الفصل الرابع

الصحابة في التأريخ
للصحابة الذين آمنوا بالله ورسوله حقّاً دور كبير في انتصار الاِسلام واستمرار وجوده ودوره في قيادة البشرية ، فهم الطليعة التي واكبت مسيرة الرسول منذ انطلاقها ، فقد آمن به وصدّقه عدد من الصحابة في مرحلة من أشد المراحل عليه ، حيثُ تكالبت عليه قوى الكفر والشرك والطغيان وطوّقوا دعوته من كلِّ جانب ، فلم يجد له ناصراً إلاّ الصفوة من الصحابة ، حيثُ خرجوا عن المألوف من العقائد والاَعراف والتقاليد الجاهلية وانضووا تحت لواء الاِسلام وقيادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون أن ينتظروا جزاءاً دنيوياً أو عرضاً من أعراض الدنيا ، آمنوا بالله وبرسوله إيماناً حقيقياً في وقت كان الاِسلام ضعيفاً تحيطه الاَعداء من كلِّ حدب وصوب ، لا يجدون ناصراً لهم ولا معيناً يساندهم ويدفع عنهم إلاّ الله ، ولا يجدون القوة التي يواجهون فيها الطغيان سوى قوة الاِيمان بالله ورسوله . فتجاوزوا الواقع الجاهلي ولم يعبئوا بما حولهم من قبائل وشعوب وأمم غارقة في الجهل والانحراف والرذيلة ، وكان الاَمل بالنصر يراود أفكارهم ومشاعرهم ليغيّروا الاَرض ومن فيها ، ويجعلوا الاِسلام في موقعه الريادي في حياة البشرية ، وتحمّلوا من أجل ذلك أصناف العذاب.
( 76 )
وكان من تعذيب المشركين إيّاهم (يضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى لا يقدر أن يستوي جالساً من شدّة الضرّ الذي نزل به) (1).
وكان الصحابة الاَوائل يتقاسمون العذاب والاَذى بإيمان واطمئنان بلا تضعضع ولا تراجع ولا هزيمة روحية ، ولم يزدهم العذاب إلاّ إصراراً على الاِيمان ثباتاً على طريق الهدى ، وكان شعارهم (أحد أحد) ، وحينما اشتد الاَذى والعذاب أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة إلى الحبشة ، فهاجروا فراراً بدينهم .
واشتدّ الاَذى والعذاب على من بقي من الصحابة في مكة إلى أن شاء الله عزَّ وجلَّ أن يأذن لهم بالنصر المؤزر بعد حصارهم في شعب أبي طالب رضي الله عنه ثلاث سنوات ، ثم امتدت الدعوة الاِسلامية ـ بعد ذلك ـ وانضوى تحت لوائها عدد من أهل المدينة ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة على السمع والطاعة وعلى أن يؤمّنوا له الحماية اللازمة كما يحامون عن أبنائهم ونسائهم ، وعلى حرب من يحاربه مهما كان انتماؤه (2).
وعاهدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على إيواء المهاجرين ونصرتهم ، فأذن صلى الله عليه وآله وسلم بهجرة من بقي معه في مكة إلى المدينة ، وعلى أثر ذلك تعرض الكثير منهم إلى عنت المشركين واضطهادهم (3)، وما أن وصلوا إلى يثرب حتى آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والاَنصار ، فجعل لكلِّ مهاجر أخاً من
____________
1) السيرة النبوية ، لابن هشام 1 : 343 . والسيرة النبوية ، لابن كثير 1 : 495 .
2) السيرة النبوية ، لابن هشام 2 : 84 ـ 88 . والسيرة النبوية ، لابن كثير 2 : 195 . وإعلام الورى بأعلام الهدى : 70 .
3) السيرة النبوية ، لابن كثير 2 : 215 .

( 77 )
الاَنصار ، فآواه وآزره وشاركه في داره(1)، وقد تحقق الاِخاء بأفضل صورةٍ في تاريخ البشرية ، واستجاب له المهاجرون والاَنصار عن قناعة وتسليم واطمئنان ، حتى وصل الاَخاء إلى قمته ، فكان الاَنصاري يطلّق إحدى زوجتيه (فيخيّر أخاه المهاجر في إحداهما) (2).
وكان المهاجرون والاَنصار (يتوارثون بهذا الاِخاء في ابتداء الاِسلام إرثاً مقدّماً على القرابة) (3).
وقد حقق ذلك الاِخاء دوراً في إنجاح المسيرة الاِسلامية والتفرّغ إلى العمل الجاد لدعوة الناس إلى الاِسلام ، والجهاد في سبيل الله ، فتكاتفوا في حمل أعباء الرسالة ، وتبليغها .
ولم يمض على استقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين إلاّ أشهر معدودة حتى دعاهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجهاد ، فكانت فرصةً جيدة لمعرفة الذين آمنوا حقاً من الذين في قلوبهم مرض ومن المنافقين الذين تظاهروا بالاِسلام خوفاً ، فاستجاب الذين آمنوا وترسّخ الاِيمان في قلوبهم فخرجوا في غزوات لملاحقة قوافل المشركين ، وكانوا لايستريحون من أعباء الغزوة حتى يشاركوا في غزوة أُخرى قاطعين المسافات الطويلة استجابة لله ورسوله .
فقاوموا واجتازوا كل الصعوبات والاَخطار والمشاكل والمعوقات الواقعة في طريقهم ، واستمروا في المسيرة التكاملية متعالين على هوى
____________
1) السيرة النبوية ، لابن كثير 2 : 204 .
2) تاريخ المدينة المنورة 1 : 488 .
3) الفصول في سيرة الرسول ، لابن كثير : 120 .

