وقد جرت عادة الأمم والدول في زماننا هذا على الحتفاظ ببيوت عظمائها وقبورها واحاطتها بهالة من التقديس والتعظيم حتى ولو عرض للبيع اي شيء ينتسب للعظماء لبذل اتباعه في سبيله اغلى الاثمان ، وما ذاك الا لشرف الانتساب اليه .
وحدث المؤرخون انه حين أدخل رأس الحسين (ع) على يزيد بن معاوية كان في مجالس الشراب فوضعوا الرأس بين يديه ، فدخل عليه رسول ملك الروم في ذلك الوقت فأنكر عليه أشد الانكار حينما علم ان الرأس للحسين ابن بنت نبيهم ، وقال ليزيد : هل سمعت يا يزيد بكنية الحافر ؟ قال : وما هي ؟ قال : عندنا مكان يقال بأن الحمار الذي كان يركبه عيسى بن مريم مر به فبنينا كنيسة في ذلك المكان سميناها كنيسة الحافر نسبة إلى حافر حمار عيسى ، ونحن نحج الى المكان في كل عام ومن كل قطر وناحية وننذر له النذور ونعظمه كما تعظمون كتبكم ومقدساتكم وأنتم تقتلون ابن نبيكم وتطوفون برأسه في البلدان ، فأشار عليه جلازوته بقتله لئلا يفضحه بعد رجوعه لبلاده فقتله وصلبه على باب قصره بعد ان قام النصراني الى الرأس فقبله وتشهد الشاهدين .
وهذا شيء مألوف لدى جميع الأمم على اختلاف اديانهم ومعتقداتهم والكل حينما يعظمون مرقدا او اثرا من آثار عظمائهم انما يعظمونه باعتباره رمزا لما كان يتمتع به من صفات ومواهب وما قدمه لأمته ووطنه من خدمات وتضحيات واصلاحات .
وقال العقاد في كتابه ( ابو الشهداء ) : ان حرم الحسين (ع) في كربلاء يزوره المسلمون للعبرة والذكرى ، ويزوره غيرهم للنظر والمشاهدة ، ولكن كربلاء لو أعطيت حقها من التنويه والتخليد لحق لها ان تصبح مزارا لكل آدمي يعرف لبني نوعه نصيباً من القداسة وحظا من الفضيلة ، لأننا لا نذكر بقعة من بقاع هذه الارض يقترن اسمها بجملة


( 126 )

من الفضائل والمناقب اسمى وألزم لنوع الانسان من تلك التي اقترنت باسم الحسين (ع) بعد مصرعه فيها ولولا الحسين وشقيقته زينب شريكته في الجهاد والتضحيات وبقية الائمة لم تكن تلك القباب الشامخة التي اصبحت رمزا للحق والعدالة والفضيلة ومقصدا لمئات الالوف من المسلمين في كل عام شيئاً مذكوراً .
ومهما كان الحال فمرقد العقيلة زينب بنت علي وفاطمة مردد بنظر العلماء والباحثين بين المدينة المنورة والشام ومصر ، وكما ذكرنا ان مرقدها في المدينة لم يعد له وجود كغيره من مراقد الائمة وأعلام الصحابة والتابعين ، لان بناء المراقد وتعظيم من حل فيها على حد الشرك بالله بنظر حماة الحرمين ، اما المرقدين المنسوبين اليها في الشام ومصر فلا يزالان كعبة الوفاد في كل عام على مرور الشهور والأيام تقصدهما مئات الألوف للزيارة والتوسل بها وبأبيها وجدها لقضاء حوائجهم ، ولا أحسب ان الذين يتوافدون على زيارة ابيها وأخيها في كربلاء والنجف اكثر ممن يتوافدون على المرقدين المنسوبين اليها في الشام والقاهرة ، وجاء في جريدة الاهرام تاريخ 23 ـ 6 ـ 1972 مقال للإستاذ فتحي رضوان وزير الثقافة يومذاك يصف فيه الوافدين على حي السيدة زينب جاء فيه :
ان مسجد السيدة زينب تشد إليه الرحال وكأنه الكعبة اكثر مما تشد الرحال الى المسجد الحسيني ، فالألوف الذين يقصدون هذا المسجد من فقراء الريف والحضر من النساء والرجال والمرضى وأصحاب الحاجات من المغلوب على امرهم والذين سدت في وجوههم الأبواب وتحطمت الآمال كانوا قد اطلقوا على صاحبة الضريح اسماء تدخل إلى قلوبهم العزاء وتبعث فيهم الرجاء وكانوا يهتفون حول قبرها : يا أم العواجز ويا أم هاشم ويا ابنة محمد والزهراء ، ومضى يقول : ولكم رأيت رجالا ونساء في مقتبل العمر وفي خريف الحياة قد وضعوا ايديهم على شباك ضريح السيدة


