أبـو ذَرّ وَالـتّـشيُّـع

من هذا المنطلق الواضح ، يمكننا القول بأن التشيع ليس مذهبا طارئا على الاسلام ، أو فكرة دخيلة عليه ، بل هو من صميم الاسلام ، وأصل من أصوله . نشأ في عهد النبي الأعظم ، وبايعاز منه صلوات الله عليه . فهو الذي بذر هذه البذرة المباركة وتعاهدها بنفسه .
والمهم لدينا الآن ، هو الوصول الى ما نريده من هذه الحقيقة ، الهامة ، وهو التحدث عن تشيع أبي ذر الصحابي العظيم ( رض ) . وغيره من الصحابة . . وما علينا في هذا الحال إلا أن نسرد بعض النصوص التأريخية المتضمنة لذلك .
قال أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني :
إن لفظ الشيعة على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) كان لقب أربعة من الصحابة . . سلمان الفارسي ، وأبي ذر الغفاري ، والمقداد بن الأسود الكندي ، وعمار بن ياسر (1) . .
وقال الشيخ المفيد رحمه الله ، في بيان إمامة أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) .
فاختلفت الأمة في إمامته يوم وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،
____________
1 ـ الشيعة وفنون الاسلام / 31 .
(55)

فقالت شيعته ، وهم : بنو هاشم كافة ، وسلمان ، وعمار ، وأبو ذر (1) . . الخ .
وقال اليعقوبي ، حول الموضوع ذاته :
وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ، ومالوا مع علي بن أبي طالب . منهم : العباس بن عبد المطلب ، الى أن قال : وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر (2) . . الخ ما ذكره .
وقال الكشي عنه : وهو الهاتف بفضائل أمير المؤمنين عليه السلام ، ووصي رسول الله واستخلافه إياه (3) . .
وجاء في سيرة الأئمة الإثني عشر ، حول الموضوع ذاته :
« واحتج عليهم سلمان الفارسي ، وأبو ذر ، وعمار ، والمقداد ، وغيرهم من وجوه الصحابة (4) . .
وجاء في كتاب أصل الشيعة وأصولها ، في ذكر طبقات الشيعة :
الطبقة الأولى : وهم أعيان الصحابة ، وأبرارهم ، كسلمان المحمدي ـ أو الفارسي ـ وأبي ذر ، والمقداد وعمار ، وخزيمة ذي الشهادتين ، وابن التيهان ، وحذيفة بن اليمان ، والزبير ، والفضل بن العباس ، وأخيه الحبر عبد الله ، وهاشم بن عتبة المرقال ، وابي ايوب الأنصاري ، وأبان وأخيه خالد ـ ابني سعيد العاص ، الأمويين ـ وأبي بن كعب سيد القراء . وانس بن الحرث بن نبيه ، الذي سمع النبي ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) يقول : أن ابني الحسين ( عليه
____________
1 ـ الارشاد / 10 .
2 ـ تاريخ اليعقوبي 2 / 124 .
3 ـ معجم رجال الحديث 4 / 168 .
4 ـ سيرة الأئمة 1 / 295 .

(56)

السلام ) يقتل في أرض يقال لها : كربلاء فمن شهد ذلك منكم ، فلينصره . فخرج أنس ، وقتل مع الحسين عليه السلام ( راجع الإصابة والاستيعاب ) .
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى : ولو أردت أن أعد عليك الشيعة من الصحابة ، واثبات تشيعهم من كتب السنة ، لأحوجني ذلك الى إفراد كتاب ضخم (1) .
الى غير ذلك من النصوص والأخبار ، التي تصرح بتشيع أبي ذر ( رض ) وغيره من الصحابة لعلي ( عليه السلام ) وآل البيت الطاهر تشيعاً ليس عاطفياً يقتصر على حبهم فحسب ، بل تشيعاً مبدئياً ، ينادي بأحقية علي عليه السلام في الخلافة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) بلا فصل . استناداً الى ما سمعه هو ، وبقية الصحابة منه ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) في ذلك ، كحديث الغدير المتقدم وأمثاله .
فقد كان أبو ذر رضي الله عنه ، ممن ثبت على هذا المبدأ ، فنافح عنه ، ودافع على أكثر من جبهة ، وفي عدة مواطن ، ودعا المسلمين اليه بكل جرأة وصراحة ، حتى آخر لحظة من حياته . ففي مكة ، كان لسانه يلهج بذلك ، وفي المدينة ، كما في الشام ، وحتى في منفاه الأخير في الربذة ، لم يتوان ، ولم يتلكأ في تأدية الأمانة .
وفي مكة المكرمة ، وحول البيت العتيق ، مهوى قلوب الملايين من المسلمين ومركز تجمعهم في كل عام ، كان أبو ذر يغتنم الفرصة ، فيدعو المسلمين ، ليحدثهم بما سمع عن رسول الله ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) في حق أهل البيت بصورة عامة ، وعلي عليه السلام بصورة خاصة .
فمن ذلك ، ما رواه الجويني بسنده ، عن عباية بن ربعي ، قال :
____________
1 ـ أصل الشيعة وأصولها / 86 .
(57)

