وحكم المسلمين من بعده ولده المدي بنفس الروح اللئيمة الحاقدة على العلويين وصلحاء المسلمين وخفت في عهده حدة القتل الجماعي للعلويين وشيعتهم ومطاردتهم ولكنه سخر جماعة من أعوانه ومرتزقته لانتحال صفة الزندقة لكل من يناوئه من العلويين وشيعتهم ، وأصبح الاتهام بالزندقة من أيسر التهم التي تلصق بالابرياء كما جاء في التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية .
وقال عبد الرحمن بدوي : ان الاتهام بالزندقة في ذلك العصر كان يسير جنبا الى جنب مع الانتساب الى مذهب الرافضة وفي ذلك يقول الطغرائي من جملة أبات له :

ومتى تولى آل احمد مسلم * قتلـوه ووصموه بـالالحاد

ولما جاء دور خليفته الهادي العباسي سلط على العلويين جلاديه وجلاوزته فألحوا في طلبهم ومطاردتهم وقطع ارزاقهم وأعطياتهم وكتب الى سائر المقاطعات الاسلامية يهدد ويتوعد كل من يأويهم ويحسن اليهم وكانت معركة فخ التي قتل فيها اكثر من مائة وخمسين من رجال العلويين ونسائهم وأطفالهم بسبب ما لحقهم من الاضطهاد يومذاك وتولى قيادتها الحسين بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) ، وكان موسى الهادي قد استخلف على المدينة اسحاق بن عيسى فأوعز اسحاق الى رجل من ولد عمر بن الخطاب يعرف بعبد العزيز بن عبدالله فحمل على الطالبيين وأفرط في التحامل عليهم ومضايقتهم فاجتمع على الحسين بن علي صاحب فخ جماعة من الشيعة فخرج بهم وكانت المعركة في القرب من مكة وفي المكان المعروف بفخ وقتل الحسين ومن معه من العلويين وشيعتهم وحملت رؤوسهم الى موسى الهادي ، ولما بلغ العمري


( 161 )

والي المدينة ما جرى للحسين بن علي قائد معركة فخ امر بعده داره ودور الطالبيين وصادر اموالهم وممتلكاتهم .
وجاء في مقاتل الطالبيين للإصفهاني ان النبي (ص) مر بفخ فنزل وصلى ركعتين وقبل ان ينتهي منهما بكى وهو في صلاته فلما رآه المسلمون بكوا لبكائه ولما سألوه عن سبب بكائه قال : نزل عليّ جبريل لما صليت الركعة الاولى وقال : يا محمد ان رجلا من ولدك يقتل في هذ المكان وأجر الشهيد معه أجر شهيدي ، فبكيت لما يجري على ذريتي من بعدي (1) .
ولما جاء دور الرشيد الخليفة العباسي الخامس مثل أسوأ الادوار معهم وأقسم كما جاء في الاغاني طبع دار الكتب بالقاهرة على استئصالهم وكل من يتشيع لهم وقال : حتام اصبر على آل ابي طالب والله لأقتلنهم وأقتل شيعتهم أينما حلوا وأمر بأخراجهم من بغداد الى المدينة وأمر واليه عليها ان يأخذ الضمانات منهم ويتعهد بعضهم ببعض وعندما ارسل الجلودي لحرب محمد بن جعفر بن محمد أمره ان يغير على دور آل ابي طالب ويسلب ما على نسائهم من الثياب ولا يترك لكل واحدة منهن الا ثوبا واحدا يسترها .
ولم يكتب بذلك حتى هدم قبر الحسين وقطع السدرة الكبيرة التي كانث الى جانبه لا لشيء الا لان زوار قبر الحسين (ع) كانوا يستظلون تحتها من حرارة لشمس ، وقد تولى له تنفيذ هذه المهمة موسى بن عيسى ابن موسى العباسي (2) .
____________
1 ـ انظر مقاتل الطالبيين لابي الفرج ص 290 وما بعدها .
2 ـ تاريخ الشيعة للمظفر والكنى والالقاب للشيخ عباس القمي والمناقب لابن شهر اشوب والكامل لابن الاثير .

