موقف الحسين من بيعة يزيد بن ميسون

لقد كان الحسين الوارث الوحيد لتلك الثورة التي فجرها جده الرسول الأعظم على الجاهلية الرعناء والعنصرية والوثنية لانقاذ المستضعفين في الأرض من الظلم والتسلط والإستعباد وواصلها أبوه وأخوه من قبله ، وكان دوره القيادي للسير بها على خطا جده وأبيه سنة ستين للهجرة حيث الأمة كانت بانتظار من ينهض بأعبائها ويكون الحارس الأمين المسؤول عنها بها أن اخذت دعائمها تنهار وتتقوض تحت ضربات بني أمية وأعوانهم ، وجميع معطياتها التي انطلقت قبل خمسين عاماً أو أكثر قد صادرها الأمويون وأعوانهم والكتاب الكريم رفع على حرابهم وحراب جلاديهم ، والفكر العقائدي الذي جاء به الإسلام ليبني العقول والقلوب خضع لتوجيه السلطات الحاكمة ، وسيوف المجاهدين انتقلت إلى الجلاوزة والجلادين للتنكيل بالصلحاء والإبرياء ، والصدقات والغنائم التي كانت تصل إلى مسجد الرسول وتذهب منه إلى بيوت الفقراء والمساكين اصبحت تنتقل إلى قصر الخضراء لشراء الضمائر


( 23 )

وتخدير المعارضين للسلطة الحاكمية وجيل الثورة الثاني بين من تعرض للإبادة الجماعية في مرج عذراء وقصر الخضراء وبين من سيطرات عليهم مبادئ الردة والمرجئة والمجبرة والمتصوفة فأقعدتهم عن التحرك وافقدتهم القدرة على النضال وغرست في نفوسهم وقلوبهم بذور الإستسلام للواقع المرير الذي كانت تتخبط فيه الأمة من جور الأمويين وامعانهم في تزوير السنة وتحريف مبادئ الإسلام وتعاليمه لصالح جاهليتهم التي حاربت محمداً اكثر من عشرين عاماً .
ومن هنا كان دور الحسين الوريث الوحيد لثورة جده وأبيه على الشرك والوثنية والعنصرية شاقاً وعسيراً لأنه لم يرث معها جيشاً ولا سلاحاً ولا مالا ولا أي قوة جبهوية أو مجموعة منظمة غير نفسه وحفنة من بنيه واخوته لم يكن يملك غير ذلك ويملك في الوقت ذاته القدرة على الإنزواء للعبادة ومكانه من الجنة مضمون ، ولكنه لم يكن من طينة أولئك الذين اختاروا العبادة طريقاً إلى الجنة بدلاً عن الجهاد والتضحيات ، لأنه يدرك ان الطريق الأكمل الى الله هو طريق الحق وطريق الحق هو الجهاد والنضال والإلتزام بمبادئ الثورة الإسلامية وتعليمها ، وإذا جاز على غيره من صلحاء المسلمين ان ينزوي في المساجد للعبادة ويتخلى عن النضال والجهاد فلا يجوز ذلك على الحسين وارث الرسول وعلى (ع) بأن يتخلى عن وعيه النظالي ويلجأ إلى زوايا المعابد تاركاً للجاهلية الجديدة المتمثلة في حكم يزيد أن تستفحل في بطشها بقيم الحق والعدل وكرامة الإنسان فلم يبق امامه إلا الثورة وبدونها لا يكون سبطاً للرسول وابنا لعلي (ع) ووارثاً لهما وقدره ان يكون شهيداً وابنا لأكرم الشهداء وأبا لآلاف الشهداء ، وأن يكون المثل الأعلى لجميع الأحرار الذين يناضلون من أجل الحق والعدل والمستضعفين في الارض من الرجال والنساء .