( 78 )
النفس وميولها واتجاهاتها المادية . وقطعوا أواصر القربى مع المشركين ، فخرجوا إلى بدر يقاتلون آباءهم وأبناءهم ولا يزيدهم ذلك إلاّ ثباتاً على الاِيمان والجهاد ، حتى أمدّهم الله تعالى بملائكة مسوّمين (1).
وهكذا استمر الصحابة في الجهاد وأرخصوا دماءهم في سبيل الدعوة والانقياد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لا يكلّون ولا يملّون ، وكانوا في عمل دؤوب وجهاد مستمر لا يجدون طعم الراحة والهناء إلاّ بإنجاز التكاليف الاِلهية ، فشاركوا في غزوة أُحد ، فكانت هذه الواقعة إحدى المواقع الحساسة التي عرف فيها المؤمنون الحقيقيون من غيرهم .
وكذلك غزوة الخندق حيث قعد الذين لاذوا بالفرار في أُحد ، عن المواجهة مع قائد جيوش المشركين .
ولقد تكرّر منهم المخالفة لاَوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أخذ منهم البيعة تحت الشجرة على الموت وعدم الفرار (2).
وهكذا بدأت المفارقات تظهر شيئاً فشيئاً ، وحقائق الاَشخاص تنكشف يوماً فيوماً :
الفواصل السلوكية الكاشفة عن الحقائق الباطنية :
لم يكن الصحابة على مستوىً واحد من الاِيمان والاخلاص والاستقامة ، وإنّما هم متفاوتون في كلِّ ذلك ، والصحبة وإن كانت شرفاً لهم جميعاً إلاّ أنها لا تعني التزكية والتطهير مالم يكن الصحابي مؤهلاً لها
____________
1) السيرة النبوية ، لابن هشام 2 : 285 .
2) السيرة النبوية لابن كثير 3 : 328 .

( 79 )
ومستعداً للارتقاء والسمو والتكامل ، والصحابي بما هو بشر يحمل في جوانحه عناصر الخير والشر ، وإنّ التزكية والتطهير تابعة للاِرادة ، فالاِنسان بطبعه مخيرٌ في اختيار موقفه في الحياة ، وتلعب الوراثة ـ متفاعلة مع المحيط التربوي والاجتماعي ـ دوراً أساسياً في تكوين الشخصية الاِنسانية من حيثُ درجة الاقتراب والابتعاد عن المنهج الاِسلامي في الواقع .
وإذا كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تأثير في التوجيه والتربية والاصلاح والتغيير ، فإنّ كثيراً من الصحابة لم يصحبوه إلاّ قليلاً بعد ما مرت عليهم السنين العديدة وهم في الصف المعادي له ، وكان بعضهم أحرص الناس على قتله ، والقضاء على رسالته ، وبعضهم أسلم خوفاً أو طمعاً ، وبعضهم بقي منافقاً مستتراً في نفاقه لا يعلمه إلاّ الله تعالى ، أو معلوماً عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خافياً على غيره .
فلا غرابة أن نجد بعضهم مبتعداً عن المنهج الاِسلامي في تصوراته ومواقفه العملية لعدم انصهاره بالعقيدة والقيم الجديدة ، وعدم تحكيمه لها في التصورات والعواطف والمواقف ، وخصوصاً في العلاقات الاجتماعية والسياسية بين الصحابة ، فإنّ بعضهم قطع أواصر المودة والاَخاء مع البعض الآخر ، وتعامل البعض بالتنابز بالكفر والفسق والنفاق مع البعض الآخر ، ووصلت الفواصل بينهما إلى حدِّ البراءة والاقتتال .
وقد ظهرت بوادر ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ أنها كانت في طور الخفاء والمحدودية ثم توسعت وطفحت بارزة للعيان بعد عهده صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا غرابة في ذلك وقد حذّرهم صلى الله عليه وآله وسلم من التنافس على الدنيا والاقتتال فيما بينهم .