بينما عبد الله بن عباس ، جالس على شفير زمزم ( يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) ، اذ أقبل رجل متعمم بعمامة . ) فجعل ابن عباس لا يقول ، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، إلا قال الرجل : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
فقال ابن عباس : سألتك بالله ، من أنت ؟
قال : فكشف العمامة عن وجهه ، وقال : يا أيها الناس من عرفني ، فقد عرفني ، ومن لم يعرفني ، فأنا جندب ابن جنادة البدري ، أبو ذر الغفاري ، سمعت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهاتين ، وإلا فصمَّتا ، ورأيته بهاتين ، وإلا فعميتا .
يقول : علي قائد البررة ، وقاتل الكفرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله .
أما اني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوماً من الأيام صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد ، فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده الى السماء وقال : ( اللهم ) إشهد اني سألت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يعطني أحد شيئا ، وعلي عليه السلام كان راكعا ، فأومأ بخنصره اليمنى ـ وكان يتختم فيها ـ فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من صلاته ، رفع رأسه الى السماء ، وقال :
اللهم إن أخي موسى سألك فقال : « رَبِّ اشرح لي صدري ويسِّر لي أمري وأحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعَل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به ازري وأشرِكه في أمري » (1) ، فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً
____________
1 ـ مقتبس من آية 25 ـ 32 / طه .
(58)

« سَنَـشُدُّ عَضُـدَك بأخيك ونَجعل لكما سُلطاناً فلا يَصِلونَ اليكما » (1) اللهم ، وأنا محمد نبيك وصفيك ، اللهم اشرح لي صدري ، ويسر لي أمري ، واجعل لي وزيراً من أهلي ، علياً أخي ، أشدد به ظهري . *
قال أبو ذر : فوالله ، ما استتم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الكلمة ، حتى نزل عليه جبرئيل من عند الله ، فقال :
يا محمد إقرأ « إنما ولِـيُّـكُم الله ورَسولُه والذين آمنوا الذِين يُقيمون الصَلاةَ ويُؤتونَ ألأزَكاة وهم راكِعُون »(2) .
وروى الجويني أيضا بسنده الى الحافظ ابي بكر ، بسنده عن كديرة الهجري .
قال : إن أبا ذر أسند ظهره الى الكعبة ، فقال :
أيها الناس ، هلموا أحدثكم عن نبيكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم . سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) يقول لعلي ثلاثاً . لئن يكون قال لي واحدة منهن ، أحب الي من الدنيا وما فيها .
سمعت رسول الله يقول لعلي ( عليه السلام ) : اللهم أعنه واستعن به ، اللهم انصره وانتصر به ، فانه عبدك وأخو رسولك(3) .
وفي المستدرك ، عن حنش الكناني ، أنه قال :
سمعت أبا ذر يقول ـ وهو آخذ بباب الكعبة ـ : أيها الناس ، من
____________
1 ـ من آية 34 / القصص .
* وفي شواهد التنزيل : اشدد به أزري .
2 ـ فرائد السمطين 1 / 191 / 192 .
3 ـ نفس المصدر ص 68 .