( 24 )

لقد حاول معاوية أن يفرض بيعة ولده يزيد على الحسين فلم يتهيأ له ذلك ولا سكوته عنه وهو أدنى ما كان يرجوه معاوية ويتمناه ، واستمر الحسين على موقفه من تلك البيعة التي فرضها معاوية على المسلمين بالسلاح والمال والتشهير بمعاوية وأحداثه وتحريض المسلمين على تلك البيعة الغادرة ، ومات معاوية سنة ستين من الهجرة والحسين على موقفه المتصلب منها ، كما امتنع جماعة من البيعة تاسياً بالحسين (ع) .
وكما ذكرنا من قبل فان يزيد بن ميسون لم يكن كأبيه في حزمه واحتياطه للمشاكل والإحداث والتستر بالدين ليسدل ذلك الستار الشفاف على جرائمه وتصرفاته كما كان يفعل ابوه من قبله ، ولما انتقلت السلطة اليه كان من الأولويات عنده ان يلزم الحسين ومن تخلف معه من وجوه الصحابة ببيعته فكتب إلى الوليد بن عقبة حاكم المدينة يوم ذاك كتاباً يأمره فيه أن يأخذ البيعة من الحسين وعبدالله بن عمر وابن الزبير ولا يسمح لهم بالتاخير ولو لحظة واحدة ، وعندما استلم الكتاب استدعي الحسين إليه ليلاً ، وعندما دخل الحسين عليه اخبره بموت معاوية وقرأ عليه كتاب يزيد إليه فاراد الحسين (ع) ان يتخلص منه بدون استعمال العنف ، فقال له : مثلي لا يبايع سراً فإذا خرجت غداً إلى الناس ودعوتهم لها أرجو أن يكون أمرنا واحداً ، وكان الوليد يتمنى أن لا تضطره الأمور الى التورط مع الحسين بما يسيء إليه فاقتنع بجوابه ، ولكن مروان بن الحكم ابت له أمويته الحاقدة أن يخرج الحسين من مجلس الوالي معززاً مكرماً كما دخل فحاول أن يستفزه ويشحنه عليه فقال له : لأن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها حتى تكثر القتل بينك وبينه ولكن احبسه فان أبى ولم يبايع فاضرب عنقه .
وهنا لم يعد إمام الحسين (ع) في مقابل هذا التحدي الصارخ إلا أن


( 25 )

يعلن عن موقفه من يزيد وحكومته وعن تصميمه على الثورة مهما كانت التضحيات وقد أصبح وجها لوجه أمام دوره التاريخي الذي يتحتم عليه أن يصنعه فوثب عند ذلك ليعلن عما ينطوي عليه بكل ما في الصراحة من معنى فقال له : ويلي عليك يا ابن الزرقاء انت تأمر بضرب عنقي كذبت ولؤمت ، ثم اقبل على الوليد وقال : أيها الأمير انا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم ويزيد فاسق فأجر شارب المخمور وقاتل للنفوس المحترمة ومستحل لجميع الحرمات ومثلي لا يبايع مثله .
وجاء في مثير الأحزان لإبن نما ان الوليد بتحريض من مروان رد على الحسين بأسلوب يتسم بالحجة والغلظة فهجم من كان مع الحسين من اخوته ومواليه وبيدهم الخناجر وأخرجوه من المنزل ، فقال له مروان : لقد عصيتني والله لا يمكنك من مثلها ابداً ، فرد عليه الوليد بقوله كما جاء في رواية الطبري : ويح غيرك يا مروان لقد اخترت لي ما فيه هلاك ديني أقتل حسيناً ان قال لا أبايع يزيداً والله أن امرءا يحاسب بدم الحسين لخفيف الميزان يوم القيامة لا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب اليم .
واضاف إلى ذلك ابن عساكر في تاريخه ان أسماء بنت عبد الرحمن بن الحارث زوجة الوليد انكرت عليه ما جرى منه مع الحسين (ع) فأجابها بأنه كان هو البادئ بالشتم والسب ، فقالت له : أتسبه وتسب أباه أن سبك ، فقال لها لا أعود لذلك ابداً .
لقد اعلن الحسين ثورته على يزيد ودولته بتلك الكلمات التي وجهها إلى الوليد بن عقبة المكلف بتوطيد حكمه في الحجاز وفي مدينة الرسول بالذات ولم يكن الوالي يحسب أن الحسين سيعلنها في مجلسه بتلك الصراحة وفي المجلس من هم أشد عداء لمحمد وآل محمد ورسالة محمد


( 26 )

