هاشم معروف الحسني

من وحي الثورة الحسينيّة



دارُ القَلَم
بيروت ـ لبنان



( 4 )


( 5 )

من وحي الثورة الحسينية

يعرض هذا الكتاب صوراً عن مواقف الحسين (ع) من الحاكمين قبل ثورته وأهداف الثورة بعد أن وجد لها المناخ المناسب كما يقدم صوراً عن بطولات العقيلة زينب بنت علي والعلويين والطالبيين وعن حياة العقيلة منذ طفولتها حتى فاربقت الدنيا وعن مرقدها والمآثم الحسينية والمراحل التي مرت بها ومواقف الحاكمين منها معتمداً أوثق المصادر وأقربها من المنطق والواقع لإبراز هذه الجوانب من سيرة أهل البيت علي واقعها وأرجو أن أكون قد وفقت لذلك .

هاشم معروف الحسني



( 6 )


( 7 )

المقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيِم


والصلاة والسلام على محمد وآله والأئمة الهداة المهديين ورحمته وبركاته . وبعد فإن المتتبع في بطون الأسفار والمصادر يجد الكثير من الأبطال وعظماء الرجال الذين دفعهم دينهم وإيمانهم إلى الجهر بكلمة الحق والدعوة إلى العدالة باقتحام ميادين الجهاد والثورة على الظلم هنا وهناك لينالوا شرف الدفاع عن عقيدتهم والمعذبين في الأرض من جور الطغاة وفراعنة العصور ولو أدى ذلك إلى استشهادهم والتضحية بكل ما يملكون ولقد سجل التاريخ عشرات الثورات والانتفاضات لأولئك الأبطال المجاهدين وتحدث عن انتصاراتهم ومنجزاتهم ولكنه لم يحدث عن ثورة في تاريخ الشعوب والأمم عاشت كما عاشت ثورة


( 8 )

الحسين وكان لها من الضجة في عالمها وما بعده في كل زمان ومكان ما كان لثورة الحسين ، وأعطت وقدمت للإنسان المسلم وغيره من المنجزات والقيم والمثل العليا ما اعطته وقدمته ثورة الحسين ولا تزال حية تعكس تفاعل الأمة مع التاريخ في تحرك وعطاء مستمر في حاذر المسلمين كما كانت في ماضيهم الغابر وأغنت بعطائها وأفكارها وأهدافها النبيلة تاريخ الإسلام كما كشفت زيف أدعيائه والمتخذين منه ستاراً يخفون وراءه ما يضمرونه من شرك وشر وسوء لدعاته المخلصين ، ولم يكن ذاك إلا لأنها لم تكن لعصر دون عصر ولا لفئة من الناس دون فئة كما لم تكن وليدة ظروف طارئة أو تحركات سياسية محدودة الآثار والدوافع وبعيدة عن احاسيس الأمة وانفعالاتها ، بل كانت النور الساطع للمسلمين في جميع تحركاتهم الهادفة لإتمام المسيرة بالإسلام إلى الهدف الاسمى والغاية القصوى التي ارسل محمد بن عبدالله رسول الرحمة والكرامة والحريف من اجلها ، وكانت المرآة الصافية للحاضر الذي كانت تعيشه الأمة ولواقعها الذي كانت ترسف في أغلاله والحقيقة الدائمة التي تتصل بالتكوين الدائم لعقل الإنسان وقلبه ومجتمعه وتلبي جميع حاجاته وطموحاته .
انها الثورة الوحيدة من بين تلك الثورات والإتنفاضات التي عبأت الإنسان المسلم وغيره منذ حدوثها ودفعت به في الطريق الدامي الطويل طريق النضال والتحرير من الاستغلال والاستعباد والتسلط وأسهمت ولا تزال تسهم بدور هام في تكوين الشخصية الثقافية والاجتماعية والسياسية بعد أن كان المسلمون يوم ذاك يفقدون حريتهم وروحهم النضالية وحتى وجودهم بفعل سياسة الحاكمين الأمويين ، ولدقمت مع ذلك للأمة نماذج من القيادات والاتباع ترسم لها مواقعها في مواجهة الأحداث والمواقف التي تعترض طريقها في مسيرتها نحو المستقبل الأفضل والمجتمع الافضل ، واستمرت تلك القيادات في مسيرتها بالرغم مما كان


( 9 )

