ما بعد مجزرة كربلاء

لقد احدثت تلك المجزرة هزة عنيفة في العالم الاسلامي لم يعرف المسلمون في تاريخهم الحافل بالاحداث أعنف منها او مثلها ولا حادثا من الاحداث كان له من الآثار العميقة في النفوس والعقائد والحياة السياسية والاجتماعية والادبية ما كان لمجزرة كربلاء .
لقد تركت تلك المجزرة صدمة في نفوس المسلمين لم يحدث التاريخ بمثلها وألهبت مشاعر المسلمين ولا تزال ذكراها تلهب المشاعر وتثير الاحاسيس حتى يومنا الحالي وستبقى لها تلك الآثار ما دام التاريخ وأصبح التشيع بعدها عقيدة ممزوجة بالدماء متغلفة في النفوس بعد ان كان عقيدة هامدة تنقصها الحامس وشتان بين العقيدة الهامدة والعقيدة الممزوجة بالحماس والدماء ، وغدت ذكرى تلك المجزرة الرهيبة الملطخة بدماء آل بيت الرسول كافية لان تثير عاطفة الحماس والحزن في قلوب الناس في مختلف العصور ومنبعاً لكل ما يلهب النفوس وحتى للأخيلة والاقاصيص .
ولا احسب ان في كل ذلك شيئا من الغلو والغرابة لان المسلمين على


( 77 )

ما بينهم من خلافات في النزعات والاتجاهات يقدرون للحسين (ع) مكانته من الإسلام وصلاته بجده صاحب الرسالة وقد سمعوا منه الكثير الكثير مما كان يقوله فيه وفي اخيه الحسين وكيف كان يعامه في مجالسه العامة والخاصة ، ورأوه احيانا وكأن الغيب قد تكشف له عن مصيره يبكي لحالة ولما يجري عليه ، وكانوا يبكون لبكائه ، فليس بغريب اذا ألهب مصرعه على النحو الذي وقع عليه المشاعر وأرهف الاحاسيس وأطلق الألسن وترك في نفوس المسلمين اثرا حزينا دامياً يجمع القلوب حول هذا البيت المنكوب :

وأي رزية عدلت حسينا * غداة تبينه كفـا سنـان

نعم ليس بغريب اذا استعظم الناس على اختلاف ميولهم ونزعاتهم هذا التنكيل الشائن بعترة الرسول الامين (ص) وسلالته وفلذات كبده وقرة عينه ورأوا فيه كفرانا لحقه وتعريضا لغضبه وامتهانا لكرامته وقال قائلهم :

ماذا تقولـون اذ قـال النبي لكــم * مـاذا فعلتم وأنتـم اخـر الامــم
بعترتـي وبـأهلـي بعـد مفتقـدي * نصف اسارى ونصف ضرجوا بدم
ما كان هـذا جزائي اذ نصحت لكم * ان تخلفـوني بشر فـي ذوي رحم

فبهذا وأمثاله قالت النائحات في جميع العواصم والبلاد الاسلامية يندبن الحسين ومن قتل معه من بنيه واخوته وأنصاره ويبكن لمصارعهم وما جرى لهم من حفيد هند وأبي سفيان وجلاديه وانطلقت الالسن الشاعرة ترثيه وتصور أسف النبي (ص) وهو في قبره وحزنه العميق على سبطه واحتجاجه على أمته التي لم تحفظ له حقاً وترع له حرمة وتلقي على الامويين مسؤلية جريمتهم ومروقهم من الدين وانتهاكهم لجميع الحرمات والمقدسات .


( 78 )

لقد هال الناس هذا الحادث الجلل حتى الامويين انفسهم فأقض المضاجع وأذهل العقول وارتسم في الاذهان حتى اصبح الشغل الشاغل للجماهير وحديث النوادي ومسرحا خصباً للتخيلات وادعى الناس في المدينة غيرها ان الجن كانت تنوح على الحسين وانهم سمعوا هاتفا يقول كما جاء في الطبري وابن الاثير :

ايها القـاتلون جهلا حسينـا * ابشـروا بالعـذاب والتنكيل
كل اهل السماء يدعو عليكم * مـن نبي ومـلاك وقبيـل
قد لعنتم على لسان بن داود * وموسـى وصاحب الانجيل