( 162 )

وتوج موبقاته كلها بحبس الامام موسى بن جعفر (ع) وأخيراً بقتله بالسم بواسطة جلاديه وجلاوزته وفي عهده امتلأت سجونه من العلويين وشيعتهم وكل من يتهم بالتشيع لهم على حد تعبير احمد امين في المجلد الثالث من ضحى الاسلام .
واشتهر المتوكل بعدائه الشديد للعلويين ، فقد جاء في تاريخ ابن الاثير وهو يستعرض حوادث سنة 236 ان المتوكل العباسي كان شديد البغض والكراهة لعلي وآل علي واذا بلغه ان احدا يتولى عليا وآل علي صادر أمواله وقتله وأضاف الى ذلك انه كتب الى واليه في مصر يأمره باخراج آل ابي طالب منها وطردهم الى العراق وكانوا في مصر يرددون في مجالسهم ما صنعه الامويون مع الحسين وأسرته واصحابه ويبكون لما اصابهم فأخرجهم الوالي منها واستتر اكثر من كان فيها من شيعة اهل البيت ، كما استعمل على المدينة ومكة المكرمة عمر بن الفرج الرجحي فمنع من البر بآل ابي طالب كما منع العلويين من التعرض للناس والاتصال بأحد ، ولم يبلغه عن احد بر علويا الا أنهكه عقوبة وأثقله عزما فساءت حالة العلويين واضطر نساؤهم الى التزام بيوتهن عاريات يتبادلن القميص المرقع في الصلاة الواحدة تلو الاخرى ويجلسن عاريات على منازلهن لكي يشترين ما يسد رمقهن من خبز الشعير بأثمان غزلهن .
لقد قضت مشيئة خليفة المسلمين العباسي في نسبه الاموي الحاقد في روحه ومشاعره ان تعتكف العلويات الطاهرات في بيوتهن عاريات يتبادلن القميص المرقع اذا حضرت اوقات الصلاة ، ثم يجلسن على مغازلهن عاريات ليشترين بأثمان غزلهن ما يسد رمقهن من الخبز ، وأن تختال نساؤهم وجواريهم الفاجرات الراقصات بالحلي وحلل الحرير والديباج بين الغلمان والسكارى من حواشي الخليفة ، ويجلسن على موائد الطعام المؤلفة من جميع المأكولات والخمور وأهل البيت ونساؤهم


( 163 )

وأطفالهم يتلوون من آلام الجوع أذلاء صاغرين ، وكان يقرب اليه كل من يكره علياً امير المؤمنين كعلي بن الجهم وأمثاله ممن كانوا يشتمون عليا (ع) ونظرا لان أباه الجهم بن بدر كان من الموالين لعلي قال بعض شعراء الشيعة في علي بن الجهم :

لعمرك ليس الجهم بن بدر بشاعر * وهـذا علي ابنـه يـدعي الشعرا
ولكن ابي قـد كان جـاراً لأمـه * فلمـا ادعى الاشعار أوهمني امرا

يشير بهذين البيتين الى الحديث الشائع عن النبي (ص) انه قال لعلي (ع) بحضور جماعة من المهاجرين والانصار : يا علي لا ينغصك الا ابن حيض او زنا .
وكان ابن السكيت من كبار العلماء والادباء في زمانه وقد ألزمه المتوكل بتعليم ولديه المعتز والمؤيد ، فقال له يوما : أيهما أحب اليك ابناي هذان او الحسن والحسين ؟ فرد عليه ابن السكين بقوله : والله ان قنبرا خادم الحسن والحسين أحب الي منك ومن ولديك فأوعز المتوكل الى جلاديه من الاتراك ان يستخرجوا لسانه من قفاه ففعلوا به ذلك ومات من ساعته وكان يقول :

يصاب الفتى مـن عثـرة بلسانه * وليس يصاب المرة من عثرة الرجل
فعثرتـه فـي القول تذهب رأسه * وعثـرته في الرجل تبرأ على مهل

لقد نسي رحمه الله هذين البيتين اللذين كان يرددهما وكأنه كان يعني نفسه بهما ، لقد سيطر عليه الولاء لأهل البيت واستفزه استخفاف المتوكل بهم فأبت له نفسه الكبيرة ان يتقيه ويقول ما لا يؤمن به فذهب في قافلة الشهداء ولعله كان من أفاضلهم بمقتضى قول النبي (ص) أفضل الشهداء عمي الحمزة ورجل قال كلمة حق في وجه جائر فقتله .


