إلى ربكم ، إذ كلفنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فنحن ننهى عن المنكر ليعلم ربنا مخالفتنا لهم وكراهتنا لفعلهم ، قالوا : ولعلهم يتقون ونعظهم أيضا لعلهم تنجع فيهم المواعظ فيتقوا هذه الموبقة (1) ويحذروا عقوبتها .
قال الله تعالى : ( فلما عتوا ) حادوا وأعرضوا وتكبروا عن قبول الزجر عما نهو عنه قلنا لهم : ( كونوا قردة خاسئين ) مبعدين من الخير مغضبين فلما نظر العشرة الآلاف والنيف أن السبعين ألفا لا يقبلون مواعظهم ولا يخافون بتخويفهم إياهم وتحذيرهم لهم اعتزلوهم إلى قرية أخرى وانتقلوا إلى قرية من قريتهم ، وقالوا : نكره أن ينزل بهم عذاب الله ونحن في خلالهم ، فأمسوا ليلة فمسخهم الله كلهم قردة ، وبقى باب المدينة مغلقا ، لا يخرج منه أحد ولا يدخله أحد وتسامع بذلك أهل القرى فقصدوهم وسموا حيطان البلد فاطلعوا عليهم فإذا هم كلهم رجالهم ونساؤهم قردة يموج بعضهم في بعض ، يعرف هؤلاء الناظرين معارفهم وقراباتهم وخلطائهم فيقول المطلع لبعضهم : أنت فلان وأنت فلانة فتدمع عينه ويؤمي برأسه أو بفمه بلى أو نعم ، فما زالوا كذلك ثلاثة أيام ، ثم بعث الله تعالى مطرا وريحا فجرفهم إلى البحر وما بقى مسخ بعد ثلاثة أيام ، وإنما الذين ترون من هذه المصورات بصورها فإنما هي أشباهها لا هي بأعيانها ولا من نسلها .
والقمي ، والعياشي : عن الباقر عليه السلام قال : وجدنا في كتاب علي عليه السلام إن قوما من أهل أيلة من قوم ثمود وأن الحيتان كانت سبقت إليهم يوم السبت ليختبر الله طاعتهم في ذلك فشرعت إليهم يوم سبتهم في ناديهم وقدام أبوابهم في أنهارهم وسواقيهم فبادروا إليها فأخذوا يصطادونها فلبثوا في ذلك ما شاء الله لا ينهاهم عنها الأحبار ، ولا يمنعهم العلماء من صيدها ، ثم إن الشيطان أوحى إلى طائفة منهم إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت ، ولم تنهوا عن صيدها فاصطادوها يوم السبت وكلوها فيما سوى ذلك من الأيام ، فقالت طائفة منهم : الآن نصطادها فعتت ، وانحازت طائفة أخرى منهم ذات اليمين فقالوا : ننهيكم عن عقوبة الله أن تتعرضوا بخلاف أمره ، واعتزلت طائفة منهم ذات الشمال ، وسكتت فلم يتعظهم ، فقالت للطائفة التي وعظتهم : ( لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ) ، فقالت الطائفة التي وعظتهم : ( معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون )
____________
(1) وبق كوعد ورجل وورث وبوقا وموبقا هلك كاستوبق وكمجلس المهلك .
( 248 )