( 127 )

زينب ورائحة البخور تملأ المسجد كله وراحوا يهمسون في ذهن أم العواجز وقد تمثلت لهم بشرا يسمع ويتنفس ويمد راحتيه ويضعهما بين أيد الزائرين والقاصدين واصوات الزائرين تتعالى يا أم العواجز ويا أم هاشم يا اخت الامام ويا بنت الإمام نظرة بحق جدك النبي .
والآن ونحن بصدد الحديث عن مرقدها الشريف الذي تدعيه الاقطار الثلاثة ويتوافد عليه المسلمون من جميع الاقطار لا لشيء إلا لأنها وقفت إلى جانب اخيها من الطغاة والظالمين دفاعا عن الحق والعقيدة وكرامة الإنسان وبقيت في سجل الخالدين والخالدات لتكون القدرة الصالحة الغنية بالمثل والقيم للرجال والنساء في جميع نواحي الحياة .
لا بد لنا ونحن بصدد البحث عن مرقدها ان نقف ولو قليلاً مع أدلة الأقوال الثلاثة في محاولة كشف ما أحيط بمرقدها من غموض لا يزال محل اخذ ورد بين الباحثين .
لم يختلف احد من المؤرخين والمحدثين بأن السيدة زينب بنت علي وفاطمة تركت بيتها وزوجها ورافقت اخاها الحسين (ع) في رحلته إلى الشهادة التي لم يجد وسيلة غيرها لانقاذ شريعة جده مما كان يخططه لها الحزب الأموي الحاكم من تحريف وتشويه وأدت دورها خلال مواقفها في كربلاء والكوفة ومجلس بن ميسون في قصر الخضراء ، تلك المواقف التي جعلتها في طليعة الخالدين والخالدات من ابناء آدم وحواء ، كما لم يختلفوا في انها رجعت من الشام على رأس تلك القافلة من السبايا والاسرى الى مدينة جدها عاصمة الإسلام الاولى في الحجاز ، وان مسؤوليتها التاريخية كانت هي اثارة الرأي العام الإسلامي على حكومة يزيد وجلاديه واستطاعت خلال اشهر معدودات ان تلهب المشاعر وتقلب الدنيا على رؤوس الحاكمي حتى اصبحت المدينة التي كان الحاكمون يحسبون لها الف حساب وحساب بكل فئاتها الموالية لاهل البيت وغيرها


( 128 )

تكيل اللعنات لأمية وأحفادها وترى ان من أقدس واجباتها مناهضة الحكم الأموي وأعلان موقفها المعادي منه مهما كلفها ذلك من تضحيات ، كل ذلك لم يخالف فيه احد من الباحثين والمؤرخين اما خروجها من المدينة بعد ان دخلت اليها حاملة لرسالة اخيها الى الشام مع زوجها بسبب المجاعة التي اجتاحت المدينة سنة 67 للهجرة او 74 كما جاء في رواية ثانية إلى قرية كان يملكها في الغوطة من ضواحي الشام وعند وصولها الى مشارف الشام عاودتها تلك اذكريات الاليمة المريرة وخيم عليها جو من الحزن والألم تسبب لها بمرض كانت به نهاية حياتها ودفنت في تلك الضيعة حيث مرقدها الان ، كما يدعي القائلون بأن المرقد الحالي لقد ضم رفاتها وهو لها لا لغيرها من الزينبيات العلويات اللواتي يحملن هذا الإسم فليس في التاريخ ما يبعث على الاطمئنان بصحته .
وممن ذهب الى ذلك من الذين كتبوا على مرقدها المازندارني في الجزء الثاني من معالي السبطين والسيد حسن الصدر وصاحب الخيرات الحسان والسيد هبة الدين الشهرستاني عن ناسخ التواريخ لمؤلفه لسان الملك ، كما جاء في كتاب المرقد الزينبي للشيخ عمران القطيفي .
والظاهر اتفاق جميع القائلين بأن الرقد الموجود في ضواحي الشام هو مرقدها على ان رجوعها إلى الشام كان بسبب المجاعة التي اصابت اهل المدينة وان زوجها عبدالله بن جعفر انتقل بها سنة 65 او 74 الى ضيعته بغوطة دمشق وتوفيت بها في النصف من رجب ذلك العام .
لقد اختلف القائلون بأنها توفيت في ضواحي الشام وفي صاحيتها حيث المرقد الموجود الآن دفنت في تاريخ وفاتها بين 65 و74 واتفقوا على ان المجاعة التي اصابت اهل المدينة هي التي فرضت على زوجها الرحيل بها الى ذلك المكان ، في حين ان المجاعة التي تفرض على شخص كعبدالله بن جعفر كان واسع الثراء وكثير العطاء ويعرف ببحر الجود وتضطره على ان يرحل بزوجته وأولاده الى غوطة