وراحوا يتصورون لمدة شهرين او اكثر كأن الحيطان ملطخة بالدماء ساعة تطلع الشمس حتى ترتفع كما نص على ذلك الطبري في تاريخه .
ورووا عن النوار زوجة خولي بن يزيد الاصبحي انها قالت لزوجها ليلة دخل الكوفة برأس الحسين وأدخله عليها : لقد جاء الناس بالذهب والفضة وجئتني برأس الحسين ، وكان قد وضعه تحت اجانة في صحن الدار فقامت من فراشها غضبى وخرجت الى الدار فرأت نوراً يسطع مثل العمود من السماء إلى الاجانة وطيوراً بيضاء تتهاوى من السماء وترفرف حولها .
كما استغل الشعراء هذا الحادث المفجع فرووا حوله شتى الاحاديث وصاغوها بألوان شعرية دامية يصدرها قلب مكلوم ثائر حزين يدعو الى الثورة العارمة بعنف وصرامة ويسجل تلك الاحزان العلوية بأسف ولوعة مناديا يالثارات الحسين وغلبت على الأدب الشيعي والشعر الشيعي وبخاصة العراقي منه هذه النزعة الحزينة الباكية ، وغدوا امام ادب تبعثه عاطفتان بارزتان عاطفة الحزن وعاطفة الغضب تصدره الاولى حزينا باكيا وتبعثه الثانية قويا ثائراً ومن هذه النماذج التي حفظها لنا تاريخ تلك


( 79 )

الفترة ما رواء الرواة عن عبدالله بن الحر الجعفي ، الذي زار المعركة بعد ايام من حدوثها وهو يتلوى اسفا ولوعة ويتمنى لو انه وفق لنصرته والاستشهاد بين يديه وأنشد على قبر الحسين (ع) :

يقول اميـر غـادر حــق غـادر * الا كنـت قاتلت الحسين بن فاطمـه
فيـا نـدمي ألا اكــون نصـرتـه * الا كـل نـفس لا تسـدد نـادمـه
وانـي لاني لم اكـن مــن حماتـه * لـذو حسـرة مـا ان تفارق لازمه
سقـى الله ارواح الـذيـن تـآزروا * علـى نصـره سقيا من الغيث دائمه
وقـفت علـى أجـداثهـم ومجالـهم * فكاد الحشـى ينقض والعين ساجمه
لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغى * سراعـا الـى الهيجا حماة خضارمه
تأسـوا على نصـر ابن بنت نبيهـم * بـأسيـافهم اسـاد غيـل ضراغمـه
وما ان رأى الـراؤن افضل منهـم * لدى الموت سـادات وزهـرا قماقمه
أتقتلهـم ظلما وتـرجــو ودادنـا * فـدع خطـة ليست لنـا بـملائمـه
لعمـري لقـد راغمتمونـا بقتلهـم * فـكـم نـاقم منـا عليكـم ونـاقمه
اهـم مـرارا ان اسيــر بـجحفل * الـى فئة زاغت عـن الحـق ظالمه
فكفـــوا والا زرتكـم بـكتائـب * اشـد عليكـم مـن زحـوف الديالمه

ومن هؤلاء الذين أحسوا بأخطار تلك الجريمة النكراء رضي بن منقذ العبدي فقال :
ولو شاء ربـي مـا شهدت قتـالهم * ولا جعل النعماء عندي ابن جابر (1)

____________
1 ـ لقد كان كعب بن جابر احد جنود الجيش الذي شارك في حرب الحسين (ع) ، فقالت له زوجته بعد ان رجع من المعركة اعن علي ابن فاطمة وقلت سيد القراء وكان قد قتل برير سيد القراء في الكوفة لقد اتيت عظيما من الأمر والله لا اكلمك من رأسي كلمة ابدا ، فأجابها بأبيات يفتخر فيها بفعله وضمنها بيتاً يذكر فيه انه انقذ رضي بن منقذ من القتل حيث أعانه على قتل خصمه .
( 80 )

لقد كان ذاك اليوم عـارا وسبـة * تعيره الابنـاء بعـد المعـاشر
فيا ليت اني كنت مـن قبل قتلة * ويوم حسين كنت في رمس قابر