( 80 )
ولكنّ المهم أنْ ترى أن الذين فروا في أُحد ، وقعدوا في الخندق ، وخالفوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غير موضع ، أخذوا يجاهرون بالمخالفة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قراراته المصيرية الحاسمة :
التخلف عن جيش أُسامة والاعتراض على إمرته :
أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أغلب المهاجرين والاَنصار بالتوجه إلى غزو الروم تحت إمرة أُسامة بن زيد ، وكان على رأسهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وآخرون (1) ، فطعنوا في إمارته وتثاقلوا حتى قام بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً وقال : « إن تطعنوا في إمارته ، فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله ، وأيم الله لقد كان خليقاً للاِمارة » (2).
وتثاقل كثير من الصحابة ولم يلتحقوا باُسامة ، وعصوا أوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أغضبوه فأمرهم ثانية وثالثة حتى لعن المتخلفين وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « جهزوا جيش أُسامة ، لعن الله من تخلّف عنه » (3).
وفي رواية أنّه قال : « جهزوا جيش أُسامة ، أنفذوا جيش أُسامة ، أرسلوا بعث أُسامة ، لعن الله من تخلّف عنه » (4).
وعند قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عاد أُسامة ومعه الجيش ينتظرون مصيره صلى الله عليه وآله وسلم وحينما علم بهم أمر أُسامة بالخروج وتعجيل النفوذ وجعل
____________
1) الكامل في التأريخ 2 : 317 .
2) صحيح البخاري 5 : 179 . وآفة أصحاب الحديث : 12 . والكامل في التأريخ 2 : 317 . وبنحوه في الطبقات الكبرى ، لابن سعد 2 : 190 . وتاريخ اليعقوبي 2 : 112 .
3) الملل والنحل ، للشهرستاني 1 : 29 . وشرح نهج البلاغة 6 : 52 .
4) آفة أصحاب الحديث : 12 .

( 81 )
يقول : « أنفذوا بعث أُسامة » ويكرّر ذلك (1).
ولقد كان اعتراضهم على إمرته ثم اعتذارهم عن الخروج معه بمرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم محاولةً منهم للتغطية على المرض الكامن في قلوبهم !!
إتهام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالهجر :
عند قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يكتب للصحابة كتاباً يرسم لهم منهجاً لحياتهم كي لا يضلّوا من بعده ، حيثُ ربط صلى الله عليه وآله وسلم بين الكتاب وبين عدم الضلالة ، وهذا يعني إنّ كتابة الكتاب من أهم وصاياه صلى الله عليه وآله وسلم ومن أساسيات القضايا التي يجب مراعاتها بعد وفاته ، وبدلاً من الاستجابة له ، والعمل على طبق وصيته للوصول إلى تمام الهداية والرشاد ، والحيلولة دون الضلال عصوا أوامره صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكتفوا بالعصيان بل اتهموا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالهجر كما تنص الرواية أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال : « ائتوني بكتابٍ أكتب كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً » ، فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : (هجر رسول الله) ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « دعوني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعونني إليه» (2).
وفي رواية : قالوا : ما شأنه ؟ أهجر ! إستفهموه ، فذهبوا (يعيدون عليه) القول (3) .
وذكر المؤرخون في روايات أُخرى اسم عمر بن الخطاب ، وأنّه هو
____________
1) شرح نهج البلاغة 1 : 160 .
2) صحيح البخاري 4 : 85 . وصحيح مسلم 3 : 1258 . وتاريخ الطبري 3 : 193 . والكامل في التاريخ 2 : 320 . وتاريخ ابن الوردي 1 : 129 .
3) تاريخ الطبري 3 : 193 . وتاريخ ابن الوردي 1 : 129 . والكامل في التاريخ 3 : 320 .

( 82 )
الرادّ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1).
ويرى ابن أبي الحديد أنّ الحديث المذكور : (اتفق المحدِّثون كافة على روايته) (2).
ويفهم من الروايات أنَّ الذين اتهموا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالهجر وجهاً لوجه أو الذين أيدوا قول عمر بن الخطّاب هم من كبار الصحابة ومن الذين صاحبوه فترة طويلة ، ومنهم آباء زوجاته والمقربون إليه ، وهذا القول ينسجم مع الاَعراف من أنّ الذين يحضرون الميت هم من هذا الصنف دون بقية الصحابة الذين لم يصحبوه إلاّ أياماً أو ساعات معدودة ، إضافة إلى ذلك أنّ موته صلى الله عليه وآله وسلم كان في المدينة ويستبعد أن يكون الاَعراب أو الذين ارتدوا بعد وفاته كانوا من ضمن الحاضرين .
ويفهم أيضاً من الرواية أنَّ جلّ الصحابة كانوا متخلفين عن بعث أُسامة وخصوصاً الصحابي عمر بن الخطّاب .
ومخالفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واتهامه بالهجر لم يكن في قضية هامشية أو سطحية ، وإنّما كان في أهم القضايا التي فيها النجاة من الضلالة الاَبدية.
وهكذا ، فقد تمكنّا من خلال هذه القضايا من معرفة حقيقة أمر أولئك الصحابة الذين رافقوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بدء دعوته وفي قلوبهم مرض كما في القرآن الكريم .
فدراسة التاريخ والنظر في سير الاَحداث من أحسن الطرق لمعرفة
____________
1) صحيح البخاري 1 : 39 . وصحيح مسلم 3 : 1259 . والملل والنحل 1 : 29 .
2) شرح نهج البلاغة 6 : 51 .

