غلبة علي على الماء
وفي صبيحة اليوم التالي نهض الأشعث بن قيس في اثني عشر ألف ، وتبعه الأشتر بخيله ورجاله ثم كّبر الأشعث وكبّر الأشتر ، ثم حملا ، فما ثار الغبار حتى انهزم أهل الشام ، وكان قد قتل من أصحاب معاوية أبطال لا يستهان بهم ، وغلب أصحاب علي على الماء.
وقال عمرو بن العاص لمعاوية : ما ظنك بالقوم إن منعوك الماء اليوم كما منعتهم أمس ، أتُراكَ تضاربهم عليه كما ضاربوك عليه ، وما أغنى أن تكشف لهم السوءة ؟
فقال : دع عنك ما مضى منه. ما ظنك بعلي ؟ قال : ظني به أنه لا يستَحل منك ما استحلَلتَ منه ، وأن الذي جاء له غير الماء. فقال له معاوية قولاً أغضبه. فردّ عليه ابن العاص شعراً ، جاء فيه :
أمـرتـك أمـراً فـسـخـفـتـه * وخـالـفنـي ابـن أبـي سَـرَحَـة
فـكيـف رأيـت كبـاش العـراق * ألـم ينـطحـوا جمـعنـا نـطحَـةَ
فـإن ينطحـونـا غـداً مثلـهـا * نـكـن كـالـزبيـري أو طـلحَـة
وقـد شرب القـوم مـاء الفـرات * وقـلّـدَك الأشـتـر الـفـضـحـة (1)

وحين غلب علي أهل الشام وطردهم عن الماء بعث إلى معاوية : « إنا لا نكافيك بصنعك ، هلّم إلى الماء فنحن وأنتم فيه سواء ». فأخذ كل واحد من الفريقين بالشريعة التي تليه. وقال علي (ع) يومذاك لأصحابه : أيها الناس ، إن الخطب أعظم من منع الماء (2).

عدد الجيشين
واختلف في عدد الجيشين ، والمتفق عليه ـ كما يقول المسعودي ـ أن عدة جيش علي (ع) تسعون ألفاً ، وأن عدة جيش معاوية خمسة وثمانون
____________
1 ـ الأبيات وما قبلها في صفين ـ 186.
2 ـ صفين ـ 193.

(195)

ألفاً ، بينما يذهب البعض إلى أن كلاً من الجيشين قارب المائة والخمسين ألفاً.
هذا وقد بقيت الحرب فاترةً بين الطرفين مدة ثلاثة أشهر تقريباً ، أي من أواخر شهر شوال حتى انقضاء المحرم سنة 37 للهجرة.
وكان علي (ع) في تلك الفترة قد أمهل معاوية ، وأقام الحجة عليه ودعاه إلى الكف عن بغيه ، كما أن القُراءَ من الطرفين كانوا يحجزون بينهما ويحولون دون وقوع الحرب ويدعون إلى وحدة الكلمة دون جدوى ، ويظهر أن تلك المحاجزة استفاد منها معاوية في تقوية موقفه.
ولما كان آخر يوم من المحرم قبل غروب الشمس ، بعث علي إلى أهل الشام : إني قد احتججت عليكم بكتاب الله ، ودعوتكم إليه ، وإني قد نبذت إليكم على سواء ، إن الله لا يهدي كيد الخائنين.
فلم يردُّوا عليه جواباً إلا قولهم : « السيف بيننا وبينك ، أو يهلك الأعجز منا » (1).

خطبة علي (ع)
وخطب علي (ع) في ذلك اليوم خطبةً جاء فيها : نحن أهل بيت الرحمة ، وقولنا الصدق ، وفعلنا القصد ، ومِنّا خاتَمُ النبيين ، وفينا قادة الإسلام ، وفينا حَمَلة الكتاب آلا إنا ندعوكم إلى الله وإلى رسوله وإلى جهاد عدوه ، والشدة في أمره ، وابتغاء مرضاته ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت.. إلى أن قال : ألا وأن أعجب العجائب أن معاوية بن أبي سفيان الأموي ، وعمرو بن العاص السهمي أصبحا يحرّضان الناس على طلب الدين بزعمهما ، ولقد علمتم أني لم أخالف رسول الله (ص) قط ، ولم أعصِه في أمر ، أقيه بنفسي في المواطن التي ينكِصُ فيها الأبطال وترعُدُ فيها الفرائص ، بنجدةٍ أكرمني الله بها وله الحمد ، ولقد قُبِض رسول الله (ص)
____________
1 ـ مروج الذهب 2 | 377.
(196)

وإن رأسه لفي حجري ، ولقد وَليتُ غسله بيدي وحدي ، تُقَلبُه الملائكة المقربون معي ، وأيم الله ما اختلفت أمة قط بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها إلا ما شاء الله.
فنادى عمار بن ياسر بالناس : أما أمير المؤمنين فقد أعلمكم أن الأمة لم تستقم عليه أولاً. وأنها لن تستقيم عليه آخرا !
فتفرّقَ الناس وقد نفذت أبصارهم في قتال عدوهم ، فتأهبوا واستعدوا ، ووثبوا إلى رماحهم وسيوفهم ونبالهم يُصلحونها.
وخرج (ع) يُعبّىءُ الناس ليلته تلك كلها حتى أصبح ، وعقد الألوية وأمر الأمراء وكّتب الكتائب ، وبعث إلى أهل الشام منادياً نادى فيهم : اغدوا إلى مَصَافّكم ! فضج أهل الشام واستعدوا.