قال : فقال الله تعالى : ( فلما نسوا ما ذكروا به ) يعني لما تركوا ما وعظوا به مضوا على الخطيئة فقالت الطائفة التي وعظتهم : لا والله لا نجامعكم ولا نبايتكم الليلة في مدينتكم هذه التي عصيتم الله فيها مخافة أن ينزل بكم البلاء فيعمنا معكم ، قال : فخرجوا عنهم من المدينة مخافة أن يصيبهم البلاء فنزلوا قريبا من المدينة فباتوا تحت السماء فلما أصبح أولياء الله المطيعون لأمر الله تعالى غدوا (1) لينظروا ما حال أهل المعصية فأتوا باب المدينة فإذا هو مصمت فدقوه فلم يجابوا ولم يسمعوا منها حس أحد فوضعوا سلما على سور المدينة ثم أصعدوا رجلا منهم فأشرف على المدينة فنظر فإذا هو بالقوم قردة يتعاوون ، فقال الرجل لأصحابه : يا قوم أرى والله عجبا ! قالوا : وما ترى ؟ قال : أرى القوم قد صاروا قردة يتعاوون ، لها أذناب ، فكسروا الباب ودخلوا المدينة ، قال : فعرفت القردة أنسابها من الأنس ، ولم يعرف الأنس أنسابها من القردة ، فقال القوم للقردة : ألم ننهكم ؟
قال : فقال علي عليه السلام : والله الذي فلق الحبة وبرأ النسمة أني لأعرف أنسابهم من هذه الأمة لا ينكرون ولا يغيرون بل تركوا ما أمروا به فتفرقوا ، وقد قال الله : ( فبعدا للقوم الظالمين ) فقال الله : ( أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ) .
وفي الكافي : عن الصادق عليه السلام في هذه الاية : كانوا ثلاثة أصناف صنف إئتمروا وأمروا : فنجوا ، وصنف إئتمروا ولم يأمروا فمسخوا ذرا ، وصنف لم يأتمروا ولم يأمروا فهلكوا . والعياشي : عن الباقر عليه السلام ما في معناه .
وفي المجمع : عن الصادق عليه السلام هلكت الفرقتان ، ونجت الفرقة الثالثة .
(167) وإذ تأذن ربك : تفعل ، من الأيذان بمعنى الأعلام والعزم ، والأقسام معناه واذكر إذا علم أو عزم ربك وأقسم . ليبعثن عليهم : ليسلطن على اليهود . إلى يوم القيامة من يسومهم : يكلفهم . سوء العذاب : شدته بالقتل والأذلال ، وضرب الجزية . قيل : بعث الله عليهم من بعد سليمان بخت نصر فخرب ديارهم ، وقتل مقاتليهم ، وسبى نساءهم
____________
(1) غدا غدوا من باب قعد ذهب غدوة وجمع الغدوة غدى كمدية ومدى هذا أصله ثم كثر حتى استعمل في الذهاب والانطلاق أي وقت كان .
( 249 )

وذراريهم ، وضرب الجزية على من بقي منهم ، وكانوا يؤدونها إلى المجوس حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ففعل ما فعل وضرب عليهم الجزية فلا تزال مضروبة إلى آخر الدهر .
وفي المجمع : عن الباقر عليه السلام إن المعنى بهم : أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إن ربك لسريع العقاب : عاقبهم في الدنيا . وإنه لغفور رحيم : لمن تاب وآمن .
(168) وقطعناهم في الارض أمما : وفرقناهم فيها بحيث لا يكاد يخلو بلد من فرقة منهم . منهم الصالحون : هم الذين آمنوا بالله ورسوله . ومنهم دون ذلك : ناس دون ذلك ، أي منحطون عن الصلاح وهم كفرتهم وفسقتهم وبلوناهم بالحسنات والسيئات : بالنعم والنقم والمسخ والمحن لعلهم يرجعون : ينتبهون فينيبون .
(169) فخلف من بعدهم خلف : بدل سوء وهو بالتسكين شائع في الشر ، وبالتحريك في الخير ، وقيل المراد به : الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورثوا الكتاب : التوراة من أسلافهم . يأخذون عرض هذا الادنى : حطام هذا الشيء الأدنى ، يعني الدنيا . قيل : هو ما كانوا يأخذون من الرشاء في الحكم ، وعلى تحريف الكلم للتسهيل على العامة . ويقولون سيغفر لنا : لا يؤاخذنا الله بذلك ويتجاوز عنه . وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه : أي يرجون المغفرة وهم مصرون وعايدون إلى مثل فعلهم غير تائبين عنه . ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب : الميثاق في التوراة . أن لا يقولوا على الله إلا الحق : بأن لا يكذبوا على الله ولا يضيفوا إليه إلا ما أنزله . ودرسوا ما فيه : وقرأوا ما فيه ، فهم ذاكرون لذلك .
في الكافي : عن الصادق عليه السلام إن الله خص عباده بآيتين (1) من كتابه أن لا يقولوا حتى يعلموا ، ولا يردوا ما لم يعلموا ، وقال عز وجل : ( ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن
____________
(1) قيل يعني عباده الذين هم من أهل الكتاب والكلام كأن من سواهم ليسوا مضافا إليه بالعبودية بآيتين أي مضمونهما وإلا فالآيات في ذلك فوق اثنتين كقوله تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا وكذب بآياته ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون فأولئك هم الفاسقون فأولئك هم الظالمون الى غير ذلك ولا يردوا ما لم يعلموا يعني لا يكذبوا به بل يكلوا علمه الى قائله فان التصديق بالشيء كما هو محتاج الى تصوره اثباتا فكذلك هو مفتقر إليه نفيا وهذا في غاية الظهور ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
( 250 )