لقد أحس المسلمون على اختلاف ميولهم ميولهم واتجاهاتهم بالندم والخيبة لخذلانه وعدم مناصرته ، وحتى الذين قاتلوه وقادوا المعركة ضده كانوا يبكون ويندبون مصيرهم السيء فقد جاء عن عمر بن سعد الذي قاد تلك المعركة انه كان يقول : لا تسل عن حالي فانه لم يرجع غائب عن منزله بأشر مما رجعت به فلقد قطعت القرابة القريبة وارتكبت الامر العظيم وحتى ان يزيداً بكى ونعدم على قتله وكلما ذكر الحسين كان يقول : وما عليّ لو احتملت الاذى وأنزلت الحسين معي في داري وحكمته فيما يريد وان كان علي وهن في سلطاني حفظاً لرسول الله ورعاية لحقه وقرابته من رسول الله لعن الله ابن مرجانة فانه اضطره وقد سأله ان يضع يده في يدي او يلحق بثغر من الثغور حتى يتوفاه الله فلم يجبه الى ذلك فبغضني الى قلوب المسلمين بقتله وزرع لي في قلوبهم العداوة فأبغضني البر والفاجر مالي ولابن مرجانة لعنه الله وغضب عليه .
وحينما علم ملك الروم بتلك المجزرة غضب لذلك وكتب إلى يزيد كتاباً جاء فيه : لقد قتلتم نبيا او ابن نبي ظلما وعدوانا على حد تعبير البيهقي في كتابه المجالس والجسادي ، وقال عثمان بن زياد شقيق عبيد الله : والله لوددت انه ليس من بني زياد رجل الا وفي انفه خزامة الى يوم القيامة وان حسينا لم يقتل .
والى جانب تلك الآثار السيئة النفسية التي خلفتها تلك المجزرة الرهيبة في نفوس الجماهير المسلمة ، فلقد كان لها اعظم الاثر في تقويض الدولة الأموية وعدم الاطمئنان اليها واستغلها اعداء اهل البيت كابن الزبير وأمثاله وجعل يندد على يزيد والامويين ويرثي الحسين وأصحابه ويلعن


( 81 )

اهل الكوفة لخذلانهم اباه ويزيد بن معاوية وجميع من اشترك في قتاله ويقول : أبعد الحسين نطمئن إلى هؤلاء القوم ونصدق لهم قولا ، اما والله لقد قتلوه طويلاً بالليل قيامه كثيراً بالنهار صيامه أحق بما هم فيه منهم وأولى في الدين والفضل .
لقد استغل ابن الزبير مصرع الحسين وراح يندبه ويتباكى عليه في حين لم يكن في العالم الإسلامي احد أثقل عليه من الحسين (ع) ولم يكن معاوية ويزيد ابنه أشد عداء للبيت العلوي من ابن الزبير وكان ذلك معروفاً لدى عامة المسلمين لان مواقفه من امير المؤمنين وتحريضه عليه في البصرة وسواها لا تزال ماثلة لهم وبالإضافة إلى ذلك فلقد اشترك هو وطلحة في التغرير بعائشة وأخرجاها من البيت الذي أمرها الله ان تقر فيه الى البصرة لتقود المعركة ، وقد قال فيه وفي ابيه امير المؤمنين : ما زال الزبير منا اهل البيت حتى خرج ولده عبدالله ، وكان وجود الحسين في مكة حائلا بينه وبين الاتصال بالناس وقال له ابن عباس بعد ان يئس من اقناع الحسين بعدم التوجه الى العراق : قرت عينك يا ابن الزبير بخروج الحسين إلى العراق .
لقد أقر الحسين عين الزبير وهيأ له بخروجه من مكة المناخ المناسب لغرس أطماعه ولم يبق على الساحة غيره فالتف حوله المكيون وغيرهم وبخاصة بعد تلك المجزرة التي ادمت قلوبهم وألهبت مشاعرهم وأصبحوا يدركون ان الاخطار باتت تهددهم وتطاردهم من كل جانب ومكان .
لقد كان موقف ابن الزبير من مصرع الحسين (ع) اشبه ما يكون بموقف معاوية من مصرع عثمان بن عفان وهما كما يبدو من تاريخهما من معدن واحد في الدجل والنفاق والاجرام واستعمال الدين غشاء للتضليل والتمويه عندما تدعو الحاجة ، لقد كان بن هند يتمنى ان يقتل عثمان خلال ثورة المهاجرين والأنصار عليه ويعمل بكل ما لديه من وسائل الاجرام من اجل ذلك ليتخذ من قتله اداة للتشنيع على علي (ع)


( 82 )

