والمساكين وابن السبيل قال : نعم .
وفي الكافي ، والتهذيب : عن أمير المؤمنين عليه السلام نحن والله عنى بذي القربى الذين قرنهم الله بنفسه وبرسوله ، فقال : ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) منا خاصة ، قال : ولم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيبا أكرم الله نبيه وأكرمنا أن يطعمنا أوساخ ما في أيدي الناس .
وفي الكافي : عن الرضا عليه السلام أنه سئل عن هذه الآية فقيل له : فما كان لله فلمن هو ؟ فقال : لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( وما كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو للأمام ) ، فقيل له : أرأيت إن كان صنف من الأصناف أكثر وصنف أقل ما يصنع به ؟ قال : ذاك إلى الأمام ، أرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف يصنع ؟ أليس إنما كان يعطي على ما يرى ؟ كذلك الأمام .
وفي الفقيه ، والتهذيب ، والعياشي : عن الصادق عليه السلام أما خمس الله : فللرسول يضعه في سبيل الله ، وأما خمس الرسول : فلأقاربه ، وخمس ذوي القربى : فهم أقرباؤه ، واليتامى يتامى أهل بيته ، فجعل هذه الأربعة الأسهم فيهم ، وأما المساكين ، وابن السبيل : فقد عرفت إنا لا نأكل الصدقة ، ولا تحل لنا . فهي للمساكين ، وأبناء السبيل .
وفي التهذيب : عن أحدهما عليهما السلام ، خمس الله : للأمام ، وخمس الرسول : للأمام ، وخمس ذي القربى : لقرابة الرسول والأمام واليتامى : يتامى الرسول ، والمساكين منهم فلا يخرج منهم إلى غيرهم .
والقمي : فهم أيتام آل محمد ( صلوات الله عليهم ) خاصة ومساكينهم وأبناء سبيلهم ، فمن الغنيمة يخرج الخمس ويقسم على ستة أسهم : سهم لله ، وسهم لرسول الله ، وسهم للأمام ، فسهم الله ، وسهم الرسول يرثه الأمام فيكون للأمام ثلاثة أسهم من ستة ، والثلاثة الأسهم لأيتام آل الرسول صلوات الله عليهم ، ومساكينهم ، وأبناء سبيلهم ، وإنما صارت للأمام وحده من الخمس ثلاثة أسهم لأن الله تعالى قد ألزمه بما ألزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تربية الأيتام ومؤن المسلمين وقضاء ديونهم وحملهم في الحج والجهاد ، وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما انزل عليه : ( النبي أولى بالمؤمنين
( 305 )
من أنفسهم ) وهو أب لهم ، فلما جعله الله أبا للمؤمنين لزمهم ما يلزم الوالد للولد ، فقال عند ذلك : من ترك مالا فلورثته ، ومن ترك دينا أو ضياعا فعليّ وإليّ فلزم الأمام ما لزم الرسول صلى الله عليه وآله ، فلذلك صار له من الخمس ثلاثة أسهم . إن كنتم آمنتم بالله : متعلق بمحذوف ، يعني إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به ، فاقطعوا عنه أطماعكم واقتنعوا بالأخماس الأربعة . وما أنزلنا :وبمنا أنزلنا . على عبدنا : محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الآيات ، والملائكة ، والنصر . يوم الفرقان : يوم بدر فإنه فرق فيه بين الحق والباطل . يوم التقى (1) الجمعان : المسلمون والكفار .
وفي الخصال في حديث الأغسال عن الباقر عليه السلام : ليلة التقى الجمعان : ليلة بدر . والله على كل شيء قدير : فيقدر على نصر القليل على الكثير ، والأمداد بالملائكة .
(42) إذ أنتم بالعدوة الدنيا : من المدينة بدل من يوم الفرقان ، والعدوة - مثلثة - : شط الوادي . وهم بالعدوة القصوى : البعدى من المدينة ، تأنيث الأقصى .
القمي : يعني قريشا حيث نزلوا بالعدوة اليمانية ، ورسول الله صلى الله عليه وآله نزل بالعدوة الشامية ، وقريء العدوة بكسر العين والركب .