يعترضها من انتكاسات تعرقل مسيرتها وأحيانا إلى الفشل الذي كان من تتائج تشدد تلك الانظمة في اجراءات القمع والارهاب لترسيخ انظمتهم التي فرضوها على المجتمع من جميع نواحيه ، ومع كل ما مرت به تلك القيادات خلال مسيرتها التاريخية من مراحل الصراع والجهاد تعرض فيها الشيعة لألوان من الاذى والعدوان ، فقد كان لها مواقف مشهورة وبطولات رائعة كانت ثورة الحسين تمدها بالعزيمة والثبات وتدفع بهم إلى الإمام واستمرت تلك الثورات التي كانت روح كربلاء تسيرها يتلو بعضها بعضاً في مواجهة تلك الدولة الجائرة حتى أنهكتها وقضت عليها وجلت محلها دولة اخرى قامت بسواعد الشيعة التي كانت تمثلها الدولة الحسين تسيرهم ، ولكنها مثلث اسوأ الأدوار التي كانت تمثلها الدولة الأموية ، فكانت الثورات والانتفاضات تتلو الواحدة الأخرى بقيادة العلويين وغيرهم إلى غير ذلك من الانتفاضات التي لا يخلو منها عصر من العصور ولا زمان ومكان ، ولكن البعض من تلك الثورات لم يكتب لها ولا لقادتها الخلود إلا لفترات محدودة من الزمن لأنها كانت وليدة ظروف محدودة أو انفعالات عاطفية أو مصالح مخصوصة إلى غير ذلك من الدوافع وكان عمرها محمدودا بعمر محتواها وطواها التاريخ كما طوى غيرها من الإحداث .
ان ثورة الحسين كانت الوهج الساطع الذي اضاء المسالك لمن أراد المسيرة بالإسلام في طريقها الصحيح والمرآة الصافية للتخلص من الحاضر الذي كانت تعيشه الأمة ومن واقعها الذي كانت ترسف في أغلاله ، ومن اجل ذلك فقد دخلت في أعماقهم جيلاً بعد جيل وستبقى خالدة خلود قادتها تستمد بقاءها وخلودها من اخلاص قادتها وتفانيهم في سبيل الإسلام والمثل العليا ما دام التاريخ .
وكنت قد تحدثت عن ثورة الحسين ودوافعها بشكل اقرب إلى اليجاز منه إلى التبسيط في كتابي الانتفاضات الشيعية في العصر الأموي


( 10 )

وعرضت فيه صوراً عن مواقف العقيلة الكبرى زينب بنت علي وفاطمة في كربلاء والكوفة وقصر الخضراء في مجلس يزيد بن ميسون ، وبعد تلزيم الكتاب إلى الناشر وتقديمه إلى المطبعة وجدت رغبة ملحة من بعض الشباب المؤمن في اصدار كتاب مستقل حول اهداف الثورة الحسينية ومراحلها وحياة العقيلة ومراحلها من طفولتها إلى آخر مرحلة منها ومرقدها الذي لا يزال مجهولا ومرددا بين المدينة وضاحية الشام ومحلة الفسطاط من القاهرة وعن المآتم الحسينية والمراحل التي مرت بها خلال تلك العصور التي تلت مصرع الحسين (ع) لتكون في متناول الجميع على حد تعبير أولئك الشباب .
بعد تردد دام وقتاً ليس بالقصير وبعد الالحاح لتحقيق هذه الأمنية وضعت هذا الكتاب وافتتحته بفصل عن الثورة الحسينية وأهدافها استخلصت قسماً من ذلك الفصل مما عرضته في كتابي الانتفاضات الشيعية وأضفت إليه ما انتهيت إليه في هذه الدراسة وعرضت ابرز الجوانب من حياة العقلية منذ طفولتها وما قيل حول مرقدها كما تعرضت للمآتم الحسينية ومراحلها ومواقف الحاكمين منها الموالين والمخالفين وقد جرني البحث عن مراقد الأئمة والأولياء إلى الوقوف قليلاً مع اولئك الحاقدين على الشيعة من شيوخ الوهابيين وغيرهم وأرجو أن أكون قد وفقت لكشف بعض الحقائق التي لا يزال يكتنفها الغموض ولتلبية رغبات الشباب وبقية القراء ومنه سبحانه أستمد العون والتوفيق وأن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم وأن لا يحرمني من شفاعة الحسين وأبيه وجده أنه قريب مجيب .