لا يقولوا على الله إلا الحق ) ، وقال : ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ) .
والعياشي : عنه وعن الكاظم عليهما السلام ما يقرب منه والدار الآخرة خير للذين يتقون : محارم الله مما يأخذ هؤلاء . أفلا يعقلون : فيعلمون ذلك ، وقرء بالخطاب .
(170) والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين : أما عطف على الذين يتقون وما بينهما اعتراض ، وإما استيناف ووضع الظاهر موضع المضمر لأنه في معناه ، وللتنبيه على أن الأصلاح مانع عن الأضاعة ، وقرء يمسكون بالتخفيف من الأمساك .
القمي : عن الباقر عليه السلام نزلت في آل محمد ( صلوات الله عليهم ) وأشياعهم .
(171) وإذ (1) نتقنا الجبل : قلعناه ورفعناه وأصله الجذب . فوقهم كأنه ظلة : سقيفة ، وهي كل ما أظل . وظنوا : وتيقنوا . أنه واقع بهم : ساقط عليهم ، لأن الجبل لا يثبت في الجو ولأنهم كانوا يوعدون به .
قيل : إنما أطلق الظن لأنه لم يقع متعلقة خذوا (2) ما آتيناكم بقوة : بعزم من قلوبكم وأبدانكم .
العياشي : عن الصادق عليه السلام إنه سئل عن هذه الآية أقوة في الأبدان أم قوة في القلوب ؟ قال : فيهما جميعا . واذكروا ما فيه : من الأوامر والنواهي . لعلكم تتقون .
القمي : عن الصادق عليه السلام لما أنزل الله التوراة على بني إسرائيل لم يقبلوه فرفع الله عليهم جبل طور سيناء ، فقال لهم موسى إن لم تقبلوا وقع عليكم الجبل فقبلوه وطأطأوا رؤوسهم ، وقد مضى تفسيره في سورة البقرة بأبسط من هذا .
(172) وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم : وقرء ذرياتهم ، أخرج من
____________
(1) معناه واذكر يا محمد إذ قلعنا الجبل من أصله فرفعناه فوق بني اسرائيل وكان عسكر موسى فرسخا في فرسخ فرفع الله الجبل فوق جميعهم .
(2) قوله تعالى خذوا ما اتيناكم بقوة أي خذوا ما ألزمناكم من أحكام كتابنا وفرائضه فاقبلوه بجد واجتهاد منكم في كل أوان من غير تقصير ولا توان .

