بذور الثورة


وعلى ضوء ما ذكرنا بدأ القلق يساور المسلمين من جراء تلك السياسة ، فهم يرون الخلافة وقد أخذت تجنح نحو المنحدر الخطير ، نحو الملك حيث الحكم بالمال أو السيف. فها هي بدأت تفقد هيبتها وفاعليتها وسيطرتها ، فكان لا بد لهم ـ والحال هذه ـ أن يهيئوا أنفسهم لمواجهة الأمر الواقع تفادياً لما هو أعظم وأخطر ، فأخذ كل فردٍ منهم يشعر بالمسؤولية وبضرورة معالجة الموقف قدر المستطاع.
وهذا العبئ الثقيل يلقى بالدرجة الأولى على كاهل أصحاب الأمانة ، وهم الصحابة من المهاجرين والأنصار ، فهم الذين عايشوا مسيرة الإسلام وسيرة نبيه ومن خلَفَهُ من بعده ، فقد إختاروا لأنفسهم كلمة الفصل في الظروف الصعبة واختارها لهم عامة المسلمين ، فكانت المسؤولية وكان عليهم تقرير المصير.
وبالفعل ، فإنهم لم يدخروا النصيحة فلقد بادروا إلى مصارحة الخليفة وتوجيه النقد له ولسياسته وجهاً لوجه أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة ، وكان في الطليعة عمار بن ياسر الذي كان يتمتع بنصيب وافر من الجرأة والإقدام ، والثقة من أصحاب رسول الله (ص) فاجتمع هو وبعض الصحابة ، منهم


(102)

المقداد بن عمرو وطلحة والزبير ، وكتبوا كتاباً إلى عثمان عددوا في ما أحدث وغيّر وخوفوه ربه ، وأعلموه أنهم مواثبوه إن لم يُقلع.
وقد ذكر ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ما جاء في ذلك الكتاب. فقال :
1 ـ كتبوا كتاباً ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سنة رسول الله (ص) وسنة صاحبيه.
2 ـ وما كان من هبة خُمس إفريقية لمروان ، وفيه حق الله ورسوله ، ومنهم ذوو القربى واليتامى والمساكين.
3 ـ وما كان من تطاوله في البنيان ، حتى عدوا سبع دورٍ بناها بالمدينة ، داراً لنائلة وداراً لعائشة وغيرهما من أهله وبناته.
4 ـ وبنيان مروان القصور بذي خُشب ، وعمارة الأموال بها من الخمس الواجب لله ولرسوله.
5 ـ وما كان من افشائه العمل والولايات في أهله وبني عمه من بني أمية من أحداثٍ وغلمةٍ لا صحبة لهم مع الرسول ، ولا تجربة لهم بالأمور.
6 ـ وكان من الوليد بن عقبة بالكوفة إذ صلى بهم الصبح سكراناً أربعة ركعات ثم قال لهم : إن شئتم أزيدكم ركعةً زدتكم.
7 ـ وتعطيله إقامة الحد وتأخيره ذلك عنه.
8 ـ وتركه المهاجرين والأنصار لا يستعملهم على شيئٍ ولا يستشيرهم ، واستغنى برأيه عن رأيهم.
9 ـ وما كان من الحمى الذي حمى حول المدينة.
10 ـ وما كان من إدارة القطائع والأرزاق والأعطيات على أقوام بالمدينة ليس لهم صحبة من النبي (ص) ، ثم لا يغزون ولا يذبُّون.


(103)