من يزيد وابيه .
ان فيه الوزع وابن الوزع طريد رسول الله الذي لا يستطيع ان يزيح عن قلبه ونفسه تلك العقد الدفينة التي خلفتها معاركهم مع الإسلام وانتصاراته التي ارغمتهم على التظاهر به مرغمين وما تلا ذلك من ابعادهم عن المدينة إلى مكان مقفر من بلاد الطائف وتحريض المسلمين على مقاطعتهم رداً على أيذائهم للنبي وتجسسهم عليه وهو في بيته مع أهله ونسائه .
هذا الموقف وما تلاه من المواقف الأخرى التي كان من جملتها موقفه مع مروان بن الحكم وهو ينصحه ان يبايع ليزيد بن معاوية فرد عليه بقوله : وعلى الإسلام السلام إذا ابتليت الأمة براع مثل يزيد بن معاوية ، وقوله ان الخلافة محرمة على آل أبي سفيان ، كل هذه المواقف الحسينية تشكل إعلاناً صريحاً لتصميمه على الثورة ومناهضة الحكم الأموي بقيادة يزيد بن معاوية مهما بلغ حجم التضحيات في سبيلها ، وقد بلغت مواقفه هذه يزيداً بأقصى حدود السرعة بواسطة الأمويين الذين كانوا يفاوضونه ويراقبون جميع تحركاته وتصرفاته ويحصون عليه حتى أنفاسه .
لقد بلغت مواقف الحسين يزيداً بكل أبعادها ومضاعفاتها فأفقدته وعيه واندفع مع نزقه ومضى يعمل للتخلص من الحسين قبل أن يخرج من مدينة جده ويستفحل خطره فدس جماعة من جلاديه لقتله في المدينة قبل مغادرتها إلى العراق أو إي بلد آخر كما تؤكد ذلك أكثر المصادر ، ولعل ذلك هو ما حداً بالحسين إلى مغادرة المدينة إلى مكة مع بنيه وأخوته وأسرته ليفوت على يزيد بن ميسون وحفيد هند آكلة الأكباد ما كان يخطط له من اجهاض ثورته وهي لا تزال في مراحلها الأولى . وقد اختار الحسين (ع) لنفسه مكة وهو في طريقه إلى الشهادة على تراب كربلاء ليضع المسلمين حيث يجتمعون فيها في ذلك الفصل من جميع مناطق الحجاز امام الواقع المرير الذي ينتظرهم في ذلك العهد المظلم ، ويضع


( 27 )

بين أيديهم ما يحدق بالاسلام من دولة أبي سفيان العدو الأكبر لمحمد ورسالته وماعزم عليه من الثورة والتضحية لانقاذ شريعة جده من اولئك المردة أحفاد ابي سفيان والحكم بن العاص طريد رسول الله حتى ولو كلفه ذلك حياته وحياة بنيه وجميع أسرته ، وفيها اجتمع بتلك الوفود ومن بقي من أنصر جده ووضعهم تجاه مسؤولياتهم واستعرض جميع أحداث معاوية ومواقفه المعادية للإسلام وما ينتظرهم من خليفته واستعرض جميع أحداث معاوية ومواقفه المعادية للإسلام وما ينتظرهم من خليفته المستهتر الخليع ودعاهم إلى نصرته وجهاد الظالمين ، ومضى في طريقه إلى الهدف الاُسمى والغاية القصوى وهو يتمثل بقول القائل :

ان كان دين محمد لم يستقم * إلا بقتلي يا سيوف خذيني

تاركاً وراءه آراء المشيرين والناصحين الذين لم تتسع آفاقهم لأهداف ثورته وما سيكون لها من الآثار السخية بالعطاء على مدى التاريخ .