( 83 )
حال الصحابة ، وللتوصل إلى معنى الآيات القرآنية ومعنى الحديث المخرج في كتابي البخاري ومسلم وغيرهما الصريح في ارتداد الاصحاب إلاّ مثل «همل النعم» !!
هذا خلاصة ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

معرفة الصحابة من خلال الحوادث بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم :
وأما ما كان من الصحابة بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتلك أحداث السقيفة وما تلتها من حوادث وما ترتب عليها من آثار...
لقد ثبت وتحقق في الكتب المؤلّفة في مسألة الاِمامة والولاية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنّ الله سبحانه وتعالى أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإبلاغ الاُمّة بأنّ الخليفة والامام من بعده بلا فصل هو علي بن أبي طالب عليه السلام ، وهذا ما كان من أولى اهتمامات النبي منذ بعثته وحتى الساعات الاَخيرة من حياته الكريمة ، وقد استدل العلماء في كتب الاِمامة بالكثير من الآيات والاَحاديث الصحيحة بل المتواترة عند الفريقين .
فمن ذلك : النصّ الذي بدأ منذ وقت مبكر وبالتحديد في السنة الثالثة للهجرة حيثُ نزول آية الانذار وقصة حديث الدار الذي قال فيه صلى الله عليه وآله وسلم مشيراً إلى الاِمام علي عليه السلام : « إنَّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا » (1) .
وصرّح النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أكثر من مناسبة قائلاً : « إنّ علياً مني ، وأنا منه ،
____________
1) تاريخ الطبري 3 : 218 ـ 219 . وتفسير الخازن 3 : 371 .

( 84 )
وهو ولي كلّ مؤمن بعدي » (1). وجاء قوله تعالى : ( إنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) (2) ليؤكد ويرسخ ولاية وخلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقطع الطريق أمام المشككين بهذه المنزلة الرفيعة .
وعند قصة الغدير ونزول آية التبليغ (3) وآية إكمال الدين (4) في حجة الوداع لم يعد ثمة عذر لمعتذر في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، حيثُ جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس في منتصف النهار والحر شديد وخطب خطبة طويلة جاء فيها : « من كنت مولاه فهذا مولاه (5)، اللهم والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، واخذل من خذله، وانصر من نصره » (6).
لكن القوم تجاوزوا كلّ تلكم النصوص ، حتى تركوا جنازة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الاَرض وراحوا الى سقيفة بني ساعدة يتنازعون الاَمر من
____________
1) سنن الترمذي 5 : 594 . والتاج الجامع للاُصول 3 : 335 .
2) سورة المائدة 5 : 55 وقد نزلت هذه الآية في الاِمام علي عليه السلام . راجع الكشاف 1 : 649 . وأسباب النزول ، للواحدي : 134 .
3) الآية 67 من سورة المائدة ، قال الواحدي في أسباب النزول : 135 نزلت في غدير خم .
4) الآية 3 من سورة المائدة ، وقد نزلت في غدير خم يوم الثامن عشر من ذي الحجة ، راجع الاتقان للسيوطي 1 : 75 . وأسباب النزول للواحدي : 135 وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم عند نزولها : «الحمدُ لله على اكمال الدين واتمام النعمة ورضى الرب برسالتي وبالولاية لعلي بعدي»س راجع مناقب أمير المؤمنين عليه السلام للحافظ محمد بن سليمان القاضي الكوفي 1 : 119 .
5) سنن الترمذي 5 : 591 . والتاج الجامع للاُصول 3 : 333 .
6) مسند أحمد 4 : 281 و 368 . وسنن ابن ماجة المقدمة 1 : باب 11 . وتفسير ابن كثير 1 : 233 . والبداية والنهاية 7 : 360 ـ 361 .

( 85 )
بعده ، فكان ما كان مما لسنا الآن بصدد ذكره ، وتمخضّت الاحداث عن البيعة لاَبي بكر بن أبي قحافة ، ثم أُكره الممتنعون عن البيعة ـ وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي عليه السلام وأعلام بني هاشم ورجال من المهاجرين والاَنصار ـ على أن يبايعوه ، في قضايا يطول شرحها .
أمّا الزهراء الطاهرة بضعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فلم تبايعه أبداً ، ولمّا استولى أبو بكر على فدك وغير فدك ممّا كان يتعلّق بها ، ذهبت إلى أبي بكر وطالبته بحقوقها ، فلم يعطها شيئاً ، فعادت وهي غضبى عليه وعلى عمر ابن الخطاب .
وقال عمر لاَبي بكر انطلق بنا إلى فاطمة عليها السلام (فانّا قد أغضبناها) وحينما دخلا عليها قالت : « ... ألم تسمعا رسول الله يقول : «رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي.. فإنّي أُشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبيّ لاَشكونكما إليه » وكانت فاطمة عليها السلام تقول : « والله لاَدعون الله عليك في كلِّ صلاة أصليها » (1).
وبقيت سلام الله عليها مهاجرة لاَبي بكر حتى فارقت الدنيا (فهجرته فاطمة فلم تكلمه... حتى ماتت ، فدفنها عليّ ليلاً ، ولم يؤذن بها أبابكر)(2) .
ولقد كان من المتخلّفين عن بيعة أبي بكر : مالك بن نويرة وعشيرته ، فسيّر أبو بكر إليهم خالد بن الوليد ، فأغار عليهم وقتل مالكاً وجماعة من
____________
1) الاِمامة والسياسة 1 : 14 .
2) تاريخ الطبري 3 : 208 . وتاريخ الاِسلام عهد الخلفاء الراشدين ، للذهبي : 21 . وبنحوه في : شرح نهج البلاغة 6 : 50 .