(59)

عرفني ، فأنا من عرفتم ، ومن أنكرني ، فأنا أبو ذر ، سمعت رسول الله يقول :
ألا إن مثل أهل بيتي فيكم ، مثل سفينة نوح من قومه ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق (1) .
وفي المدينة ، عاصمة العالم الاسلامي ، ومقر الخلافة ، كان رضي الله عنه يقوم بنفس الدور ، على الرغم من المراقبة الشديدة المفروضة من قبل الأمويين ودعاتهم في ذلك الوقت .
قال اليعقوبي في تأريخه :
« وبلغ عثمان أن أبا ذر ، يقعد في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) ويجتمع اليه الناس ، فيحدث بما فيه الطعن عليه ، وأنه وقف بباب المسجد ، فقال :
أيها الناس ، من عرفني ، فقد عرفني ، ومن لم يعرفني ، فأنا أبو ذر الغفاري ، جندب بن جنادة الربذي : إن الله إصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم ، وآل عمران على العالمين . ذرية بعضها من بعض ، والله سميع عليم . محمد الصفوة من نوح ، فالأول من إبراهيم ، والسلالة من إسماعيل ، والعترة الهادية من محمد . إنه شرف شريفهم واستحقوا الفضل في قوم ( قومهم ) هم فينا كالسماء المرفوعة ، وكالكعبة المستورة ، أو كالقبلة المنصوبة ، أو كالشمس الضاحية ، أو كالقمر الساري ، أو كالنجوم الهادية ( أو كالشجرة الزيتونة ) أضاء زيتها ، وبورك زبدها . ومحمد وارث علم آدم ، وما فضل به النبيون ، وعلي بن أبي طالب وصي محمد ووارث علمه .
أيتها الأمة المتحيرة ، أما لو قدمتم من قدَّم الله ، وأخرتم من أخَّر
____________
1 ـ المستدرك / 3 / 150 ـ 151 .
(60)

الله وأقررتم الوالية والوراثة في أهل بيت نبيكم ، لأكلتم من فوق رؤوسكم ، ومن تحت أقدامكم ، ولما عال ولي الله ، ولا طاش سهم من فرائض الله ، ولا اختلف إثنان في حكم الله ، إلا وجدتم علم ذلك عندهم ، من كتاب الله وسنة نبيِّه ، فأما اذا فعلتم ما فعلتم ، فذوقوا وبال أمركم ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (1). .
وفي الشام ، كان أبو ذر يسلك نفس المسلك مع من يجتمع اليه من الناس ويحدثهم بمثل ذلك .
قال اليعقوبي : وكان يجلس في المسجد ـ يعني في الشام ـ فيقول كما كان يقول ( في المدينة ) ويجتمع اليه الناس ، حتى كثر من يجتمع اليه ، ويسمع منه(1) .
وحتى في الربذة ، منفاه الموحش المقفر ، لم تصرفه آلامه وهمومه ، ولا ما هو فيه من الاغتراب عن مواطن الايمان والجهاد ، والأصحاب الأخلاء . لم يصرفه ذلك ولم يشغله عن اكمال مسيرته التي بدأت خطاها في عهد النبي ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) فظل متمسكا بمبدأه هذا ، منادياً به حين تمكنه الفرصة من ذلك ، فرصة اللقاء بمن يستمع اليه ، ويأخذ منه .
في شرح النهج ، عن أبي رافع ، قال :
أتيت أبا ذر بالربذة ، أودعه . فلما أردت الانصراف ، قال لي ، ولأناس معي : ستكون فتنة ، فاتقوا الله ، وعليكم بالشيخ : علي بن أبي طالب ، فاتبعوه .
والحق أن موقف أبي ذر من مبدأ التشيع ، كان موقفاً مثالياً يجسم لنا كل معاني الثبات والصمود ، فما كان لتلين له عريكة فيه ، ولا لتميل له
____________
1 ـ تأريخ اليعقوبي 2 / 172 .
(61)

قناة ، لقد كان صلباً قوياً ، متفانياً في سبيل ذلك . وكأنه في موقفه هذا ، يفسر لنا بيعته لرسول الله ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) .
أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، وأن يقول الحق ولو كان مرا .!
عن معاوية بن ثعلبة الليثي قال :
مرض أبو ذر ، فأوصى الى علي ( عليه السلام ) .
فقال بعض من يعوده : لو أوصيت الى أمير المؤمنين عثمان ، كان أجمل لوصيتك من علي .
قال : والله لقد أوصيت الى أمير المؤمنين ، حق أمير المؤمنين ! والله أنه للربيع الذي يسكن اليه ، ولو قد فارقكم . لقد انكرتم الناس وانكرتم الأرض .
قال : قلت : يا أبا ذر ، انا لنعلم أن أحبهم الى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحبهم اليك !
قال : أجل !
قلنا : فأيهم أحب اليك ؟
قال : هذا الشيخ المظلوم ، المضطهد حقه ! يعني علي بن أبي طالب . (1)
____________
1 ـ أعيان الشيعة 16 / 332 .
(62)