هاشم معروف الحسني



( 11 )

موقف الحسين (ع) من معاوية وتحركاته

لقد اتخذ معاوية وغيره من الحاكمين الأمويين من الإسلام طلاء خفيفاً يسترون به نزعاتهم الجاهلية التي كانوا يعملون لإحيائها وتحوير الإسلام إلى مؤسسة تخدم مصالحهم وأهوائهم وكان المجتمع الإسلامي يتململ تحت وطأة الظلم والاضطهاد الذي عبرت عنه مواقف حجر عن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي وأصحابهما الذين قاوموا ظلم معاوية وأنصاره ، ولكن تلك المقاومة لم تأخذ مداها ولم تضع حداً لتصرفات الحاكمين وجورهم بل سرعان ما كانت تهمد أو تموت في مهدها عندما يلاحق اولئك الجزارون طلائهما بقتلهم أو زجهم في السجون والمعتقلات بدون أن يحرك المجتمع ساكنا ، وإذا تحرك انسان أغدقوا عليه الأموال وأغروه بالوعود كما حدث لمالك بن هبيرة السكوني الذي غضب لمصرع حجر بن عدي وأصحابه وراح يستعد للثورة ولما علم بتحركه معاوية ارسل إليه معاوية مائة ألف درهم فأخذها وطابت نفسه .
لقد عاصر الحسين (ع) جميع تلك التحركات التي قام بها الأمويون


( 12 )

والحاقدون على الإسلام ومبادئه الإنسانية العادلة ، لقد عاصرها منذ أن نشئت مع أبيه وأخيه وأصحابهما الكرام ، وها هو بعد استشهاد أخيه بجنود العسل التي أعدها معاوية لكل من كان يخشى منه على دولته وأمويته ، يقف وحيداً في وجه معاوية وأجهزة حكمه الإرهابي ، ويرى بعينيه اولئك الصفة بقية السيف من شيعة أبيه وأخيه يساقون أفواجا إلى الجلادين والجزارين في مرج عذراء وقصر الخضراء ، ويرى منهج معاوية وحواشيه الذي اعتمدوه للوصول بالأمة إلى هذا المصير الكالح وكيف يطاردون ويضطهدون العشرات والمئات من المسلمين عندما ينكرون ظلماً وعدواناً على القيم والمقدسات وكرامة الإنسان .
لقد عاصر مع أبيه وأخيه جميع تحركاتهم المعادية للإسلام وبقي وحيداً في ساحة الصراع مع معاوية وأجهزة حكمه الإرهابي المستبد الذي أراد للأمة أن تتحول عن أهدافها وللإسلام أن ينحرف عن مسيرته ورآهم كيف يحورون الإسلام ويزوّرون مبادئه الإنسانية التي جاء بها محمد بن عبدالله رحمة للعالمين ، ورأى حملة التخدير على حساب الدين والكذب على رسول الله وكيف يبيع المسلم نفسه وحياته وحريته وكرامته بحفنة من الدراهم للحاكمين الظالمين ويرضى بحياته على ما فيها من نكد وقسوة وحرمان .
لقد رأى كل ذلك وكان القلق يستبد به والألم يحز نفسه وقلبه لمصير الرسالة والإنسانية في ظل هذا التحول الخطير الذي كان الأمويون يعملون على تعميقه واستئصال الشخصية الإسلامية ليطمئن الحاكمون ان تصرفاتهم لن تثير أي استنكار لدى الجماهير ويختفي من ضمائرهم الشعور بالإثم الذي يدفع المسلم إلى الثورة على الظلم والظالمين .
لقد استخدم الأمويون لإستئصال الروح الإسلامية والشخصية الإسلامية بالإضافة إلى الأموال وجميع وسائل الإرهاب ، مدرسة الرواة


( 13 )