( 129 )

دمشق لا بد وأن يكون لها اثرها البالغ بالنسبة لعامة الناس وأن تفتك بالطبقات الكادحة الفقيرة ، وحدث من هذا النوع يصيب مدينة الرسول في تلك الفترة من التاريخ لا يتجاهله التاريخ ولا الذين كانوا يسجلون أحداث العالم الإسلامي صغيرها وكبيرها ، مع العلم ان المؤرخين لإحداث 65 و74 لم يتعرض احد منهم لحدث من هذا النوع وعلى تقدير صحة ذلك فلا بد وأن تكون المجاعة التي شردت بحر الجود وعقيلته الحوراء ابنة علي وفاطمة قد اصابت بقية العلويين والعلويات وتلك القافلة من النساء والاطفال التي كانت ترعاها وتحرسها عقيلة آل ابي طالب ، فالى اين ذهب العلويون بنسائهم وأطفالهم وعلى رأسهم الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) الذي لم يفارق المدينة وبها كانت وفاته .
ان التاريخ لم يتعرض لشيء من هذا النوع ، وهل يجوز على بحر الجود وعقيلته ان يتركا العلويين والطالبيين وأبناء الحسن والحسين يتجرعون مرارة الجوع ويفرا منها الى عاصمة الجلادين دمشق التي سيقت اليها بالامس القريب ابنة علي والزهراء على رأس تلك القافلة من الاسرى والرؤوس التي كانت يتقدمها رأس الحسين (ع) وكانت تتمنى الموت في كل مرحلة كان الحداة يسيرون بها وتفضله على ان تتعرض لاولئك الشامتين من اعداء جدها وأبيها ، فهل يجوز عليها مع ذلك كله وعلى ابن عمها بحر الجود ان يتركوا العلويين ونساءهم وأطفالهم يقاسون آلام الجوع ومرارته ويذهبا الى عاصمة معاوية لينعما بطيبات العيش ومتع الحياة ، لو جاز ذلك على اب المساكين كما كان يسميه اهل المدينة لا يجوز على من وهبت حياتها لخدمة اخيها وعائلته ورعايتها بعد مصرعه كما اوصاها بذلك .
ان الذين رووا أسطورة خروج عبدالله من المدينة الى قريته بضواحيها مع زوجته عقيلة الطالبيين كلهم من متأخري المؤلفين ومن غير


( 130 )

المعروفين ببعد النظر وتحري الحقائق ، ولم يسندوها الى احد المؤرخين القدامى ولا الى احد الرواة الذين كانوا يتتبعون أحداث تلك الفترة من تاريخ المسلمين .
هذا بالإضافة الى ان سنة خمس وستين كانت سنة صراع على الخلافة بين الامويين انفسهم في بلاد الشام وكان قد تغلب على دمشق الشام الضحاك بن قيس بعد ان اتفق الأمويون على خلافة مروان وخالد بن يزيد من بعده ومن بعدهما عمرو بن سعيد بن العاص وبعد ان اتفق رأي الأمويين على التوجه إلى دمشق وكان الضحاك قد تغلب عليها ووقعت بينهم معارك طاحنة في مرج راهط وكان مع الضحاك جماعة من اهالي دمشق وفتيانهم الاشداء وأمده النعمان بن بشير عامل حمس بشر حبيل ابن ذي الكلاع في اهل حمص وزفر بن الحارث الكلابي بقيس بن طريف ابن حسان الهلالي وانتهت المعركة لصالح مروان بن الحكم والأمويين (1) ، ومن المستبعد والبلاد الإسلامية تموج بالفتن بسبب الصراع على الحكم والمعارك بين مروان بن الحكم ومعارضيه في ضواحي دمشق وعلى ابوابها ان يرحل بزوجته وأولاده الى قريته الواقعة في ضواح دمشق كما يدعي القائلون بذلك .
اما القول بأنها هاجرت مع زوجها الى غوطة دمشق هربا من المجاعة سنة 74 هجرية فهو ابعد عن الواقع من القول الاول ذلك لان المسعودي في المجلد الثاني من مروجه يقول ان عبدالله بن جعفر توفي وله من العمر سبع وستون سنة ، ويدعي عبد العزيز سيد الأهل ان عبدالله بن جعفر كان له من العمر عشر سنوات عند وفاة النبي (ص) عن الجزء الثاني من معالي السبطي ولازم ذلك ان ولادته كانت في الحبشة كما هو مؤكد
____________
1 ـ انظر تاريخ اليعقوبي الجزء الثالث ص 3 طبع النجف .
( 131 )