11 ـ وما كان من مجاوزته الخيزران إلى السوط ـ وأنه أول من ضرب بالسياط ظهور الناس ، وإنما كان ضرب الخليفتين قبله بالدِرة والخيزران.
ثم تعاهد القوم ليدفعنَّ الكتاب في يد عثمان ، وكان ممن حضر الكتاب عمار بن ياسر ، والمقداد بن الأسود ، وكانوا عشرة.
فلما خرجوا بالكتاب ليدفعوه إلى عثمان ـ والكتاب في يد عمار ـ جعلوا يتسللون عن عمار حتى بقي وحده ، فمضى حتى جاء دار عثمان فاستأذن عليه ، فأذن له في يومٍ شاتٍ ، فدخل عليه وعنده مروان بن الحكم وأهله من بني أمية ، فدفع إليه الكتاب فقرأه فقال : أنت كتبت هذا الكتاب ؟ قال : نعم ، قال : ومن كان معك ؟ قال : معي نفر تفرقوا فَرَقاً منك ! قال : ومن هم ؟ قال : أخبرك بهم. قال : فلم اجترأت عليَّ من بينهم ؟ !
فقال مروان : يا أمير المؤمنين ، هذا العبد الأسود ـ يعني عماراً ـ قد جرأ عليك الناس وأنك إن قتلته نكلتَ به من وراءه. قال عثمان : إضربوه.
فضربوه وضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه ، فغُشي عليه ، فجرّوه حتى طرحوه على باب الدار ، فأمرت به أم سلمة زوج النبي (ص) فأدخل منزلها.. الخ (1).
لقد كان المسلمون يرون في الخليفة المرشد الروحي لهم والمسؤول الأول عنهم الذي يمكن أن يضمن لهم السلامة في دينهم والسعادة في دنياهم ، وعلى هذا الأساس كانوا يتركون له كلمة الفصل في تقرير المصير فيما إذا ساءت الأيام وقست الظروف ، ويضحون بكل ما يستطيعون في سبيل إنجاح مهماته وقرارته.
أما ، وقد أمسى الخليفة وأراؤه حكرا على حفنةٍ من الأقرباء ، فهذا أمر لا يكاد يرضي أحداً من الناس سيما المخلصين منهم ، بل هو نذير شؤم يهدد سلامة الأمة.
____________
1 ـ الإمامة والسياسة 1 |.
(104)

لذلك عمدوا إلى أسلوب جديد استهدفوا من ورائه الضغط على الخليفة حيث قاموا بتأجيج الثورة الإعلامية التي انتشرت في الأمصار انتشار النار في الهشيم ، فبعد أخذٍ وردٍ استغرق وقتاً كان الخليفة يماطل من خلاله في وعوده ، اجتمعوا ووجهوا كتاباً لأهل مصر ، هذا نصه :
بسم الله الرحمن الرحيم : من المهاجرين الأولين وبقية الشورى ، إلى من بمصر من الصحابة.
أما بعد : أن تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول الله (ص) قبل أن يُسلَبَها أهلُها ، فإن كتاب الله قد بُدّل ، وسنة رسول الله (ص) قد غيّرت ، وأحكام الخليفتين قد بدلت. فننشِدُ الله من قرأ كتابنا هذا من بقية أصحاب رسول الله (ص) والتابعين بإحسان إلا أقبل إلينا ، وأخذ الحق لنا وأعطاناه ، فأقبلوا إلينا إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، وأقيموا الحق على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيكم وفارقكم عليه الخلفاء ، غُلِبنا على حقنا ، واستُولي على فيئنا ، وحِيلَ بيننا وبين أمرنا ، وكانت الخلافة بعد نبينا خلافة نبوّةٍ ورحمة ،وهي اليوم مُلكٌ عضوض ، من غلب على شيء أكله (1).
لقد كان هذا الكتاب وثيقةٍ حسيةً عبرت عما يعتمل في نفوس المسلمين من السخط والغضب لما آلت إليه الأمور من تغيير وتبديل في سير الخلافة ونهجها.
وهكذا بدأت رياح التغيير تعصف لتنتقل بالمسلمين من موقع المعارضة الهادئة إلى موقع الثورة ، بعد أن وجهوا انذاراتهم المتعددة من أقاليم متعددة ، وبعد أن صرخوا باحتجاجاتهم وصرحوا بالطلب من الخليفة أن يصلح ما أفسده عهده ، غير أن تلك الصرخات وتلك الإحتجاجات ذهبت أدراج الرياح ، حيث لم تلق أذناً صاغية بل لحقها إصرار شديد على الإِلتواء والإِنحراف ، سيما من تلك البطانة التي كانت تُحدُق بعثمان وتتحكم فيه ،
____________
1 ـ الإمامة والسياسة 1 | 38.
(105)