خطبة عبد الله بن بُديل
وقام عبد الله خطيباً في أصحاب علي فقال : ألا إن معاوية إدعى ما ليس له ، ونازع الأمر أهله ومن ليس مثله ، وجادَلَ بالباطل لِيدحض به الحق ، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب ، وزيّنَ لهم الضلالة ، وزرع في نفوسهم حُبَّ الفتنة ، ولبسَ عليهم الأمور ، وزادهم رجساً إلى رجسهم.
وأنتم والله على نور وبرهان مبين ، قَاتِلوا الطُغاة الجُفاة ، قاتِلوهم ولا تخشوهم ، وكيف تخشونهم وفي أيديكم كتاب من ربكم ظاهر مبين.. إلى أن قال : لقد قاتَلـتُهُم مع النبي (ص) والله ما هم في هذه بأزكى ولا أتقى ولا أبرَّ ، إنهضوا إلى عدو الله وعدوكم.

خطبة سعيد بن قيس
قام في الناس فقال : إن أصحاب محمد المصطفين الأخيار معنا وفي حيزنا.. إلى أن قال : وإنما رئيسنا ابن عم نبينا ، بَدريٌ صُدُقٌ ، صلى صغيراً وجاهد مع نبيكم كبيراً ، ومعاوية طليق من وثاق الإسار بن طليق ، ألا


(197)

وإنه أغرى جفاةً فأوردهم النار ، وأوردهم العار ، والله محلٌ بهم الذل والصَغَار.

خطبةُ ابن التيّهان
وأقبل أبو الهيثم بن التيهان ، وكان من أصحاب رسول الله (ص) بدرياً ، نقيباً ، عَقبيّاً ، يُسوي صفوف أهل العراق ويقول : يا معشر أهل العراق ، انه ليس بينكم وبين الفتح في العاجل والجنة في الآجل إلا ساعة من النهار ، فأرسوا أقدامكم وسووا صفوفكم ، وأعيروا ربكم جماجمكم ، واستعينوا بالله إلهِكم ، وجاهدوا عدو الله وعدوكم ، واقتلوهم قَتَلهم الله وأبادهم ، واصبروا فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.

مالك الأشتر يشيد بالإمام علي (ع)
وقام مالك الأشتر رضي الله عنه يخطب الناس وهو يومئذٍ على فرس أدهم مثل حلك الغراب ، فقال : الحمد لله الذي خلق السموات العلى ، والرحمان على العرش استوى.. إلى أن قال : معنا ابن عم نبينا ، وسيف من سيوف الله عليُّ بن أبي طالب ، صلى مع رسول الله ، لم يسبقه إلى الصلاة ذَكَرٌ حتى كان شيخاً ، لم تكن له صَبوَة ، ولا نَبوَة ، ولا هفوَة ولا سَقطة ، فقيهٌ في دين الله تعالى ، عالم بحدوده ، ذو رأيٍ أصيل وصبرٍ جميل ، وعَفَافٍ قديم ، فاتقوا الله وعليكم بالعزم والجد ، واعلموا أنكم على الحق ، وأن القوم على الباطل ، وإنما تقاتلون معاوية وأنتم مع البدريين قريب من مائة بدري سوى من حولكم من أصحاب محمد (ص) أكثر ما معكم رايات قد كانت مع رسول الله. ومع معاوية رايات قد كانت مع المشركين على رسول الله (ص) فما يَشُكُّ في قتال هؤلاء إلا من كان ميت القلب ، أنتم على إحدى الحُسنيين إما الفتح وإما الشهادة ، عصمنا الله وإياكم بما عصم.

« مساومة عمرو لمعاوية »
وطلب معاوية إلى عمرو بن العاص أن يُسوي صفوف أهل الشام. فقال


(198)

له عمرو : على إن لي حكمي إن قتلَ الله ابنَ أبي طالب ؛ واستوثقت لك البلاد.
فقال : أليس حكمك في مصر ؟ فقال : وهل مصر تكون لي عِوضاً عن الجنة ، وقتل ابن أبي طالب ثمناً لعذاب النار ؟ ! « الذي لا يفتَرّ عنهم وهم فيه مُبلِسون ». فقال معاوية : إن لك حكمك أبا عبد الله إن قُتِل ابن أبي طالب. رويداً لا يسمع أهل الشام كلامك.
فقام عمرو فقال : معاشر أهل الشام ، سووا صفوفكم قَصّ الشارِب ، وأعيرونا جماجمكم ساعة ، فقد بلغ الحق مقطعه ، فلم يبق إلا ظالم ، أو مظلوم.. !

