بالهوى . إلا أن يكون : الطعام . ميتة أو دما
____________
(1) دجن بالمكان دجنا من باب قتل ودجونا : أقام فيه وأدجن مثله .
(2) الظاهر ان المراد بالبخاتي في هذا الخبر هو الوحشي من الابل .

( 166 )

مسفوحا مصبوبا كالدم في العروق ، لا كالكبد والطحال أو المختلط باللحم لا يمكن تخليصه منه . أو لحم خنزير فإنه رجس قذر أو فسقا أهل لغير الله به : سمي ما ذبح على اسم الصنم فسقا لتوغله (1) في الفسق . فمن اضطر : فمن دعته الضرورة إلى تناول شيء من ذلك . غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم : لا يؤاخذه بأكله ، وقد مضى تفسير الباغي والعادي في سورة البقرة . فإن قيل : لم خص هذه الأشياء الأربعة هنا بذكر التحريم مع أن غيرها محرم أيضا ، فإنه سبحانه ذكر في المائدة تحريم المنخنقة والموقوذة والمتردية وغيرها ، وقد ورد الأخبار الصحيحة بتحريم كل ذي مخلب (2) من الطير ، وكل ذي ناب من الوحش ، وما لا قشر له من السمك ، إلى غير ذلك . قلنا : أما المذكورات في المائدة فكلها يقع عليه اسم الميتة فيكون في حكمها فأجمل هيهنا وفصل هناك ، وأما غيرها فليس بهذه المثابة في الحرمة فخص هذه الأشياء بالتحريم تعظيما لحرمتها ، وبين تحريم ما عداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وورد أنه مما يعاف عنه وأما ما قيل إن هذه السورة مكية ، والمائدة مدنية فيجوز أن يكون غير ما في هذه الآية من المحرمات إنما حرم فيما بعد فلا تساعده الأخبار الواردة في ذلك عن أهل البيت عليهم السلام . وكذا ما قاله القمي فإنه قال
قد احتج قوم بهذه الآية على أنه ليس شيء محرم إلا هذا وأحلوا كل شيء من البهائم : القردة ، والكلاب ، والسباع ، والذئاب ، والأسد ، والبغال ، والحمير ، والدواب ، وزعموا أن ذلك كله حلال ، وغلطوا في ذلك هذا غلطا بينا ، وإنما هذه الاية رد على ما أحلت العرب وحرمت لأن العرب كانت تحلل على نفسها وتحرم أشياء فحكى الله ذلك لنبيه صلى الله عليه وآله : ما قالوا ، فقال : ( وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ) الاية فكان إذا سقط الجنين أكله الرجال وحرم على النساء ، وإذا كان ميتا أكله الرجال والنساء ، انتهى كلامه .
____________
(1) أوغل في البلاد والعلم ذهب وبالغ وأبعد كتوغل .
(2) مخلب الطائر بكسر الميم وفتح اللام بمنزلة الظفر للانسان .