مما دفع بأم المؤمنين عائشة أن تحرض الناس عليه بكلمتها المشهورة : إقتلوا نعثلاً قتله الله فقد كفر (1).
وقبل مقتل عثمان بعام التقى أهل الأمصار الثلاثة ـ الكوفة والبصرة ومصر ـ بالمسجد الحرام ، فتذاكروا سيرة عثمان وتبديله ، وقالوا : لا يسعنا الرضى بهذا ، وكانوا قد اختاروا زعماء لهم يتكلمون باسمهم فاتفقوا أن يرجع كلٌّ إلى وطنه ثم يأتون في العام المقبل إلى عثمان في داره فيستمعوه ، فإن اعتذر إليهم ، وإلا رأوا رأيهم فيه.
ولما حضر الوقت خرج الأشتر مع أهل الكوفة في ألف رجل ، وحَكيم بن جبلة العبدي في مائة وخمسين من أهل البصرة ، وجاء أهل مصر في أربعمائة ، وقال ابن أبي الحديد : في ألفين ، وكان فيهم محمد بن أبي بكر ، حتى دخلوا المدينة ، فحصروا عثمان الحصار الأول ، وكتبوا إليه كتاباً ، قيل : كتبه المصريون ، جاء فيه :
« أما بعد : فاعلم أن الله لا يُغيّرُ ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسِهِم ، فالله الله ، ثم الله الله.. إلى قولهم : فاعلم أنا واللهِ للهِ نغضب ، وفي اللهِ نرضى ، وإنا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبةٌ مصرّحة ، أو ضلالة محلَّحة مبلّجة. فهذه مقالتنا لك وقضيتنا إليك ، والله عذيرنا منك. والسلام.
ثم أرسلوا بالكتاب إليه وأحاطوا هم وغيرهم بدار عثمان. فقال المغيرة بن شعبة لعثمان : دعني آتي القوم فانظر ما يريدون ! فمضى نحوهم فلما دنا منهم صاحوا به : يا أعور ! وراءك ، يا فاجر ! وراءك ، يا فاسق ! وراءك ، فرجع.
ودعا عثمان عمرو بن العاص فقال له : ائت القوم فادعُهم إلى كتاب الله والعتبى مما ساءهم.
____________
1 ـ وردت هذه العبارة بطرق وتراكيب مختلفة. راجع الغدير 9 | 79 وما بعدها.
(106)

فلما دنا منهم سلّم ، فقالوا : لا سلّم الله عليك ! إرجع يا عدو الله ؛ إرجع يا بن النابغة ! فلست عندنا بأمين ولا مأمون !
فقال له ابن عمر وغيره ليس لهم إلا عليّ بن أبي طالب. فلما أتاه قال : يا أبا الحسن ؛ إئت هؤلاء القوم فادعهم إلى كتاب الله وسنة نبيه.
قال : نعم ، إن أعطيتني عهد الله وميثاقه على أنك تفي لهم بكل ما أضمنه عنك. قال : نعم ، فأخذ عليٌّ عليه عهد الله وميثاقه على أوكد ما يكون وأغلظ ، وخرج إلى القوم. فقالوا : وراءك. قال : لا ، بل أمامي ، تُعطون كتاب الله ، وتُعتبون من كل ما سخطتم. فعرض عليهم ما بذل عثمان ، فقالوا : أتضمنُ ذلك عنه ؟ قال : نعم. قالوا رضينا.
وأقبل وجوههم وأشرافهم مع عليّ حتى دخلوا على عثمان وعاتبوه ، فأعتبهم من كل شيء. فقالوا : أكتب بهذا كتاباً ، فكتب.
بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب من عبد الله عثمان أمير المؤمنين لمن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين إن لكم أن أعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه ، يُعطى المحروم ، ويؤمَنُ الخائف ، ويردُّ المنفيُّ ، ولا تجمَّر (1) البعوث ، ويوفّرُ الفيئ ، وعليٌّ بن أبي طالب ضمين المؤمنين والمسلمين على عثمان بالوفاء في هذا الكتاب. ثم أشهدَ على الكتاب.
وأخذ كل قوم نسخةً منه وانصرفوا. وقال علي بن أبي طالب : أخرج فتكلم كلاماً يسمعه الناس ، ويحملونه عنك ، وأشهد الله على ما في قلبك ، فإن البلاد قد تمخَّضت عليك ، ولا تأمن أن يأتيَ ركبٌ آخر من الكوفة أو من البصرة ، أو من مصر فتقول : يا علي اركب إليهم ، فإن لم أفعل قلتَ قطع رحمي واستخفَّ بحقي.
فخرج عثمان فخطب الناس وأقرَّ بما فعل واستغفر الله منه.. فسُرّ
____________
1 ـ تجمر البعوث ، أي تحبس الجيوش في أرض العدو.
(107)