( 86 )
قومه وسبى نساءهم ، وتزوّج بامرأة مالك من ليلة قتله ، في قضية معروفة مفصّلة في كتب التاريخ ، تعدّ من أكبر ما طعن به أبو بكر بعد تصدّيه للاَمر .
وحينما قتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة وتزوج امرأته ، بلغ ذلك عمر بن الخطاب ، فتكلم في خالد عند أبي بكر فأكثر وقال : (عدو الله عدا على أمرىء مسلم فقتله ، ثم نزا على امرأته) ! وحينما عاد خالد قام إليه عمر وقال : (قتلت أمرءاً مسلماً ، ثم نزوت على امرأته ، والله لاَرجمنك بأحجارك) (1).
وفي معركة اليرموك كان أبو سفيان ومشيخة من قريش على تلٍّ لايقاتلون ، فإذا كانت الكرّة للروم ، قالوا : (إيهٍ بني الاَصفر) ! وإذا كانت الكرّة للمسلمين ، قالوا : (ويح بني الاَصفر) ! فلما هزم الله تعالى الروم سمع الزبير بما كانوا يقولون ، فقال : (أبوا إلاّ ضغناً ، لنحن خير لهم من الروم) (2).
وعند قرب وفاة أبي بكر دخل عليه عبدالرحمن بن عوف ، فقال له أبوبكر : (إنّي وليت أمركم خيرّكم في نفسي ، فكلكم ورم أنفه من ذلك ، يريد أن يكون الاَمر له دونه ، ورأيتم الدنيا قد أقبلت.. وأنتم أول ضالّ بالناس غداً ، فتصدوهم عن الطريق يميناً وشمالاً...) (3).
وقال أبو بكر أيضاً : (فأمّا الثلاث اللاتي وددت أنّي تركتهنَّ ، فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء ، وإن كانوا قد غلّقوه على الحرب..
____________
1) تاريخ الطبري 3 : 280 . والكامل في التاريخ 2 : 359 .
2) الكامل في التاريخ 2 : 414 .
3) تاريخ الطبري 3 : 430 . وبنحوها في تاريخ اليعقوبي 2 : 137 .

( 87 )
وأمّا اللاتي تركتهنَّ ، فوددت أني يوم أتيتُ بالاَشعث بن قيس أسيراً كنت ضربت عنقه ، فإنّه تخيَّل إليَّ أنه لا يرى شرّاً إلاّ أعان عليه...) (1).
وأوصى أبو بكر بالاَمر إلى عمر بن الخطّاب بالرغم من اعتراض أعلام الصحابة ، محتجاً بكونه خير النّاس ، فدلَّ ذلك على أن ولايته لم تكن بنصٍّ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا برضاً من المسلمين .
وقد كان في عهده من تعطيل الحدود الشرعية وتغيير الاَحكام الالهية ماليس هنا موضع ذكره ، ومن شاء فليراجع الكتب المؤلفة في ذلك ، ويكفينا أن نعلم أن عمر هو الذي رمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالهجر وحال دون كتابته الوصيّة كما تقدّم .
وكان عمر هو الذي طرح فكرة تعيين الخليفة بالشورى ، وقد جاء ذلك تفادياً لاَنْ يبايع المسلمون الاِمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، إذ بلغه أن جماعةً من أكابر الصحابة يقولون: لو مات عمر لبايعنا علي بن أبي طالب(2) .
ولكنّه ـ حيث كان يريد عثمان بن عفان وبني أُميّة للخلافة ـ عيّن ستّة أشخاصٍ للشورى ، ومن غير مشورة من المسلمين في تعيينهم ، وحدّد لهم حدوداً لا ينتهي الاَمر بمقتضاها إلاّ إلى عثمان .
وبعد تعيين عمر للستة من أهل الشورى أخبرهم عن أنفسهم فقال : (أما أنت يا زبير فوعق لقس (3)، مؤمن الرضا ، كافر الغضب ، يوماً إنسان ،
____________
1) تاريخ الطبري 3 : 430 ـ 431 . وتاريخ اليعقوبي 2 : 137 . والعقد الفريد 5 : 21 .
2) مقدمة فتح الباري في شرح صحيح البخاري | ابن حجر العسقلاني ، ارشاد الساري في شرح البخاري | للقسطلاني .
3) الوعق : الضجر المتبرم ، واللقس : من لا يستقيم على وجه .

