لمحات عن إسلام جعفر الطيار وهجرته ووفاته

وأعود لأكرر انه قبل الحديث عن زواجهما ارى من الوفاء لهذا البيت الكريم ان اشير ولو بايجاز لجعفر الطيار ثالث المسلمين ووالد عبدالله بن جعفر الذي اختار له النبي عقيلة بني هاشم لتكون زوجة له كما ذكرنا .
لقد كان جعفر الطيار اكبر من علي (ع) بعشر سنين كما يدعي اكثر المؤرخين ولم يسبقه احد إلى الإسلام سوى خديجة الكبرى وعلي وكان هو ثالث المسلمين والمصلين وقد ذكرنا ان أباه راى عليا يصلي عن يمين النبي فقال لولده جعفر : صل جناح ابن عمك ومضى امد غير قصير وليس في مكة من يعبد الله سبحانه سوى محمد وعلي وخديجة بنت خويلد وجعفر بن أبي طالب فكان النبي يتقدمهم للصلاة في اوقاتها وعلي عن يمينه وجعفر عن يساره وخديجة من خلفه ، وكان جعفر يشبه النبي في خلقه وخلقه كما وصفه النبي بذلك كما كان يكنيه ابا المساكين .
وجاء عن ابي هريرة انه كان يقول : لقد كنت اسأل الرجل من اصحاب رسول الله (ص) عن الآية من القرآن وأنا أعلم بها منه ولكني كنت اسأله


( 95 )

ليطعمني شيئا ، وكنت ان سألت جعفر بن أبي طالب لم يجبني حتى يذهب بي الى بيته فيطعمني ثم يجيبني .
وجاء في الحديث عن رسول الله (ص) انه قال : لقد اختارني الله في ثلاثة من اهل بيتي انا سيدهم لقد اختارني وعليا وجعفر والحمزة بن عبد المطلب ، وفي المجد الأول من الاستيعاب ، خلال حديثه عن جعفر بن ابي طالب ان النبي (ص) قال : دخلت الجنة البارحة فإذا جعفر يطير مع الملائكة .
لقد كان جعفر بن ابي طالب من المهاجرين الأولين الى الحبشة حين وسعت قريش حلقة الاضطهاد على المسلمين في مكة وكان خروجه بايعاز من النبي (ص) فخرج هو وزوجته وجماعة من المسلمين المستضعفين من مكة فراراً بدينهم وولدت له فيها عبدالله وعونا ومحمداً ، ولقي المسلمون من النجاشي ملك الحبشة من الرعاية وكرم الضيافة والإحسان ما أثار غضب قريش وتخوفها من هذه الظاهرة التي ستكون بداية لتحول جديد في تاريخ العلاقات بينهم وبين الاحباش الذين كانوا على ارتباط معهم في مختلف مرافق الحياة ، وبقاء المسلمين الى جوارهم سيضاعف من هذا التحول وربما يؤدي الى توتر الاجواء بينهما وبالتالي الى القطيعة بين البلدين المتجاورين ، وقد تصبح الحبشة مقرا لعدد كبير من المسلمين ومنطلقا لدعوتهم التي تساندها دولة لا طاقة لهم على مقابلتها ، هذه الاحتمالات كلها اصبحت تراود القرشيين بعد ان بلغتهم حفاوة الاحباش بالمسلمين فراحوا يعملون بكل ما لديهم من الوسائل لايجاد فجوة بين الطرفين واعادة العلاقات بينهما إلى سابق عهدها واخراج المسلمين من بلادهم ، فجمعوا مبلغاً من الأموال ليشتروا بها أنفس الهدايا وأثمنها للملك وبطارقته ، وبعثوا بالهدايا مع عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد شقيق خالد بن الوليد ، وكتبوا الى النجاشي يحذرونه من المسلمين


( 96 )