( 164 )

لم يكتف المتوكل بالتنكيل بشيعة اهل البيت ومطاردتهم فأراد ان يمنعهم عن زيارة الحسين ففرض عليهم الضرائب وهددهم وتوعدهم بالقتل ومصادرة اموالهم وممتلكاتهم فلم يخضعوا لتهديده ولا لوعيده واستمرت وفود الشيعة على كربلاء في تصاعد مسترم يكمنون بالنهار ويسيرون ليلا ولما لم يجد سبيلا لاستئصال هذه الظاهرة الشيعية اتخذ قار بهدم القبر وازالة معالمه ليضيع مكانه ولا يهتدون اليه ويأبى الله الا ان يتم نورة ولو كره المشركون .
لقد اراد معاوية من قبله ان لا يتحدث احد فضل علي وآثاره فكتب الى عماله في جميع المقاطعات الاسلامية برئت الذمة ممن يروي حديثا في فضل عليّ وآل علي وممن يذكرهم بخير ، وكتب المتوكل الهاشمي وابن عم العلويين الى عماله برئت الذمة ممن يبر العلويين ويحسن الى احد منهم ، وقتل معاوية الحسن بن علي والمئات من صلحاء المسلمين لانهم لم يعلنوا براءتهم من علي وآل علي ، وكذلك فعل المتوكل وأسلافه من أحفاد هاشم وعبد المطلب ، وقتل يزيد بن معاوية الحسن بن علي وعشرين شابا من أحفاد ابي طالب ، وقال المنصور العباسي حفيد عبد المطلب : قتلت من ولد فاطمة الفا او يزيدون وترك لولده المهدي غرفة من غرف قصره مملوءة برؤوسهم ومع كل رأس رقعة باسمه ونسبه ليقتدي به خليفته من بعده (1) وهدم المتوكل قبر امير المؤمنين وقبر الحسين حتى لا يهتدي اليهما احد من الشيعة ويذهب لزيارتهما ، ولكن طيب تراب القبر دل على القبر .
فكان معاوية بمحاولته الفاشلة اخفاء فضائل امير المؤمنين كأنه يأخذ بضبعه الى السماء على حد تعبير الشعبي وعبدالله بن عروة بن الزبير
____________
1 ـ انظر الطبري والنزاع والتخاصم للمقريزي .
( 165 )

لولديهما ، وكان المتوكل بمحاولاته لاخفاء قبر الحسين (ع) انه يجعله من الابراج التي تناطح السحاب وتثير أحقاد الحاكمين من حكام العصور .
ونعود بعد هذه اللمحات القصار عن مواقف العباسيين من العلويين الى الحديث عن مرقد الحسين لنعود إلى اعطاء صورة اوسع عن جور العباسيين بعد الفراغ من هذا الفصل الذي خصصناه للمآتم الحسينية وزيارة مرقده ، وما دمنا بصدد الحديث من المآتم الحسينية وزيارة مرقد الحسين نعود لأبي الفرج الاصفهاني لنرى ما فعله المتوكل بقبر الحسين ومع زائريه ، فقد جاء في مقاتل الطالبيين ان المتوكل الهاشمي كان شديد الوطأة على آل ابي طالب غليظاً على جماعتهم وشديد الحقد والغيظ عليهم وكان وزيره عبيد الله بن يحيى بن خاقان يشاركه في سوء الرأي بهم فحسن له القبيح في معاملتهم وبلغ فيهم ما لم يبلغه احد من بني العباس قبله ، وكان من سوء فعله ان كرب قبر الحسين وعفى آثاره ووضع على سائر الطرق المؤدية اليه مسالح من جنده لا يجدون احدا في طريقه لزيارته الا قتلوه او انكهوه تعذيباً ، ومضى يقول : لقد حدثني احمد بن الجعد الوشا وقد شاهد بنفسه ذلك فقال : كان السبب في حراثة قبر الحسين ان بعض المغنيات كانت تبعث بجواريها الى المتوكل قبل خلافته يغنين له اذا شرب ، فلما تولى الخلافة بعث الى تلك المغنية فعرف انها كانت غائبة في زيارة الحسين (ع) ولما بلغها خبره اسرعت في الرجوع وبعثت اليه بجارية من جواريها كان يألفها فقال لها : اين كنتم ؟ فقالت : لقد خرجت مولاتي الى الحج وأخرجتنا معها وكان ذلك في شعبان ، فقال : والى اين حججتم ونحن في شعبان ؟ فقالت : قصدنا قبر ابن عمك الحسين بن علي (ع) ، فاستشاط غضبا وأمر بمولاتها فوضعها في سجنه وصادر أملاكها وبعث برجل من اصحابه يقال له ( الديزج ) وكان يهوديا الى مرقد الحسين وأمره بهدمه وأن يكرب محله ولا يترك له أثراً


( 166 )