( 251 )

أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن ، يعني نثر حقايقهم بين يدي علمه فاستنطق الحقايق بأسنة قابليات جواهرها وألسن استعدادات ذواتها . وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا : أي ونصب لهم دلائل ربوبيته وركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الأقرار بها حتى صاروا بمنزلة الأشهاد على طريقة التمثيل ، نظير ذلك قوله عز وجل : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) وقوله جل وعلا : ( فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) ومعلوم أنه لا قول ثمة وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى وذلك حين كانت أنفسهم في أصلاب آبائهم العقلية ، ومعادنهم الأصلية يعني شاهدهم وهم دقايق في تلك الحقايق ، وعبر عن تلك الآباء بالظهور لأن كل واحد منهم ظهر أو مظهر لطائفة من النفوس أو ظاهر عنده لكونه صورة عقلية نورية ظاهرة بذاتها وأشهدهم على أنفسهم أي أعطاهم في تلك النشأة الأدراكية العقلية شهود ذواتهم العقلية ، وهو يأتهم النورية فكانوا بتلك القوى العقلية يسمعون خطاب ( ألست بربكم ) كما يسمعون الخطاب في دار الدنيا بهذه القوى البدنية وقالوا بألسنة تلك العقول بلى أنت ربنا الذي أعطيتنا وجودا قدسيا ربانيا ، سمعنا كلامك وأجبنا خطابك ، ولا يبعد أيضا أن يكون ذلك النطق باللسان الملكوتي في عالم المثالي الذي دون عالم العقل فإن لكل شيء ملكوتا في ذلك العالم كما أشار إليه بقوله سبحانه : ( فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء ) والملكوت باطن الملك ، وهو كله حياة ، ولكل ذرة لسان ملكوتي ناطق بالتسبيح ، والتمجيد والتوحيد والتحميد وبهذا اللسان نطق الحصى في كف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وبه تنطق الأرض يوم القيامة ( يومئذ تحدث أخبارها ) وبه تنطق الجوارح ( أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ) . أن تقولوا : أي كراهة أن تقولوا ، وقرء بالياء . يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين : لم ننبه عليه .
(173) أو تقولوا إنما أشرك آبآؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم : فاقتدينا بهم لأن التقليد عند قيام الحجة والتمكن من العلم بها لا يصلح عذرا . أفتهلكنا بما فعل المبطلون : يعني آباءهم المبطلين بتأسيس الشرك .
(174) وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون : عن التقليد واتباع الباطل .


( 252 )

في الكافي ، والتوحيد ، والعياشي : عن الباقر عليه السلام إنه سئل عن هذه الآية ؟ فقال : أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذر فعرفهم نفسه وأراهم صنعه ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه .
وفي الكافي : عنه ، والعياشي : عن الصادق عليه السلام إنه سئل عن هذه الآية ؟ فقال : وأبوه يسمع حدثني أبي أن الله عز وجل قبض قبضة من تراب التربة التي خلق آدم منها فصب عليها الماء العذب الفرات ثم تركها أربعين صباحا ، ثم صب عليها المالح الأجاج (1) فتركها أربعين صباحا ، فلما اختمرت الطينة أخذها فعركها (2) عركا شديدا فخرجوا كالذر من يمينه وشماله ، وأمرهم جميعا أن يقعوا في النار فدخل أصحاب اليمين فصارت عليهم بردا وسلاما ، وأبى أصحاب الشمال أن يدخلوها .
وعن الصادق عليه السلام : أنه سئل كيف أجابوا وهم ذر ؟ فقال : جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه . وزاد العياشي يعني في الميثاق .
أقول : وهذا بعينه ما قلناه أنه عز وجل ركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الأقرار .
وعنه عليه السلام : لما أراد الله أن يخلق الخلق نثرهم بين يديه فقال لهم : من ربكم ؟ فأول من نطق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام والأئمةعليهم السلام فقالوا : أنت ربنا فحملهم العلم والدين ، ثم قال للملائكة : هؤلاء حملة ديني وعلمي وأمنائي في خلقي وهم المسؤولون ، ثم قال لبني آدم أقروا لله بالربوبية ، ولهؤلاء النفر بالولاية والطاعة ، فقالوا : نعم ربنا أقررنا ، فقال الله للملائكة : اشهدوا فقال الملائكة : شهدنا على أن لا تقولوا غدا : ( إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا ) الآية .
والقمي : عنه عليه السلام في هذه الآية أنه سئل معاينة كان هذا ؟ قال : نعم فثبتت المعرفة ونسوا الموقف ، وسيذكرونه ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقه ، فمنهم من أقر بلسانه في الذر ، ولم يؤمن بقلبه فقال الله : ( فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ) . والعياشي : عنه وعن أبيه عليهما السلام ما في معناه إلى قوله : ورازقه . وفي رواية أخرى له : وأسر
____________
(1) الاجاج المالح والمر الشديد الملوحة يقال أج الماء اجوجا إذا ملح واشتدت ملوحته .
(2) يقال عرك البعير جنبه بمرفقه إذا دلكه فأثر فيه .