يقاتلون طمعاً في الحكم
وقام يزيد بن قيس الأرحبي خطيباً يحرض أهل العراق ، فقال : إن المسلم السليم من سلم دينه ورأيه ، وإن هؤلاء القوم ـ والله ـ ما إن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيعناه ، ولا على إحياء حق رأونا أمتناه ، ولا يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا ليكونوا فيها جبابرةً وملوكاً ، ولو ظهروا عليكم ـ لا أراهم الله ظهوراً ولا سروراً ـ إذن لولِيكم مثل سعيد والوليد وعبد الله بن عامر السفيه ، يُحدث أحدهم في مجلسه بذَيت وذَيت ويأخذ مال الله ويقول : لا إثم عليّ فيه ! فكأنما أعطي تراثه من أبيه ، كيف ؟ إنما هو مال الله أفاءه الله علينا بأسيافنا ورماحنا ، قاتلوا عباد الله ـ القوم الظالمين الحاكمين بغير ما أنزل الله ، ولا تأخذكم فيهم لومةُ لائم ، إنهم إن يَظهروا عليكم يُفسدوا عليكم دِينكم ودُنياكم ، وهم من قد عرفتم وجرّبتم ، والله ما أرادوا باجتماعهم عليكم إلا شرّاً ، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

عمرو بن العاص يرتجز
وارتجز عمرو بن العاص موجّهاً كلامه لعلي (ع) :
لا تـأمَنّنـا بـعـدهـا أبـا حَسـن * إنـا نُـمِـرُّ الأمـر إمـرارَ الـرَسَـن


(199)

خـذهـا إليـك واعلمـن أبـا حسـن

فأجابه شاعر من أهل العراق :
ألا احـذروا فـي حـربكـم أبـا حسـن * ليثـاً أبـا شـبليـن محـذوراً فَـطِـنْ
يـدقـكـم دق الـمهـاريـس الـطحـن * لـتُغبَـنَـن يـا جـاهـلاً أي غَـبَـنْ
حتـى تعـضَّ الكـف أو تقـرع سِـنْ

ـ بداية الحرب ـ
من عادة علي (ع) عند الحرب أن يدعو ببغلةٍ يركبها ، فلما أوشكت الحرب أن تقع في صفين قال : إإتوني بفرس ، فأتي بفرس له ذَنُوب ، أدهم يُقَادَ بشِنطَيَن ، يبحث الأرض بيديه جميعاً ، له حَمحَمَةٌ وصهيل فركبه وقال : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين . لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وكان (ع) إذا سار إلى قتال ذكر إسم الله ثم يستقبل القبلة ويرفع يديه إلى السماء ويقول : « اللهم إليك نُقِلَتِ الأقدام ، وأتعبت الأبدان ، وأفضِتِ القلوب ، ورُفِعَتِ الأيدي وشخَصَتِ الأبصار ، ربنا إفتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ». ثم يقول : سيروا على بركة الله. ثم يقول : الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، الله أكبر ، يا الله يا أحد يا صمد ، يا ربَّ محمد ، أكفف عنا بأس الظالمين.
ويُروى عنه (ع) : ما كان في قتال إلا ونادى : « يا كهيعص ». وكان شعاره في الحرب ، الله أكبر ، ثم يحملُ فيوردُ ـ والله ـ من إتّبعه ومن حادّهُ حياض الموت (1).

« دعاؤه يوم صفين »
أما في صفين ، فكان له دعاء آخر يرويه زيد بن وهب ، قال : لما
____________
1 ـ شرح النهج 5 | 175 ـ 177.
(200)

خرج علي (ع) إليهم غداة ذلك اليوم فاستقبلوه ، رفع يديه إلى السماء وقال : « اللهم ربَّ هذا السقف المحفوظ المكفوف الذي جعلته محيطاً بالليل والنهار ، وجعلت فيه مجرى الشمس والقمر ، ومنازل الكواكب والنجوم ، وجعلت سكانه سبطاً من الملائكة لا يسأمون العبادة ، ورب هذه الأرض التي جعلتها قراراً للأنام والهوام والأنعام وما لا يحصى مما يُرى ولا يُرى من خلقك العظيم ورب الفُلك التي تجري في البحر المحيط بما ينفع الناس ، ورب السحاب المسخر بين السماء والأرض ، ورب البحر المسجور المحيط بالعالمين ، ورب الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتاداً ، وللخلق متاعاً ، إن أظهرتنا على عدونا فجنّبنا البغي وسدّدنا للحق ، وان أظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة ، واعصم بقية أصحابي من الفتنة.

وصف علي (ع)
وكان (ع) رجلاً ربعةً ، أدعج العينين ، كأن وجهه القمرُ ليلة البدر حسناً ، ضخم البطن ، عريض المسربة شئن الكفين ضخم الكُسور ، كأن عنقه إبريق فضة ، أصلع ، من خلفه شعر صفيف ، لمنكبه مشاش كمشاش الأسد الضاري ، إذا مشى تكفأ ومار به جسده ، ولظهره سنام كسنام الثور ، لا يبين عضده من ساعده ، قد أدمِجَت إدماجاً ، لم يمسك بذراع رجلٍ قط إلا أمسك بنفسه فلم يستطع أن يتنفس ، ولونه إلى سمرة ما ، وهو أذلف الأنف ، إذا مشى إلى الحرب هرول ، قد أيده الله في حروبه بالنصر والظفر.

على يزحف بجيشه
وكان على ميمنته يومئذٍ عبد الله بن بُديل الخزاعي ، وعلى ميسرته عبد الله بن العباس وقُراء العراق مع ثلاثة نفر هم ، عمار بن ياسر ، وقيس بن سعد بن عبادة ، وعبد الله بن بُديل ، والناس على راياتهم ومراكزهم ، وعلي (ع) في القلب في أهل المدينة ، جمهورهم الأنصار ومعهم من خزاعة وكنانة عدد حسن.


(201)

فلما راوه قد أقبل ، تقدموا إليه يزحفون بجموعهم (1).