كما أمره بهدم كل ما حوله من الابنية ، فمضى لذلك ونفذ جميع ما أمره به المتوكل فهدم ما حوله من البناء والبيوت التي كان اصحابها يستقبلون الزوار فيها وكرب نحوا من مائتين جريب حوله ، فلما بلغ الى القبر لم يتقدم لهدمه احد ممن كانوا معه من جنود المتوكل وأنصاره فأحضر قوما من اليهود فهدموه ثم كربوه وأجروا الماء عليه وعلى ما حوله من الاراضي ، وأوكل امر ملاحقة الزوار الى جنوده وجلاوزته فكل من وجدوه متوجها لزيارته اعتقلوه وأرسلوه اليه ، وأضاف الى ذلك الاصفهاني في مقتله ان محمد بن الحسين الاشتاني قال :
لقد بعد عهدي بالزيارة في تلك الايام خوفا من السلطة الحاكمة ، ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها وساعدني رجل من العطارين على ذلك فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل حتى اتينا نواحي الغاضرية وخرجنا منها نصف الليل فسرنا بين مسلحتين حتى اتينا محل القبر وقد خفي علينا فجعلنا نشمه ونتحرى جهته حتى اتيناه وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه وأحرق وأجري الماء عليه فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق فزرناه ثم انكببنا عليه فشممنا منه رائحة ما شممت مثلها في جميع انواع الطيب ، فقلت للعطار الذي كان معي : أي رائحة هذه ؟ فقال : لا والله ما شممت مثلها شيئا من العطر ، فودعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع ، فلما قتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتى صرنا الى القبر فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه الى ما كان عليه (1) .
وجاء في الامالي للشيخ الطوسي عن عبدالله بن دانية الطوري انه قال : حججت سنة 247 فلما انتهيت من اعمال الحج ورجعت الى العراق
____________
1 ـ انظر مقاتل الطالبيين لابي الفرج ص 395 و396 .
( 167 )

زرت امير المؤمنين علي بن ابي طالب على حال خيفة من السلطان ، ثم توجهت الى زيارة الحسين (ع) في كربلاء فاذا مرقده قد حرث وفجر فيه الماء وأرسلت الثيران والعوامل في الارض ، فبعيني وبصري رأيت لاثيران تساق في الارض فتنساق لهم حتى اذا وصلت القبر حادث عنه يمينا وشمالا فتضرب بالعصي الضرب الشديد فلا ينفع ذلك ولا تطأ القبر بحال ابدا فلم أتمكن من الزيارة فتوجهت الى بغداد وأنا اقول :

تـالله ان كانت أميـة قـد أتت * قتل ابـن بنت نبيهـا مظلومـا
فلقـد اتـاه بنـو ابيـه بمثلـه * هـذا لعمـرك قبـره مهـدومـاً
اسفوا على ان لا يكونوا شاركوا * فـي قتلــه فتتبعـوه رميمــا

وقيل كما هو الشائع ان الابيات للشاعر البسامي ويجوز ان يكون عبدالله بن دانية قد استشهد بها بعد شيوعها .
وقال الطبري في المجلد التاسع وفي أحداث 236 ان عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية التي فيها القبر من وجدناه عند قبر الحسين بعد ثلاثة ايام بعثنا به الى المطبق ، فهرب الناس من حواليه (1) .
وقد أثر هذا الارهاب الى حد ما على نشاط تحركات الشيعة نحو زيارة مراقد الائمة (ع) وبخاصة زيارة الحسين ، بعد ان تعاظم أسلوب القمع والارهاب لبعض الوقت الى حد حمل الامام الثاني عشر محمد بن الحسن (ع) الى اصدار توجيه عام الى الشيعة ينهاهم فيه عن زيارة مرقد الإمامين موسى بن جعفر ومحمد الجواد في مقابر قريش وحرم الحسين في كربلاء كما جاء في أعلام الورى وغيبة الطوسي ، ولكن اساليب
____________
1 ـ المطبق سجن تحت الأرض لا يرى الشمس ولا الهواء غالباً وقلما ينجو احد ممن يدخلون اليه وهي سجن المحكومين بالإعدام .
( 168 )