القمي : يعني العير التي أفلتت .
والعياشي : عن الصادق عليه السلام يعني أبا سفيان وأصحابه .
أقول : والتفسيران متحدان ، فإن أبا سفيان كان مع العير . أسفل منكم : في مكان أسفل من مكانكم يقودون العير بالساحل ، والفائدة في ذكر هذا المواطن الأخبار من الحالة الدالة على قوة المشركين وضعف المسلمين وإن غلبتهم على مثل هذه الحالة أمر إلهي لا يتيسر إلا بحوله وقوته ، وذلك أن العدوة القصوى كان فيها الماء ، ولا ماء بالعدوة الدنيا ، وكانت رخوة تسوخ فيها الأرجل ، وكانت العير وراء ظهورهم مع كثرة
____________
(1) العياشي عن الباقر عليه السلام في تسعة عشر من شهر رمضان يلتقي الجمعان قيل ما معنى يلتقي الجمعان قال يجمع فيها ما يريد من تقديمه وتأخيره على إرادته وقضائه منه رحمه الله ) .
( 306 )
عددهم فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وتحملهم على أن لا يبرحوا مواطنهم ، ويبذلوا نهاية نجدتهم ، وفيه تصوير ما دبر الله من أمر وقعة بدر . ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد : أي لو تواعدتم أنتم ، وهم على موعدة للقتال ثم علمتم حالكم وحالهم لخالف بعضكم بعضا ، ثبّطكم قلتكم عن الوفاء بالموعد وثّبطهم ما في قلوبهم من الرعب فلم يتفق لكم من الوفاء ما وفقه الله . ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا : كان واجبا أن يفعل من إعزاز دينه ، وإعلاء كلمته ، ونصر أوليائه ، وقهر أعدائه . ليهلك من هلك عن بينة : عاينها . ويحيى من حي عن بينة : شاهدها .
القمي : قال : يعلم من بقي أن الله نصره . وقيل : ليصدر كفر من كفر ، وإيمان من آمن عن وضوح بينة ، وقيام حجة ، وقريء حَيِيَ بفك الأدغام . وإن الله لسميع عليم : يعلم كيف يدبر أموركم .
(43) إذ يريكهم الله في منامك قليلا : لتخبر به أصحابك فيكون تثبيتا لهم وتشجيعا على عدوهم . ولو أراكهم كثيرا لفشلتم : لجبنتم . ولتنازعتم في الأمر : أمر القتال وتفرقت آراؤكم بين الثبات والفرار . ولكن الله سلم : أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع . إنه عليم بذات الصدور : يعلم ما سيكون فيها وما يغير أحوالها من الجرأة والجبن .
القمي : فالمخاطبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى لأصحابه ، أراهم الله قريشا في منامهم أنهم قليل ، ولو أراكهم كثيرا لفزعوا .
في الكافي : عن الباقر عليه السلام كان إبليس يوم بدر يقلل المسلمين في أعين الكفار ويكثر الكفار في أعين الناس فشد عليه جبرئيل بالسيف فهرب منه ، وهو يقول : يا جبرئيل إني مؤجل حتى وقع في البحر ، قيل : لأي شيء يخاف وهو مؤجل ؟ قال : بقطع بعض أطرافه .
(44) وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا : تصديقا لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتثبيتا لكم ، في الجوامع : عن ابن مسعود لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين ؟ قال : أراهم مأة ، فأسرنا رجلا منهم ، فقلنا : كم كنتم ؟ قال
( 307 )
ألفا . ويقللكم في أعينهم : حتى قال قائل منهم : إنما هم أكلة جزور ، وقال أبو جهل : ما هم إلا أكلة رأس لو بعثنا عليهم عبيدنا لأخذوهم أخذا باليد ، كما مر ذكره في القصة ، وإنما قللهم في أعينهم ليجترؤا عليهم قبل اللقاء ، ثم كثرهم فيما بعد اللقاء ليفجأهم الكثرة فيهابوا ، وتقل شوكتهم حين يرون ما لم يكن في حسبانهم ، وهذا من عظائم آيات تلك الوقعة ، وعجائب قدرة الله فيها ، فإن البصر وإن كان قد يرى الكثير قليلا ، والقليل كثيرا لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الحد . ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور .
(45) يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة : إذا حاربتم جماعة كافرة أو باغية ، واللقاء مما غلب في القتال . فاثبتوا : لقتالهم ولا تفرقوا . واذكروا الله كثيرا : في مواطن الحرب داعين له مستظهرين بذكره مترقبين لنصره . لعلكم تفلحون : تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة ، قيل : فيه تنبيه على أن العبد ينبغي أن لا يشغله شيء عن ذكر الله تعالى وأن يلتجيء إليه عند الشدائد ، ويقبل عليه بشراشره (1) ، فارغ البال ، واثقا بأن لطفه لا ينفك عنه في شيء من الأحوال .
(46) وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا : باختلاف الآراء كما فعلتم ببدر واُحد . فتفشلوا : فتضعفوا عن قتال عدوكم . وتذهب ريحكم : دولتكم ، شبهت الدولة بالريح في نفوذ أمرها وهبوبها ، يقال : هبت ريح فلان إذا نفذ أمره ، وقيل : لم يكن قط نصر إلا بريح يبعثها الله .
وفي الحديث النبوي صلى الله عليه وآله وسلم نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور . واصبروا إن الله مع الصابرين : بالكلاءة والنصر .
(47) ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم : يعني أهل مكة حين خرجوا منها لحماية العير . بطرا : فخرا وأشرا . ورئآء الناس : ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة ، وذلك أنهم لما بلغوا جحفة (2) وأتاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم فأبى أبو
____________
(1) الشراشر الاثقال الواحد شرشره يقال القى عليه شراشره أي نفسه حرصا ومحبة .
(2) وجحفة موضع بين مكة والمدينة وهي ميقات أهل الشام وكان اسمها مهيعة فأجحف السيل بأهلها فسميت جحفة .
( 308 )
جهل ، وقال : حتى نقدم بدرا ونشرب بها الخمور وتعزف (1) علينا القيان ، ونطعم بها من حضرنا من العرب ، فذلك بطرهم ورثاؤهم فوافوها فسقوا كأس الحمام (2) مكان الخمر وناحت عليهم النوايح مكان القيان ، فنهى الله المؤمنين أن يكونوا أمثالهم بطرين مرائين . ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط .
(48) وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم : في معادة الرسول وغيرها بأن وسوس إليهم . وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم, : مجيركم . فلما تراءت الفئتان : تلاقى الفريقان . نكص على عقبيه : رجع القهقرى ، وبطل كيده ، وعاد ما خيل إليهم أنه مجيرهم سبب هلاكهم . وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون : يعني جنود الملائكة . إنى أخاف الله : أن يصيبني مكروها . والله شديد العقاب : قد مضى لهذه الآية بيان في سورة آل عمران في قصة بدر .
وفي المجمع : عن الباقر والصادق عليهما السلام أنهم لما التقوا كان إبليس في صف المشركين آخذا بيد الحارث بن هشام فنكص على عقبيه ، فقال له الحارث : يا سراقة أتخذلنا على هذه الحال ؟ فقال : إني أرى ما لا ترون ، فقال : والله ما ترى إلا جواسيس يثرب ، فدفع في صدر الحرث وانطلق وانهزم الناس ، فلما قدموا مكة قال الناس : هزم سراقة فبلغ سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم ، فقالو : إنك آتيتنا يوم كذا فحلف لهم ، فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان .
العياشي : عن السجاد عليه السلام لما عطش القوم يوم بدر انطلق علي عليه السلام بالقربة يستقي وهو على القليب إذ جاءت ريح شديدة ، ثم مضت فلبث ما بدا له ، ثم جاءت ريح أخرى ، ثم مضت ، ثم جاءت أخرى كاد أن تشغله وهو على القليب (3) ، ثم جلس حتى مضى فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبره بذلك ، فقال
____________
(1) المعازف الملاهي والعازف اللاعب بها والمغني وقد عزف عزفا .