ويطلبون منه ان يردهم الى مكة ، وكان ابن العاص حديث عهد بالزواج من احدى المكيات الفاتنات في جمالهن فلم يستطع فراقها فمضت معه في تلك الرحلة وفي الطريق كانت تتحدث إلى عمارة ويتغازلان وكان فتى مديد القامة جميلا بهي الطلعة فتعلقت به وتعلق بها واخيرا هجرت فراش زوجها وارتمت في فراشه ، وعبثا حاول ابن العاص ان يضع حدا لشذوذها وبالتالي بقيت بينهما يشتركان بالاستمتاع بها (1) .
وسبقت أنباء هذه الفضيحة إلى المهاجرين والنجاشي ، وحاول عمارة وابن العاص ان يشحنا النجاشي وبطارقته على الإسلام والمسلمين ، وباءت جهودهما بالفشل الذريع بعد ان تولى جعفر بن ابي طالب الحديث مع النجاشي وبطارقته وحدثهم عن ابن عمه محمد ورسالته وقرأ عليهم بعض الآيات من القرآن ومن سورة مريم ، كما ذكر المؤلفون في سيرة الرسول (ص) ورجع الوفد فاشلا إلى قريش يتعثر بأذيال الخيبة وبقي النجاشي على كره واحسانه الى المهاجرين ، كما بقي جعفر بن ابي طالب ومن معه في الحبشة إلى السنة السابعة من هجرة الرسول (ص) وفيها رجع إلى المدينة ، والنبي (ص) كان قد اتجه لحرب اليهود في خيبر واستولى عليها بعد ان اقتحم امير المؤمنين حصونهم وجندل أبطالهم وفرسانهم وفي اليوم الذي رجع فيه النبي إلى المدينة دخلها جعفر بمن معه من المسلمين فقام إليه النبي (ص) وقبله ما بين عينيه وقال : ما ادري بأيهما أشد فرحا بقدوم جعفر او بفتح خيبر وقال له : انت أشبه النسا بخَلقي وخُلقي وقد خلقتَ من الطينة التي خلقتُ منها ، كما جاء في ذخائر العقبى للمحب الطبري وغيره من مجاميع الحديث .
وأعطاه وزوجته أسماء من غنائم خيبر مثل ما اعطى غيره من
____________
1 ـ محمد رسول الحرية للشرقاوي .
( 97 )

المسلمين الذين اشتركوا في فتحها ، وبقي مع النبي بعد رجوعه الى المدينة أشهرا معدودات وبدخول السنة الثامنة للهجرة بعث رسول الله (ص) احد اصحابه وهو الحارث بن عمير بكتاب الى ملك بصري من ارض الشام ، فلما بلغ الرسول مؤتة تعرض له شرحبيل الغساني احد ولاة الروم وقتله ولم يقتل غيره ممن كان يبعثهم رسول الله (ص) الى الملوك والامراء ، فاشتد ذلك على النبي (ص) وجهز جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة جعفر بن ابي طالب وعين اثنين غيره للقيادة على التوالي فيما لو قتل جعفر وهما زيد بن حارثة وعبدالله بن رواحه ، وانطلق الجيش الى مشارف الشام يجد في سيره وحينما بلغت أخباره ملك الروم أوعز الى جيوشه بأن ترابط على الحدود بين بلاد الشام والحجاز وحشد عليها اكثر من مائة الف مقاتل ، وكانت المعركة الحاسمة على الحدود في مؤتة فأخذ الراية جعفر وتقدم بمن معه من المسلمين وحمل على تلك الحشود التس ملأت الصحراء بعددها وعتادها فانهزموا بين يديه وظل يطاردهم حتى قطعت يمينه وشماله وخر صريعاً .
وجاء في بعض المرويات انه لما اشتد القتال ، نزل عن فرسه وعقرها فكان كما قيل اول من عقر فرسه في الإسلام ومضى يقاتل راجلا ويقول :

يا حبذا الجنـة واقترابهـا * طيبـة وبارد شرابهـا
والروم روم قد دنا عذابها * كافرة بعيـدة انسـابها
علي اذ لاقيتها خرابها

وبعد ان استشهد وجدوا في مقدم جسده اكثر من تسعين ضربة وطعنة وجزع من في المدينة لقتله وبكاه المسلمون وبخاصة اهله وذووه ، فلما رأى ذلك رسول الله (ص) قال : لا تبكوا على اخي بعد اليوم ، ان له جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة فسمي ذا الجناحين والطيار .