جيش معاوية
أما معاوية فرفع قبةً عظيمة ، وألقى عليها الكرابيس وجلس تحتها ، واجتمع إليه أهل الشام ، فعبأ خيله ، وعقد ألويته وأمر الأمراء وكتب الكتائب ، وأحاط به أهل حمص في راياتهم وعليهم أبو الأعور السلمي ، وأهل الأردن في راياتهم ، وعليهم عمرو بن العاص ، وأهل قنسرين ، وعليهم زفر بن الحارث الكلابي ، وأهل دمشق ـ وهم القلب ـ وعليهم الضحاك بن قيس الفهري ، فأطافوا كلهم بمعاوية.

« المبارزة للقتال »
كان يوم السابع من شهر صفر يوماً عظيماً في صفين لما لقي فيه الطرفان من أهوال شديدة.
وأول فارسين التقيا في ذلك اليوم هما حُجر بن عدي الكندي ، الملقّب بحُجر الخير صاحب أمير المؤمنين (ع) ، وحجر الملقب بحجر الشر ، وهو ابن عمه ، وكلاهما من كندة وكان من أصحاب معاوية ، فاطّعَنا برمحيهما. وخرج رجل من بني أسد يقال له خزيمة ، من عسكر معاوية ، فضرب حجر بن عدي برمحه ، فحمل أصحاب علي (ع) فقتلوا خزيمة الأسدي ونجا حجر الشر هارباً فالتحق بصف معاوية.
ثم برز حجر الشر ثانيةً ، فبرز إليه الحكم بن أزهر ـ من أهل العراق ـ فقتله حجر الشر فخرج إليه رفاعة بن ظاهر الحميري من صف العراق فقتله ، وعاد إلى أصحابه يقول : الحمد لله الذي قتل حجر الشر بالحكم بن أزهر.

علي (ع) يدعو إلى كتاب الله ، ومعاوية يرفض
ثم أن علياً (ع) دعا أصحابه إلى أن يذهب واحد منهم بمصحف كان
____________
1 ـ نفس المصدر. وفي صفين | 232 وما بعدها.
(202)

في يده إلى أهل الشام ، فقال : من يذهب إليهم فيدعوهم إلى ما في هذا المصحف ؟ فسكت الناس ، وأقبل فتىً إسمه سعيد فقال : أنا صاحبه : فأعاد عليّ القول ثانيةً فسكت الناس ؛ وتقدم الفتى فقال : أنا صاحبه. فسلّمه إليه فقبضه بيده ، ثم أتاهم فناشدهم الله ودعاهم إلى ما فيه ، فقتلوه !

الإمام علي يأمر أصحابه بالهجوم
فقال علي (ع) لعبد الله بن بديل : إحمل عليهم الآن ؟ فحمل عليهم بمن معه من أهل الميمنة وعليه يومئذٍ سيفان ودرعان ، فجعل يضرب بسيفه قدماً ويقول :
لـم يبـق غيـر الصبـر والتـوكـل * والتـرس والـرمـح وسيفٍ مصقَـل
ثـم الـتمشـي في الـرعـيـل الأول * مشي الجمـال في حيـاض الـمنهـل

فلم يزل يحمل حتى انتهى إلى معاوية ومن معه ممن بايعه على الموت ، فأمرهم أن يصمدوا لعبد الله بن بديل ، وبعث إلى حبيب بن سلمة الفهري وهو في الميسرة أن يحمل عليه بجميع من معه ، واختلط الناس ، واصطدم الفيلقان ، ميمنةُ العراق وميسرة أهل الشام ، وأقبل عبد الله يضرب الناس بسيفه قِدماً حتى أزال معاوية عن موقفه جعل ينادي : يا لثارات عثمان ـ وهو يعني أخاً له قد قُتل ـ وظن معاوية وأصحابه أنه يعني عثمان بن عفان ، وتراجع معاوية عن مكانه القهقري ، وأشفق على نفسه ، وأرسل إلى حبيب بن مسلمة مرة ثانية وثالثة يستنجده ويستصرخه ، ويحمل حبيب حملةً شديدة بميسرة معاوية على ميمنة العراق فيكشفها حتى لم يبق مع ابن بُديل إلا نحو مائة إنسان من القراء ، فاستند بعضهم إلى بعض يحمون أنفسهم ، ولجَجَ ابن بُديل في الناس وصمم على قتل معاوية ، وجعل يطلب موقفه ويصمد نحوه حتى انتهى اليه ومع معاوية عبد الله بن عامر واقف ، فنادى معاوية في الناس : ويلكم ، الصخر والحجارة إذا عجزتم عن السلاح ! فرضخه الناس بالصخر والحجارة حتى أثخنوه ، فسقط فأقبلوا عليه بسيوفهم فقلتوه.


(203)

وجاء معاوية وعبد الله بن عامر حتى وقفا عليه ، فأما عبد الله بن عامر فألقى عمامَتهُ على وجهه وترحمَ عليه وكان له أخاً صديقاً من قبل. فقال معاوية : إكشف عن وجهه ؟ فقال : لا والله لا يُمَثلُ فيه وفيَّ روح. فقال معاوية : إكشف عن وجهه فإنا لا نُمثل فيه ، قد وهبناه لك. فكشف ابن عامر عن وجهه ، فقال معاوية : هذا كبش القوم ورب الكعبة. اللهم أظفرني بالأشتر النُخعي والأشعث الكندي ، والله ما مَثلُ هذا إلا كما قال الشاعر :
أخو الحـرب إن عضـت به الحـرب عضّهـا * وإن شمّـرَت عن سـاقهـا الحـرب شمّـرا
ويـحـمـي إذا مـا الـمـوت كـان لـقـاؤه * قِـدى الشِبـر يحمـي الأنـف إن يتـأخـرا
كـلـيـث هـزبـر كـان يـحـمـي ذمـاره * رمتـه الـمنـايـا قصـدهـا فـتـفـطـرا (1)