(2) الحمام بالكسر والتخفيف الموت .
(3) القليب البئر قبل أن تطوى يذكر ويؤنث .
( 309 )
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أما الريح الاولى : ففيها جبرئيل مع ألف من الملائكة ، والثانية : فيها ميكائيل مع ألف من الملائكة ، والثالثة : فيها إسرافيل مع ألف من الملائكة ، وقد سلموا عليك ، وهم مدد لنا وهم الذين رآهم إبليس فنكص على عقبيه يمشي القهقرى حين يقول : ( إني أرى ما لا ترون ) الآية .
(49) إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض : الشاكون في الأسلام . غر هؤلاء دينهم : يعنون المسلمين ، أي اغتروا بدينهم حتى تعرضوا مع قلتهم لقتال جم غفير . ومن يتوكل على الله : جواب لهم . فإن الله عزيز : غالب ينصر الضعيف على القوي ، والقليل على الكثير . حكيم : يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل ، ويعجز عن إدراكه ، وقد مضى لهذه الآية وما بعدها بيان في قصة بدر .
(50) ولو ترى : ولو رأيت وشاهدت ، فإن ( لو ) تجعل المضارع ماضيا عكس إن إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة : ببدر ، وقد قريء تتوفى بالتاء . يضربون وجوههم : ما أقبل منهم . وأدبارهم : وما أدبر .
العياشي : مرفوعا إنما أراد واستاههم ان الله كريم يكّني . وذوقوا عذاب الحريق : ويقولون : ذوقوا عذاب الآخرة ، وقيل : كانت معهم مقامع من حديد كلما ضربوا إلتهبت النار منها .
وفي المجمع : عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلا قال له : إني حملت على رجل من المشركين فذهبت لأضربه فبدر رأسه ، فقال : سبقك إليه الملائكة .
(51) ذلك بما قدمت أيديكم بسبب ما كسبت أيديكم من الكفر والمعاصي . وأن الله (1) ليس بظلام للعبيد : بأن الله يعذب الكفار بالعدل ، لأنه لا يظلم عباده في عقوبتهم ، و ( ظلام ) للمتكثر لأجل العبيد .
(52) كدأب آل فرعون : أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون ، ودأبهم : وعادتهم
____________
(1) وفي هذا دلالة واضحة على بطلان مذهب المجيرة في أنه يخلق الكفر ثم يعذب عليه وأنه يجوز أن يعذب من غير ذنب وأن يأخذ بذنب غيره لان هذا غاية الظلم وقد بالغ عز اسمه في نفي الظلم عن نفسه بقوله ليس بظلام للعبيد .
( 310 )
وعملهم الذي دأبوا فيه ، أي داوموا عليه . والذين من قبلهم : من قبل آل فرعون . كفروا بآيات الله : تفسير لدأبهم . فأخذهم الله بذنوبهم : كما أخذ هؤلاء . إن الله قويّ شديد العقاب : لا يغلبه في دفعه شيء .
(53) ذلك : إشارة إلى ما حل بهم . بأن الله : بسبب أن الله . لم يك مغيرا : لا يصح في حكمته أن يغير . نعمة أنعمها على قوم : مبدلا إياها بالنقمة . حتى يغيروا ما بأنفسهم : يبدلوا ما بهم من الحال إلى حال أسوء كتغيير قريش حالهم في صلة الرحم ، والكف عن تعرض الآيات والرسل بمعاداة الرسول ومن تبعه منهم ، والسعي في إراقة دمائهم والتكذيب بالآيات والأستهزاء بها ، إلى غير ذلك مما أحدثوه بعد البعث . وأن الله سميع : لما يقولون . عليم : بما يفعلون .