( 98 )

وجاء عن عبدالله بن جعفر ان قال : لقد دخل علينا رسول الله بعد موت ابي وقال : لا تبكوا على اخي بعد اليوم ودعا بالحلاق فحلق رؤوسنا وقال : اما محمد فشبيه عمنا ابي طالب ، وأما عبدالله فشبيه خَلقي وخُلقي ، ثم اخذ بيدي وقال : الله احفظ جعفرا في اهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه ، ولما ذكرت امي يتمنا قال لها : لا تخافي عليهم انا وليهم في الدنيا والآخرة (1) .
وظل أيتام جعفر في رعاية رسول الله (ص) وعمهما علي بن ابي طالب وحضانة امهم أسماء بنت عميس ، وكانت امرأة كريمة شريفة ذات رأي حازم ومعرفة وتجربة وحجة ، بيان على حد تعبير عبد العزيز سيد الاهل في كتابه زينب بنت علي لا تصبر على مذلة ولا تبيت على ضيم هاجرت في كتابه زينب بنت علي لا تصبر على مذلة ولا تبيت على ضيم هاجرت في سبيل الله هجرتين اولاهما مع المسلمين الاولين وزوجها إلى الحبشة ، وثانيتهما الى المدينة مع زوجها جعفر الطيار فأكرمها رسول الله وعلمها دعاء تدعو به في الشدائد ، وقال لها : اذا نزل بك كرب فقولي الله الله ربي لا اشرك به ، فلم يصبها كرب بعد ذلك الا أزاحته عنها بدعاء رسول الله كما جاء عنها .
وحدث بعد ان رجعت مع زوجها الى المدينة ان رآها عمر بن الخطاب فقال لها : يا حبشية سبقناكم بالهجرة . ولعله كان يريد ان يتباهى عليها في هجرته مع الرسول وصحبته له او ممازحا لها كما يدعي بعض الرواة ، وما كاد عمر ينتهي من حديثه حتى انبرت له قائلة : لعمري لقد كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعلم جاهلكم وكنا البعداء عنه نتحمل الأهوال والشدائد حرصا على ديننا ، وأضافت الى ذلك : والله لأتين رسول الله وأذكرنّ له مقالتك يا ابن الخطاب .
____________
1 ـ فقه السيرة للشيخ محمد غزالي ص 281 .
( 99 )

ومضت مسرعة الى النبي وقالت : يا رسول الله ان رجالا من اصحابك يتفاخرون علينا ويتباهون ويزعمون اننا لم نكن من المهاجرين الاولين ، فرد عليها الرسول قائلا : بل لكم هجرتان هاجرتم الى الحبشة ونحن في مكة وهاجرتم الى المدينة كما هاجرنا ولا فضل لاحد عليكم .
لقد تزوجت بعد مصرع زوجها من ابي بكر فأولدها محمد بن بكر وخلال تلك المدة القصيرة التي قضتها معه لم تكن تفارق اولادها ولا بيت فاطمة الزهراء وقد روت الحديث عنها وحينما توفيت الزهراء (ع) تولت غسلها وتكفينها ، وبعد وفاة زوجها ابي بكر تزوج منها وضمها امير المؤمنين الى عياله مع ولدها محمد بن ابي بكر ، وكان طفلا في الرابعة من عمره وبقيت في بيته هي وأولادها ، وأولدها ولداً اسماه يحيى كما جاء في المجلد الاول من حياة الحيوان (1) .
وبقي عبدالله منذ طفولته الى ان شب وترعرع هو واخوته الى جانب عمه امير المؤمنين مع اولاده يتلقى منه العلم والمعرفة ويغذيه بأخلاق الإسلام وتعاليم الإسلام حتى اصبح من كرام المسلمين وأعلامهم ، وكان كما يصفه المؤرخون أسخى رجل بين المسلمين في عصره . وكان هو وزينب في سن متقاربة فلما بلغاً سن الشباب وراح الطلاب يتوافدون على بيت علي (ع) يطمعون في مصاهرته لم يجد لابنته كفأ غير ابن اخيه عبدالله فزوجه منها ، ولكن هذا الزواج لم يفرق بين زينب وأبيها واخوتها ، وبلغ من تعلم الإمام (ع) بابنته وابنة اخيه ان بقيا معه يراعهما ويتفقدهما كما كانا قبل الزواج وحينما تولى أمور المسلمين وانتقل من المدينة إلى الكوفة انتقلا معه ووقف عبدالله إلى جانب عمه في جميع
____________
1 ـ انظر زينب بنت علي لعبد العزيز سيد الأهل عن المجلد الأول من حياة الحيوان ص 228 .
( 100 )