( 88 )
ويوماً شيطان.. من يكون للناس يوم تكون شيطاناً ؟ ومن يكون يوم تغضب ؟) ثم أقبل على طلحة ـ وكان له مبغضاً ـ فقال له : أقول أم أسكت؟ قال : (قل ، فإنَّك لا تقول من الخير شيئاً) فقال عمر : (أما إنَّي أعرفك منذ أصيبت أصبعك يوم أحد والبأو ـ أي الكبر ـ الذي حدث لك ، ولقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساخطاً عليك بالكلمة التي قلتها يوم أُنزلت آية الحجاب)(1) .
وأوصى عمر صهيب الرومي بقتل كل من يصرّ على مخالفة الاجماع في الشورى المتكونة من الستة ، وقال له : (.. فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد فاشدخ رأسه ـ أو اضرب رأسه بالسيف ـ وإن اتفق أربعة فرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان ، فاضرب رؤوسهما ، فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم وثلاثة رجلاً منهم.. فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف ، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس) (2).
وفي اجتماع الشورى قال عليّ بن أبي طالب لعبدالرحمن بن عوف : (أعطني موثقاً لتؤثرن الحقّ ولا تتبع الهوى ، ولا تخصّ ذا رحم..) ، لكن عبدالرحمن اتّبع الهوى ومال إلى عثمان ، ففي أمر الشورى يقول الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة الشقشقية : « فصبرتُ على طول المدة ، وشدّة المحنة ، حتى إذا مضى لسبيله ، جعلها في جماعةٍ زعم أني أحدهم ، فيالله وللشورى متى اعترض الريبُ فيَّ مع الاَول منهم ، حتى صرتُ أُقرن إلى هذه النظائر ! لكنّي أسففتُ إذ أسفّوا ، وطِرتُ إذ طاروا ، فصغا رجلٌ منهم
____________
1) شرح نهج البلاغة 1 : 185 ـ 186 .
2) تاريخ الطبري 4 : 229 .

( 89 )
لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هنٍ وهنٍ... » (1). فالذي صغا لضغنه هو طلحة ، إذ وهب حقّه لعثمان لانحرافه عن أمير المؤمنين عليه السلام ، والذي مال لصهره هو عبدالرحمن ، مال إلى عثمان ، لاَن زوجة عبدالرحمن ـ وهي أم كلثوم بنت عقبة ـ كانت أُخت عثمان من أُمّه .
واشترط عبد الرحمن على الاِمام عليّ عليه السلام إن رشّحه للخلافة أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة أبي بكر وعمر ، فلم يوافق الاِمام عليّ عليه السلام على الشرط الاَخير ، ووافق عثمان على ذلك فرشحه عبدالرحمن للخلافة فقال الاِمام علي عليه السلام : « ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا » (2).
وبعد تمام البيعة قال المغيرة بن شعبة لعبدالرحمن : (يا أبا محمد ، قد أصبت إذ بايعت عثمان !) وقال لعثمان : ( لو بايع عبدالرحمن غيرك مارضينا) ، فقال عبدالرحمن : (كذبت يا أعور ، لو بايعتُ غيره لبايعته ، ولقلت هذه المقالة) (3).
ودخل أبو سفيان على عثمان وقال : (يا بني أُمية ، تلقّفوها تلقّف الكرة، فو الذي يحلف به أبو سفيان ما من عذاب ولا حساب ، ولا جنة ولا نار ، ولا بعث ولا قيامة) (4).
وحينما بدلّ كثيراً من الاَحكام ، وتصرّف في أموال المسلمين في غير حلّها ، وقرّب إليه الفجرة الفسقة وخاصةً من بني أُمية وجعلهم خواصاً
____________
1) نهج البلاغة : الخطبة 3 .
2) الكامل في التاريخ 3 : 71 . وشرح نهج البلاغة 9 : 53 .
3) تاريخ الطبري 4 : 234 . وبنحوه في : شرح نهج البلاغة 9 : 53 .
4) شرح نهج البلاغة 9 : 53 ـ 54 . وأنساب الاَشراف 1 : 12 ـ 13 .

( 90 )
وولاة له ، كمروان بن الحكم والوليد بن عقبة ، كثر الطعن عليه من قبل الصحابة والتابعين (1).
وكان الوليد بن عقبة من ولاة عثمان وقد اشتهر بالفسق وشربه للخمر فقد شرب الخمر وهو على رأس جيش متوجه إلى الروم ، فأراد بعض المسلمين إقامة الحدّ عليه ، فقال حذيفة : (أتحدّون أميركم وقد دنوتم من عدوّكم...) (2) .
وقال ابن حجر العسقلاني عنه (وقصة صلاته بالناس الصبح أربعاً وهو سكران مشهورة ومخرجة ، وقصة عزله بعد أن ثبت عليه شرب الخمر مشهورة أيضاً مخرجة في الصحيحين) (3).
فحينما أكثر المسلمون في الوليد عزله عثمان وجلده الحدّ (4).
وطعن جماعة من الصحابة على عثمان ، لاَنّه آثر أقاربه الاَموال والهدايا، فكان أبو ذر الغفاري يقول : (والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ولا سُنّة نبيّه ، والله إني لاَرى حقاً يُطفأ وباطلاً يحيا ، وصادقاً مكذّباً ، وأثرة بغير تقى ، وصالحاً مستأثراً عليه) (5).
وقال عثمان ذات مرّة لاَبي ذر : (لا أنعم الله بك عيناً يا جنيدب... أنت
____________
1) الطبقات الكبرى 5 : 36 .
2) مختصر تاريخ دمشق 26 : 341 .
3) الاِصابة 6 : 322 .
4) تاريخ الطبري 4 : 277 . ومختصر تاريخ دمشق 26 : 336 . وبنحوه في : شرح نهج البلاغة 8 : 120 .
5) شرح نهج البلاغة 3 : 55 .