القمع والارهاب لم تدم طويلا وكان لها ردة فعل واسعة في الاوساط الشيعية فما ان أحس الشيعة بالانفراج حتى اخذوا يتوافدون على زيارة مرقد الحسين بكثافة وبصورة أشد تنوعا مما كانت عليه قبل أن يصدر الحاكمون أوامرهم بالمنع والتنكيل بالزائرين .
واعتقد الشيعة ان المرقد الشريف لم يتأثر ابدا بالماء وظل على حاله والشيعة يتوافدون عليه في مواسم معدودة من كل عام ، وبعد قرن من الزمن كتب ابن حوقل عن المشهد الذي بني فوق ضريح الحسين (ع) ووصفه بأنه غرفة واسعة تعلوها قبة لها باب من كل جهاتها الاربع ، وفي عهد البويهيين هاجم البلدة المحيطة بضريح الحسين (ع) فريق من الأعراب جاءوا من عين التمر وضربوا المشهد وغيره من الاماكن المجاورة له فصب عليهم بنو بويه جام غضبهم وعاقبوهم بأقسى ما يكون من العقوبات وأعاد عضد الدولة بناء المرقد وما تهدم حوله الى ما كان عليه وبسط عليها الحماية فجعل الناس يتهافتون الى زيارته من كل مكان .
وفي ربيع الاول من سنة 407 هجرية ، 1016 ميلادية ، شب حريق في البناء فتهدمت القبة التي على المرقد والاروقة واحترقت وأعاد بنائها الحسين بن الفضل وبنى سورا حول كربلاء ، ومن ذلك الوقت تشابه تاريخ النجف وكربلاء فاحترمهما الاتراك الذين احتلوا العراق ، وزار ملك شاه سنة 479 المشهدين ووزع الصدقات والأموال على أهالي البلدتين ونجتا من غزو المغول وتوالت زيارة أمراء الشيعة وحكامهم الى البلدتين ورعايتهما وخلال القرن السابع زار كربلاء الخان غازي احد حكام ايران وحمل معه الى المرقد الشريف بعض الهدايا الثمينة وشق ارغون من نهر الفرات الى البلدة قناة اصبحت تعرف فيما بعد بنهر الحسينية كما حافظ العثمانيون على المشهدين في كربلاء والنجف وكانت الأوامر تصدر الى


( 169 )

الولاة في بغداد بالمحافظة عليهما والعناية بهما (1) . وبقي مرقد الحسين ومراقد الائمة (ع) كعبة تتوافد اليهما الملايين في كل عام من مختلف انحاء العالم للتبرك بهما والعبادة والتوسل الى الله سبحانه بقضاء حوائجهم بالرغم من جميع وسائل الارهاب والقمع التي استعملها الحاكمون للتنكيل بالوافدين على مراقدهم وبقي اعداؤهم لعنة على لسان الاجيال ومراقدهم محلا لتجمع النفايات في البلاد التي دفنوا فيها .
ومهما كان الحال فلقد انفرجت الازمة التي اجتاحت الشيعة بموت المتوكل العباسي الى حد ما واستيلاء ولده المتصر على السلطة من بعده كما نص على ذلك ابن الاثير وغيره من المؤرخين فلقد قال في معرض حديثه عن حوادث سنة 248 ان المنتصر أمر بزيارة قبر الحسين وعلي (ع) وآمن العلويين وأطلق سراحهم ورد عليهم فدكا وكان اول ما أحدثه ان عزل عن المدينة صالح بن علي الذي كان يتتبعهم بكل انواع الاذى والظلم والجور وعين مكانه علي بن الحسن بن اسماعيل بن العباس بن محمد ، ولما دخل عليه ليودعه وهو في طريقه الى المدينة قال له : يا علي اني موجهك الى لحمي ودمي وساعدي فانظر كيف تكون للقوم وكيف تعاملني فيهم .
واسترم الشيعة أينما حلوا يحتفلون بذكرى الحسين الاليمة ويرددون ما جرى عليه وعلى اسرته وعائلته من القتل والسبي والتمثير وبكل مظاهر التشيع في العشرة الأولى من المحرم وغيرها من المناسبات سواء في ذلك البلاد التي غلب عليها التشيع كالعرق أو غيرها من المقاطعات التي كان
____________
1 ـ انظر ص 135 من كتاب الحسين وبطلة كربلاء للشيخ محمد جواد مغنية .
( 170 )