( 28 )

( سنة احدى وستين )

لقد كانت سنة أحدى وستين مسرحاً لصراع عنيف بين ارادتين ووقف التاريخ مذهولاً بين تلك الإرادتين ارادة الخير وإرادة الشر تمثلت الإولى في شخصية عظيمة خرجت من بيت علي وفاطمة أضفت عليها القداسة هالة من الأشعاع كأنه اشعاع الفجر المنبلج في كبد الظلام ، وتمثلت الثانية ارادة الشر في رجل أقل ما يقال فيه انه كان ربيب الشرك والجاهلية وحفيداً لأبي سفيان وزوجته هند آكلة الأكباد .
والأول هو الإمام الحسين سبط الرسول الأعظم وشبل علي بن أبي طالب (ع) ذلك الإمام العظيم والبطل الخالد .
لقد كان الحسين فرعاً لشجرة التوحيد الممتدة جذورها الطيبة الزكية لهاشم سيد العرب في زمانه ويزيد شوكة من حسك نابت في تربة سبخة من أرض موات أنبتت اخبث شجرة كان بنو أمية من نتاجها ، ولقد عكست واقعة الطف الدامية التي شهدت مأساتها أرض كربلاء أثر كلا الجانبين بل أثر تلك الإرادتين الإرادة الخيرة الهادفة


( 29 )

للإصلاح واستئصال الشرك والوثنية تلك الإرادة المتمثلة في الحسين وصحبه ، والإرادة الثانية الشريرة الهادفة للفساد وسفك الدماء واستعباد الصلحاء والاحرار واعادة الجاهلية بكل أشكالها ومعالمها كما كان يمثلها حفيد ابي سفيان وآكلة الأكباد .
لقد وقف الحسين وقفته العظيمة التي حيرت العقول بما فيها من معاني البطولات والتضحيات التي لم يحدث التاريخ بمثلها في سبيل العقيدة والمبدأ وحرية الإنسان وكرامته فرداً أمام جولة جبارة تخضع لنفوذ ملك ظالم جبار يحتل الصدارة في قائمة الطغاة والسفاحين والمجرمين في كل أرض وزمان .
لقد وقف الحسين وقفته الخالدة التي كانت ولا تزال مصادراً من أوفر المصادر حظاً بكل معاني الخير والفضيلة والمثل العليا رافضاً الخنوع والاستكانة لحكم ذلك الذئب الكاسر المتمثل في هيكل انسان يسميه الناس يزيداً ، وقدم دمه ودماء ذويه واخوته وأنصاره قرباناً لله وللدين ليبقى حياً ما دامت الإنسانية تحتضن الإجيال على مدى العصور وبقي الحسين خالداً خلود الدهر بدفاعه عن كرامة الإنسان وحريته وعقيدته وبمواقفه التي أعلن فيها ان كرامة الإنسان فوق ميول الحاكمين ولا سبيل لأحد عليها .
وذهب يزيد ومن على شاكلته من الحاكمين في متاهات الفناء ، والتاريخ تتبعهم لعنات الإجيال إلى قيام يوم الدين .

عـش فـي زمـانك ما استطـعت نبيلا * واتــرك حـديـثـك للرواة جميلا
ولـعــزك اسـتـرخـص حياتك انه * اغـلـى وإلا غــادرتك ذلـيــلاً


( 30 )

تـعـطي الحـيـاة قيـادها لك كلما * صـيـرتـهـا للـمكـرمات ذلولا
العـز مـقـيـاس الحياة وضل من * قد عد مـقـيـاس الـحـياة الطولا
قل كيف عاش ولا تقل كم عاش من * جـعـل الـحـيـاة إلى علاه سبيلا
لا غرو ان طوت الـمـنـية ماجدا * كـثـرت محـاسـنـه وعاش قليلا
قتلوك للدنيـا ولـكـن لـم تــدم * لبني أمية بعـد قـتـلـك جـيـلا


( 31 )

بين هجرة الرسول وهجرة الحسين

هجرتان من اجل الإسلام ورسالة الإسلام ، الأولى منهما كانت فراراً من الموت الذي استهدف رسالة محمد بشخصه ، وقد نفذها الرسول الأعظم بأمر من ربه ليتابع رسالته وينقذها من مشركي مكة وجبابرة قريش كأبي سفيان وأمثاله والثانية قام بها سبطه الحسين بن علي (ع) ولكنها كانت للشهادة بعد أن ادرك ان الاخطار المحدقة برسالة جده لا يمكن تفاديها وتجاوزها إلا بشهادة .
لقد هاجر رسول الله من مكة إلى يثرب لأجل رسالته بعد أن تآمرت قريش على قتله لتتخلص منها ، لأن بقاءها ونتشارها مرهون بحياته ، وبعد أن وجدت ان جميع وسائل العنف التي استعملتها معه على اختلاف اصنافها وأنواعها خلال ثلاثة عشر عاماً لم تغير من موقفه شيئاً كما لم تجدها جميع الاغراءات والعروض السخية ، وكان رده الأخير على عروض ابي سفيان وأبي جهل ومغرياتهما ، والله لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا الأمر أو أموت دونه .