والمحدثين والقصاصين وعلى رأس هذه المدرسة أبو هريرة وكعب الاحبار وسمرة بن جندب وغيرهم ممن استخدموهم لصنع الأحاديث وأفرزت مصانعهم ألوانا من الأحاديث نسبت إلى النبي (ص) افتراء وبهتاناً ، ومن ابرزها وأرضاها لمعاوية والحزب الأموي ما كان يتضمن القدح في علي وآل علي .
لقد بذل معاوية ما يعادل نصف المليون من الدراهم لسمرة بن جندب ليروي له عن الرسول ان الآية ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا واذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل نزلت في علي بن أبي طالب ، وان الآية ومن الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضات الله نزلت في قاتله عبد الرحمن بن ملجم فروى له ما أراد إلى كثير من أمثال ذلك حتى اصبح تسخير المحدثين لهذه الغاية من السنن المتبعة عند من جاء بعده من الأمويين والعباسيين .
فقد جاء عن هشام بن الحكم انه طلب من شهاب الزهري أو غيره من الرواة ان يروي له عن الرسول أن الآية والذي تولى كبره له غذاب أليم نزلت في علي بن أبي طالب فروى له ما أراد وعندما أوعز الحاكمون لأنصارهم بتدوين الحديث دونوا جميع هذه الأنواع من المخترعات ولم يأذنوا لهم بتدوين ما جاء عن النبي في فضله ، فقد جاء في المجلد الثاني من ضحى الإسلام لأحمد امين ان خالد بن عبدالله القسري طلب من الزهري ان يكتب سيرة النبي ، فقال له الزهري : ان سيرة النبي يمر بها الكثير من سيرة علي ومواقفه الخالدة في خدمة الإسلام فما أصنع بهذا النوع من المرويات ؟ فلم يأذن له بتدوين شيء يشير إلى فضل علي وتمجيده إلا إذا تضمن قدحا أو ذما .
ومن تلك الألوان التي افرزتها تلك المدرسة ما يرجع إلى تمجيد بني أمية وبلاد الشام وما إلى ذلك مما يتعلق بعثمان بن عفان ومعاوية بن هند


( 14 )

واعطائهما صفات القديسين كالذي رواه أبو هريرة عن النبي (ص) أنه قال : ان الله ائتمن على وصيه ثلاثة انا وجبرائيل ومعاوية ، وأنه قال : اذا لقيتم بعدي اختلافاً فعليكم بالأمين عثمان بن عفان .
ومن تلك المرويات ما يرجع إلى تخدير المسلمين عن الثورة والتحرك ضد الحاكمين مهماً بالغوا في الجور والظلم وان مقاومتهم لإستبدالهم بغيرهم حتى ولو كان البديل من أعدل الناس وأحرصهم على مصالح المسلمين وعلى مسيرة الإسلام لا يقرها الإسلام .
فمن ذلك ما رواه اصحاب الصحاح عن النبي (ص) انه كان يقول : من رأى من اميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه فان من فارق الجماعة شبرا ومات مات ميتة جاهلية ، وأنه كان يقول : ستكون بعدي هنات وهنات فمن اراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جمع فاضربوه بالسيف كائنا من كان ومن خرج على أمام زمانه فاقتلوه ، إلى غير ذلك مما رواه البخاري في صحيحه وغيره من محدثي السنة في مجاميعهم .
وإلى جانب ما انتجته مصانع ابي هريرة وغيره من تلك العصابة اخترع الحاكمون لونا آخر من ألوان التضليل الديني وهو تأسيس الفرق الدينية التي تقدم للجماهير تفسيرات للدين تخدم تسلط الحاكمين وتبرر جورهم وظلمهم كفرقتي المرجئة والمجبرة اللتين ظهرتا في عهد معاوية وساعد على دعمهما وانتشارهما حتى اصبحتا من أوفر المذاهب حظا لدى الحاكمين وفراعنة العصور ، هذا بالإضافة إلى عدالة الصحابة التي لا تقل خطراً عن فكرتي الإرجاء والجبر والتي تجعله واباه والمروانيين الاوزاع من الكذبة والمجرمين في صفوف الصلحاء ولا تسمح لا حد أن ينالهم بسوء .
لقد رافق ابو عبدالله كل ذلك وكان يتلوى ويتألم للمصير الشيء الذي ينتظر الإسلام من معاوية وغيره من القردة الذين سينزون على منبر الرسول ويستخدمون الإسلام لجاهليتهم الأولى ، وكانت مبررات


( 15 )