في الكافي : عن الصادق عليه السلام إن الله بعث نبيا من أنبيائه إلى قومه وأوحى إليه أن قل لقومك : أنه ليس من أهل قرية ولا ناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سراء فتحولوا عما أحب إلى ما أكره إلاّ تحولت لهم عما يحبون إلى ما يكرهون ، وليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء فتحولوا عما أكره إلى ما أحب إلاّ تحولت لهم عما يكرهون إلى ما يحبون الحديث .
وعنه عليه السلام أنه يقول كان أبي يقول : إن الله قضى قضاء حتما لا ينعم على العبد بنعمة فيسلبها إياه حتى يحدث العبد ذنبا يستحق بذلك النقمة .
(54) كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون : تكرير للتأكيد ، وفي قوله : ( بآيات ربهم ) زيادة دلالة على كفران النعم ، وفي ذكر الأغراق بيان للأخذ بالذنوب . وكل : من غرقى آل فرعون ، وقتلى قريش . كانوا ظالمين : أنفسهم بكفرهم ومعاصيهم .
(55) إن شر الدواب عند الله الذين كفروا أصروا على الكفر ورسخوا فيه . فهم لا يؤمنون : فلا يتوقع منهم إيمان .
القمي ، والعياشي : عن الباقر عليه السلام نزلت في بني أمية ، فهم أشر خلق الله
( 311 )
هم الذين كفروا في بطن القرآن .
(56) الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة : قيل : هم يهود بني قريظة عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن لا يمالئوا عليه عدوا فنكثوا ، بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح ، وقالوا : نسينا ، ثم عاهدهم فنكثوا ، ومالئوا عليه الأحزاب يوم الخندق .
والقمي : هم أصحابه الذين فروا يوم احد . وهم لا يتقون : لا يخافون عاقبة الغدر ولا يبالون ما فيه من العار والنار .
(57) فإما تثقفنهم : تصادفنهم وتظفر بهم . في الحرب فشرد بهم : ففرق عن محاربتك ونكل عنها بقتلهم والنكاية فيهم . من خلفهم : من وراء من الكفرة ، والتشريد : تفريق على اضطراب . لعلهم يذكرون : يتعظون .
(58) وإما تخافن من قوم معاهدين . خيانة : نقض عهد بإمارات تلوح لك . فأنبذ إليهم : فاطرح إليهم عهدهم . على سوآء : على طريق مقتصد مستو في العداوة وذلك بأن تخبرهم بنقض العهد إخبارا ظاهرا مكشوفا يتبين لهم أنك قطعت ما بينك وبينهم ولا تبدأهم بالقتال ، وهم على توهم العهد ، فيكون ذلك خيانة . إن الله لا يحب الخائنين : فلا تخنهم بأن تناجزهم القتال من غير إعلامهم بالنبذ .
القمي : نزلت في معاوية( لع ) لما خان أمير المؤمنين عليه السلام .
(59) ولا يحسبن الذين كفروا : وقريء بالياء . سبقوا : فأتوا من أن يظفر بهم . إنهم لا يعجزون : لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزا من إدراكهم ، وقريء بالفتح بمعنى أنهم .
(60) وأعدوا : أيها المؤمنون . لهم : للكفار . ما استطعتم من قوة : من كل ما يتقوى به في الحرب .
في الكافي ، والعياشي : مرفوعا والعامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن القوة : الرمي .
( 312 )
والعياشي : عن الصادق عليه السلام سيف وترس .
والقمي : قال السلاح .
وفي الفقيه : عنه عليه السلام منه الخضاب بالسواد . ومن رباط الخيل : والرباط : اسم للخيل التي تربط في سبيل الله . ترهبون به : تخوفون به ، وقريء بالتشديد . عدو الله وعدوكم : كفار مكة . وآخرين من دونهم : من غيرهم من الكفرة . لا تعلمونهم : لا تعرفونهم بأعيانهم ، لأنهم يصلون ويصومون . الله يعلمهم : يعرفهم ، لأنه المطلع على الأسرار . وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم : جزاؤه . وأنتم لا تظلمون : بتضييع العمل أو نقص الثواب .