والمطالبة بالخلافة وكان بتمنى لعائشة كان تقتل في البصرة ليشنع بقتلها على امير المؤمنين كما صارحها بذلك خلال زيارته للمدينة بعد ان تم له الاستيلاء على السلطة .
اما ابن الزبير فلم يكن شيء من الدنيا أحب من خروج الحسين من مكة إلى العراق ومن المصير الذي انتهى اليه وكان يرغبه في الخروج إلى العراق والاستجابة لطلب اهل الكوفة بأسلوب مليء بالمكر والدهاء وحينما بلغه نبأ مقتله ووجد المسلمين على ما بينهم من خلاف في الاتجاهات يتململون لما جرى عليه ويندبونه ويلعنون أمية وأشياعها طابت نفسه واطمأن لمصيره وراح يتباكى على الحسين ويردد فضله وما جرى عليه في مجالسه واجتماعاته ويندد بالأمويين وجرائمهم تجاوباً مع شعور الجماهير ورغباتهم دجلاً ونفاقا ليعبر من وراء ذلك الى السلطة التي كان يتمناها واستطاع بهذا الاسلوب الماكر ان يستحوذ على العدد الأكبر من مسلمي الحجاز الذين كانوا يبحثون عن بديل للأمويين وأصبح الناس يقولون ، كما جاء في رواية الطبري : ليس لها بعد الحسين غير ابن الزبير وتمت له البيعة في الحجاز بسبب ما جرى للحسين وبنيه واخوته وأسرته من قتل وتمثيل وسبي وامتهان لعترة الرسول وكرامته وتوالت الانتفاضات في مختلف انحاء العالم الإسلامي ضد الامويين وأنصارهم وشعار الثائرين فيما بينهم من خلاف في الاتجاهات يا لثارات الحسين .
ولم تخمد ثورة في مكان إلا لتقوم ثورة اخرى في مكان آخر بسواعد الشيعة وشعارهم الوحيد يا لثارات الحسين .
لقد كانت تلك المجزرة ذا حدين استفاد منها اعداء الحسين كابن الزبير الذي استغلها في الحجاز للتشهير بيزيد والأمويين وجعل يتباكى ويتظاهر بالحزن على الحسين وأصحابه حتى اجتمع الناس عليه والتفوا من حوله ، كما ايقظت شيعة الحسين وجعلتهم يشعرون بأخطائهم وتقصيرهم وتخاذلهم عنه وعن ابيه وأخيه وانضمن اليهم جميع العناصر


( 83 )

المناوئة للأمويين من الموالي وغيرهم واتفقوا جميعاً على صيحة واحدة تستر وراءها اغراضهم المختلفة يا لثارات الحسين ، فكان لهذه الصيحة الصدى الواسع في جميع الأوساط الإسلامية الذي اقلق الظالمين وزعزع عروشهم وقوض دعائهم دولتهم في المشرق العربي وأصبحوا لعنة على لسان الاجيال إلى قيام يوم الدين وباء الحسين وحده بالفخر الذي لا فخر مثله في تاريخ بني الإنسان وحسبه انه وحده في هذه الدنيا الشهيد بن الشهيد وأب للمئات من الشهداء والقدوة لكل ثائر على الظلم والظالمين وفراعنة العصور في كل مكان وزمان .


( 84 )

لمحات عن حياة العقيلة قبل معركة كربلا

بعد هذه اللمحات عن مواقفها من معركة كربلاء وما تلاها من الاحداث الجسام التي صمدت فيها العقيلة كالطود الشامخ وضعضعت كبرياء اولئك الجلادين وقلبت الدنيا على رؤوسهم ، وقبل الحديث عن مرقدها ارى من الوفاء لحقها العظيم عليّ وعلى كل من آمن برسالة جدها وأبيها وأخويها التي كانت تجسدها في جميع مواقفها من الطغاة والحاكمين ان نشير ولو بصورة موجزة عن المراحل التي مرت بها في صباها وشبابها وأمومتها تلك المراحل التي أهلتها وأعدتها لان تكون في عداد العظماء من أبطال التاريخ ومن طلائعهم بعد ابيها واخوتها .
لقد كانت ولادتها في مطلع جمادي الاولى من السنة الخامسة لهجرة جدها من مكة إلى المدينة كما جاء في بعض المرويات ، وجاء في بعضها ان ولادتها كانت في مطلع شعبان من السنة السادسة بعد أخويها الحسن والحسين (ع) ، ولما ولدت جاءت بها امها الزهراء الى ابيها وقالت له : سمها يا ابا الحسن ، فقال : ما كنت لأسبق جدها رسول الله في تسميتها وكان غائباً عن المدينة يومذاك ، ولما رجع من سفره سأله امير المؤمنين


( 85 )