مواقفه النضالية قبل خلافته وبعدها من الناكثين والقاسطين والمارقين .
وما كادت زينب تنتقل إلى بيتها الجديد المتواضع في اثاثه ومعيشته حتى اصبح المال يتدفق عليه ، ولكنه كان يهب ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر ولا يدخر شيئاً من يومه لغده وأصبح الجود والسخاء من اشهر صفاته وألقابه وسماه الناس بحر الجود ، وحدث الرواة ان جماعة كانوا يتحدثون عن كرام المسلمين وأجوادهم ، فادعى جماعة ان أجودهم عبدالله بن جعفر فطلب منهم الباقون دليلاً على ذلك ، فجاءه احدهم وهو على راحلته يريد ضيعة له خارج المدينة فتعلق بركابه وقال له : انا من ابناء السبيل ولا املك شيئاً ، فأخرج عبدالله رجله من الركاب ونزل عن راحلته وقال له : ضع رجلك في الركاب واستوي على الناقة وخذ ما في الحقيبة ، واياك ان تخدع عن السيف فانه من سيوف علي بن ابي طالب ثم ترك الرجل ورجع ماشيا الى بيته في المدينة ، ولما وضع الرجل رجله في الركاب واستوى على الناقة ومد يده الى الحقيبة وجدها مملوءة بمطارف الخز وفيها بالإضافة إلى ذلك اربعة آلاف دينار ، وكان سيف علي (ع) أنفس من المطارف وأجل من الدنانير على حد تعبير الراوي ولما رأى القوم صنيعه قالوا : صدق من سماه بحر الجود (1) .
وبلغت شهرته في الاوساط الإسلامية حدا ضاقت بها نفوس اعداء الطالبيين وقلوبهم الحاقدة ولم تعد تتسع لمديحه وثناء الجماهير عليه فراحوا يحاولون تزييف سخائه وتسميته سرفاً لا يقره الإسلام .
فقد حدث الرواة عن الشعبي ان عبدالله بن جعفر الطيار دخل على معاوية وعنده ولده يزيد بن ميسون ، فجعل يزيد يعرض بعبدالله
____________
1 ـ زينب بنت علي لعبد العزيز عن ص 60 من المستجدات في فعلات الاجواد .
( 101 )