الناس بخطبته مبتهجين. ثم دخل بيته (1) .
لكن مروان بن الحكم لم يعجبه ما حدث ، فخرج إلى الناس وقال لهم ، شاهت الوجوه إلا من أريد ، إرجعوا إلى منازلكم ، فإن يكن لأمير المؤمنين حاجة بأحدٍ منكم يرسل إليه وإلا قرّ في بيته !
وبلغ علياً ذلك ، فأتى عثمان وهو مغضب وقال له في مروان : لا رضي منك إلا بإفساد دينك ، وخديعتك عن عقلك ، وإني لأراه سيوردُك ثم لا يُصدِرُك ، وما أنا بعائدٍ بعد مقامي هذا لمعاتبتك.

الحصار الثاني (2) :
لما شخص المصريون ، بعد الكتاب الذي كتبه عثمان فصاروا بأيلة ، رأوا راكباً خلفهم يريد مصر ، فقالوا له من أنت ؟ فقال : رسول أمير المؤمنين إلى عبد الله بن سعد ، وأنا غلام أمير المؤمنين. فقال بعضهم لبعض : لو أنزلناه وفتّشناه ألاّ يكون صاحبه قد كتب فينا بشيء : ففعلوا فلم يجدوا معه شيئاً. فقال بعضهم لبعض : خلّوا سبيله. فقال كنانةُ بن بشر : أما والله دونَ أن أنظر في إداوته فلا. فقالوا : سبحان الله ، أيكون كتابٌ في ماء ؟ فقال : إن للناس حيلاً. ثم حلَّ الإِداوة فإذا فيها قارورة مختومة أو قال : مضمومة في جوفِ القارورة ، كتاب في أنبوب من رصاص ، فأخرجه فقرئ فإذا فيه :
أما بعد : فإذا قدِم عليك عمرو بن بُديل فاضرب عنقه ، واقطع يدي ابن عُديس ، وكنانة وعروة ، ثم دعهم يتشحطون في دمائهم حتى يموتوا ، ثم أوثقهم على جذوع النخل.
وفي رواية ثانية : إذا أتاك محمد بن أبي بكر وفلان وفلان فاحتل لقتلهم وأبطل كتاب محمد وقر على عملك حتى يأتيك رأيي واحبس من يجيء إلي
____________
1 ـ راجع الغدير 9 | 171 من مصادر ومراجع عدة.
2 ـ راجع كتاب الغدير 9 | 177 وقد أخذها من مصادر ومراجع عدة وقد اختصرتها وأخذت حاجتنا منها.

(108)