(63)

إقـامتـهُ في بِلاَد الشَّـام



(64)



(65)

إقـامتـُه في بِلاَد الشَّـام

حين نقرأ سيرة أبي ذر في الكتب التأريخية وغيرها ، نجد أنفسنا أمام صورة غير واضحة لهذا الصحابي العظيم ، فنجد شيئا من الغموض يكاد يكتنف حياته . ولعل مردّ ذلك يعود الى نوع من التعتيم الاعلامي ، فرض على مسار هذه الشخصية .
فمثلا . نجد بعض المؤرخين ، كالطبري ، وابن الأثير ، قد أهملوا التفصيل في كيفية نفي أبي ذر الى المدينة ، فالربذة ، كما أهملوا ذكر النزاع الذي جرى بينه وبين عثمان .
ونجد : البعض الآخر يحاول الدفاع عن عثمان ، فيذهب الى القول : بأن أبا ذر نزل الربذة بمحض اختياره .
والبعض الآخر ، يؤكد نفي أبي ذر الى الشام أوّلا ، ثم الى المدينة ، ثم الى الربذة .
ونحن بدورنا ، نريد التثبت من الحقائق حول هذا الامر ، عن طريق الاستعانة ببعض الروايات ، والنصوص التأريخية ، والابتعاد عمَّا تمليه العاطفة والحساسيات الخاصة .


(66)

والذي وجدته ـ بعد التأمل والتدقيق ـ أن أبا ذر كان قد أقام في الشام مدة طويلة ، ربما نافت على العشرة سنوات . تسنى له من خلالها نشر مذهبه في التشيع لعلي وأهل البيت عليهم السلام .
وعليّ الآن ، أن أعرض للقارئ كلمات بعض المؤرخين والباحثين ، الذين ذهبوا الى القول : بأن أبا ذر أُخرج الى الشام منفيَّاً ، ليتسنى له المقارنة بينها وبين النصوص الاخرى التي تؤكد خلاف ذلك .
قال أبن أبي الحديد في شرح النهج :
« واعلم : أن الذي عليه اكثر أرباب السيرة ، وعلماء الاخبار والنقل ، أن عثمان نفى أبا ذر أوّلا الى الشام ، ثم استقدمه الى المدينة لمَّا شكا منه معاوية ، ثم نفاه من المدينة الى الربذة ، لما عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام » (1) .
وقال السيد المرتضى رحمه الله تعالى :
« بل المعروف والظاهر ، أنه نفاه أوّلا الى الشام ، ثم استقدمه الى المدينة لما شكا منه معاوية ، ثم نفاه من المدينة الى الربذة . . » (2) .
وقال السيد الامين رحمه الله :
« وما كان أبو ذر ليترك المدينة ، مهاجر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ومسجده ، ومجاورة قبره ، اختيار ، ويذهب الى الشام ، فيجاور بني أميَّة ، وانما خرج الى الشام منفياً » (3) .
____________
1 ـ شرح النهج 8 / 255 ـ 256 .
2 ـ اعيان الشيعة 16 / 363 .
3 ـ نفس المصدر / 353 / 354 .

(67)