(61) وإن جنحوا : مالوا . للسلم : للصلح والأستسلام ، وقريء بالكسر . فاجنح لها : وعاهد معهم ، وتأنيث الضمير لحملها على نقيضها الذي هي الحرب ، وقد مضى للآية بيان في قصة بدر .
والقمي : قال : هي منسوخة بقوله : ( ولا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون ) ، ونزلت هذه الآية ( وإن جنحوا ) قبل نزول : ( يسألونك عن الأنفال ) وقبل الحرب ، وقد كتبت في آخر السورة بعد انقضاء أخبار بدر .
وفي الكافي ، والعياشي : عن الصادق عليه السلام أنه سئل ما السلم ؟ قال : الدخول في أمرنا . وتوكل على الله : ولا تخف من خديعتهم ومكرهم ، فإن الله عاصمك وكافيك منهم . إنه هو السميع : لأقوالهم . العليم : بنياتهم .
(62) وإن يريدوا أن يخدعوك : في الصلح بأن يقصدوا به دفع أصحابك عن القتال حتى يقوى أمرهم فيبدوكم به من غير استعداد منكم . فإن حسبك الله : محسبك الله .
القمي : عن الباقر عليه السلام هؤلاء قوم كانوا معه من قريش . هو الذى أيدك : قواك . بنصره وبالمؤمنين .
(63) وألف بين قلوبهم : حتى صاروا متحابين متوادين بعد ما كان بينهم من
( 313 )
التضاغن والتحارب .
في المجمع ، والقمي : عن الباقر عليه السلام هم الأنصار ، وهم الأوس والخزرج .
وزاد القمي كان بين الأوس والخزرج حرب شديد وعداوة في الجاهلية فألف الله بين قلوبهم ونصر بهم نبيه لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما آلفت بين قلوبهم : يعني تناهى عدواتهم إلى حد لو أنفق منفق في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم يقدر على الالفة والأصلاح . ولكن الله ألف بينهم : بالأسلام بقدرته البالغة ، فإنه مالك القلوب يقلبها كيف يشاء . إنه عزيز : تام القدرة والغلبة لا يعصى عليه ما يريده . حكيم : يعلم أنه كيف ينبغي أن يفعل ما يريد .
(64) يأيها النبي حسبك الله : كافيك . ومن اتبعك من المؤمنين : قيل : نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال .
(65) يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال بالغ في حثهم على القتال . إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مأتين وإن يكن منكم مأة يغلبوا ألفا من الذين كفروا : هذه عدة من الله بأن الجماعة من المؤمنين أن صبروا وغلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بتأييد الله ، وقرء تكن بالتاء . بأنهم قوم لا يفقهون : بسبب أن الكفار جهلة بالله واليوم الآخر ، يقاتلون على غير احتساب الثواب ، ولا يثبتون ثبات المؤمنين الراجين لعلو الدرجات .
(66) الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا : وقريء بفتح الضاد . فإن يكن منكم مأة صابرة : وقريء تكن بالتاء . يغلبوا مأتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله : هذه الآية ناسخة لما قبلها .
في الكافي : عن الصادق عليه السلام في حديث طويل ذكر فيه هذه الاية فقال : نسخ الرجلان العشرة .
والعياشي : عن أمير المؤمنين عليه السلام من فر من رجلين في القتال [ من الزحف فقد ] فر من الزحف ، ومن فر من ثلاثة رجال في القتال من الزحف فلم يفر .
( 314 )
والقمي : ما يقرب من معنى الحديثين . قيل : كان فيهم قلة أولا . فامروا بذلك ، ثم لما كثروا خفف الله عنهم . والله مع الصابرين : بالنصر والمعونة فلا محالة يغلبون .
(67) ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض : يكثر القتل ويبالغ فيه ، حتى يذل الكفر ويقل حزبه ، ويعز الأسلام ويستولي أهله ، من أثخنه المرض إذا أثقله . تريدون عرض الدنيا : حطامها بأخذ الفداء . والله يريد الآخرة : يريد لكم ثواب الآخرة . والله عزيز : يغلب أولياءه على أعدائه . حكيم : يعلم ما يليق بكل حال ويخصه بها . قيل : كان هذا يوم بدر فلما كثر المسلمون نزل : ( فإما منا بعد وإما فداء ) ، وقد مضى لهذه الآية وما بعدها بيان في قصة بدر .