متظلماً منك إن شاء الله.
فلما قرأوا الكتاب فزعوا وغضبوا ورجعوا إلى المدينة ، فجمعوا علياً وطلحة والزبير وسعداً ومن كان من أصحاب النبي (ص) ثم فكّوا الكتاب بمحضرٍ منهم وأخبروهم بقصة الغلام وأقرأوهم الكتاب ، فلم يبق أحد من أهل المدينة إلا حنق على عثمان ، وزاد ذلك من كان غضِبَ لابن مسعود وعمار بن ياسر وأبي ذر حنقاً وغيظاً ، وقام أصحاب النبي (ص) بمنازلهم ما منهم أحدٌ إلا وهو مغتم لما في الكتاب.
وحاصر الناس عثمان ، وأجلب عليه محمد بن أبي بكر ببني تيم وغيرهم ، وأعانه على ذلك طلحة بن عبيد الله ، وكانت عائشة تقرصه كثيراً ، ودخل علي وطلحة والزبير وسعد وعمار في نفرٍ من أصحاب محمد (ص) كلهم بدريٌّ على عثمان ، ومع علي الكتاب والغلام والبعير ، فقال له علي : هذا الغلام غلامك ؟ قال : نعم. قال : والبعير بعيرك ؟ قال : نعم. قال : وأنت كتبت هذا الكتاب ؟ قال : لا ، وحلف بالله : ما كتبتُ هذا الكتاب ولا أمرتً به ، ولا وجهتُ هذا الغلام إلى مصر قط (1)!.
وجاء في تأريخ الطبري : قالوا : ما أنت إلا صادق أو كاذب ، فإن كنت كاذباً فقد استحققت الخلع لما أمرت به من سفك دمائنا بغير حقها ، وإن كنت صادقاً فقد استحققت أن تُخلع لضعفك وغفلتك وخُبث بطانتك ، لأنه لا ينبغي أن نترك على رقابنا من يُقتطع مثل هذا الأمر دونه لضعفه وغفلته ، وقالوا له : إنك ضربت رجالاً من أصحاب النبي (ص) وغيرهم حين يَعِظونك ويامرونك بمراجعة الحق عندما يستنكرون من أعمالك ، فأقِد من نفسك من ضربته وأنت له ظالم ، فقال : الإِمام يخطىءُ ويصيب ، فلا أقيد من نفسي لأني لو اقدت كل من أصبته بخطأٍ آتي على نفسي. قالوا : انك قد أحدثت أحداثاً عظاماً فاستحققت بها الخلع.. الخ (2). ورجع عليٌّ وبعض من كان
____________
1 ـ الغدير 9 | 181.
2 ـ الطبري 4 | 375.

(109)

معه إلى منازلهم (1).
قال حويطب بن عبد العزى : أرسل إلي عثمان حين اشتد حصاره ، فقال : قد بدا لي أن أتهم نفسي لهؤلاء ؛ فإتِ علياً وطلحة والزبير فقل لهم : هذا أمركم تولوه واصنعوا فيه ما شئتم.
قال : فخرجت حتى جئت علياً فوجدت على بابه مثل الجبال من الناس ، والبابُ مغلق لا يدخل عليه أحد (2).
وما عسى أن يفعل علي آنذاك أكثر من أن ينهى الناس بلسانه تفادياً للفتنة وصوناً لوحدة المسلمين ، لكن الأمر كان خارجاً عن يده ، ومع ذلك فقد أمر ولديه الحسن والحسين بالدفاع عن عثمان. بيد أن ذلك لم يجدي نفعاً ، فلقد قتل عثمان وكان ذلك بداية الفتنة التي يميز بها الله الخبيثَ من الطيب.
____________
1 ـ الطبري 4 | 375.
2 ـ الإمامة والسياسة 1 | 37.

(110)

ترجمة سعيد بن العاص


ولي الكوفة بعد الوليد ، فلما دخلها أبى أن يصعد المنبر وأمر بغسله ، وقال : إن الوليد كان نجساً رجساً.
فلما اتصلت أيام سعيد بالكوفة ظهرت منه أمور منكرة ، فاستبد بالأموال حتى قال في بعض الأيام : إنما هذا السواد قطين لقريش. فقال له الأشتر : أتجعل ما أفاء الله علينا بضلال سيوفنا ومراكز رماحنا بستاناً لك ولقومك ؟ !
ثم خرج الأشتر إلى عثمان في سبعين راكباً من أهل الكوفة ، فذكروا سوء سيرة سعيد بن العاص وسألوا عزله عنهم ، فمكث الأشتر وأصحابه أياماً لا يخرج لهم من عثمان في سعيد شيء ، وامتدت ايامهم بالمدينة.
وقدم على عثمان أمرأؤه من الأمصار ، منهم : عبد الله بن سعد بن أبي سرح من مصر ، ومعاوية من الشام ، وعبد الله بن عامر من البصرة ، وسعيد بن العاص من الكوفة فأقاموا بالمدينة أياماً لا يردهم إلى أمصارهم كراهة أن يرد سعيداً إلى الكوفة ، وكره أن يعزله حتى كتب إليه من بأمصارهم يشكون إليه كثرة الخراج وتعطيل الثغور ، فجمعهم عثمان وقال : ما ترون ؟ فقال معاوية : أما أنا فراضٍ بي جندي. وقال عبد الله بن عامر : ليكفك امرؤ ما قبلك اكفك ما قبلي. وقال عبد الله بن سعد ، ليس بكثير عزل عامل للعامة