( 32 )

وعادت قريش بعد جميع تلك المراحل التي مرت بها معه تخطط من جديد للقضاء على رسالته لاسيما بعد ان أحست بأن يثرب ستكون من اعظم معاقلها وستنطلق منها إلى جميع انحاء الحجاز وإلى العالم بأسره ، فاجتمع قادتها في مكان يعرف بدار الندوة وراحوا يتبادلون الآراء للتخلص منه فاقترح بعضهم ان يضعوه في احدى البيوت مكبلاً بالحديد بعيداً عن أعين الناس ومجالسهم إلى أن يأتيه الموت ، كما اقترح آخرون ان يطرد من مكة حتى لا يتحملوا مسؤولية قتله ، واتفقوا اخيراً على ان يباشروا قتله على ان تشترك فيه جميع القبائل المكية ويتولى ذلك من كل قبيلة فتى من أشد فتيانها واتفقوا على الزمان والمكان الذي يتم فيه التنفيذ وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في الآية :
واذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك او يقتلوك او يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ، والذي تعنيه الآية ان الله قد فوت عليهم هذا التخطيط وأخبر رسوله بما كان من أمرهم ، وأمره بالخروج من مكة ليلاً وأن يأمر عليا في المبيت على فراشه قبيل خروجه .
وحينما عرض الأمر على علي (ع) لم يتردد لحظة واحدة في التضحية بنفسه في سبيله وقال له : أو تسلم انت يا رسول الله ان فديتك بنفسي ، فرد عليه النبي (ص) بقوله : بذلك وعدني ربي ، فطابت نفسه عند ذلك وتبدد ما كان يساوره من خوف وقلق على النبي ، وتقدم إلى فراشه مطمئن النفس رابط الجأش ثابت الفؤاد واتشح ببيرد الحضرمي الذي اعتاد ان يتشح به في نومه .
وتمت الهجرة في جوف الليل من مكة إلى الغار ومنها إلى يثرب في السادس من ربيع الأول ، واعتمد المسلمون تلك الهجرة في تواريخهم منذ عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب على أثر خصومة بين اثنين في دين يدعي احدهما استحقاقه في شهر شعبان بموجب سند بيده ، وسأل


( 33 )

الخليفة الدائن أي شعبان هذا أشعبان هذه السنة أو التي بعدها ؟ ولما لم يطمئن لأحد منهما جمع المسلمين في المسجد ليعتمد لهم تاريخاً ، والمسلمون يوم ذاك لم يكن لهم تاريخ خاص ، فكان بعضهم يؤرخ بعام الفيل وبعضهم بحرب الفجار وأكثرهم كانوا يعتمدون تواريخ الدول المجاورة لشبه الجزيرة العربية ، واختلفت آراء الصحابة في الزمان الذين يعتمدونه في تواريخهم وكادوا ان يتفرقوا بدون ان ينتهوا إلى نتيجة حاسمة لولا ان عليا أقبل عليهم بالمعهود من رأيه السديد وقال : نؤرخ بهجرة الرسول من مكة إلى المدينة فأعجب ابن الخطاب برأيه وهتف قائلا : لا ابقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن ، واقترن رأيه هذا بأعجاب الحضور وتقديرهم لان هجرة الرسول كانت المنطلق لانتصار الإسلام على الشرك والوثنية وحدثا تاريخياً لعله من ابرز الاحداث في تاريخ الدعوة ، واستمر المسلمون على ذلك في تواريخهم ولم يحدث التاريخ عنهم بأنهم اعتبروا شهر المحرم بداية لسنتهم الهجرية ، ولعل ذلك لم يحدث إلا بعد مقتل الحسين وبعد ان اصبحت الأيام الأولى من شهر المحرم أيام حزن عند أهل البيت وشيعتهم فجعلها الأمويون بداية للسنة الهجرية وعيداً من أعيادهم ، ولا يزال المسلمون عند مواقفهم من تلك الايام الأولى من ذلك الشهر ، فالشيعة يحتفلون بذكرى الحسين (ع) ويرددون تلك المأساة في مجالسهم ومجتمعاتهم بما تحمله وتنطوي عليه من الإخلاص للعقيدة والمبدأ والتضحيات الجسام في سبيل الحق والمستضعفين وكرامة الإنسان ، وغيرهم من مسلمي السنة يحتفلون به كبقية الأعياد ويتباهون بمظاهر الفرح والزينة وأنواع الأطعمة .
ومهما يكن فلقد كانت الهجرة من مكة إلى المدينة في السادس من ربيع الأول بعد مرور ثلاثة عشر عاماً على ولادة الإسلام ، وفي اليوم الثاني عشر منه كان النبي في المدينة بين أنصاره الجدد الذين احتضنوه