الإمام علي (ع) يرّد الكتائب
بعد مقتل ابن بديل ، إستعلى أهل الشام على أهل العراق يومئذٍ ، وانكشف من قِبلِ الميمنة وأجفلوا إجفالاً شديداً ، فأمر علي (ع) سهل بن حُنيف ، فاستقدم من كان معه ليرفِدَ الميمنة ويعضدها ، فاستقبلتهم جموع أهل الشام في خيل عظيمة ، فحملت عليهم ، فألحقتهم بالميمنة ، وكانت ميمنة أهل العراق متصلةً بموقف علي (ع) في القلب في أهل اليمن ، فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى علي (ع) ، فانصرف يمشي نحو الميسرة ، فانكشفت مضر عن الميسرة أيضاً ، فلم يبق مع علي من أهل العراق إلا ربيعة وحدها في الميسرة.
قال زيد بن وهب : لقد مرّ علي (ع) يومئذٍ ومعه بنوه نحو الميسرة ومعه ربيعة وحدها ، وإني لأرى النبل يمر بين عاتقه ومنكبيه ، وما من بَنيهِ إلا من يقيه بنفسه ، فيكره علي (ع) ذلك ، فيتقدم عليه ويحول بينه وبين أهل الشام ، ويأخذه بيده إذا فعل ذلك ، فيلقيه من ورائه ؛ ويُبصر به أحمر مولى بني أمية ، وكان شجاعاً، فقال عليٌّ (ع) : ورب الكعبة قتلني الله إن لم
____________
1 ـ شرح النهج 5 | 195 وما يليها.
(204)

أقتلك ! فأقبل نحوه ، فخرج إليه كيسان مولى علي (ع) ، فاختلفا ضربتين ، فقتله أحمر ، وخالط علياً ليضربه بالسيف ، وينتهزه علي فتقع يده في جيب درعه ، فجذبه عن فرسه فحمله على عاتقه ، فوالله لكأني أنظر إلى رجلي أحمر تختلفان على عنق علي ، ثم ضرب به الأرض فكسر منكبيه وعضديه ، وشد إبنا علي محمد وحسينٌ فضرباه بأسيافهما حتى برد فكأني أنظر إلى علي قائماً وشبلاه يضربان الرجل حتى إذا أتيا عليه ، أقبلا إلى أبيهما والحسن قائم معه ، فقال له علي : يا بني ، ما منعك أن تفعل كما فعل أخواك ؟ فقال كفياني يا أمير المؤمنين.
قال : ثم أن أهل الشام دنوا منه يريدونه ! والله ما يزيدهم قربهم منه ودنوهم إليه سرعةً في مشيته ، فقال له الحسن (ع) : ما ضرّك لو أسرعت حتى تنتهي إلى الذين صبروا لعدوك من أصحابك ؟ فقال علي (ع) : يا بُنَيّ ، إن لأبيك يوماً لن يعدوه ولا يبطىء به عن السعي ، ولا يقربه إليه الوقوف ، إن أباك لا يبالي إن وقع على الموت أو وقع الموت عليه.

لا هروب من القدر !!
قال أبو إسحاق : وخرج علي (ع) يوماً من أيام صفين وفي يده رُمح صغير ، فمرَّ على سعيد بن قيس الهمداني ، فقال له سعيد : أما تخشى يا أمير المؤمنين أن يغتالك أحد وأنت قرب عدوك ؟ ! فقال علي (ع) إنه ليس من أحد إلا وعليه من الله حَفَظَةٌ يحفوظونه من أن يتردى في قَلِيب (1) ، أو يخِرّ عليه حائط ، أو تصيبه آفةٌ ، فإذا جاء القدر ، خلّوا بينَه وبينَه.

شجاعة الأشتر وتحريضه
وكان بيد الأشتر يومئذٍ صفيحةٌ يمانيةٌ ، إذا طأطأها خِلتَ فيها ماءً ينصَبّ ، وإذا رفعها يكاد يغشي البصر شعاعُها ، ومرّ يضرب الناس بها قِدماً ويقول :
____________
1 ـ القليب : البئر.
(205)

الغمـراتُ ، ثم ينجـلينـا
فبصُرَ به الحارث بن جمهان الجعفي والأشتر مقنعٌ في الحديد ، فلم يعرفه ، فدنا منه وقال له : جزاك الله منذ اليوم عن أمير المؤمنين وعن جماعة المسلمين خيراً ، فعرفه الأشتر ، فقال : يا بن جمهان ، أمثلك يتخلفُ عن مثل موطني هذا ؟ فتأمله أبن جمهان فعرفه ـ وكان الأشتر أعظم الرجال وأطولهم إلا أن في لحمه خفة قليلة ـ فقال له : جُعِلتُ فداك والله ما علمت مكانك حتى الساعة ، ولا والله لا أفارقك حتى أموت.
وخطب الأشتر محرضاً أصحابه فقال : عَضّوا على النواجذ من الأضراس ، واستقبلوا القوم بهَامِكم ، فإن الفِرار من الزحف فيه ذَهاب العز والغلبة على الفيء وذل الحياة والممات ، وعار الدنيا والآخرة. ثم حمل على صفوف أهل الشام حتى كشفهم فألحقهم بمضارب معاوية ، وذلك بين العصر والمغرب.