في كلامه ويتهمه بالاسراف والتبذير ، فقال عبدالله ليزيد : اني لأرفع نفسي عن جوابك ، ولو قالها صاحب السرير لأجبته ، فقال معاوية : كأنك تظن انك أشرف منه يا عبدالله ، فقال عبدالله : أي والله ومنك ومن ابيك وجدك يا معاوية ، فرد عليه معاوية بقوله : ما كانت أحسب ان احدا في عصر حرب بن أمية جدي أشرف منه ، فقال عبدالله : بلى والله ان أشرف منه من اكفاء عليه اناءه وأجاره بردائه ، فقال : صدقت يا ابا جعفر (1) .
وكان يقول : كما جاء عنه : ان الله قد عودني ان يتفضل علي ، وعودته ان أتفضل على عباده ، وأضاف : ان يقطع عني اذا قطعت عن عباده (2) .
وقد تحدث المؤرخون وأكثروا عن كرمه وسخائه وايثاره الأيتام والمساكين وأبناء السبيل على نفسه وولده ، ولقد رأته العقيلة يصنع كل ذلك فلم تعارضه في شيء من عطائه وسخائه بل كانت تشاركه احيانا وتشجعه على البذل والعطاء وظلت العقيلة وفية لزوجها ساهرة على راحته وتربية اولادها وفي الوقت ذاته على صلة دائمة بأخويها الحسن والحسين وبقية اخوتها وتحملت من المحن والمصائب ما لا يقوى على حمله احد من الناس وثبتت لجميع تلك الأهوال وتحملت مرارتها وآلامها وبصبر وشجاعة قل نظيرهما في تاريخ الأبطال وعظماء العالم ، وقد نحدث المؤرخون والكتاب القدامى والمحدثون عن مواقفها وبطولاتها في معركة الطف وما تلاها من الأحداث في الكوفة والشام وعن تحدياتها لاولئك الطغاة والجلادين التي زعزعت فيها عروشهم وضعضعت كبرياءهم
____________
1 ـ زينب الكبرى لجعفر نقدي ص 89 طبع النجف .
2 ـ العقد الفريد لابن عبد ربه .

( 102 )

وأصبحوا لعنة على لسان الاجيال الى ان تقوم الساعة ، ولم يتحدثوا عن حياتها مع زوجها عبدالله لانها في تلك الفترة من تاريخها كانت منصرفة لبيتها وأولادها واعدادهم الاعداد السليم كما كان ابوها يعدها ويعد اخوتها وقد اكتفت بذكر الله وعبادته والتضرع اليه في ليلتها ونهارها والاستفادة من مدرسة امها وأبيها وأخويها الحسن والحسين عن ذكر الناس والقيل والقال والاشتراك في الفتن والاحداث .
وقد اعتاد المؤرخون والكتاب ان يتحدثوا عن المرأة من خلال نزعاتها واشتراكها في الفتن وأحداث عصرها وركوبها الحمال والبغال في ساحات الحروب والمعارك وعما ترويه من الاحادي المكذوبة عن النبي (ص) كالتي كانت تنسبها بعض زوجاته اليه زورا وافتراء كما يتحدثون احيانها عن ربات البيوت من خلال مظاهر البذخ والترف وعدد الجواري والعبيد ومجالس الغناء والشراب اما البيوت التي تكون لله وفي سبيل الله والتهجد والعبادة وللعلم والتعليم والارشاد فلا يعنيهم من امرها شيئاً .
لقد كان بيت العقيلة من تلك البيوت التي وصفها بعض الشعراء بقوله :

منازل كانت للرشاد وللتقى * وللصوم والتطهير والصلوات

ووصفها ابو فراس الحمداني في قصيدته التي يعدد فيها فضائل العلويين ومساوئ الامويين والعباسيين بقوله وهو يخاطب العباسيين :

تنشي التلاوة في ابياتهم سحـرا * وفي بيوتكـم الاوتـار والنغـم
ما فـي ديارهـم للخمر معتصر * ولا بيـوتهم للسـوء مـعتصم
ولا تبيت لهـم خنثى تنـادمهـم * ولا يـرى لهـم قـرد له حشم
الركن والبيـت والاستار منزلهم * وزمزم والصفا والخيف والحرم



( 103 )

لقد روى عنها أعيان الصحابة وكان عبدالله بن العباس عندما يروي عنها يقول : حدثتني زينب ابنة علي (ع) ، وولد لعبدالله من زوجته زينب اربعة ذكورا وأنثى واحدة وهم علي ومحمد وعباس وعون وأم كلثوم وكان قد خطبها معاوية لولده يزيد بن ميسون وحاول بكل وسائله ومغرياته اتمام هذه الصفقة ، ولكن خالها الحسين (ع) كان له بالمرصاد فزوجها من ابن عمها القاسم بن محمد بن جعفر (1) وقتل محمد وعون مع الحسين في كربلاء وقدمتهما العقيلة لينالا شرف الشهادة مع اخيها فبرز عون وهم يقول كما تروي كتب المقاتل :