الشيعة فيها يشكلون الاقلية بالنسبة الى غيرهم كما هو الحال في مصر يوم كانت في سلطة كافور الاخشيدي الذي كان كما يصفه بعض المؤرخين شديد التعصب على اهل البيت وشيعتهم ، ومع ذلك فقد اظهروا فيها من الصلابة والتماسك مع قلتهم بالنسبة لغيرهم ما فرض على كافور ان يصانعهم ويتغاضى عما يقومون به في كل عام من مظاهر الحزن والجزع لما اصاب اهل البيت (ع) .
ولم تنفرج الازمة في مصر انفراجا كاملا الا بعد ان تغلب عليها الفاطميون وحكمها المعز لدين الله الفاطمي فارتفعت معنويات الشيعة بوجودهم وهيأوا لهم جميع الاجواع المناسبة واشتركوا معهم في احياء تلك الذكرى وبذلوا في سبيلها الأموال بسخاء لا مثير له ، وكان ذلك منهم كما لا يبعد ردا على حملات التشكيك في نسبهم التي شنها عليهم العباسيون وساهم فها كبار علماء السنة يومذاك .
وقال المقريزي في خططه : كان الفاطميون في يوم عاشوراء ينحرون الابل والبقر لإطعام الناس ويكثرون النوح والبكاء ويتظاهرون بكل مظاهر الحزن والاسف واستمروا على ذلك حتى انقرضت دولتهم وجاء عهد الايوبيين الذين مثلوا أدوار الأمويين والعباسيين مع الشيعة ، وأضاف المقريزي الى ذلك بروايته عن ابن ذولاق في سيرة المعز لدين الله انه في يوم عاشوراء من سنة 363 انصرف خلق من الشيعة الى قبري أم كلثوم ونفيسة ومعهم جماعة من فرسان المغاربة ورجالهم بالنياحة والبكاء على الحسين ومن قتل معه من اسرته وبنيه وكسروا اواني السقائين .
وفي سنة 396 جرى الامر على ما كان يجري في كل عام من تعطيل الاسواق وخروج المنشدين الى جامع القاهرة ونزولهم مجتمعين بالنوح والبكاء والنشيد ، واستطرد المقريزي في وصف ما كان عليه حال


( 171 )

الفاطميين من قيامهم بمناسبة ذكرى مصرع الحسين بمظاهر الحزن والاسف حكومة وشعبا ، ومضى يقول : اذا كان يوم العاشر احتجب الخليفة عن الناس لمدة من الوقت فاذا ارتفع النهار ركب قاضي القضاة والشهود وغيروا زيهم ومضوا الى مشهد الحسين ، فاذا دخلوا اخذوا ينشدون الشعر في رثاء اهل البيت (ع) الى ان تمضي عليهم ثلاث ساعات والنشيد متواصل وبعدها يستدعيهم الخليفة الى قصره فيدخل قاضي القضاة والداعي ومن معهما الى باب الذهب فيجدون الدهاليز قد فرشت بالحصر فيجلس القاضي والداعي الى جانب الخليفة ويجلس الباقون من سائر الطبقات في الاماكن التي أعدت لهم فيقرأ القراء شيئاً من القرآن ، ثم ينشدون المراثي ويتقدمون بعد ذلك الى المائدة لتناول الطعام المؤلف من الاجبان والالبان والعسل وغير ذلك وبعد الفراغ يتوجه فريق من الناس والمنشدين ينوحون ويبكون في شوارع القاهرة وقد أغلقت المحلات والحوانيت وتعطلت جميع الأعمال في ذلك النهار حتى المساء الى غير ذلك من المظاهر التي كانت تعم المدن والقرى في جميع انحاء مصر طيلة العهد الفاطمي وظلت هذه المظاهر تتصاعد وتشتد في مصر وغيرها من الاقطار الى ان جاء دور الايوبيين فحاربوا هذه المظاهر وتوعدوا الناس والشيعة بأقصى العقوبات اذا استمروا عليها واستبدوا مظاهر الحزن والاسى بمظاهر الفرح والسرور عند دخول شهر المحرم وأصبح اليوم العاشر منه من اعظم اعيادهم يتباهون فيه بالملابس الفاخرة وأنواع الطعام والحلوى والاواني الجديدة وما الى ذلك مما يعبر عن ارتياحهم واغتباطهم في ذلك اليوم ليرغموا بذلك أنوف الشيعة على حد تعبير المقريزي في خططه .
وفي عهد البويهيين كان الشيعة والحكام يمثلون دور الفاطميين وجاء في تاريخ ابي الفداء خلال حديثه عن أحداث 352 ان معز الدولة كان في


( 172 )