(111)

وتولية غيره. وقال سعيد بن العاص : إنك إن فعلت هذا كان أهل الكوفة هم الذين يولون وعزلون ، وقد صاروا حلقاً في المسجد ليس لهم غير الأحاديث والخوض ، فجهزهم في البعوث حتى يكون همُّ أحدهم أن يموت على دابته.
قال : فسمع مقالته عمرو بن العاص ، فخرج إلى المسجد فإذا طلحة والزبير جالسان فيه ، فقالا له : تعال إلينا ، فصار إليهما ، فقالا : ما وراءك ؟ قال : الشر ! ما ترك شيئاً من المنكر إلا أتى به وأمر به. وجاء الأشتر فقالا له : إن عاملكم الذي قمتم فيه خطباء قد رُدّ عليكم وأمر بتجهيزكم في البعوث وبكذا وكذا.. فقال الأشتر : والله لقد كنا نشكو سوء سيرته وما قمنا فيه خطباء ، فكيف وقد قمنا ؟ ! وأيم الله على ذلك لولا أني أنفذت النفقة وأنضيت الظهر لسبقته إلى الكوفة حتى أمنعه دخولها ! فقالا له : فعندنا حاجتك التي تقوم بك في سفرك ! قال فاسلفاني إذن مائة ألف درهم ، قال : فأسلفه كل واحد منهما خمسين ألف درهم ، فقسمها بين أصحابه.
وخرج إلى الكوفة ، فسبق سعيداً ، وصعد المنبر وسيفه في عنقه ما وضعه بعد ، ثم قال : أما بعد ، فإن عاملكم الذي أنكرتم تعديه وسوء سيرته ، قد رد عليكم وأمر بتجهيزكم في البعوث ، فبايعوني على أن لا يدخلها. فبايعه عشرة آلاف من أهل الكوفة ، وخرج راكباً متخفياً يريد المدينة أو مكة ، فلقي سعيداً بواقعة ( اسم مكان ) فأخبره بالخبر ، فانصرف إلى المدينة.
وكتب الأشتر إلى عثمان : إنا والله ما منعنا عاملك الدخول لنفسد عليك عملك ، ولكن لسوء سيرته فينا وشدة عذابه ، فابعث إلى عملك من أحببت.
فكتب إليهم : انظروا من كان عاملكم أيام عمر بن الخطاب فولوه.
فنظروا ، فإذا هو أبو موسى الأشعري. فولوه عليهم. مروج الذهب 2 | 336




(112)

ترجمة عبد الله بن مسعود


كان ابن مسعود أول من جهَرَ بالقرآن بمكة ، وذلك : « أنه اجتمع يوماً أصحاب رسول الله فقالوا : والله ما سمعت قريش هذا القرآن يُجهَرُ لهَابهِ قط ، فمن رجلٌ يسمعهموه ؟
فقال عبد الله بن مسعود : أنا. قالوا : إنا نخشاهم عليك ، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه. قال : دعوني ، فإن الله سيمنعني.
وغدا ابن مسعود حتى أتى المقامَ في الضحى وقريشٌ في أنديتها ، حتى قام عند المقام ، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم : الرحمان علم القرآن... ثم استقبلها يقرأها ، وتأملوه فجعلوا يقولون : ماذا قال ابن أم عبد ؟ ثم قالوا : إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد ، فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه ، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ ، ثم أنصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه ، فقالوا له : هذا الذي خشينا عليك. فقال : ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن ، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً : قالوا : لا ، حسبُك ، قد أسمعتَهم ما يكرهون.
وكان الخليفة عمر بن الخطاب قد أرسله إلى الكوفة ليعلّم أهلها أمور


(113)