الى غير ذلك من أقوال غيرهم ، التي تفيد الشهرة حول هذا الامر ، والشهرة في هذا المقام لا تغني من الحق شيئاً ، فرب مشهور لا أصل له ، سيما اذا قام الدليل على خلافه .
والآن نعرض للقارئ بعض النصوص الاخرى ، نضعها بين يديه للتأكد مما نرمي اليه ، من القول : بأن إقامة أبي ذر في الشام كانت طويلة جدا ، وكانت بادئ الامر بمحض اختياره ورغبته ، وكامل حريته ، إلا أن حريته في الذهاب الى المدينة المنورة ، ومجاورة قبر الرسول ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) متى شاء ، أصبحت مقيدة آخر الامر بسبب ما جرى بينه وبين عثمان .
قال في الاستيعاب :
« بعد أن أسلم أبو ذر ، رجع الى بلاد قومه ، فأقام بها حتى مضت بدر ، وأحد ، والخندق ، ثم قدم على النبي ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) المدينة ، فصحبه الى أن مات صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
ثم خرج بعد وفاة أبي بكر الى الشام ، فلم يزل بها حتى ولي عثمان ، ثم استقدمه عثمان لشكوى معاوية ، فنفاه وأسكنه الربذة ، فمات بها . . » (1) .
وهنا ، يحق لنا التساؤل :
ما هو المبرر لرفض هذه الرواية . ؟ مع أن هناك الشواهد الكثيرة على صحة مضمونها !؟
إن رفض هذه الرواية ، لا مبرر له ، فأي مانع من أن يكون أبو ذر ، قد أقام في الشام بمحض اختياره ، إن لم نقل بأنه كان يتعرض لمضايقات معينة
____________
1 ـ الاستيعاب ( حاشية على كتاب الاصابة ) م 1 ص 213 .
(68)

ـ نظرا لجرأته وصراحته ـ دفعت به الى الاقامة فيها أثناء خلافة عمر بن الخطاب .
إن من يتتبع سيرة أبي ذر ، يجد أن هذه الشخصية الفريدة ، يكتنف مسارها الغموض والتعتيم من الفترة ما بين خلافة عمر الى خلافة عثمان ، فلا حديث ، ولا رواية ، ولا أي شيء يتعلق به في تلك الفترة ، ! مع كونه من المبرزين الأول في الاسلام ، دينا ، وفضلا ، وعلما ، فهو لم يكن مسلما عاديا يقرن بعامة المسلمين ، بل كان من خيرة خيرتهم ، ممن نوَّه رسول الله ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) بفضلهم ، وممن حازوا قصب السبق في مجالي الدين والعلم ، ويكفي قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيه : « ما تقل الغبراء ، ولا تظل الخضراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر ، شبيه عيسى بن مريم » (1) .
وحديث علي عليه السلام فيه : « وعاء ملىء علما ، ثم أوكأ عليه » (2) .
إن التعتيم الاعلامي على مسار أبي ذر ( رض ) في تلك الفترة ، ربما لم يكن مقصودا ، ولكنه يؤكد تأكيدا كاملا على أنه كان بعيدا عن مركز الخلافة ، أعني : المدينة المنورة ـ عاصمة العالم الاسلامي ـ آنذاك .
كما أنه لم يكن في تلك الفترة في موطنه الاصلي ، أعني منازل قومه بني غفار ، لأن النصوص لا تشير الى ذلك البتة .
اذن : أين كان أبو ذر في تلك الفترة ؟ .
الشواهد التأريخية كلها ساكتة عن وجوده في أي بلد ، ما عدا الشام .
____________
1 ـ المستدرك مع التلخيص م 3 / 342 .
2 ـ الغدير 8 / 311 نقلا عن أسد الغابة 5 / 186 وشرح الجامع الصغير 5 / 423 وفي الاصابة / 4 ص 64 .
* الوكاء ـ ما يشد به الكيس ، والمقصود هنا ربما يكون هو أن علم أبي ذر مما لا يطيقه الناس ولا تتحمله عقولهم فلذلك أخفاه عنهم .

(69)

نعم : كان أبو ذر رضي الله عنه في تلك الفترة ، قد اتخذ الشام وجوارها مقرا له ، وقد كان يقوم بدوره الرسالي فيها على أكمل وجه . هذا ما يستفاد من بقية النصوص والروايات في هذا الصدد .
جاء في رواية البلاذري :
« وقال عثمان يوما : أيجوز للامام أن يأخذ من المال ؟ فاذا أيسر قضى ؟
فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك .
فقال أبو ذر : يابن اليهوديين ، أتعلمنا ديننا ! ؟
فقال عثمان : ما أكثر أذاك لي ، وأولعك بأصحابي ! ؟ إلحق بمكتبك ! وكان مكتبه بالشام ، إلا أنه كان يقدم حاجا ، ويسأل عثمان الإذن له في مجاورة قبر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فيأذن له في ذلك . . » (1) .
وكلمة « مكتب » هنا ، تعني : مركز تجمع كتائب الجيش الاسلامي ، والرواية صريحة في كون إقامته بالشام لم تكن قسرا .
ويؤيدها ، ما جاء في تأريخ ابن الأثير ، قال في حوادث سنة 23 :
« وفيها غزا معاوية الصائفة ( الروم ) ومعه عبَّادة بن الصامت ، وأبو أيوب الأنصاري ، وأبو ذر . . »
وقال في حوادث سنة 28 :
« كان فتح قبرس على يد معاوية . . الى أن قال : ولما غزا معاوية هذه السنة ، غزا معه جماعة من الصحابة ، فيهم أبو ذر . . » (2) الخ .
____________
1 ـ الغدير 8 / 293 نقلا عن الانساب 5 / 52 / 54 .
2 ـ الكامل 3 / 77 و 95 .