اما في السنة التي هاجر فيها النبي (ص) الى المدينة او قبلها وهو اكبر اولاد جعفر الطيار ويروي الرواة عنه انه قال : لقد دخل علينا رسول الله (ص) بعد موت ابي وقال : لا تبكوا على اخي بعد اليوم ودعا بالحلاق فحلق رؤوسنا ولابد وان يكون في السادسة او السابعة يومذاك على ابعد التقادير فلم يعد مجال للقول بأنه هاجر إلى ضيعته في ضواحي الشام سنة 74 لان وفاته تكون قبل هذا التاريخ بسبع سنوات تقريباً اذا لم يكن قد عاش اكثر من سبع وستين عاماً كما يدعي ذلك المسعودي وغيره .
ومهما كان الحال فالقول بأن المرقد الزينبي الموجود في ضاحية دمش الذي يقصده مئات الألوف من المسلمين في كل عام للزيارة والتبرك ويبذلون في سبيله الملايين من النقود هو لزينب الكبرى عقيلة الهاشميين لا يعتمد على دليل مقبول ولا يؤيده المنطق ولا الدراسة بحال من الأحوال بل هو لاحدى العلويات بلا شك في ذلك وسيبقى تعيينها غامضاً لعدم توفر الادلة على هذا الأمر ، ولا يمنع ذلك من زيارة العقيلة في ذلك المكان ما دام يرمز الزائر يقصدها بالذات . وما دامت الأعمال مرهونة بالنوايا .


( 132 )

المرقد الزيني في مصر

بعد استقصاء أدلة القائلين بأن السيدة زينب توفيت في مصر ودفنت فيها في المرقد المنسوب الها بعد استقصاء تلك الادلة يبدو للمتتبع ولاول نظرة انها أسلم وأقرب الى المنطق من أدلة القائلين بأنها خرجت مع زوجها الى ضاحية من ضواحي الشام فرارا من المجاعة وتوفيت فيها كما تشير إلى ذلك رواية القائلين بأن مرقدها في محلة الفسطاط من القاهرة .
لقد اعتمد القائلون بأنها توفيت في مصر ودفنت فيها على رواية ابن عساكر في تاريخه الكبير وابن طولون في كتابه الزينبيات ، ويدعي أنصار هذا الرأي انها بعد رجوعها من السبي مع عائلة الحسين وعائلات القتلى من آل ابي طالب والانصار كانت لا تدع البكاء والنحيب والحديث بما جرى للحسين ومن معه وتحاول اثارة الرأي العام على الأمويين وأنصارهم واستطاعت خلال اشهر معدودات ان تشحن النفوس بالحقد والكراهية ليزيد وأسرته وأصبحت المدينة كالبركان المهيأ للإنفجار بين لحظة وأخرى فكتب عمر بن سعيد الاشدق الى يزيد يخبره بتأزم


( 133 )

الموقف وبمواقف العقيلة التي ألهبت المشاعر وهيجت عليه الرأي العام فكتب اليه كما جاء في ص 185 من زينب الكبرى للشيخ جعفر نقدي عن الطراز المذهب لعباس قلي خان فكتب اليه ابن معاوية يأمره بأن يفرق بينها وبين الناس ويخرجها من الحجاز فجاءها الوالي وعرض عليها كتاب يزيد بن مسيون وطلب منها ان تخرج من الحجاز الى حيث شاءت فرفضت طلب الوالي وأصرت على عدم خروجا من المدينة ، وقالت : لقد علم الله بما جرى علينا من القتل والسبي ، وكنا نساق كما تساق الانعام من بلد الى بلد على الاقتاب ، ومضت تقول : فوالله لا اخرج من مدينة جدي وان أهرقت دماؤنا على حد تعبير الراوي ، ولما أصر الوالي على اخراجها اجتمع عليها نساء بني هاشم في محاولة لاقناعها بالخروج من المدينة ، وقال لها زينب بنت عقيل : يا ابنة عماه لقد صدقنا الله وعده وأورثنا الارض تتبوأ منها حيث نشاء فطيبي نفساً وقري عينا وسيجزي الله الظالمين بما جنته ايديهم ، أتريدين بعد هذا هوانا ارحلي الى بلد آمن ، واتفق الرأي على خروجها فاختارت مصر وخرج معها من العلويات كل من سكينة وفاطمة ابنتي اخيها الحسين ، وكان ذلك سنة احدى وستين وفي شهر شعبان من تلك السنة وبعد مرور سبعة اشهر على مجزرة كربلاء وخمسة اشهر على رجوعها من السبي الى المدينة ، واستقبلها الوالي على مصر مسلمة بن مخلد الانصاري في جماعة معه وأنزلها جاره في الحمراء كما تدعي الرواية التي وصفت رحلتها فأقامت بها احد عشر شهراً وتوفيت في النصف من رجب سنة 62 هجرية ، ودفنت بالقرب من دار الوالي ومن بساتين عبد الرحمن بن عوف على حد تعبير جعفر نقدي عن النسابة العبيدلي ولم يرد في حديثه عن ملابسات رحلتها وعن سفرها ذكر لزوجها عبدالله بن جعفر ولا لاحد ممن بقي مع الاحياء من اولادها وأولاد اخوتها وغيرهم من الهاشميين .