عن اسمها ، فقال على حد تعبير الراوي : ما كنت لأسبق خالقها في اسمها ، فهبط عليه الأمين جبرائيل وقال له : ان الله قد اختار لها اسم زينب ، وأخبره كما يدعي الراوي بما يجري عليها من المصائب فبكى النبي (ص) وقال : من بكى لمصاب هذه كان كمن بكى لمصاب أخويها الحسن والحسين .
وكانت تكنى كما يدعي الشيخ فرج القطيفي في كتابه المرقد الزينبي بأم كلثوم وأم الحسن ، وتلقب بالصديقة الصغرى وعقيلة بني هاشم على لسان جماعة وعلى لسان آخرين عقيلة الطالبيين الى غير ذلك من الصفات الفاضلة التي تغلب على الاسم احيانا .
لقد ولدت الحوراء زينب في بيت لا شيء فيه من متع الدنيا ولهوها وزخرفها ورأت النور في ذلك البيت الطاهر الذي ضم أباها سيد الوصيين وأمها سيدة نساء العالمين وأخويها ريحاتني رسول رب العالمين .
ولدت في بيت كان النبي لا يشغله عنه شاغل ولا ينساه في ليله ونهاره وكلما دخله يقبّل من فيه من أحفاده ويشمهما ويبتسم لهما وينعم فيه بالسكينة والاطمئنان ، في ذلك البيت ولدت الحوراء ورضعت من ثدي الطهر والفضيلة بضعة الرسول الاعظم ودرجت مع اخويها سيدي شباب اهل الجنة وأخذت العلم عن ابيها باب مدينة العلم ورأت جدها الرسول ممثلا في امها فاطمة بجميع صفاته ومزاياه ، وحينما فقدت امها في السنة السادسة من عمرها قالت : يا أبتاه يا رسول الله الان فقدناك فقداً لالقاء بعده ، وهي تعني بذلك انها بفقد امها التي كانت تجسد أباها قد فقدت جدها ايضاً .
لقد انعكست صفات الزهراء سيدة نساء العالمين ومزاياها في نفس ابنتها عقيلة بني هاشم وظهرت واضحة جلية في زهدها وعبادتها وصبها في الشدائد ، وقال من تحدث عنها من الرواة : انها لم تدخر شيئاً من


( 86 )

يومها لغدها وتمضي عامة لياليها بالتهجد وتلاوة القرآن ، وحتى في ليلة الحادي عشر من المحرم وهي تتلوى من آلام تلك المجزرة الرهيبة واخوتها صرعى مجزرين كالاضاحي لم تدع صلاة الليل وتلاوة القرآن ، وقد تحدثنا عن صبرها وشجاعتها وبعض مواقفها الخالدة التي كانت ولا تزال من اغنى المواقف البطولية بالقيم والمثل العليا في تاريخ الابطال .
لقد بقيت زينب ابنة علي مع امها ست سنوات وفي هذه المرحلة من طفولتها كانت ترى امها الزهراء تقوم للصلاة والعبادة حتى ينقضي الشطر الاكبر من الليل وتبيت طاوية وتطعم ما عندها الايتام والمساكين وتلبس الثياب الخلقة البالية وتكسو الفقراء جديد الملابس ، ورآها سلمان الفارسي مرة فبكى وقال : ان قيصر وكسرى بناتهما في السندس والحرير وابنة محمد رسول الله في تلك الثياب البالية .
وبلا شك في ان تلك الصور التي كانت تشاهدها العقيلة وهي في هذا السن من طفولتها قد انعكست في نفسها ورافقتها حتى النفس الاخير من حياتها لان مشاهدات الاطفال وما يحيط بها في المراحل الاولى من حياتهم وما يمر عليهم في سن الطفولة تترك آثاراً في نفوسهم ترافقهم في الغالب ما داموا بين الاحياء .
ويؤكد علماء النفس ان الطفل في السنة الثالثة من عمره تبدأ مرحلة التوافق بينه وبين بيئته ومرحلة التمييز بين الالفاظ والمعاني ، وان نموه العقلي في هذه المرحلة يتجه به إلى كشف ما يحيط به مما يرى ويسمع وهذا الكشف يترك آثاراً تعمل عملها في نفس الطفل ترافقه إلى اخر يوم من حياته .
هذا بالإضافة إلى ان السيدة زينب سلام الله عليها بعد وفاة امها الزهراء عاشت برعاية ابيها امير المؤمنين الذي كان يجسد جدها الرسول من جميع نواحيه بين أخويها الحسن والحسين (ع) وتولت حضانتهم


( 87 )