( 91 )
الذي تزعم أنّا نقول : إنّ يد الله مغلولة...) فقال أبو ذر : (لو كنتم لا تزعمون لاَنفقتم مال الله على عباده ، ولكني أشهدُ لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً جعلوا مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، ودين الله دخلاً » فقال عثمان : (ويلك يا أبا ذر ! أتكذب على رسول الله) .. فقال أبو ذر : (أحدثكم أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم تتهمونني ! ما كنت أظنَّ أني أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ) (1).
هذا وقد قال الصادق الاَمين صلى الله عليه وآله وسلم في حقّ أبي ذر : « ما أظلت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر » . والاَدهى من ذلك هو طرد أبي ذرّ من مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على يد طريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن طريده مروان بن الحكم (2).
واشتد الطعن على عثمان ، ففي ذات مرّة صلّى عثمان بالناس ، فلما كبَّر قالت عائشة : (يا أيُّها الناس... تركتم أمر الله وخالفتم عهده) ، ثم صمتت وتكلمت حفصة بمثل ذلك ، فلما أتم عثمان الصلاة أقبل على الناس، وقال : (إنَّ هاتين لفتّانتان ، يحلّ لي سبُّهما ، وأنا بأصلهما عالم) (3).
وتجاوز الطعن إلى التصريح بكفر عثمان من قبل إحدى نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي عائشة حيثُ كانت تفتي بقتله وتقول : (اقتلوا نعثلاً فقد كفر) (4) .

____________
1) شرح نهج البلاغة 3 : 55 ـ 56 .
2) تاريخ اليعقوبي 2 : 171 ـ 173 . وتاريخ المدينة 3 : 1034 . والرياض النضرة 3 : 83 .
3) شرح نهج البلاغة 9 : 5 .
4) تاريخ الطبري 4 : 459 . والكامل في التاريخ 3 : 206 .

( 92 )
وكثر الطعن عليه (ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد) (1)، وكان طلحة بن عبيدالله من ضمن الطاعنين على عثمان حتى اجتمع عليه بعض الطاعنين، فأمسك بمفاتيح بيت المال والناس حوله ، فلما سمع الاِمام عليّ عليه السلام بالخبر قام بكسر باب بيت المال وتوزيع مافيه ، فتفرق الجمع عن طلحة وانصرفوا عنه ، وسمع عثمان بذلك فأبدى رضاه وسروره ، وجاء طلحة ودخل على عثمان ، فقال عثمان : (والله ما جئت تائباً ، ولكن جئتَ مغلوباً ، الله حسيبك يا طلحة) (2).
وكتب جمع من أهل المدينة من (الصحابة وغيرهم إلى من بالآفاق منهم : إن أردتم الجهاد فهلمّوا إليه ، فإنّ دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد أفسده خليفتكم فأقيموه) (3).
وحينما اشتدت الاَزمة بين عثمان والطاعنين عليه دخل عليه الاِمام علي بن أبي طالب عليه السلام وقال له : « أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلاّ بتحرّفك عن دينك وعن عقلك مثل الظعينة يقاد حيثُ يُسار به ، والله مامروان بذي رأي في دينه ولا نفسه ! وأيم الله إنّي لاَراه يوردك ولايصدرك...» (4).
وتدخّل الاِمام عليّ عليه السلام لتهدئة الاَزمة وقال لطلحة : « أنشدك الله إلاّ رددت الناس عن عثمان ! » ، فرفض طلحة نصيحة الاِمام عليّ عليه السلام وقال :
____________
1) تاريخ الطبري 4 : 336 .
2) الكامل في التاريخ 3 : 167 .
3) الكامل في التاريخ 3 : 168 .
4) تاريخ الطبري 4 : 362 . والكامل في التاريخ 3 : 165 ـ 166 .

( 93 )
(لا والله حتى تعطيني بنو أُمية الحقّ من أنفسها) (1).
وكلّم الاِمام عليّ عليه السلام القادمين من الاَمصار ووعدهم بإصلاح الاَوضاع من قبل عثمان ، فخرجوا من المدينة ، وفي طريقهم إلى مصر أمسكوا بغلام عثمان وعنده كتاب مختوم بختم عثمان يأمر فيه والي مصر بقتلهم ، فجاءوا بالكتاب إلى عثمان فأنكر كتابته له ، وقيل : إنَّ مروان قد كتبه باسم عثمان ، فقالوا له : (ما أنت إلاّ صادق أو كاذب ، فإن كنت كاذباً فقد استحققت الخلع لما أمرت به من قتلنا بغير حق ، وإن كنت صادقاً فقد استحققت أن تخلع نفسك لضعفك عن هذا الاَمر وغفلتك وخبث بطانتك.. فاخلع نفسك منه كما خلعك الله) فقال : (لا أنزع قميصاً ألبسنيه الله ، ولكني أتوب وأنزع) ، فقالوا : (لو كان هذا أوّل ذنب تبت منه قبلنا ، ولكنّا رأيناك تتوب ثم تعود ، ولسنا منصرفين حتى نخلعك أو نقتلك أو تلحق أرواحنا بالله تعالى) (2).
فحوصر عثمان من قبل المسلمين أربعين يوماً ثم قتلوه ، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم من حرَّض على المعارضة له ، وعلى رأسهم عائشة وحفصة وعمّار بن ياسر وعبدالله بن مسعود وطلحة والزبير وعمرو بن العاص . ومنهم من حاصره ولم يقدم على قتله . ومنهم من اشترك في قتله أيضاً كعبدالرحمن بن عديس ، وكان أمير القادمين لقتله ، وهو ممّن بايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت الشجرة (3). ومنهم من كان هواه في
____________
1) الكامل في التاريخ 3 : 183 .
2) المصدر السابق 3 : 196 .
3) الكامل في التأريخ 3 : 287 . وتاريخ المدينة المنورة 4 : 1155 .