( 134 )

وقالت الدكتورة بنت الشاطىء في ص 137 من كتابها بطلة كربلاء في وصف رحلتها الى مصر : لقد بزغ هلال شعبان من سنة احدى وستين في اللحظات التي وطأت فيها السيدة ارض النيل فاذا جموع من الناس قد احتشدت لاستقبالها وساروا في موكبها حتى بلغوا قرية بلبيس ، فقابلتهم هناك جموع آتية من عاصمة الوادي الأمين ومسلمة بن مخلدة الانصاري امير مصر في وفد من أعيان البلاد وعلمائها قد خرجوا لاستقبال ابنة الزهراء وأخت الإمام الشهيد ، فلما أطلت عليهم بطلعتها المشرقة بنور الاستشهاد والنبوة اجهشوا بالبكاء والنحيب ، ومضوا بركبها حتى اذا بلغوا العاصمة مضى بها مسلمة بن مخلد الى داره فأقامت بها قرابة عام لم تر خلاله الا عابدة متبتلة ، وكانت وفاتها عشية الاحد لاربع عشرة مضين من رجب عام 62 على أصح الأقوال على حد تعبير بنت الشاطىء .
وأكثر الذين يدعون بأن المرقد الموجود في مصر هو مرقدها يدعون ان خروجها من المدينة كان بعد رجوعها من السبي اليها باشهر معدودات وفي الشطر الاخير من سنة 61 بالذات وأن يزيدا اخرجها من المدينة لان بقاءها بها كان يشكل خطرا على دولته وانها كانت تعمل لاعداء اهل المدينة وغيرهم من المسلمين للثورة ، ولم يسجلوا موقفا لزوجها ولا لاحد من اولادها والعلويين والطالبيين من رحلتها ولم يذكروا ان احدا منهم كان معها في منفاها .
ويبدو بعد التتبع ان القائلين بأنها توفيت في مصر ودفنت فيها اكثر من القائلين بأن المرقد الموجود في ضاحية الشام هو مرقدها وان ابن عساكر في تاريخه الكبير وابن طولون الدمشقي في رسالته الزينبية كانا اول من تعرض لمرقدها على هذا النحو ودونه من بعدهما الشعراني في كتابه لواقح الأنوار والشيخ محمد الصبان في اسعاف الراغبين ، والشبلنجي في كتابه نور الابصار والشبراوي في الاتحاف ، الى غير ذلك ممن تأخر عنهما من المؤلفين ، في حين ان المؤلفين والمؤرخين القدامى


( 135 )

الذين كانوا يتتبعون الاحداث كبيرها وصغيرها لم يتعرضوا لشيء من ذلك ، مع العلم بأن اخراجها من المدينة لو كان على النحو المذكور من المستبعد ان يتجاهله المؤرخون الذين كتبوا التاريخ والسير ولم يتجاهلوا شيئا مما حدث بين المسلمين وبخاصة ما كان منها في تلك الفترة من تاريخهم المشحون بالاحداث والاضطرابات .
ومهما كان فالذي اراه ان حديث سفرها الى مصر وأسبابه ليس بأسلم من جميع جهاته من حديث سفرها الى ضواحي الشام ووفاتها بها ولا بأقرب الى الواقع منه ذلك لانهم لم يتعرضوا لزوجها عبدالله بن جعفر مع العلم بأنه كان حيا يرزق ومن أعلام المسلمين يومذاك ولا لأحد من أولادهم وأخوتها وآل ابي طالب من هذا الحادث ، وهل يجوز على رجل كعبدالله ابن جعفر الذي كان يتمتع بمكانة عالية بين اولاد المهاجرين والانصار ان يقف مكتوف اليدين من تسفير زوجته عقيلة آل ابي طالب ولايتدخل في انقاذها او يسافر معها ، وإذا جاز عليه ولو من باب الافتراض فهل يجوز ذلك على ابن اخيها السجاد وهي التي كانت ترعاه وتحرسه منذ خروجها من المدينة في ركب اخيها الى حين رجوعها اليها وقد تعرض للقتل اكثر من مرة ، ولكنها كانت تدافع عنه دفاع من لا يرى للحياة وزنا بدونه وتطلب من اولئك الجزارين ان يقتلوها قبله .
ولماذا لم يخرج معها احد سوى فاطمة وسكينة كما تدعي الرواية واين منها اولادها وأولاد اخوتها وأحفاد عبد المطلب وأبو طالب والهاشميات من بنات ابي طالب .
وهل كانت وحدها تحرض الناس على الثورة بعد مجزرة كربلاء وكل الدلائل تشير الى ان جميع مواقف العلويين والعلويات والطالبيات كانت تلهب المشاعر وتحث الجماهير المسلمة على الثورة والانتقام من يزيد وحزبه لمقتل الحسين .