(68) لولا كتاب من الله سبق أي حكم منه سبق إثباته في اللوح بإباحة الغنائم لكم لمسكم : لنالكم . فيما أخذتم : فيما استحللتم قبل الأباحة من الفداء . عذاب عظيم .
(69) فكلوا مما غنمتم : من الفدية . حلالا طيبا واتقوا الله : في مخالفته . إن الله غفور : غفر لكم ذنبكم . رحيم : أباح لكم ما أخذتم .
(70) يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى : وقريء الاسارى . إن يعلم الله في قلوبكم خيرا : خلوص عقيدة ، وصحة نية في الأيمان . يؤتكم خيرا مما أخذ منكم : من الفداء . ويغفر لكم والله غفور رحيم : قد مضى لهذه الآية بيان في قصة بدر .
وفي الكافي والعياشي : عن الصادق عليه السلام إنها نزلت في العباس ، وعقيل ، ونوفل .
وقال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نهى يوم بدر أن يقتل أحد من بني هاشم وأبو البختري فأسروا فأرسل عليا عليه السلام فقال : انظر من هيهنا من بني هاشم ، قال : فمر علي عليه السلام على عقيل بن أبي طالب فحاد عنه ، [ حار خ ل ] عنه فقال له عقيل : يا ابن أم علي أما والله لقد رأيت مكاني ، قال : فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : هذا أبو الفضل في يد فلان ، وهذا عقيل في يد فلان ، وهذا نوفل
( 315 )
ابن الحرث في يد فلان ، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : حتى انتهى إلى عقيل فقال له يا أبا يزيد قتل أبو جهل ، فقال : إذا لا تنازعون في تهامة ، فقال إن كنتم أثخنتم القوم ، وإلا فاركبوا أكتافهم ، قال : فجيء بالعباس فقيل له : افد نفسك وافد ابني أخيك ، فقال : يا محمد تتركني أسأل قريشا في كفي ، قال : أعط ما خلفت عند أم الفضل وقلت لها إن أصابني في وجهي هذا شيء فأنفقيه على ولدك ونفسك ، فقال له : يا ابن أخي من أخبرك بهذا فقال : أتاني به جبرئيل من عند الله ، فقال : ومحلوفه ما علم بهذا أحد إلا أنا وهي ، أشهد أنك لرسول الله ، قال : فرجع الاسرى كلهم مشركين إلا العباس ، وعقيل ، ونوفل ، وفيهم نزلت هذه الآية ( قل لمن في أيديكم من الأسرى ) الآية .
في قرب الأسناد : عن السجاد قال : أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمأتي درهم ، فقال : يا عباس أبسط رداءك وخذ من هذا المال طرفا فبسط رداءه فأخذ منه طائفة ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هذا من الذي قال الله : ( إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ) الآية .
والعياشي : عن الصادق عليه السلام مثله .
(71) وإن يريدوا خيانتك : نقض ما عاهدوك . فقد خانوا الله بالكفر من قبل
القمي : وإن يريدوا خيانتك في علي فقد خانوا الله من قبل فيك ، كما مضى في قصة بدر . فأمكن منهم : فأمكنك منهم يوم بدر ، فإن أعادوا الخيانة فسيمكن منهم . والله عليم حكيم .
(72) إن الذين آمنوا وهاجروا : فارقوا أوطانهم وقومهم حبا لله ولرسوله ، وهم المهاجرون من مكة إلى المدينة . وجاهدوا بأموالهم : فصرفوها . وأنفسهم : فبذلوها . في سبيل الله والذين آووا ونصروا : والذين أووهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم ، وهم الأنصار . أولئك بعضهم أولياء بعض : أي يتولى بعضهم بعضا في الميراث .