( 253 )

بعضهم خلاف ما أظهر . وفي معنى هذه الأخبار : أخبار كثيرة منها : ما هو أبسط مما ذكر ، وقد شرحنا بعضها بما لا مزيد عليه في كتابنا الوافي .
(175) واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا : القمي : نزلت في بلعم بن باعورا ، وكان من بني إسرائيل أوتي علم بعض كتب الله .
وفي المجمع : عن الباقر عليه السلام الأصل فيه بلعم ثم ضربه الله مثلا لكل مؤثر هواه على هدى الله من أهل القبلة .
والعياشي : عنه عليه السلام مثل المغيرة بن سعيد مثل بلعم الذي أوتي الأسم الأعظم الذي قال الله : ( آتيناه آياتنا ) الآية . فانسلخ منها : بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره . فأتبعه الشيطان : فلحقه الشيطان وأدركه وصار قرينا له . فكان من الغاوين : من الضالين .
القمي : عن الرضا عليه السلام أنه أعطى بلعم بن باعورا الأسم الأعظم وكان يدعو به فيستجيب له فمال إلى فرعون فلما مر فرعون في طلب موسى وأصحابه قال فرعون : لبلعم ادع الله على موسى وأصحابه ليحبسه علينا فركب حمارته ليمر في طلب موسى فامتنعت عليه حمارته فأقبل يضربها فأنطقها الله عز وجل فقالت : ويلك على ماذا تضربني أتريدني أن أجيء معك لتدعو على نبي الله وقوم مؤمنين ، فلم يزل يضربها حتى قتلها وانسلخ الأسم من لسانه وهو قوله تعالى ( فانسلخ منها ) الآية .
(176) ولو شئنا لرفعناه: إلى منازل الأبرار من العلماء . بها : بتلك الايات وملازمتها . ولكنه أخلد إلى الارض : مال إلى الدنيا . واتبع هواه : في إيثار الدنيا واسترضاء قومه وأعرض عن مقتضى الآيات فحططناه . فمثله كمثل الكلب : فصفته كصفة الكلب في أخس أحواله . إن تحمل عليه : بالزجر ، والطرد ، من الحملة لا من الحمل . يلهث : يخرج لسانه بالتنفس الشديد . أو تتركه يلهث : دائم اللهف بخلاف سائر الحيوان فإنه إذا هيج وحرك لهث وإلا لم يلهث ، والمعنى إن وعظته فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال ، ضال في كل حال . ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص : المذكورة لعلهم يتفكرون : فيتعظون ويحذرون مثل عاقبته .


( 254 )