ان تنكروني فأنا ابن جعفر * شهيد صدق في الجنان ازهر
يطيـر فيها بجناح اخضر * كفى بهذا شرفاً فـي المحشر

ومضى يقاتل حتى قتل ثلاثة فوارس وثمانية عشر رجلا ثم تكاثروا عليه وقتلوه وبرز بعده اخوه محمد بن عبدالله وهو يقول :

اشكو إلى الله من العدوان * فعال قوم في الردى عميان
قـد بدلـوا معالم القرآن * ومحكم التنـزيل والتبيـان

وقتل من أهل الكوفة عشرة من فرسانهم ثم حملوا عليه وقتلوه وكان الذي تولى قتله ابن نهشل التميمي كما ذكر ارباب المقاتل ولم يحدث التاريخ ولا أرباب المقاتل ان العقيلة زينب ندبت ولديها او تعلقت بهما كما كانت الامهات يصنعن حين خروج أولادهن ومصرعهم بل كان الحسين شاغلها الوحيد الذي أنساها كل شيء وهان عليها مصابها بهما
____________
1 ـ انظر ص 191 من أعيان الشيعة المجلد 33 طبعة 1950 .
( 104 )

لانهما قتلا في سبيله ، وحتى ان زوجها عبدالله والدهما كان يقول بعد ان بلغته اخبار تلك المجزرة وما جرى لولديه : لقد هون علي مصابهما انهما قتلا مع اخي وابن عمي مواسين له صابرين معه واذا لم اكن قد واسيته بيدي فلقد واسيته بولدي . ودخل عليه احد غلمانه يبكيهما ويقول : ماذا لقينا من الحسين بن علي ، فغضب عبدالله وحذفه بنعله وقال له : يا ابن اللخناء اللحسين تقول هذا ، والله لو شهدته لما فارقته حتى أقتل دونه وأفديه بنفسي .
والسؤال الذي قد يعترض هو انه لماذا لم يخرج مع الحسين كما خرجت معه زوجته وأكثر الطالبيين ومن هو أولى من عبدالله بذلك ، وقد اعتذر عنه جماعة بأعذار لا تعدو ان تكون من نوع الحدس والتخمين ، والذي اراه ان عبدالله بن جعفر لم يتخلف عن الحسين (ع) الا برأيه وقد أمره بالبقاء في المدينة لاسباب تفرضها المصلحة كما أمر اخاه محمد بن الحنفية بذلك ، ولم يحدث التاريخ عن عبدالله بأنه كان يعصي للحسن والحسين امرا او يخالفهما في شيء ، وقد ذكرنا ان معاوية حينما خطب ابنته لولده يزيد ترك امرها الى الحسين بالرغم من العروض السخية التي عرضها عليه معاوية ، كما ترك امر زوجته زينب من حيث خروجها معه اليه واليها وهو الذي أمر ولديه بالخروج معه وكان مغتبطاً باستشهادهما معه ومواساتهما له ، وان سيرته ومواقفه بعد الحسين (ع) لأصدق شاهد على ايمانه واخلاصه في ولائه لعمه وأبناء عمه ولدينه وعقيدته .


( 105 )

افتراءات الأمويين عليه

وجاء في العيون والمجالس للبيهقي ان عبدالله بن عباس وعمرو بن العاص كانا في مجلس معاوية فتعرض عمرو بن العاص لعبدالله بن جعفر ونال منه ، فقال له ابن عباس رحمه الله : ان عبدالله ليس كما تذكر يا ابن العاس ، ولكنه لله ذكورا ولنعمائه شكوراً وعن الخني زجوراً جواد كريم وسيد حليم لا يدعى لدعي ولا يدنو لدني كمن اختصم فيه من قريش شرارها وغلب عليه جزارها فأصبح آلامها حسبا وأدناها نسباً ، ومضى يقول : وليت شعري بأي قدم تتعرض للرجال وبأي حسب تبارز عند النضال ، أبنفسك وأنت الوغد الزنيم ام بمن تنتمي اليه من اهل السفة الطيش والدناءة في قريش لا بشرف في الجاهلية اشتهروا ولا بقديم في الإسلام ذكروا وكان ابن عباس في قوله هذا يعرض بابن العاص لانه كان متهما في نسبه كما تؤكد ذلك اكثر المصادر التي تعرضت لتاريخه .
اما ما جاء في بعض المجاميع عنه من انه في الشطر الاخير من حياته كان مولعا بالقيان والغناء واللهو والفساد وما الى ذلك من الافتراءات