الثورة على الحكم الأموي موفورة في عهد معاوية والحسين يدركها ويعرفها وأحيانا كان يعبر عنها في المجالس والمجتمعات والمناسبات ويصارح بها معاوية في الرسائل التي كان يوجهها إليه بين الحين والأخر .
وجاء في بعض اجوبة رسائله إليه : وهيهات هيهات يا معاوية لقد فضح الصبح الدجى وبهرت الشمس أنوار السرج لقد فضلت حتى افرطت واستأثرت حتى اجحفت ومنعت حتى بخلت وصبرت حتى جاوزت ولم تبذل الذي حق حقه بنصيب حتى اخذ الشيطان منك حظة الاوفر ونصيبه الأكبر .
وفي رسالة ثانية وجهها إليه جاء فيها : أولست المدي لزياد بن سمية المولود على فراش عبيد من ثقيف وزعمت انه ابن ابيك ورسول الله يقول : الولد للفراش وللعاهر الحجر فتركت سنة رسول الله واتبعت أهواءك بغير هدى من الله ، ولم تكتف بذلك حتى سلطته على المسلمين يقطع أيديهم وأرجلهم ويسمل عيونهم ويصلبهم على جذوع النخل حتى كأنك لست من هذه الأمة وليسوا منك .
أولست يا معاوية صاحب الحضرميين الذين كتب فيهما ابن سمية انهما على دين علي (ع) فكتبت إليه ان يقتل كل من كان على دين علي فقتلهم ومثل فيهم بأمرك ودين علي هو دين ابن عمه الذي كان يضربك ويضرب عليه آباءك وبه جلست مجلسك الذي انت عليه ، وقلت فيها قلت : انظر لنفسك ولأمة جدك ولدينك أن تشق عصا هذه الأمة وأن تردهم إلى فتنة ، وأني يا معاوية لا أعلم فتنة اعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها ولا اعظم نظرا لنفسي ولديني ولأمة جدي من ان أجاهدك .
وكان معاوية بتمنى عليه ان يخفف من أسلوبه معه ويتوسل لذلك وبالشدة حينا وباللين والمغريات حيناً آخر وبخاصة عندما عزم على البيعة لولده من بعده ، لان سكوته يؤمن له انقياد الامة ويمكنه من ممارسة سياسته بدون خشية ولكن الشدة لم تكن لتحد من نشاطه ولا المغريات


( 16 )

لتخدعه عما يؤمن به ويعمل من اجله لان دوره الرسالي يفرض عليه ان لا يسكت ولا يهادن وأن يثور راجياً ان تهز ثورته ضمير الأمة التي انحنت وخضعت لجبروت السلطة زمنا طويلاً ، ولأن المجتمع الذي خضع طويلاً لجبروت الأمويين وانحنى لكبريائهم لم يعد يصلحه الكلام ولا بد له من شيء جديد يهزه ويحركه .
هذا الواقع الكالح الذي كانت تتخبط فيه الأمة وضع الحسين (ع) وجهاً لوجه امام دوره التاريخي ورسالته النضالية وفرض عليه أن يثور من اجل وكامة الأمة والنقاذ شريعة جده من اعدائها الألداء عندما يجد ان ثورته ستعطي ثمارها المرجوة وان شهادته ستقضّ مضاجع الظالمين والطغاة المستبدين وتبقى المثل الغني بالعطاء لكل ثائر على الظلم والجور والطغيان في شرق الارض وغربها .


( 17 )

( لماذا حارب الحسين يزيداً ولم يحارب معاوية )

والسؤال الذي يراود الأذهان في المقام ويفرض نفسه هو ان الحسين (ع) لقد عاصر معاوية مع ابيه وأخيه وعاصره بعد اخيه كما ذكرنا نحواً من عشر سنوات وكان وحده مهوى الافئدة ومحط آمال المعذبين والمشردين والمضطهدين ولم يترك معاوية خلال تلك المدة من حكمه باباً من ابواب الظلم الا وانطلق منه ولا منفذا للتسلط على الناس إلا وأطل منه فقتل آلاف الصلحاء وعذب وشرد واضطهد مئات الالوف بلا جرم ارتكبوه ولا بيعة نقضوها ، وكان ذنبهم الأول والأخير هو ولائهم لعلي وآل علي وكان القدوة لجميع من جاء بعده من الأمويين في جورهم واستهتارهم بالقيم والمقدسات وتحوير الإسلام إلى الشكل الذي يحقق أحلام أبي جهل وأبي سفيان وغيرهما من طواغيت القرشيين والأمويين ، ولم يكن ولده ابن ميسون إلا صنيعة من صنائعه وسيئة من سيآته ، فلماذا والحالة هذه قعد عن الثورة المسلحة في عهد معاوية مع وجود جميع مبرراتها واكتفى بالثورة الإعلامية في حين ان المبررات التي


( 18 )