امرأة من كرام النساء وأفاضلهن وهي امامة بنت زينب بنت رسول الله وكان قد تزوجها امير المؤمنين (ع) بعد وفاة الصديقة الزهراء (ع) بوصية منها ، وجاء في وصيتها له كما ترويها جميع الآثار ، وأوصيك يا ابن العم ان تتزوج بعد وفاتي من امامة ابنة اختي فانها ستكون لولدي مثلي ، وبالفعل فلقد كانت امامة كما كانت ترجوه منها خالتها من ناحية عطفها ورعايتها لأولادها بالإضافة إلى ما كانوا ينعمون به من رعاية ابيهم الذي كان يلقنهم من اسرار الكون وغوامضه ، وظلت العقيلة في رعاية ذلك البيت الكريم بيت النبوة والإمامة إلى ان تجاوزت سن الطفولة الى مطلع الصبا والشباب ، ونساء المسلمين يومذاك كان من عادتهن ان يخرجن ليلا لزيارة قبر النبي وأداء فريضة العشاء إلى جواره كما كان يفعل الرجال ثم يرجعن الى بيوتهن وملامح السرور والبهجة بادية على وجوههن وأرادت العقيلة ان تخرج لزيارة قبر جدها والصلاة إلى جواره كما يفعل النساء ، ولكن والدها لم يشأ لها ان تخرج كما يخرج غيرها من النساء والمسجد مملوء بالزائرين والمصلين من الرجال فكان يخرج معها بعد ان يعود الزائرون الى بيوتهم ويخرج الحسن والحسين عن يمينها وشمالها ويتقدمهم هو ليخمد ضوء القناديل اذا وجد في مرقد جدها احد من الرجال ، وذات ليلة ارادت ان تخرج في اول الليل مع الزائرات اللواتي كن يخرجن لأداء الصلاة فخرج يتقدمها ليخفت ضوء المصابيح ، وفجأة أحس المصلون من الرجال والنساء ان ضوء المصابيح اخذ يخفت واحداً بعد واحد خفوتا ظاهراً وعلى عجل وظل يضيق ويضعف حتى شمل المسجد كله ضوء مختنق ولم تبق من الضوء الا ومضات ضئيلة توشك ان تنطفىء فيعم الظلام المسجد والحرم من كل جوانبهما فتطلعت العيون الأشعث بن قيس الكندي كما جاء في بعض المرويات ، ففي بعض الأيام الغاضبة لتتعرف من هو الذي أضعف تلك المصابيح واحداً بعد واحد ولم يترك منها سوى ومضات ضئيلة لا تجديهم شيئاً ، ولما عرفوه تركوه يفعل


( 88 )

ما يشاء لانه لا يفعل غير الصواب ، وراحت العيون تتطلع لتعرف الاسباب التي حملته على ذلك فرأت أشباحاً ثلاثة قد تقدمت نحو قبر النبي (ص) وما ان وصلوا اليه حتى وقفوا إلى جانبه لفترة طويلة في خشوع وتضرع ثم رجع الثلاثة عن القبر الشريف يمسحون دموعهم وانصرفوا باتجاه باب الحرم راجعين الى بيت ابيهم الكريم ، وتقدم امير المؤمنين (ع) نحو المصابيح يفك خناقها ويعلي أضوائها ، وكان الثلاثة الذين تقدموا نحو الحرم في ستر ذلك الضوء الخامد اولاده الحسن والحسين وبينهما ابنته زينب ارادت ان تزور قبر جدها في الوقت الذي يجتمع فيه الزائرون فتقدمها ليخمد الضياء ومضت اليه بين أخويها حتى لا يرى شخصها احد من الناس .
وبقيت العقيلة في ذلك البيت الكريم في رعاية ابيها وأخويها وخالتها امامة وزودة ابيها أسماء بنت عميس التي لم تكن بأقل عطفا وحنوا على اولاد فاطمة من امهما والتي احتضنتها لتكون زوجة لولدها عبدالله بن جعفر بعد سنوات قليلات .