قتال بجيلة
وكانت راية بجيلة في صفين مع أهل العراق ، كانت في « أحمس » (1) ، مع أبي شداد قيس بن المكشوح الأنماري ، قالت له بجيلة : خذ رايتنا ، فقال : غيري خير لكم مني ! قالوا : لا نريد غيرك ، قال : فوالله لئن أعطيتمونيها لا أنتهي بكم دون صاحب الترس المذهب ـ وهو عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ـ وكان على رأس معاوية في خيل عظيمة من أصحاب معاوية. فقالوا : إصنع ما شئت. فأخذها ثم زحف بها وهم حوله يضربون الناس حتى انتهى إلى صاحب الترس ، فاقتتل الناس هناك قتالاً شديداً ، وشد أبو شداد بسيفه نحو صاحب الترس ، فتعرض له رومي من دونه لمعاوية فضرب قدَمَ أبي شداد فقطعها وضرب أبو شداد ذلك الرومي فقتله ، وأسرعت إليه الأسِنة ، فقتل. فأخذ الراية بعده عبد الله بن قلع الأحمسي وارتجز وقال :
____________
1 ـ اسم القبيلة.
(206)

لا يُـبـعـدُ الله أبــا شــداد * حـيـث أجـاب دعـوة الـمنـادي
وشد بـالسيـف على الأعـادي * نِـعـم الـفتى كـان لـدى الـطراد
وفي طِعـانِ الـخيل والجـلاد

ثم قاتل حتى قتل : فأخذها بعده أخوه عبد الرحمن بن قلع ، فقاتل حتى قتل ، ثم أخذها عفيف بن إياس ، فلم تزل بيده حتى تحاجز الناس.
وخرج رجل من عسكر الشام من أزد شنوءة ، يسأل المبارزة ، فخرج إليه الأشتر فما ألبثه أن قتله ، فقال قائل : كان هذا ريحاً فصار إعصاراً.
وقال رجل من أصحاب علي (ع) ، أما والله لأحملن على معاوية حتى أقتله ، فركب فرساً ثم ضربه حتى قام على سَنَابِكه ، ثم دفعه فلم ينهنِههُ شيء عن الوقوف على رأس معاوية ، فيهرب معاوية ، ودخل خباءه ، فنزل الرجل عن فرسه ودخل عليه ، فخرج معاوية من جانب الخباء الآخر ، فخرج الرجل في أثره ، فاستصرخ معاوية بالناس ، فأحاطوا به وحالوا بينهما. فقال معاوية : ويحكم ، أن السيوف لم يؤذن لها في هذا ، ولولا ذلك لم يصل إليكم ، فعليكم بالحجارة ، فرضخوه بالحجارة حتى همد. فعاد معاوية إلى محله.

« ضربة ما مثلها ضربة »
وحمل رجل من أصحاب علي (ع) يُدعى أبو أيوب على صف أهل الشام ، ثم رجع فوافق رجلاً من أهل الشام صادراً قد حمل على صف أهل العراق ، ثم رجع فاختلفا ضربتين ، فنفحه أبو أيوب بالسيف فأبان عنقه ، فثبت رأسه على جسده كما هو ، وكذب الناس أن يكون هو ضربه ، فأراهم ذلك حتى إذا أدخلته فرسه في صف أهل الشام ندر رأسه ووقع ميتاً وقال علي (ع) : والله لأنا من ثبات رأس الرجل أشدُّ تَعَجّباً من الضربة ، وإن كان إليها ينتهي وصف الواصفين.


(207)

وجاء أبو أيوب فوقف بين يدي علي (ع) ، فقال له : أنت والله كما قال :
وعَـلّمـنَـا الـضـربَ آبـاؤُنـا * ونـحـن نـعلّـم أيـضاً بنـيـنـا

« قتل حريث مولى معاوية »
وكان فارس معاوية الذي يُعدّهُ لكل مبارز ولكل عظيم ، وهو حُريثٌ مولاه ، وكان يلبس سلاح معاوية متشبهاً به ، فإذا قاتل قال الناس : ذاك معاوية. وإن معاوية دعاه ، فقال له : يا حريث اتق علياً ، وضع رمحك حيث شئت ، فأتاه عمرو بن العاص فقال : يا حريث ، إنك والله لو كنت قرشياً لأحب لك معاوية أن تقتل علياً ، ولكن كره أن يكون لك حظها ، فإن رأيت فرصةً فاقتحم.
وخرج علي (ع) في هذا اليوم أمام الخيل ، فحمل عليه حُريّث ، وكان حريث شديداً ، أيّداً ، ذا بأس لا يرام ، فصاح : يا علي ، هل لك في المبارزة ؟ فأقدم أبا حسن إن شئت !!
فأقبل علي (ع) وهو يقول :
أنـا عـلي وابـن عـبـد الـمـطلـب * نـحن لـعمـر والله أولـى بـالكُـتُـب
منـا الـنبي الـمصطفـى غيـر كـذب * أهـل الـلـواء والـمقـام والـحُـجُـب
نحـن نصـرنـاه على كـل الـعرب