من وحي الثورة الحسينية ـ 3



( 34 )

وأخلصوا لرسالته وأنقذه الله من تلك المؤامرة الدنيئة التي استهدفت حياته ورسالته وحاك خيوطها شيخ الأمويين يوم ذاك أبو سفيان بن حرب ، وسلم محمد لرسالته التي ارغمت ابا سفيان وغيره من مشركي مكة بعد سنوات قليلة من تلك الهجرة على الانضواء تحت لوائها بقلوبهم المشركة الحاقدة يتململون بين أقدام طريدهم بالأمس يستجدون عفوه ورأفته أذلاء صاغرين .
وأبت نفسه الكبيرة التي اتسعت لتعاليم السماء ورسالة الإسلام إلا أن تتسع لأبي سفيان وحتى لزوجته هند آكلة الأكباد وغيرها من المشركين والمشركات وأعلن العفو العام حينما دخل مكة فاتحا منتصرا متجاهلاً جميع سيآتهم بكلماته الخالدة التي لا تزال سمة خزي وعار ما دام التاريخ : اذهبوا فأتنم الطلقاء ، وأعطى لأبي سفيان العدو الأكبر للإسلام ما لم يعطه لأحد من المشركين .
وهل غيّر هذا الموقف العظيم الذي لا يمكن ان يصدر من أي انسان مهما كان نوعه ، هل غيّر من نفس أبي سفيان وروحه شيئاً ، وهل ادرك ان موقفا كهذا لا يصدر الا عن انسان تسيره ارادة السماء ؟ ان النفوس الحقودة اللئيمة لا علاج لها إلا بالإستئصال والرسول العظيم يعلم ذلك ويعلم أن ما صنعه مع البيت الأموي لا يغير من طبيعته ولكن مصلحة الإسلام يوم ذاك فرضت عليه ان يعالجهم بهذا الأسلوب ويستعمل معهم العفو والرحمة بدلاً من معاملتهم بما يستحقون .
وبقي الحزب الأموي بقيادة ابي سفيان يتحين الفرص ويستغل المناسبات وحينما انتقلت الخلافة إلى سليل بيته عثمان بن عفان أحس بنشوة تملأ نفسه الحاقدة وذهب يقوده غلامه لينفس عما تراكم في نفسه من أحقاد على الإسلام ودعاته ، إلى قبر الحمزة ليركله برجله ويقول : قم يا ابا عمارة ان الذي تجالدنا عليه لقد اصبح تحت أقدامنا .


( 35 )