( 136 )

ولم تكن مواقف الإمام علي بن الحسين (ع) بأقل تأثيرا على الرأي العام من مواقف عمته العقيلة ابنة علي والزهراء ان لم تكن اكبر تأثيراً منها .
لقد بقي لسنوات عديدة وقيل اكثر من عشرين عاماً يبكي أباه وبقية القتلى من اخوته وابناء عمومته كلما ذكرهم ذاكر وعندما يقدم له طعامه يبله بدموع عينيه كما يدعي الرواة والمسلمون يتلوون لحاله ، وكان يدخل احيانا سوق القصابين ، ويوصيهم بأن يسقوا الذبيحة قبل ذبحها ثم يصيح : لقد ذبح أبو عبدالله عطشانا فيجتمع عليه الناس يبكون لبكائه ، ولم تكن ثورة المدينة وليدة انفعال طائش بل كانت مننتائج مواقف الإمام السجاد وعمته العقيلة والاحزان التي خيمت على اهل البيت ، بالإضافة الى تحسس المسلمين بوقع تلك الجريمة التي لم يحدث التاريخ بأسوأ منها ، فلماذا لم يأمر ابن مسيون باخراج السجاد من المدينة ، ولماذا ترك لها الخيار في الذهاب الى أي بلد شاءت ، ولم يعارض في اختيارها لمصر ، في حين ان وجودها في مصر يشكل عليه نفس الاخطار التي كان يتخوفها من بقائها في الحجاز ، لان المصريين كانوا اقرب الى العلويين من الحجازيين وفيها من الشيعة يومذاك أعداد كبيرة ، والذين رووا اسطورة خروجها الى مصر يدعون بأن المصريين تلقوها بالبكاء والعويل والنياحة كما ذكرنا .
وإذا كان حفيد هند وأبي سفيان يحاذر من بقاء زينب ابنة علي في الحجاز ويتخوف ان يتسبب بقاؤها في الثورة عليه ، فكان من المفروض ان يضعها تحت رقابته وفي عاصمته او في الربذة كما كان يفعل ابن عفان مع من يخاف منهم ، فكان يرسلهم الى الشام ليكونوا تحت رقابة معاوية وعندما يعجز معاوية عن وضع حد لنشاطهم اما ان يضعهم في سجونه او يردهم الى المدينة ليحدد الخليفة مصيرهم ، وكانت الربذة ومن على شاكلتها من البراري المقفرة من أوفر الناس حظا بأولئك الاحرار كما فعل


( 137 )

خليفة المسلمين مع الصحابي الجليل ابي ذر الغفاري حتى لا يرى احدا ولا يراه احد وبها كانت نهايته .
هذا كله بالاضافة إلى ان يزيد بن معاوية بعد تلك النقمة العارمة عليه بسبب مجزرة كربلاء كان يتظاهر بالندم والتنصل من مسؤولياتها ويحاول تغطية نتائجها المريرة بالتقرب من العلويين والاحسان اليهم ، وقد اوصى مسلم بن عقبة عندما ارسله الى المدينة لقمع الثورة بعدم التعرض لاحد من العلويين والطالبيين والاحسان اليهم وجرت بينه وبين عبدالله بن العباس رحمه الله مراسلة اوردها اليعقوبي في تاريخ وغيره بعد تلك الجريمة النكراء التي ارتكبها مع اهل البيت (ع) لم يترك بن عباس عيبا من العيوب الا وألصقه فيه ولا منقصة الا ووصفه فيها محتقراً له بكل ما في الاحتقار من معنى ، ومع ذلك لم يصدر منه ما يسيء اليه ولم يكن ذلك منه إلا لما تركته في نفسه تلك المجزرة الرهيبة من الخوف والقلق على مصيره ومصير اسرته ودولته بعد النقمة العامة التي شملت جميع الاوساط الإسلامية على اختلاف ميولها واتجاهاتها .
ومهما كان الحال فان أسطورة نفي العقيلة الى مصر ووفاتها فيها ليست بأقرب إلى الواقع من خروجها من المدينة مع زوجها إلى الشام ووفاتها فيها ان لم تكن ابعد منها .