ثم خالطه فما أمهله أن ضربه ضربةً واحدة ، فقطعه نصفين.
فجزع معاوية على حريث جزعاً شديداً ، وعاتب عمراً في إغرائه بعلي (ع) ، وقال في ذلك شعراً :
حـريث ألم تعلـم وجَهـلُـك ضـائـر * بـأن عـليـاً لـلفـوارس قـاهـرُ
وأن عـلـيـاً لـم يـبـارزه فـارسٌ * من الناس إلا أقصـدتـه الأظـافـر
أمـرتـك أمـراً حـازمـاً فعصيتنـي * فنجـدك إذا لم تقبل النصح عـاثـر
ودلاك عـمـرو والـحـوادث جـمـة * غـروراً وما جرت عليـك المقـادر


(208)

وظـن حُـريث أن عـمـراً نصيحـه * وقـد يُهلـكُ الإنسـان من لا يحـاذر

قال نصر بن مزاحم : فلما قتل حريث ، برز عمرو بن الحصين السكسكي ، فنادى : يا أبا الحسن هلم الى المبارزة ، فأومأ (ع) الى سعيد بن قيس الهمداني ، فبارزه فضربه بالسيف فقتله.
وكان لهمدان بلاء عظيم في نصرة علي (ع) في صفين ، ومن الشعر الذي لا يُشكُّ أن قائله علي (ع) لكثرة الرواة له :
دعـوتُ فـلـبـاني من الـقـوم عصبـةٌ * فـوارس من همـدان غيـر لـئـامِ
فـوارس مـن هـمـدان لـيسـوا بعـزلٍ * غـداة الـوغى من شـاكرٍ وشـبـام
بـكـل رديـنـي وعـضـبٍ تـخـالـه * إذا اختـلـف الأقـوام سعـدَ جـذام
لـهـمـدان أخـلاق كـرامٌ تـزيـنـهـم * وبـأسٌ إذا لاقـوا حــــدّ خصـام
وجـدٌّ وصـدق في الـحـروب ونـجـدة * وقـول إذا قـالـوا بـغـيـر أثـام
متى تـأتهـم في دارهـم تسـتضيـفهـم * تَبـت نـاعمـاً في خدمـة وطعـام
جـزى الله همـدان الـجـنـان فـإنـها * سهـام العـدى في كـل يوم زُحـام
ولـو كـنت بـوابـاً على بـاب جـنـةٍ * لـقلـت لـهمـدان ادخـلوا بسـلام

علي يطلب معاوية للمبارزة
ثم قام علي (ع) بصفين ونادى : يا معاوية ! يكررها. فقال معاوية : سلوه ما شأنه ؟ قال : أحب أن يظهر لي فأكلمه كلمة واحدة ، فبرز معاوية وعمرو بن العاص فلما قارباه ، لم يلتفت إلى عمرو ، وقال لمعاوية : ويحك ؛ علام يقتتل الناس بيني وبينك ؟ ويضرب بعضهم بعضاً ؟ ؟ أبرز إلي ؛ فأينا قتل صاحبه فالأمر له !
فالتفت معاوية إلى عمرو فقال : ما ترى يا أبا عبد الله ؟ قال : قد أنصفك الرجل ، واعلم أنك إن نكلت عنه لم يزل سبَّةً عليك وعلى عقبك ما بقي على ظهر الأرض عربي.
فقال معاوية : يا بن العاص ، ليس مثلي يُخدَعُ عن نفسه. والله ما بارز


(209)

ابن أبي طالب شجاعٌ إلا وسقى الأرض بدمه ! ثم انصرف معاوية راجعاً حتى انتهى إلى آخر الصفوف وعمرو معه ، فلما رأى علي (ع) ذلك ضحك وعاد إلى موقفه.
وفي حديث الجرجاني : إن معاوية قال لعمرو ، ويحك ما أحمقك ، تدعوني إلى مبارزته ودوني عكٌّ وجذام ، والأشعريون ؟؟
قال نصر : وحقدها معاوية على عمرو باطناً ، وقال له ظاهراً ما أظنك قلت ما قلته يا أبا عبد الله إلا مازحاً. فلما جلس معاوية مجلسه ، وأقبل عمرو يمشي حتى جلس إلى جانبه ، فقال معاوية :
يـا عمرو إنـك قد قشـرت لي الـعصـا * بـرضـاكَ لي وسـطَ العجـاج بِـرازي
يـا عمـرو إنـك قـد أشـرت بـظنـةٍ * حسـبُ الـمبـارز خطفـةٌ من بــاري
ولـقـد ظنـنتـك قـلت مزحـة مـازحٍ * والـمـزح يحمـلـه مـقـال الـهـازي
فـإذا الـذي منّتـك نـفسـك حـاكـبـاً * قتـلي جـزاك بمـا نَـويـت الـجـازي
ولقـد كـشفـت قنـاعهـا مـذمـومـةً * ولـقـد لبـسـت بهـا ثيـاب الـخـازي

فقال عمرو : أيها الرجل ، أتجيفُ عن خصمك ، وتتهم نصيحك ، ثم قال مجيباً له :
مـعـاوي إن نـكـلتَ عـن الـبِـراز * وخِـفـت فـإنهـا أم الـمـخـازي
مـعـاوي مـا اجتـرمت إليـك ذنبـاً * ولا أنـا في الـذي حـدثتُ خـازي
ومـا ذنـبـي بــأن نـادى عـلـيٌّ * وكـبـشُ الـقـوم يُـدعى لـلبـراز
ولــو بـارزتـه بــارزتَ لـيـثـاً * حـديـد النـابِ يخطـف كـلَّ بـاز
وتـزعـم أنـنـي أضمـرت غـِشـاً * جـزاني بـالـذي أضمـرت جـازي