دفعته على الثورة على يزيد كانت امتدادا لتلك التي كان يمارسها معاوية من قبله .
هذا التساؤل يبدو ولأول نظرة سليما ومقبولاً ولكنه بعد التدقيق ومتابعة الإحداث التي كان المسلمون يعانون منها وواقع معاوية بن هند والوسائل التي كان يستعملها لتغطية جرائمه لم يعد لهذا التساؤل ما يبرره ذلك لأن الواقع المرير الذي فرض على الإمام ابي محمد الحسن بن علي (ع) ان يصالح معاوية ويتنازل له عن السلطة الزمنية فرض على الحسين ان لا يتحرك عسكريا في عهد معاوية وأن يفرض على شيعته وأصحابه الخلود إلى السكينة وانتظار الوقت المناسب ، لأن الحسن لو حارب معاوية في تلك الظروف المشحونة بالفتن والمتناقضات مع تخاذل جيشه وتشتيت أهوائهم وآرائهم ، ومع شراء معاوية لأكثر قادتهم ورؤسائهم بالأموال والوعود المغرية بالإضافة إلى ما كان يملكه من وسائل التضليل والإعلام التي كان يستخدمها لتضليل الرأي العام ، لو حارب الحسن في تلك الظروف فكل الدلائل تشير إلى ان الحرب ستكلفه نفسه ونفس اخيه الحسين واستئصال المخلصين من أتباعه وشيعته ولا ينتج منها سوى قائمة جديدة من الشهداء تضاف إلى القوائم التي دفنت في مرج عذراء ودمشق والكوفة وغيرها من مقابر الشهداء الأبرار .
وبلا شك فان الإمام أبا محمد الحسن لم يكن يتهيب الشهادة لو كانت تخدم المصلحة العامة وتعد المجتمع الإسلامي إعداداً سليما للثورة والتضحية بكل شيء في سبيل المبدأ والعقيدة كما فعلت ثورة الحسين في حينها التي قدمت للإنسان المسلم نمطاً جديداً من الثوار لا يستسلم للضغوط مهما بلغ حجمها ولا يسام على انسانيته ودينه ومبدأه مهماً كانت التضحيات ، ولم يكن الحسين أقل إدراكاً لواقع المجتمع العراقي


( 19 )

من اخيه الحسن ، فقد رأى من خيانته وتخاذله واستسلامه للضغوط مثل ما رأى اخوه وأبوه من قبله لذلك كله فقد آثر التريث لبينما تتوفر لشهادته ان تعطي النتائج التي تخدم الإسلام وتبعث اليقظة والروح النضالية في نفوس المسلمين وراح يعمل على تهيئة المجتمع الإسلامي للثورة وتعبئته لها بدل ان يحمل على القيام بثورة ستكون فاشلة في عهد معاوية وتكون نتائجها لغير صالحه .
لقد مضى على ذلك في حياة اخيه وبعد وفاته ففي حياته حينما جاءته وفود الكوفة تطلب منه ان يثور على معاوية بعد أن يئسوا من استجابة أخيه ، قال لهم : لقد صدق أخي أبو محمد فليكن كل رجل منكم حلسا من احلاس بيته ما دام معاوية حيا كما جاء في الأخبار الطوال للديمري ، وبعد أخيه كتبوا إليه ووقدوا عليه يسألونه القدوم عليهم ومناهضة معاوية فأصر على موقفه الأول وقال لهم : أما أخي فأرجو أن يكون قد وفقه الله وسدده فيما فعل وأمام انا فليس من رأيي أن تتحركوا في عهد معاوية فالصقوا بالأرض وأكمنوا في البيوت واحترسوا من الظنة والتهمة ما دام معاوية حياً ، إلى كثير من مواقفه التي تؤكد بأنه كان يرى أن الثورة على معاوية لا تخدم مصلحة الإسلام والمسلمين وان الخلود إلى السكينة والبتعاد عن كل ما يثير الشبهات وضغائن الأمويين عليه وعلى شيعته وأنصاره في حياة معاوية أجدى وأنفع لهم وللمصلحة العامة وفي الوقت ذاته كان كما ذكرنا يعمل لإعداد المجتمع وتعبئته بانتظار اليوم الذي يطمئن فيه بأن شهادته ستعطي النتائج المرجوة .
وبالفعل لقد اتسعت المعارضة في عهده وظهرت عليها بوادر التغير والميل إلى العنف والشدة وبخاصة بعد أن جعل ولاية عهده لولده الخليع المستهتر ، فكان لكل حدث من أحداث معاوية صدى مدويا في أوساط المدينة وخارجها حيث الإمام الحسين الرجل الذي اتجهت إليه الأنظار