(177) ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا : أي مثلهم . وأنفسهم كانوا يظلمون : لا غيرهم .
(178) من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون : قيل : الأفراد في الأول والجمع في الثاني لأعتبار اللفظ والمعنى تنبيه على أن المهتدين كواحد لأتحاد طريقتهم بخلاف الضالين .
(179) ولقد ذرأنا : خلقنا . لجهنم كثيرا من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها .
القمي : عن الباقر عليه السلام لهم قلوب لا يفقهون بها ، يقول : طبع الله عليها فلا تعقل ، ولهم أعين عليها غطاء عن الهدى لا يبصرون ، بها ولهم آذان لا يسمعون بها ، جعل في آذانهم وقرا فلم يسمعوا الهدى . أولئك كالأنعام : في عدم الفقه والأبصار للأعتبار والأستماع للتدبر وفي أن مشاعرهم وقواهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها . بل هم أضل : فإنها تدرك ما يمكن لها أن تدرك من المنافع والمضار ، وتجتهد في جذبها ودفعها غاية جهدها وهم ليسوا كذلك بل أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار . أولئك هم الغافلون : الكاملون في الغفلة .
في العلل : عن أمير المؤمنين عليه السلام أن الله ركب في الملائكة عقلا بلا شهوة ، وركب في البهائم شهوة بلا عقل ، وركب في بني آدم كلتيهما ، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة ، ومن غلب شهوته عقله فهو شر من البهائم .
(180) ولله الاسماء الحسنى : التي هي أحسن الأسماء لتضمنها معاني هي أحسن المعاني .
القمي : قال : الرحمن الرحيم . فادعوه بها : فسموه بتلك الأسماء .
في الكافي : عن الرضا عليه السلام أنه سئل عن الأسم فقال : صفة موصوف .
والعياشي : عنه عليه السلام قال : إذا نزلت بكم شدة فاستعينوا بنا على الله وهو قول


( 255 )

الله ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) .
قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : نحن والله الأسماء الحسنى الذي لا يقبل من أحد طاعة إلا بمعرفتنا ، قال : ( فادعوه بها ) . وقد مضى تمام تحقيق معنى الأسم في أوائل سورة البقرة . وذروا الذين يلحدون في أسمائه : وقرء بفتح الياء والحاء وهو بمعناه ، أي واتركوا الذين يعدلون بأسمائه عما هي عليه فيسمون بها أصنامهم ، أو يصفونه بما لا يليق به ، ويسمونه بما لا يجوز تسميته به .
في الكافي : عن الرضا عليه السلام أن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه ، وأنى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه ، والأوهام أن تناله ، والخطرات أن تحده ، والأبصار عن الأحاطة به ، جل عما يصفه الواصفون ، وتعالى عما ينعته الناعتون الحديث .
وفي التوحيد : عن الصادق عليه السلام في حديث طويل وله الأسماء الحسنى التي لا يسمى بها غيره ، وهي التي وصفها في الكتاب فقال : ( فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه ) جهلا بغير علم ، فالذي يلحد في أسمائه بغير علم يشرك وهو لا يعلم ، ويكفر به وهو يظن أنه يحسن ، ولذلك قال : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) فهم الذين يلحدون في أسمائه بغير علم فيضعونها غير مواضعها . سيجزون ما كانوا يعملون .
(181) وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون .
في الكافي : عن الصادق ، والعياشي : عن الباقر عليهما السلام في هذه الآية : هم الأئمة عليهم السلام .
وفي المجمع : عنهما عليهما السلام قالا : نحن هم .
والقمي : هذه الآية لآل محمد عليهم السلام ، وأتباعهم .
والعياشي : عن أمير المؤمنين عليه السلام والذي نفسي بيده لتفرقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة : ( وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) فهذه التي تنجو من هذه الأمة .


( 256 )

وعنه عليه السلام : يعني أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي المجمع : عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه لكم وقد أعطى قوم موسى مثلها .
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم هي لأمتي بالحق يأخذون ، وبالحق يعطون ، وقد أعطى لقوم بين أيديكم مثلها ( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) .
أقول : أريد بهذه الأخبار الثلاثة بعض الأمة كما يدل على قوله : ( مثلها ) وما رواه في المجمع : أن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم .
(182) والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم : سنستدينهم قليلا قليلا إلى الهلاك حتى يقعوا فيه بغتة ، وأصل الأستدراج : الأستصعاد أو الأستنزال . درجة بعد درجة . من حيث لا يعلمون : ما يراد بهم ، وذلك أن تتواتر عليهم النعم فيظنوا أنها لطف من الله بهم فيزدادوا بطرا وإنهماكا في الغي حتى يحق عليهم كلمة العذاب .
القمي : قال تجديد النعم عند المعاصي .
وفي الكافي : عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن هذه الآية فقال : هو العبد يذنب الذنب فتجدد له النعمة تلهيه تلك النعمة عن الأستغفار من ذلك الذنب .
وعنه عليه السلام : إذا أراد الله بعبد خيرا فأذنب ذنبا أتبعه بنقمة ويذكره الأستغفار ، وإذا أراد بعبد شرا فأذنب ذنبا فأتبعه بنعمة لينسيه الأستغفار ، ويتمادى بها وهو قول الله عز وجل : ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) بالنعم عند المعاصي .
(183) وأملي لهم : وامهلهم . إن كيدي متين (1) لا يدفع بشيء إنما سماه كيدا لأن ظاهره إحسان وباطنه خذلان .
____________
(1) المتين من أسمائه وهو الشديد القوي الذي لا يعتريه وهن ولا يسمه لغوب والمعنى في وصفه بالقوة والمتانة انه قادر بليغ الاقتدار على كل شيء ومتن الشيء بالضم متانة اشتد وصلب فهو متين .
( 257 )