وخلال سنوات معدودات من حكمهم استطاعوا ان يحققوا لهذا البيت اكثر أمانيه واتجهوا يعملون لوثنيتهم وجاهليتهم حتى لا يبقى لرسالة محمد ناطق على منبر أو محراب وليصبح أئمة المساجد والقراء والرواة أبو اقا للسلطة الحاكمة والقبضة الأموية الجديدة التي تعمل للسلطة والجاهلية باسم الإسلام اداة لغسل الادمغة من عقائده وحشوها بمبادئ الردة والوثينة ، وظلوا يعملون بهذا الاتجاه الوثني حتى انقلبت القيم وسحقت التعاليم وذهبت رياح الجاهلية بجهود المخلصين وجاءت بكنوز الذهب للمنافقين ، وأصبح التوحيد ستاراً للشرك والإسلام لا يعني سوى الإستسلام للحاكمين ، والسنة قاعدة للسلطة ، والحديث عرضة للوضع والتزوير والتحريف والألسن قطعت أو اشتريت بأموال الفقراء والمساكين .
اما اصحاب السابقة والجهاد فقد تقاضوا الثمن ولايات وامارات ، واعتزل فريق للعباد وفريق ساوموا على سكوتهم عن الظلم والجور حتى لا يواجهون النفي والموت في صحراء الربذة ومرج عذراء وقصر الخضراء ، وعادت الجاهلية الجديدة أثقل ظلا وأشد ظلمة ووحشية والعدو الجديد أشد دهاء وأكثر نضجا وذكاء .
وفجأة سطع ضوء في الظلام ومن بين ركام الإسلام المتداعي وأضاءت للملأ ملامح امل جديد في دياجي ذلك الظلام المطبق وبدأ للعالم انسان يخط على التراب بدمه ، إلا واني لا أرى الموت إلا السعادة والحياة مع الظالمين إلا برما .
انه الحسين بن علي وفاطمة سبط ذلك الرسول الذي هاجر من مكة ليثرب قبل ستين عاماً لأجل رسالته وانقاذها من الشرك والوثنية ومرة ثانية وفي ظروف لعلها اسوأ على الإنسانية والرسالة من الضروف التي خرج فيها جده من قبل لإنقاذ البشرية مما كانت تعانيه من عسف وجور


( 36 )

واستغلال خرج من بيت محمد وعلي البيت الذي وسع التاريخ كله فكان اكبر منه خرج غاضباً مصمما على الموت كأن في صدره اعصارا هو في طريقه إلى الانطلاق . خرج لأجل الرسالة التي هاجر لأجلها جده الرسول الأعظم من قبل يتلفت من حوله وحيداً أعزل يرى الرسالة وآمال الفقراء والمستضعفين تساق إلى قصر الخضراء في دمشق لا يملك سلاحا غير الشهادة التي يراها زينة للرجال كما تكون القلادة زينة للفتاة وهاجر للحصول عليها على هدى وبصيرة وشبحها ماثل نصب عينيه يتطلع إلى تربة كربلاء مع ركبه بصبر وصمود وهو يقول : خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفلاة أفلا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهي عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً .
لقد هاجر من مدينة جده إلى مكة ومنها إلى العراق بعد أن رأى رسالة الإسلام تتعرض للانهيار ومصير الإنسان يوم ذاك اسوأ من مصير انسان الجاهلية نافضاً يديه من الحياة لا يملك في مقابل عدوه سوى سلاح الشهادة وفي كل مرحلة كان يقطعها وهو يحث السير إليها كان يشير إلى أنصاره الذين رافقوه في تلك الرحلة ليموتوا معه وإلى أهل بيته الذين هم كل ما يملكه من الحياة إلى هؤلاء جميعاً كان يشير ويكشف لهم عن معاني الشهادة وأهدافها ومعطياتها ويشهد العالم بأسره بأنه قد أدى للإنسانية كل ما يقدر عليه .
لقد كان سيد الشهداء يدرك ويعي اهمية الرسالة الملقاة على عاتقه ويعلم بأن التاريخ ينتظر شهادته وانها ستكون ضمانا لحياة أمة واساسا لبناء عقيدة وهتكا لاقنعة الخداع والظلم والقسوة وأداته لسحق القيم ومحوها من الاذهان وانقاذا لرسالة الله من أيدي الشياطين والجلادين ، وهذا هو الذي كان يعنيه بقوله لأخيه محمد بن الحنفية وهو يلح عليه ويتململ بين يديه باكيا حزينا ليرجع إلى حرم جده : لقد شاء الله ان


( 37 )