(70)

وجاء في كلام ابن بطال :
« وكان في جيشة ـ يعني معاوية ـ ميل الى أبي ذر ، فأقدمه عثمان حشية الفتنة » (1) .
وجاء في رواية الواقدي :
« إن أبا الأسود الدؤلي قال : كنت أحب لقاء أبي ذر ، لأسأله عن سبب خروجه الى الربذة ، فجئته ، فقلت له :
ألا تخبرني ، أخرجت من المدينة طائعا ؟ أم أخرجت كرها ؟
فقال : كنت في ثغر من ثغور المسلمين ، أغني عنهم ، فأخرجت الى المدينة ، فقلت دار هجرتي وأصحابي ، فأخرجت من المدينة الى ما ترى ! » (2)
والثغر الذي عناه ، هو بلاد الشام بالطبع . ويلاحظ هنا ، أنه لم يقل أخرجت الى ثغر من ثغور المسلمين ، أو اخرجت الى الشام . بينما قال : أخرجت الى المدينة ، ثم قال : فأخرجت الى ما ترى ـ يعني البرذة ـ مما يدل على أنه كان مختارا ، أو مرتاحا ـ على الأقل ـ في اقامته بالشام .
وجاء في رواية ثانية للواقدي :
« فقال عثمان : أخرج عنا من بلادنا !
فقال أبو ذر : ما أبغض الي جوارك ، فالى أين أخرج ؟
قال : حيث شئت !
قال : أخرج الى الشام ، أرض الجهاد ؟ !
____________
1 ـ الغدير 8 / 325 عن عمدة القارئ للعيني 4 / 291 .
2 ـ شرح النهج 80 / 360 .

(71)

قال : انما جلبتك من الشام ، لما قد أفسدتها ، أفأردك اليها !؟ » (1)
إن هذه الروايات ، تعطينا الدليل الكافي ، بل القاطع ، على أن اقامة أبي ذر في الشام لم تكن جبرية ، ولم يكن مكرها فيها ، كما لم تكن قصيرة تقاس بالأشهر .
ولا يعني هذا ، أنه في خلال اقامته تلك ، كان قد انقطع عن زيارة مدينة الرسول ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) فمما لا شك فيه أن أبي ذر لا يفوته الحج الى بيت الله الحرام في كل عام ، كما لا تفوته زيارة قبر الرسول ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) ومجاورته ، ومن ثمَّ اللقاء بالصحابة ، وزيارة دار الخلافة ، والنظر في شئون المسلمين .
من هنا ، يمكننا الركون ـ بكل بساطة ـ الى القول بأن ما جرى بينه وبين عثمان بادئ الامر ، من النقاشات الكلامية الحادة ، لم يكن سببا في نفيه الى الشام ـ كما يتصور ـ بل كان في أغلب الاحيان ، سببا في تعجيل رجوعه الى الشام ، وتقييدا لحريته في الاقامة بالمدينة متى شاء ، وكيف أراد .
وبهذا يتضح وهن الرأي القائل بأن عثمان نفاه الى الشام ، هذا الرأي الذي يهدف ـ غالبا ـ الى إضفاء صبغة مأساوية ، تضاف الى مأساة أبي ذر الحقيقية ، وهي نفيه ( الى المدينة ، ومن ثم الى الربذة ) .
بعد هذا العرض ، ننتقل الى حقيقة تأريخية هامة ، تتصل بسيرة هذا الصحابي العظيم ، ومكوثه في بلاد الشام هذه المدة الطويلة ، وقيامه بدوره الرسالي على أكمل وجه . تلك هي : صلته بنشأة التشيع في جبل عامل ، وهذا ما سنعرضه في الفصل التالي :
____________
1 ـ المصدر السابق .