(184) أو لم يتفكروا ما بصاحبهم : يعني محمد صلى الله عليه وآله وسلم . من جنة : أي جنون ، روي أنه علا الصفا فدعاهم فخذا (1) يحذرهم بأس الله ، فقال قائلهم : إن صاحبكم لمجنون بات يهوت (2) إلى الصباح فنزلت . إن هو إلا نذير مبين : موضح إنذاره بحيث لا يخفى على ناظر .
(185) أو لم ينظروا : نظر اعتبار . في ملكوت السموات والارض : في باطنها وأرواحها . وما خلق الله من شيء : مما يقع عليه اسم الشيء من أجناس خلقه التي لا يمكن حصرها لتدلهم على كمال قدرة صانعها ، ووحدة مبدعها ، وعظم شأن مالكها ، ومتولي أمرها ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه . وأن عسى : وأنه عسى . أن يكون قد اقترب أجلهم : يعني في اقتراب آجالهم ، وتوقع حلولها فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل مغافصة (3) الموت ونزول العذاب . فبأي حديث بعده : بعد القرآن . يؤمنون : إذا لم يؤمنوا به ، والمعنى ولعل أجلهم قد اقترب فما بالهم لا يبادرون الأيمان بالقرآن ؟ وماذا ينتظرون بعد وضوحه فإن لم يؤمنوا به فبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا .
(186) من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون . (4)
القمي : قال : كان يكله إلى نفسه ، وقرء يذرهم بالياء ، وبه وبالجزم ، كأنه قيل : لا يهده أحد غيره ويذرهم .
(187) يسئلونك عن الساعة : أي القيامة ، وهي من الأسماء الغالبة . أيان مرسيها : متى ارساؤها ، أي اثباتها واستقرارها . قل إنما علمها عند ربي : استأثر (5) به لم يطلع عليه
____________
(1) الفخذ بالكسر فالسكون للتخفيف دون القبيلة وفوق البطن والجمع افخاذ .
(2) هوت به تهويتا صاح .
(3) غافصة فاجأه وأخذه على غرة .
(4) العمه في القلب العمى في العين .
(5) استأثر بالشيء استبد به وخص به نفسه .

( 258 )