دينهم ، وبعث عماراً أميراً ، وكتب إليهم : « إنهما من النجباء من أصحاب محمد من أهل بدر فاقتدوا بهما ، واسمعوا من قولهما وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي ».
وكان على عهد عثمان يقيم في الكوفة والأميرُ عليها الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وكان قد ألقى إليه مفاتيح بيت المال وقال له : « من غيّر غيّر الله ما به ، ومن بدّل أسخط الله عليه ، وما أرى صاحبكم إلا وقد بدّل وغيّر ، أيعزَلُ مثلُ سعد بن أبي وقاص ويُولىَّ الوليد ؟ !
وكان ابن مسعود يتكلم بكلام لا يدعه ، وهو : « إن أصدَقَ القولِ كتابُ الله ، وأحسنُ الهدي هدى محمد (ص) ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكل محدَثٍ بدعة ، وكل بدعةٍ ضلالة ، وكل ضلالة في النار ».
فكتب الوليد إلى عثمان بذلك وقال : إنه يعيبُك ويطعن عليك.
فكتب إليه عثمان يأمره باشخاصه. فاجتمع الناس فقالوا : أقم ، ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه.
فقال : إن له علي حقَّ الطاعة ، ولا أحب أن أكون أول من فتح باب الفتن.
فردَّ الناس وخرج إلى المدينة.
قال البلاذري : وشيّعه أهل الكوفة ، فأوصاهم بتقوى الله ولزوم القرآن. فقالوا له : جُزيت خيراً ، فلقد علّمتَ جاهلنا ، وثبتّ عالمنا ، وأقرأتنا القرآن ، وفقهتنا في الدين ، فنِعم أخو الإِسلام أنت ونعم الخليل. ثم ودّعوه وانصرفوا.
ودخل المدينة يوم الجمعة وعثمان يخطب على المنبر. وقال البلاذري : « دخلها ليلة الجمعة ، فلما علم عثمان بدخوله قال : يا أيها الناس ، إنه قد طرقكم الليلة دُويَبة ! من يمشي على طعامهِ يقيىء ويسلح !!
فقال ابن مسعود : لستُ كذلك ، ولكنني صاحب رسول الله (ص) يوم


(114)

بدر ، وصاحبه يوم بيعة الرضوان ، وصاحبه يوم الخندق ، وصاحبه يوم حُنَين.
قال : وصاحت عائشة ، يا عثمان ، أتقول هذا لصاحب رسول الله ! ؟ فقال عثمان : اسكتي.
ثم قال لعبد الله بن زمعة : أخرجه اخراجاً عنيفاً.
فأخذه ابن زمعة فاحتمله حتى جاء به باب المسجد فضرب به الأرض ، فكسر ضلعاً من أضلاعه. فقال ابن مسعود : قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان.
وقام علي بأمره حتى أتى به منزله. فأقام ابن مسعود بالمدينة لا يأذن له عثمان في الخروج منها إلى ناحية من النواحي ، وأراد حين برئ الغزوَ ، فمنعه من ذلك ، وقال له مروان : إن ابن مسعود أفسد عليك العراق ، أفتريد أن يفسد عليك الشام ؟ فلم يبرح المدينة حتى توفي قبل مقتل عثمان بسنتين.
وكان عثمان قد منعه عطاءه سنتين ، ولما مرض مرضه الذي مات فيه أتاه عثمان عائداً ، فقال له : ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي ! قال : فما تشتهي ؟ قال : رحمة ربي. قال : ألا أدعو لك طبيباً ؟ قال : الطبيب أمرضني ! قال : أفلا أمر لك بعطائك ؟قال : منعتنيه وأنا محتاج إليه وتعطينيه وأنا مستغنٍ عنه ! قال : يكون لولدك. قال : رزقهم على الله. قال : استغفر لي يا أبا عبد الرحمان. قال : أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي.
وأوصى أن لا يصلي عليه عثمان ، فدُفن بالبقيع وعثمان لا يعلم.. الخ.
وقد وردت في فضله أحاديث كثيرة ، نذكر بعضها :
عن رسول الله (ص) إنه قال : تمسكوا بعهد عمار ، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه.
وعنه (ص) : عبد الله يوم القيامة في الميزان أثقل من أُحد.


(115)

وعنه (ص) : رضيتُ لأمتي ما رضي الله لها وابنُ أم عبد ، وسخطت لأمتي ما سخط الله لها وابن أم عبد.
وقال فيه علي (ع) حين أتاه ناس يثنون عليه : أقول فيه مثل ما قالوا وأفضل ، من قرأ القرآن وأحلّ حلاله ، وحرّم حرامه ، فقيهٌ في الدين ، عالمٌ بالسنة.
وكان يلقب بصاحب سِواد رسول الله. أي صاحب سره.