( 89 )

زواجها من عبدالله بن جعفر

لما بلغت الحوراء مبلغ الزواج وتخطت عهد الطفولة طلبها الكثيرون من الاشراف وكان الامام يردهم برفق ولين لانه كان كما يبدو قد صمم على زواجها من ابن اخيه عبدالله بن جعفر الطيار ، كما كان النبي يرد خاطبي امها الزهراء ليزوجها من ابن عمه اول القوم اسلاما وأكثرهم جهاداً وتضحية في سبيله بأمر من الله سبحانه . وكان ممن خطب الحوراء الاشعث بن قيس الكندي كما جاء في بعض المرويات ، ففي بعض الايام والإمام (ع) جالس في داره دخل عليه رجل بَيِّن الطول عليه مسحة من الجمال ومظهر من مظاهر العنف والبطش ، وكان قد صار على ابواب الكهولة وبدأ يخطو نحو الكبر ، فوقع نظره على فتاة قد اضاء صباها ولمعت محاسنها ، وهي تدرج بين يدي ابيها ، وحينما رأته الفتاة قد دخل على حين غفلة اسرعت الى غرفة في الدار عجلى تتعثر في أذيالها لاسيما وقد رأته ينظر اليها وتكاد نظراته تستبق خطواتها خطواتها المسرعة ، وكان قد ملأ عينيه منها قبل ان تغيب عنه وأعجب بحسنها وشمائلها ، وأحسن ما رأت عيناه من الخفرات الحسان .


( 90 )

وكان الرجل في خمول وضعة في اوساط المسلمين ، وإلى جانب ذلك فاتكا شجاعا جميلا ، وهو أخمل حسباً وأوضع نسبا إذا قيس حسبه ونسبه بالقرشيين فضلا عن اهل هذا البيت الذين بلغوا القمة في كل ما يتفاضل فيه الناس من كل نواحيهم ، ولكن الذي جرأه على الحديث مع امير المؤمنين بأمر من هذا النوع ان الخليفة الأول ابن ابي قحافة كان قد تلطف به وزوجه من اخته أم فروة فجرأته هذه المصاهرة على التطلع الى بنات الانبياء والاوصياء . وما كادت الحوراء زينب تصل إلى داخل البيت بتلك السرعة الخاطفة حتى قال الاشعث لعلي (ع) : من هذه الفتاة يا ابا الحسن ، فرد عليه قائلا : انها ابنتي زينب ابنة الزهراء ، فقال له : زوجنيها يا ابا الحسن ، فاستخف به امير المؤمنين (ع) وقال له : لقد غرك ابن ابي قحافة بنفسك اذ زوجك اخته أم فروة وأصبحت لا تنظر لنفسك الا من زاوية هذه المصاهرة ، ناسيا اصلك ونسبك ومكاتك الوضيعة في نفوس العرب والمسلمين ، وأصبحت تطمع بالفواطم والعواتك من بنات هاشم وعبد المطلب (1) .
وقد حمله الصلف والغرور على ان يرد على امير المؤمنين بقوله : لقد زوجتم من هو أخمل مني حسباً وأوضع مني نسباً وهو المقداد بن عمر المعروف بالمقداد الاسود ، فرد عليه امير المؤمنين قائلا : ذاك رسول الله (ص) قد فعله وهو أعلم بما فعل ولئن عدت إلى مثلها لأسوأنك .
لقد كان الأشعث فظا غليظاً ثقيلاً على اكثر المسلمين لغلظته وجفوته
____________
1 ـ الفواطم جمع فاطمة وقد اصبح كالعلم على مجموعة من الهاشميات فهن فاطمة الزهراء وفاطمة بنت اسد وفاطمة بنت الحمزة وغيرهن ، كما وان العواتك جمع عاتكة وهو اسم لمجموعة من نساء الهاشميين البارزات منهن عاتكة بنت عبد المطلب عمة النبي ، وأم زينب بنت جحش التي تزوجها النبي بعد ان طلقها زيد بن حارثة .

( 91 )