( 138 )

اين مرقدها اذن

بعد هذا العرض اليسير لآراء الفريقين القائلين بأنها دفنت في ضواحي دمشق والقائلين بأنها في محلة الفسطاط من القاهرة وما أبديناه من الملاحظات عليها اتي كما ارى تثير اكثر من الشفك في صحة ما يقال انها دفنت في احد هذين القطرين ، فلم يبق أمامنا سوى القول الذي يرجح قائلوه انها دفنت في مدينة جدها الرسول (ص) بعد رجوعها من السبي بأشهر معدودات أو سنوات معدودات واثبات ذلك لا يحتاج الى مزيد من الاستدلال والبحث بعد العلم القطعي انها رجعت إلى المدينة على رأس تلك القافلة من السبايا والاسرى وتؤكد جميع المصادر انها بقيت في المدينة لمدة من الزمن تندب وتبكي وتتلوى هي والهاشميين والهاشميات على ما حل بأهلها واخوتها ويبكي لحالها القريب والبعيد والعدو والصديق واستمرت على ذلك حتى تاثرت المدينة بكل فئاتها بمواقفها ومواقف العلويين وأحزانهم وأصبحت بكل فئاتها كالبركان المهيأ للإنفجار بين لحظة وأخرى ، فرجوعها من الشام إلى المدينة لا يختلف


( 139 )

فيه اثنان اما خروجها من المدينة بعد خمس سنوات على رجوعها اليها الى ضاحية من ضواحي الشام مع زوجها ووفاتها فيها كما يدعي القائلون بأن المرقد الزينبي الموجود في تلك الضاحية هو مرقدها ، او خروجها الى مصر بعد اشهر معدودات من رجوعها الى المدينة ووفاتها في مصر وفي محلة الفسطاط من القاهرة فلم يخرج عن دائرة الشك او الاحتمال لان الادلة التي اعتمدها انصار القولين لا تكفي لنقض اليقين السابق المتعلق بوجودها في المدينة ولا تفيد اكثر من احتمال خروجها منها ووفاتها في خارجها وما لم يوجد لدينا دليل يفيد العلم او الظن المعتبر شرعا يتعين الرجوع الى استصحاب بقائها في المدينة الى حين العلم بوفاتها .
وهذا النوع من الاستصحاب ليس مثبتا كما تخيله بعض المؤلفين في هذا الموضوع لان المقصود منه اثبات عدم خروجها من المدينة الى زمان العلم بوفاتها فأحد جزئي الموضوع يثبت بالاستصحاب والثاني وهو وفاتها بالوجدان ، وهذا غير ما يسميه الاصوليون بالأصول المثبتة ويدعون ان أدلة الاستصحاب لا تشمل هذا النوع من الأصول التعبدية لان المقصود من الأصول المثبتة الأصل الذي يثبت امرا عاديا او علقيا لم يكن موضوعا للآثار الشرعية ، كاستصحاب حياة زيد لهذه المدة يكون حجة شرعية لناحية الآثار الشرعية المترتبة على حياته كبقاء زوجته في عصمته ووجوب الاتفاق عليها وعلى اولاده وعدم انتقال امواله الى ورثته ونحو ذلك ، أما نبات لحيته وزيادة طوله ووزنه مثلا فالاستصحاب لا يكون دليلا شرعيا بالنسبة لهذا النوع من الآثار ، ومن ذلك استصحاب بقاء زيد حيا الى زمن يلزمه بالقياس اليه ان يكون قد بلغ التسعين من عمره فان كونه من ذوي التسعين او المائة من اللوازم العقيلة او العادية لبقاء زيد حيا لسنة الثمانين فيما لو كانت ولادته سنة تسعين وحصل الشك في


( 140 )