ملكا مقربا ، ولا نبيا مرسلا . لا يجليها لوقتها : لا يظهرها في وقتها . إلا هو : يعني إن الخفاء بها مستمر على غيره إلى وقت وقوعها ، واللام للتوقيت . ثقلت في السموات والأرض : عظمت على أهلها من الملائكة والثقلين لهو لها وشدتها . لا تأتيكم إلا بغتة : فجأة على غفلة .
في الجوامع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه ، والرجل يسقي ماشيته ، والرجل يقوم سلعته في سوقه ، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه . يسئلونك كأنك حفيّ عنها (1) قيل : أي عالم بها وأصله كأنك حفيت بالسؤال حتى علمتها أي استقصيت وألحفت (2) قل إنما علمها عند الله : لم يؤته أحدا من خلقه لأنه من علم الغيب الذي استأثر الله به ولكن أكثر الناس لا يعلمون : إنه المختص بالعلم بها .
القمي : إن قريشا بعثت العاص بن وائل السهمي ، والنضر بن الحارث بن كلدة ، وعقبة ابن أبي معيط إلى نجران ليتعلموا من علماء اليهود مسائل يسألونها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان فيها سألوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم متى تقوم الساعة ؟ فإن ادعى علم ذلك فهو كاذب فإن قيام الساعة لم يطلع الله عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا ، فلما سألوه نزلت .
(188) قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا : جلب نفع ولا دفع ضرر ، وهو إظهار للعبودية والتبري عن إدعاء العلم بالغيوب . إلا ما شآء الله : من ذلك فيلهمني إياه ويوفقني له . ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء .
في المعاني والعياشي : عن الصادق عليه السلام يعني الفقر . والقمي : قال : كنت أختار
____________
(1) أي كأنك استحفيت بالسؤال عنها حتى علمتها والحفي المستقصي بالسؤال عن الشيء وأعفى فلان في المسألة إذا ألح فيها وبالغ .
(2) قوله تعالى لا يسألون الناس الحافا أي الحاحا وهو أن يلازم المسؤول حتى يعطيه من قولهم لحفني من فضل لحافه أي أعطاني من فضل ما عنده والمعنى على ما قيل لا يسألون وإن سألوا عن ضرورة لم يلحفوا .

( 259 )

لنفسي الصحة والسلامة . إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون : فإنهم المنتفعون .
(189) هو الذي خلقكم من نفس واحدة : هي نفس آدم وجعل منها : من فضل طينها . زوجها : حواء . ليسكن إليها : ليأنس بها ويطمئن إليها . فلما تغشاها : جامعها . حملت حملا خفيفا : خف عليها . فمرت به : أي استمرت بالحمل . فلمآ أثقلت : صارت ذات ثقل بكبر الولد في بطنها . دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا : ولدا سويا بريئا من الآفة . لنكونن من الشاكرين .
(190) فلمآ أتاهُما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهُما : وقريء شركا بالمصدر . فتعالى الله عما يشركون .
القمي ، والعياشي : عن الباقر عليه السلام هما آدم وحواء وإنما كان شركهما شرك طاعة ، وليس شرك عبادة . وزاد القمي قال : جعلا للحارث نصيبا في خلق الله ولم يكن أشركا إبليس في عبادة الله بعد أن ذكر في ذلك حديثا مبسوطا رواه عن الباقر عليه السلام موافقا لما روته العامة فيه مما لا يليق بالأنبياء والمستفاد من ذلك الحديث أن معنى اشراكهما فيما آتاهما الله تسميتهما أولادهما بعبد الحارث ، والحارث اسم إبليس ، وإبليس قد حملهما على ذلك بتغريره . وقيل : معناه التسمية بعبد عزى ، وعبد مناة ، وعبد يغوث ، وما أشبه ذلك من أسماء الأصنام ، ومعنى ـ جعلا له ـ : جعل أولادهما شركاء فيما أتى أولادهما على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه في الموضعين .
وفي العيون : عن الرضا عليه السلام أنه قال له المأمون : يا ابن رسول الله أليس من قولك إن الأنبياء معصومون ؟ قال : بلى ، قال : فما معنى قول الله عز وجل : ( فلما أتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما ) ؟ فقال له الرضا عليه السلام : إن حواء ولدت لآدم عليه السلام خمسمأة بطن في كل بطن ذكرا وأنثى ، وأن آدم وحواء عاهدا الله تعالى ودعواه وقالا : لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين ، فلما آتاهما صالحا من النسل خلقا سويا بريئا من الزمانة والعاهة كان ما آتاهما صنفين : صنفا ذكرانا ، وصنفا إناثا ، فجعل الصنفان لله سبحانه شركاء فيما آتاهما ، ولم يشكراه كشكر أبويهما له عز وجل ، فتعالى الله عما يشركون فقال المأمون : أشهد أنك ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حقا .