( 20 )

من كل حدب وصوب وهو ما حدا بالأمويين إلى التحسس بهذا الواقع والتخوف من نتائجه . فكتب مروان بن الحكم إلى معاوية يحذره من التغاضي عن الحسين وأنصاره وجاء في كتابه إليه : ان رجالا من أهل العراق ووجوه الحجاز يختلفون الى الحسين بن علي وأني لا آمن وثوبه بين لحظة وأخرى ، وقد بلغني استعداده لذلك فاكتب الي برأيك في امره ، ولم يكن معاوية في غفلة عن ذلك وكان قد أعد لكل أمر عدته بوسائله التي كان يهيمن بها على الجماهير المسلمة ، والحسين يعرف ذلك ويعرف بأن ثورته لو كانت في ذلك الظرف ستنجلي عن استشهاده ، والاستشهاد بنظره لا وزن له ولا قيمة إذا لم يترك على دروب الناس وفي قلوبهم وهجا ساطعا تسير الأجيال على ضوئه في ثورتها على الظلم والطغيان في كل أرض وزمان .
وكان معاوية يدرك ويعي بما للحسين من منزلة في القلوب وبأن ثورته عليه ستزجه في أجواء تعكر عليه بهاء انتصاراته التي احرزها في معركة صفين وفي صلحه مع الإمام الحسن بن علي (ع) ، ولو قدر لها ان تحدث بوم ذاك فسوف يعمل بكل ما لديه من الوسائل ليتخلص منه قبل استفحالها وقبل ان يكون لها ذلك الصدى المفزع في الأوساط الإسلامية ولو بواسطة جنود العسل التي كان يتباهى بها ويستعملها للفتك بأخصامه السياسيين حينما كان يحس بخطرهم على دولته وأمويته ولو تعذر عليه ذلك فسوف يمارس جميع أشكال الإحتيال والتضليل والمراوغة حتى لا يكون لشهادة الحسين ذلك الوهج الساطع الذي ينفذ الى الأعماق ويحرك الضمائر والقلوب للثورة على دولته وأعوانها ، ولكي يبقى أثرها محدوداً لا يتجاوز قلوب أهله ومحبيه وشيعته إلى حين ثم يطوي النسيان ذكراه كما يطوي جميع الذكريات والإحداث .
ولعل ذلك هو الذي اضطر الحسين إلى التريث وعدم مواجهة معاوية بالحرب ودعوة اصحابه وشيعته الذين كانوا يراسلونه ويتوافدون


( 21 )

عليه بين الحين والآخر إلى أن يلتصقوا بالأرض ويكمنوا في بيوتهم ويحترسوا من كل ما يشير حولهم الظنون والشبهات ما دام معاوية حياً .
وكما كان يعرف معاوية وأساليبه كان يعرف أن خليفته الجديد محدود في تفكيره ينساق مع عواطفه وشهواته وتلبية رغباته إلى أبعد الحدود بارتكاب المحارم والآثام والتحلل من التقاليد الإسلامية ويندفع مع نزقه فيما يعترضه من الصعاب من غير تقدير لما وراءها من المخاطر ، ومن اجل ذلك وقف من بيعته ذلك الموقف واعبرها من أخطر الإحداث على مصير الأمة ومقدراتها ، ولم يجد بدا من مقاومتها وهو يعلم بأن وراء مقاومته الشهادة وان شهادته ستؤدي دورها الكامل وتصنع الإنتفاضة تلو الأخرى ، حتى النصر ، ولم يكن باستطاعة يزيد مواجهتها بالأساليب التي اعتاد ابوه تغطية جرائمه بها ، لأنه كما وصفه البلاذري في أنساب الأشراف من أبعد الناس عن الحذر والحيطة والتروي صغير العقل متهوراً سطحي التفكير لا يهم بشيء إلا ركبه ، ومن كان بهذه الصفات لا بد وأن يواجه الإحداث بالأسلوب الذي يتفق مع شخصيته ، وهو ما حدث في النهاية بالنسبة إليها وإلى غيرها من المشاكل التي واجهته خلال السنين الخمس التي حكم فيها بعد أبيه .