( 106 )

فهو من وضع الأمويين الذين سخروا بعض الرواة والقصاصين للنيل من مقام امير المؤمنين (ع) ومن يتصل به بنسب قريب او بعيد وعبدالله بن جعفر هو بمنزلة اولاده والابن المفضل عنده من اولاد اخيه جعفر وزوج ابنته عقيلة بني هاشم وكان من ابرز الطالبيين بعد اولاده عمه امير المؤمنين (ع) في اكثر صفاته ومواهبه .
لقد شق على معاوية وحزبه ان يبرز حفيد ابي طالب على اقرانه من ابناء المهاجرين والأنصار بفضله وعبادته وجوده وكرمه وأن يسميه الناس بحر الجود ويتحدثون عنه في نواديهم ومجالسهم بأكرم الصفات والمزايا ولا يذكرون احدا من أحفاد أمية وفتيانهم الا بما هم عليه من ممارسة الفجور والفساد والغناء وانتهاك الحرمات فسخر رواته وقصاصيه لينسبوا اليه ممارسة الغناء والفساد والتلهي بالجواري والرقصات ، حتى لا يبقى الفساد والفجور من محتكرات ابنائهم وأحفادهم ووقفا على قصورهم ومنتجعاتهم وليصرف الانظار عما شاع وذاع عن ولده الخليع الفادر وليس ذلك بغريب على ابن هند وسليل أمية فلقد كان يعمل بكل ما لديه وبدون حياء وخشية هو ومن سخرهم من الرواة والقصاصين ويفتري على علي وولده الحسن سبط الرسول فوضعوا له عشرات الاحاديث التي تسيء اليهما وترفع من شأنه وشأن اسرته ، ويبذل الأموال بلا حساب في هذا السبيل ، وكان بذلك كأنه يأخذ بضبعيهما إلى السماء ، وكانوا بما رووه له في اسرته وذويه كأنما ينشرون جيف الحمير على حد تعبير الشعبي وعبدالله بن عروة بن الزبير .
لقد حاول ان يضع من شأن الحسن السبط فسخرهم لان يقولوا ان عليا (ع) كان اذا مر على حشد من النساء يقول لهن : من منكن تحب ان تكون زوجة لأمير المؤمنين فيقلن له : كلنا مطلقات ولدك الحسن ، وان الحسن (ع) تزوج بأكثر من مائتين وخمسين امرأة الى غير ذلك من


( 107 )

مفترياته ، ولم يعد غريبا عليه اذا سخر أذنابه ليلصقوا بحفيد ابي طالب عبدالله بن جعفر وبحر الجود كما كان يصفه الناس ، انه كان منصرفا الى القيان والغلمان والجواري الراقصات ليستر بذلك اسراف ولده وأسرته أحفاد أمية بالفجور والمنكرات .
وعلى ذلك مضى من جاء بعده من الأمويين فحيث كانت قصورهم تعج بالغلمان والندمان والراقصات ، وكانت بناتهم ونساؤهم يمارسن الفجور والرقص والغناء الى جانب الرجال والغلمان سخروا القصاصين والكذبة من الرواة لينسبوا الى سكينة بنت الحسين (ع) شقيقة الامام زين العابدين انها كانت تجتمع الى المغنين والمغنيات والشعراء والمخنثين وتبادلهم الشعر والغناء وعندما يستبد بها الطرب او الاعجاب بشعر احدهم تمد لهم يدها لينتزعوا الحلي من سواعدها ، وما الى ذلك من المنكرات ليستروا بذلك مفاسدهم وفجورهم واستهتارهم نساء ورجلا بالإسلام وتعاليمه وقيمه وآدابه .