وجرأته على الحق وكان من المتآمرين على امير المؤمنين بعد ان تولى الخلافة ويعمل لمصلحة معاوية وقد لعنه علي (ع) اكثر من مرة وزجره وحاول ان يضع حدا لتجاوزاته ومؤامراته وأخيراً اشترك في قتله مع عبد الرحمن بن ملجم وجماعة ممن سخرهم معاوية لذلك كما وان ابنته جعدة قد حققت لمعاوية ما كان يتمناه ويعمل من اجله فدست السم إلى الحسن بن علي (ع) بعد ان اغراها معاوية بالمال ووعدها بأن يزوجها ولده الخليع يزيد بن ميسون ، واشترك ولده قيس بن الأشعث في جميع الجرائم التي ارتكبها معاوية وولده يزيد مع العلويين وشيعتهم .
لقد بقيت العقيلة في بيت ابيها والخطاب يتوافدون عليه من هنا وهناك ، وكان يردهم وكأنه كان قد صمم على امر ينتظر الوقت المناسب لتنفيذه لا سيما وقد سمع النبي (ص) يقول وهو ينظر إلى اولاد علي وجعفر قبل ان يتجاوزوا سن الطفولة بناتنا لبنينا وبنونا لبناتنا كما جاء في بعض المرويات عنه .
واذا لم يكن النبي (ص) جدا لأولاد جعفر فانه لهم بمنزلة الأب والجد وهو وليهم ولا شيء أحب إلى الجد من اقتران أحفاده بعضهم ببعض لانه يعتبر ذلك تأكيداً لنسله وامتدادا لنوع من انواع وجوده ، ولا بد وأن يكون عليا (ع) الذي كان في كل مراحل حياته يقتدي بأقوال الرسول وأفعاله قد سمع من الرسول هذه المقالة واعتبرها تأكيداً لما كان يضمره نحو اطفال اخيه جعفر شهيد مؤتة وبطل الإسلام الخالد وكان كفيلهم وولي امرهم بد استشهاد اخيه ، فنفذها كما أراد رسول الله (ص) ورد جميع الخطاب الذين كانوا يتوافدون عليه من هنا وهناك للحصول على شرف المصاهرة الذين يحصلون عليه بزواجهم من ابنة علي والزهراء ، ولا احسب ان احدا كان اقرب إلى قلب علي (ع) بعد اولاده من اولاد اخيه جعفر بن ابي طالب وعلى رأسهم عبدالله بن جعفر وكانوا في عداد


( 92 )

اولاده ونشأوا في بيته وبخاصة بعد ان تزوج من امهم أسماء بنت عميس بعد استشهاد زوجها جعفر الطيار ووفاة ابي بكر عنها .
وقبل ان نتابع الحديث عن زينب وزوجها عبدالله في بيتهما الجديد كزوجين كريمين من اكرم ما عرفه بيت ابي طالب بعد بيت ابيها واخوتها ، ارى من الوفاء لبيت ابي طالب الذي كان له الفضل الأكبر على الإسلام والمسلمين كما تؤكد جميع الشواهد التي مر بها الإسلام ورسول الإسلام في مراحله الأولى انه لولا بيت ابي طالب لكان مصير محمد ورسالته كمصير زكريا ويحيى وغيرها من الانبياء الذين كانوا يتعرضون للقتل والمصاردة من بني اسرائيل قبل ان تنتشر رسالاتهم ، وقديما قال الجاحدون لنبوة شعيب كما حكى الله عنهم في كتابه : ولولا رهطك لرجمناك .
لقد وقف ابو طالب وزوجته فاطمة بنت اسد وأولادهم إلى جانبه منذ اعلان الدعوة وأعلن أبو طالب بأنه سيمنع عنه كل من تحدثه نفسه بالأساءة اليه ، والنيل منه ، كما اوقفت زوجته فاطمة بنت اسد نفسها لخدمته في اليوم الذي مات فيه جده عبد المطلب ، وكانت كما وصفها هو صلى الله عليه وآله تفضله على أولادها في المأكل والملبس وفي كل شيء وظل يذكرها ويترحم عليها حتى النفس الأخير من حياته ، وسبق ولداها علي وجعفر جميع المسلمين إلى الإسلام والإيمان برسالة محمد فكان أولهم علي بعد خديجة الكبرى ، ومر أبو طالب وعلي يصلي وحده إلى جانب محمد (ص) فقال لولده جعفر : صل جناح ابن عمك فأسلم بعد اخيه علي بأمر من ابيه وظل ابو طالب حياته بعد مبعث النبي (ص) يدافع ويناضل عن رسالة محمد بكل طاقاته وامكانياته ويقول :

ولقد علمت بأن دين محمد * من خير اديان البرية دينا

ومع ذلك فان رواة السنة ومحدثيهم الذين كانوا ولا يزالون يجترون


( 93 )

مرويات أذناب الأمويين وصنائعهم الذين سخروهم للكذب والأفتراء على الإسلام وحماة الإسلام ودعاته المخلصين هؤلاء يدعون بأن أبا طالب مات كافرا برسالة محمد وأبا سفيان بن حرب العدو اللدود للإسلام ولكل من آمن به وجاهد في سبيله مات مؤمناً في حين انه كان في اكثر مواقفه لا يتحاشى المجاهرة بشركه ووثنيته ، وقد ذكرنا سابقا ان ابا طالب لو لم يكن ابا لعلي عليه السلام لكان من الصديقين ومن خيار المسلمين .