قبح الله اللجاج
قال أبو الأعز التميمي : بينا أنا واقف بصفين ، مرَّ بي العباس ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب مكفراً بالسلاح وعيناه تبصّان من تحت المِغفر كأنهما عينا أرقم ، وبيده صفيحة يمانية يقلبها وهو على فرس له صعب ، فبينا


(210)

هو يمغثه (1) ويلين من عريكته ، هتف به هاتف من أهل الشام يعرف بعرار بن أدهم : يا عباس ، هلم إلى البراز. قال العباس : فالنزول إذن ، فإنه أيأس من القفول ، فنزل الشامي وهو يقول :
إن تـركبوا فـركـوبُ الخيـل عـادتنـا * أو تنـزلـون فـإنـا معـشـر نُـزُل

وثنى العباس رجله وهو يقول :
ويـصـد عنـك مـخيـلة الـرجـل * العـرَّيض مـوضحـة عـن العـظـمِ
بحـسـام سـيـفـك أو لـسـانـك * والـكلـم الأصيـل كـأرغب الـكلـم

ثم عصب فضلات درعه في حجزته (2) ، ودفع فرسه إلى غلام له أسود يقال له أسلم ، كأني والله أنظر إلى فلافل شعره ، ثم دلف كل واحد منهما إلى صاحبه ، فذكرت قول أبي ذؤيب :
فـتنـازلا وتـواقفـت خيـلاهـمـا * وكـلاهمـا بـطل الـلقـاء مخـدع

وكفت الناس أعنة خيولهم ينظرون ما يكون من الرجلين ، فتكافحا ، بسيفيهما مليّاً من نهارهما لا يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لأمته إلى أن لحظ العباس وهناً في درع الشامي فأهوى إليه بيده فهتكه إلى ثندوته ، ثم عاد لمجاولته وقد أصحر له ففتق الدرع ، فضربه العباس ضربةً انتظم بها جوانح صدره ، فخرَّ الشامي لوجهه وكبر الناس تكبيرةً ارتجت لها الأرض من تحتهم ، وسما العباس في الناس ، فإذا قائل يقول من ورائي : ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزيهم.. ) الآية. فالتفت فإذا أمير المؤمنين (ع) فقال لي : يا أبا الأعز ؛ من المنازل لعدونا ؟ قلت : هذا ابن أخيكم ، هذا العباس بن ربيعة. فقال ، وإنه لهو. يا عباس ، ألم أنهك وابن عباس أن تخلا بمراكزكما وأن تباشرا حراباً ؟ ! قال : إن ذلك كان. قال : فما عدا مما بدا ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، أفأدعى إلى البراز فلا أجيب ؟ قال : نعم ، طاعة امامك أولى من إجابة عدوك ، ثم تغيظ واستطار حتى قلت الساعة
____________
1 ـ المغث : الضرب المخيف.
2 ـ الحجزة : معقد الإزار.

(211)

الساعة !! ثم سكن وتطامن ورفع يديه مبتهلاً فقال : اللهم اشكر للعباس مقامه واغفر ذنبه ، إني قد غفرت له فاغفر له.
قال : ولهف معاوية على عرارٍ وقال ، متى ينتطح فحل لمثله ، أيطل دمه ؟ لا ها الله إذن ، ألا رجل يشري نفسه لله يطلب بدم عرار ؟ فانتدب له رجلان من لخم ، فقال لهما اذهبا ، فأيكما قتل العباس برازا فله كذا. فأتياه فدعواه للبراز ، فقال : إن لي سيداً أريد أن أؤامره ، فأتى علياً (ع) فأخبره الخبر ، فقال علي (ع) : والله لود معاوية أنه ما بقي من بنى هاشم نافخُ ضُرمة إلا طعن في بطنه إطفاءً لنور الله ( ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون ) أما والله ليملكنهم منا رجال ورجال يسومونهم الخسف حتى يحتفروا الآبار ويتكففوا الناس ، ويتوكلوا على المساحي !!
ثم قال : يا عباس ، ناقلني سلاحك بسلاحي ، فناقله ووثب على فرس العباس ، وقصد اللخميين ، فما شكاَّ أنه هو. قالا : إذِنَ لك صاحبك ؟ فحرج أن يقول نعم. فقال : أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير. فبرز إليه أحدهما فكأنما أختطفه ، ثم برز له الآخر فألحقه بالأول ، ثم أقبل وهو يقول : « الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » ثم قال : يا عباس ، خذ سلاحك وهات سلاحي ، فإن عاد لك أحد فعد إليّ.
فنمي الخبر إلى معاوية ، فقال : قبّح الله اللجاج إنه لقعود ما ركبته قط إلا خُذلت فقال عمرو بن العاص : المخذول والله اللخميان لا أنت. فقال : أسكت أيها الرجل وليست هذه من ساعاتك ، قال : وإن لم يكن ، فرحم الله اللخميين وما أراه يفعل ، قال : فإن ذلك والله أخسر لصفقتك وأضيق لحجزتك ، قال : لقد علمت ذلك ، ولولا مصر لركبت المنجاة منها. قال :
لمتك ولولاها ألفيت بصيرا (1).
____________
1 ـ شرح النهج 5 | 219 ـ 221.