بقائه حيا سنة ثمانين من القرن الثاني مثلا فأدلة الاستصحاب لا تشمل هذا النوع من الآثار ، وما نحن بصدد اثباته بأصالة عدم خروجها من المدينة هو بقاؤها فيها الى زمان القطع بوفاتها ، ويرافق القطع بوفاتها القطع بأنها لم تنقل بعد وفاتها من البلد الذي توفيت فيه الى بلد اخر قد وقع عليه الاختيار ليكون مدفنا لها .
وممن رجح انها دفنت بالمدينة في البقيع الى جوار مرقد زوجها عبدالله بن جعفر عباس قلي خان في كتابه الطراز المذهب عن كتاب بحر المصائب والشيخ ميثم البحراني كما نقل عنه الشيخ مهدي المازندراني في كتابه معالي السبطين والسيد محسن الامين في المجلد الثالث والثلاثين من أعيان الشيعة (1) .
وجاء في المرقد الزينبي للشيخ فرج القطيفي ان لجنة الأوقاف الدينية في كربلاء اوردت في كتابها اجوبة المسائل الدينية بأن للإمام علي (ع) ثلاثة من البنات كل منهن تعرف بزينب وتكنى بأم كلثوم اولاهن زينب شقيقة الحسين (ع) لأمه وابيه وهذه سقط عليها الحائط وتوفيت فصلى عليها الحسين (ع) ودفنها بالمدينة والثانية زينب الوسطى وهي من فاطمة ايضا وهذه تزوجها عبدالله بن جعفر وهي التي رافقت الحسين (ع) الى كربلاء مع ولديها محمد بن عبدالله وعون بن عبدالله وهي التي كانت تدير شؤون العائلة والسبايا ، ولما عادت الى المدينة سافرت مع زوجها الى ضواحي الشام على اثر مجاعة اصابت اهل المدينة وتوفيت فيها فدفنها في ضيعته واليها ينسب المرقد الزينبي الموجود هناك وتعرف بزينب الوسطى .
والثالثة كانت تسمى بزينب الصغرى وتكنى بأم كلثوم ولكنها ليست من فاطمة الزهراء وأضافوا الى ذلك انها كانت من أشدهن بكاء ولوعة
____________
1 ـ انظر المرقد الزينبي للشيخ عمران القطيف ص 87 وما بعدها .
( 141 )

على اخيها الحسين في كربلاء وغيرها من المواقف وبعد وقعة الحرة واستباحة المدينة كانت تقيم النياحات والمآتم على الحسين وتشنع على يزيد وجوره وهي التي نفاها عمرو بن سعيد الاشدق الى مصر وتوفيت فيها ودفنت في المكان الذي يقدسه المصريون ويتبركون به الى غير ذلك من الأقوال التي لا تعتمد على غير الحدث والظن الذي لا يغني عن الحق شيئا .
ولقد تعرض الشيخ المفيد في ارشاده لأخوات الحسين (ع) خلال حديثه عن اولاد امير المؤمنين وعد من نباته اللواتي ولدن له من غير فاطمة زينب الصغرى ، وخلال حديثه عن أحداث كربلاء وما رافقها من تقتيل وسلب وأسر وسبي لم يتعرض لغير زينب العقيلة شقيقة الحسين لأمه وابيه وأسهب في الحديث عنها وتعداد مواقفها وما تجرعته من آلام وغصص من اجل اخيها وعياله وأطفاله ، اما زينب الصغرى هذه فلم يتعرض هو وغيره من المؤلفين في مقتل الحسين لها ولم يسجلوا لها موقفها من المواقف خلال أحداث كربلاء وما تلاها من المواقف من الكوفة وقصر الحمراء وغيرهما وجميع أحاديثهم كانت عن العقيلة الحوراء . كما وان الذين كتبوا عن اهل البيت من أعلام الشيعة الأوائل كالكليني والصدوق والمرتضى والطوسي والحلي وغيرهم من المتقدمين لم يتعرضوا لزينب العقيلة وما جرى عليها بعد رجوعها من السبي الى المدينة بأكثر من انها كانت لا تدع البكاء والنحيب على اخيها ومن قتل معه ولا لمرقدها ومراقد غيرها من الزينبيات كما لم يتعرض لذلك أحد من المؤرخين القدامى ومن مجموع ذلك تبين ان اقرب الأقوال الى الواقع انها دفنت في المدينة وفي البقيع مقبرة المسلمين الأوائل ولم تخرج من المدينة بعد رجوعها اليها من السبي مع النساء والاطفال وابن اخيها السجاد ، واذا صح بأنه وجد على القبر الموجود في ضواحي الشام هذا


( 142 )

قبر زينب الوسطى بنت علي بن أبي طالب كما يدعي الشيخ فرج القطيفي يمكن ان يكون القبر المذكور لاحدى بنات امير المؤمنين (ع) ولكن ذلك وحده لا يبعث على الاطمئنان بهذا الأمر ولا يمنع من ان تكون الصخرة وضعت على القبر بعد ذلك بمئات السنين حينما بني القبر وشيد بشكله الحالي اعتمادا على الشهرة او لأسباب اخرى . لعل أيدي الذي حكموا بلاد الشام من الشيعة ضالعة في ذلك .