اليوم العاشر من المحرم يأمر بتعطيل الاسواق كما يأمر الناس ان يخرجوا بالنياحة والنساء ناشرات الشعور قد شققن ثيابهن ولطمن وجوههن ، وأيد ذلك ابن كثير في بدايته وهو يتحدث عن البويهيين وما كانوا يصنعونه في بغداد في الأيام الأولى من شهر المحرم والعاشر منه في كل عام الى غير ذلك مما رواه الرواة والمؤرخون عن مواقف الشيعة وحكامهم من ذكرى مجزرة الطف منذ حدوثها خلال القرون التي حكم الشيعة فيها بعض المناطق الاسلامية وغيرها من القرون التي كان الحكم فيها لاعداء الشيعة كالامويين والعباسيين والايوبيين والاتراك ، وبالرغم من كل وسائل العنف التي مارسها الحاكمون ضد التشيع ومظاهره فقد بقيت المآتم الحسينية تقام ولم تتأثر بالاخطار ووسائل العنف من الحاكمين وأعداء اهل البيت الذين ادركوا ان المآتم الحسينية في واقعها ليست الا تعبيراً عن المعارضة لحكمهم الجائر وادانة صريحة لتجاوزاتهم واستغلالهم لخيرات الشعوب والمستضعفين في الارض ، ولعل هذا المحتوى للمآتم الحسيني كان من اولى الدوافع لدعوة الائمة (ع) على احياء هذه الذكرى والالتزام بها مهما كانت النتائج والمضاعفات ، كما كان لتلك المآتم التي كانت تعقد هنا وهناك حتى في أشد الادوار تعقيدا وقسوة آثار واضحة في حدوث تلك الانتفاضات الشيعية التي كانت ترفع شعارات الثورة الحسينية وتجعل منها منارا وشعار لبعث الروح النضالية والتضحية في سبيل الحق والعقيدة الى أبعد الحدود وفي الوقت ذاته فلقد كانت تلك الشعارات التي ترفع هنا وهناك كما يبدو من اقوى الدوافع على تمكين الثورة الحسينية في عقول الناس وقلوبهم سواء في ذلك ما كان منها في العصر الاموي او العباسي ، فانتفاضات الحسينيين في العصر العباسي ردا على ما ارتكبه اولئك الطغاة من قتل وتشريد وأسر وتفنن في اساليب التعذيب ، هذه الانتفاضات كانت روح كربلاء تحركها وتدفعها الى المضي


( 173 )

في المقاومة مهما كلفها ذلك من التضحيات وما زالت الانتفاضات التي تحدث على مرور الزمن هنا وهناك تستلهم من ثورة الحسين (ع) التي لم يحدث التاريخ عن ثورة اكثر منها عطاء وتصميما .
لقد واجهت هذه الذكرى في تاريخها الطويل قمعا واضطهادا كانا يضطرانها الى الخمود والتستر كما شهدت انفراجات محدودة حينا وأحيانا انفراجات واسعة ، ولكن أعمال القمع والاضطهادا لم تفلح في القضاء التام عليها بل بقيت تقام في مواعيدها وفي دو من التستر حتى في العصر الاموي ، وفي عصري المنصور والمتوكل اللذين يعتبران من أشد العهود قسوة وظلما ، وكانت عندما تتوفر لها الانفراجات الواسعة تنفجر كالبركان كما حدث لها في عهود الفاطميين والبويهيين في بغداد وجهاتها والحمدانيين في سوريا والموصل وعندما اصبح الحكم في بلاد وجهاتها والحمدانيين في سوريا والموصل وعندما اصبح لاحكم في بلاد الفرص وغيرها بيد الشيعة لان اساليب العنف والاضطهاد من الصعب ان تستأصل المبادئ والمعتقدات وحتى العادات بل تزيدها ترسيخا وصلابة ، وعندما تتوفر لها الظروف والمناسبات تبرز بشكل اقوى وأشد مما كانت عليه وقديما قيل : لا شيء أجدى وأنفع للأفكار والمعتقدات من محاربتها .
ان الذين يحاربون الافكار والمعتقدات يساهمون في ترسيخها وحياتها من حيث لا يريدون ، ولا شيء أدل على ذلك من مواقف الامويين والعباسيين المسعورة بل وجميع الحاكمين من اهل البيت وفضائلهم وآثارهم ، ومع كل ما بذلوه من جهود للقضاء عليها فقد بقيت من افضل الرموز الشامخة وأقدسها وظلوا في القمة بين عظماء التاريخ ، وظهر من صحيح فضائلهم وآثارهم مأملا لخافقين وما زالت محاسنهم تحكى وآياتهم تروى ، هذا بالإضافة الى ما اضافه عليها المحبون مما كان اهل البيت انفسهم يحاربونه ويرونه اساءة لهم ويقولون لعن الله من قال فينا ما لم نقله في انفسنا وكانوا في مجالسهم ومجتمعاتهم يلعنون اصحاب


( 174 )