يراني قتيلا وشاء ان يرى حرمي وعيالي سبايا .
لقد اعطى الحسين للعالم كله بشهادته دروساً مليئة بالحياة غنية بالقيم وروعة الجمال وأصبح هو ومن معه من طفله إلى اخوته وأنصاره وغلمانه القدوة الغنية بمعطياتها للعالم في كل زمان ومكان يعلمون الأبطال كيف يموتون في مملكة الجلادين الذين ذهبت ضحية سيوفهم آمال أجيال من الشباب وتلوت تحت سياطهم جنوب النساء وأبادوا وأجاعوا واستعبدوا رجالاً ونساء ومؤذنين ومعلمين ومحدثين .
لقد ترك الحسين واخوته وأصحابه وحتى غلمانه دروساً سخية بالعطاء والقيم حافلة بالعبر والمثل التي تنير العقول وتبعث في النفوس والقلوب قوة الإيمان بالمثل العليا والمبادئ السامية التي دعا إليها وضحى بكل ما يملك من أجلها ولا تزال الاجيال تستلهم منها كل معاني الخير والنبر والفضيلة وسيبقى الحسين وأنصاره مثلا كريما لكل ثائر على الظلم والجور والطغيان إلى حيث يشاء الله .
لقد هاجر من مدينة جده إلى ارض الشهادة والخلود ليقدم دمه الزكي ودماء اخوته وأنصاره الخالدين ثمنا لإحياء شريعة جده الرسول الأعظم وانقاذها من مخالب الكفر والانحراف ، ولكي يضع حدا لسياسة البطش والتنكيل واراقة الدماء وليعلن بصوته المدوي الذي لا يزال صداه يقض مضاجع الظالمين ان الإسلام فوق ميول الحاكمين وان المثل والقيم فوق مستوى مطامعهم الرخيصة وان الحرية والكرامة من حقوق الإنسان في حياته ولا سلطان للحكام والطغاة عليها .
أجل ان رسالة الحسين (ع) كانت ولا تزال امتدادا لرسالة جده وجهاده امتدادا لجهاد جده وأبيه امير المؤمنين بطل الإسلام الخالد الذي تام الإسلام وانتشر بسيفه وجهاده .
وكما خيبت هجرة الرسول مساعي المتآمرين على قتله بخروجه من


( 38 )

مكة إلى يثرب بعد ان بات على فراشه بطل الإسلام الخالد ليدرأ عنه خطر الاعداء ويفيده بنفسه من مؤامرة ابي سفيان وحزبه كذلك خيبت شهدة سبطه الثائر العظيم آمال أمية وأمانيها ومما يطمح إليه حفيدها يزيد بن معاوية من تحطيم الإسلام وعودة الجاهلية والاصنام آلهة آبائه وأجداده وسجلت اتنصاراً حطم اولئك الجبابرة الطغاة ودولتهم الجائرة العاتية التي قابلها الحسين وقضى عليها بشهادته ودمه الزكي الطاهر بالرجال والعتاد والأموال .

ولرب نصر عاد بشر هزيمة * تركت بيوت الظالمين طلولا

لقد قاتل مع الحسين (ع) اثنان وسبعون شخصاً من اخوته وأبنائه وانصاره الأبطال الذين امتحن الله قلوبهم بالإيمان فقاتلوا دفاعاً عن الحق والعقيدة ورسالة الإسلام وأرخصوا حياتهم لإعلاء كلمة الله في الارض وكانوا مع قلة عددهم وكثرة الحشود التي اجتمعت لقتالهم يكرون على تلك الحشود بقلوبهم العامرة بالتقوى ونفوسهم المطمئنة الى المصير الذي أعده الله للمجاهدين في سبيله فيفرون من بين أيدهم فرار المعزا اذا شدت عليها الذئاب ورحم الله السيد حيدر الحلي القائل :

جاءوا بسبعين الف سل بقيتهم * هل قابلونا وقد جئنا بسبعين

لقد ترك لنا الحسين وجد الحسين والأئمة من ذرية الحسين من اقوالهم وسيرتهم وسلوكهم وجهادهم مدرسة غنية بكل ما نحتاجه في الحرب والسلم والشدة والرخاء والفقر والغنى وكل نواحي الحياة فما اولانا ونحن ندعي الإسلام والتشيع لهم ان نرجع إلى سيرتهم ونسير على خطاهم ونصنع من ميراث أمتنا وقادتنا خير أمة اخرجت للناس .