القمي : لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة آخى بين المهاجرين والمهاجرين ، وبين الأنصار والأنصار ، وبين المهاجرين والأنصار ، وكان إذا مات
( 316 )
الرجل يرثه أخوه في الدين ، ويأخذ المال ، وكان له ما ترك دون ورثته ، فلما كان بعد بدر أنزل الله : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) ، الآية ، فنسخت أية الأخوة ( بعضهم أولى ببعض ) .
وفي المجمع : عن الباقر عليه السلام إنهم كانوا يتوارثون بالمؤاخاة الأولى دون التقارب حتى نسخ ذلك بقوله : ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ) . والذين ءامنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا : أي من توليهم في الميراث ، وقريء ولايتهم بالكسر تشبيها لها بالعمل والصناعة ، كالكتابة والأمارة كأنه بتولية صاحبه يزاول عملا .
العياشي : عنهما عليهما السلام أن أهل مكة لا يولون أهل المدينة . وإن استنصروكم في الدين : قيل : معناه وإن طلب المؤمنون الذين لم يهاجرون منكم النصرة لهم على الكفار . فعليكم النصر : لهم . إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق : فلا يجوز لكم نصركم عليهم . والله بما تعملون بصير .
(73) والذين كفروا بعضهم أولياء بعض نهي المسلمون عن موالاة الكفار ومعاونتهم وإن كانوا أقارب ، وأوجب أن يتركوا يتولى بعضهم بعضا . إلا تفعلوه : لا تفعلوا ما أمرتم به من التواصل بينكم ، وتولي بعضكم بعضا حتى في التوارث تفضيلا لنسبة الأسلام على نسبة القرابة ، ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار . تكن فتنة في الأرض وفساد كبير : تحصل فيها فتنة عظيمة ومفسدة كبيرة لأن المسلمين ما لم يكونوا يدا واحدة على أهل الشرك كان الشرك ظاهرا وتجرأ أهله على أهل الأسلام ودعوهم إلى الكفر .
(74) والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا : لأنهم حققوا إيمانهم بالهجرة والنصرة والأنسلاخ من الأهل والمال والنفس لأجل الدين . لهم مغفرة ورزق كريم : لا تبعة له ولا منة فيه .
(75) والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم : يريد اللاحقين بعد السابقين كقوله : ( والذين جاؤا من بعدهم ) . فأولئك منكم : أي من جملتكم أيها المهاجرون
( 317 )
والأنصار ، وحكمهم حكمكم في وجوب موالاتهم ونصرتهم وإن تأخر إيمانهم وهجرتهم . وأولوا الأرحام : وأولوا القربات . بعضهم أولى ببعض : بعضهم أولى بميراث بعض من بعض ، ومن غيرهم ، وهو نسخ للتوارث بالهجرة ، والنصرة كما سبق بيانه . في كتاب الله : في حكمه المكتوب ، وفيه دلالة على أن من كان أقرب إلى الميت في النسب كان أولى بالميراث .
وفي الكافي : عن الصادق عليه السلام كان علي عليه السلام إذا مات مولى له وترك قرابته لم يأخذ من ميراثه شيئا ، ويقول : ( أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ) .
والقمي : قال : هذه الآية نسخت قوله : ( والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ) .
وفي الكافي : عن الصادق عليه السلام لا تعود الأمامة في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام أبدا ، إنما جرت من علي بن الحسين عليهما السلام كما قال الله : ( واولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) ، فلا يكون بعد علي بن الحسين عليهما السلام ، إلا في الأعقاب وأعقاب الأعقاب إن الله بكل شيء عليم : من المواريث وغيرها ، وبالحكمة في إناطتها بنسبة الأسلام والمظاهرة (1) أولا واعتبار القرابة ثانيا إلى غير ذلك .
وذكر ثواب قراءة هذه السورة يأتي في آخر سورة التوبة إن شاء الله تعالى والله العالم .
____________
(1) المظاهرة المطابقة والمعاضدة والمعاونة والمساعدة وأصله من ترادف الظهرين والصاق أحدهما بالآخر واعتماده عليه .