تلك المقالات ويتبرأون منهم ومن مقالاتهم ، ويقولون لمن يجتمعون اليهم من اصحابهم وغيرهم : لعن الله من قال فينا ما لم نقله في انفسنا .
لقد كان لتلك المواقف الجائرة التي وقفها الحاكمون من المآتم الحسينية ومن زيارة الحسين وأبيه التي تعني فيما تعنيه الاجانة لاولئك الطواغيت والمعارضة المستترة لسياستهم الجائرة كان لها ردود فعل في الاوساط الشيعية جعلتهم يتصلبون في تمسكهم بتلك المآتم ويعتبرونها وسيلة للتنفيس عن عواطفهم الحزينة الغاضبة والكبت النفسي الذي كان الشيعي يعانيه من ضغط الحاكمين وقسوتهم .
ومهما كان الحال فلقد مرت تلك المآتم والذكريات منذ ان ولدت بعد مصرع الحسين (ع) وحتى عشرنا الحالي بأدوار كثيرة ولم تثبت على صيغة واحدة في تلك العصور المتعاقبة ، وكان من الطبيعي ان تتطور حسب متطلبات العصر وأن تخمد وتنطلق بين الحين والآخر حسب الظروف المحيطة بها .
لقد انطلقت بشكل لم يكن معروفا ومألوفا من قبل خلال الحكم الشيعي في مصر وبغداد وحلب وجهاتها وفي فترات متعاقبة من الزمن وعادت الى ما كانت عليه في العصر الذي سبق عصر الفاطميين بعد ان تقلص ظل حكام الشيعة في تلك المقاطعات وظلت تقام في مواعيدها في أجواء تتسم بالسرية والتكتم كما كانت عليه في تلك العصور المظلمة . وفي العصور المتأخرة تطورت بشكل أخرجها عما وجدت من اجله وعما كان الائمة (ع) قد رسموه لها لتبقى منطلقا ورمزا لمعارضة الحكم المستبد الظالم وأدخلت عليها بعض الزيادات التي تسيء اليها والى التشيع ويستغلها اعداء الشيعة للتنديد والتشويه والسخرية وهذه الزيادات لقد أدخلت عليها كما هو الراجح عن طريق الاقطار الشيعية بعد ان حكمها الشيعة وغلب على اهلها التشيع كايران وأفغانستان وغيرهما من الاقطار التي تسربت اليها عادات الهنود القدامى كالضرب بالسلاسل الحديدية


( 175 )

والسيوف وما الى ذلك من المظاهر التي لا يقرها الشرع ولا تحقق الاهداف التي كان الائمة يحرصون عليها من تلك الذكريات .
ولا يزال هذا النوع من المظاهر الدخيلة يمارس خلال الايام الاولى من شهر المحرم في العراق وايران ، في حين ان الذين يضربون ظهورهم بالسلاسل الحديدية ورؤوسهم بالسيوف ليصبغوا أبدانهم بالدماء ليسوا من الملتزمين بالدين ويمارسون الكثير من المنكرات ، وقد انتقلت هذه الظاهرة الشاذة عن طريق بعض الفئات الى بعض القرى الشيعية من جنوب لبنان في مطلع النصف الثاني من القرن الهجري المنصرم ولا تزال حتى يومنا هذا مصدر لسخرية الاجانب الذين يقصدون تلك البلدة في اليوم العاشر من المحرم ويسمونه يوم جنون الشيعة ، وبلا شك ان الائمة (ع) لا يرضون بهذه المظاهر ويتبرأون منها .
اما بقية القرى الشيعية من جنوب لبنان فلا تزال تحتفظ بذكرى مجزرة كربلاء في العشرة الاولى من شهر المحرم وفي بعض المناسبات الطارئة بين الحين والخرى ولكن بالشكل المألوف الذي لا يتعدى قراءة أبيات في رثاء الحسين ومن قتل معه لبعض شعراء الطف باسلوب يستيثير العواطف وبعض الجوانب المثيرة من السية الحسينية التي تلهب المشاعر وتحض على الظالمين وفي اليوم العاشر يتولى احد الحضور قراءة المصرع بكامله مع الاحتفاظ بمظاهر الحزن في الغالب .
وستبقى تلك المآتم مع الزمن تستمد اصالتها واستمرارها من مواقف الحسين وبطولاته الخالدة التي ضرب فيها اروع الامثلة في البذل والعطاء وعلم ابناء آدم كيف يعيشون احرارا ويموتون كراما في مملكة الجبابرة وفراعنة العصور لو ارادوا ان يعيشوا احرارا ويموتوا كراماً .