( 94 )
قتل عثمان ، كمعاوية بن أبي سفيان (1) ليتخذ قتله ذريعة للوصول إلى
الخلافة ، حيثُ تربّص به وأقرّ الجيش الذي بعثه لنصرته (2).
وكان ابن عباس يرى أن مروان هو المسؤول عن قتل عثمان ، فكان يخاطبه بالقول : ( ياعدوّ الله وطريد رسول الله والمباح دمه ، والداخل بين عثمان ورعيته بما حملهم على قطع أوداجه ..) .(3)
هذا ، وقد اتُخذ دمه ذريعة للتمرد على خلافة الاِمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام سواء من قبل المحرضين على عثمان أو من المتربصين بقتله ، في ظرف مضطرب لااستقرار فيه ، وبدلاً من انتظار استقامة الظروف وهدوء الاَوضاع الصاخبة ، خرج بعض الصحابة ، وأحدثوا فتنة بين المسلمين متمردين فيها على الخلافة الشرعية (4).
حرب الجمل :
فخرجت عائشة ـ ومعها طلحة والزبير ومروان بن الحكم ، والوليد بن عقبة وسائر بني أُمية ـ الى البصرة وأعلنوا الطلب بدم عثمان .
وفي أول المسير لقي عبد بن أم كلاب عائشة فأخبرته بالطلب بدم عثمان فأجابها : (فو الله أول من أمال حرفه لاَنت ! ولقد كنت تقولين : اقتلوا نعثلاً فقد كفر) ، فقالت : (إنّهم استتابوه ثم قتلوه ، وقد قلت وقالوا ،
____________
1) تاريخ المدينة المنورة 4 : 1153 .
2) الكامل في التاريخ 3 : 170 .
3) شرح نهج البلاغة 6 :299.
4) تاريخ الطبري 4 : 436 .

( 95 )
وقولي الاَخير خير من قولي الاَول) (1).
وفي البصرة تصالح طلحة والزبير مع عثمان بن حنيف على عدم الاقتتال ، إلاّ أنهم هجموا عليه ليلاً واقتادوه أسيراً ، وحينما سألوا عائشة عن أمره قالت : (اقتلوه) فقالت لها أمرأة : (نشدتك بالله يا أم المؤمنين في عثمان وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) فأمرت بحبسه بعد أن ضربوه أربعين سوطاً ونتفوا شعر لحيته (2).
وقبل بدء القتال قال الزبير : (ألا ألف فارس أسير بهم إلى عليّ أقتله ، فلم يجبه أحد) ، فقال : (إنّ هذه للفتنة التي كنّا نُحدَّث عنها) فقال له مولاه: (أتسميها فتنة وتقاتل فيها ؟!) قال : (ويلك ! إنّا نُبصَّر ولا نُبْصِر ، ماكان أمر قط إلاّ وأنا أعلم موضع قدمي فيه غير هذا الاَمر ، فإنّي لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر) (3).
وكتب الاِمام عليّ عليه السلام إلى طلحة والزبير : « ... فإن كنتما بايعتماني طائعين ، فارجعا وتوبا إلى الله من قريب... فارجعا أيُّها الشيخان عن رأيكما ، فإنَّ الآن أعظم أمركما العار من قبل أن يتجمع العار والنار » (4).
وفي بداية المعركة قال الاِمام علي عليه السلام للزبير : « أنشدك الله ، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إنّك تقاتلني وأنت ظالم لي » ، قال : (نعم ، ولم أذكر إلاّ في موقفي هذا) ثم اعتزل القتال ، ولكنه رجع إليه بعدما هاجه ابنه
____________
1) تاريخ الطبري 4 : 459 . والكامل في التاريخ 3 : 206 .
2) تاريخ الطبري 4 : 269 . والكامل في التاريخ 3 : 216 .
3) تاريخ الطبري 4 : 476 . والكامل في التاريخ 3 : 220 .
4) نهج البلاغة : 445 ـ 446 الكتاب 54 .

( 96 )
عبدالله ، فأعتق مولاه كفارة عن يمينه ، ثم قاتل (1).
وكان الاِمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام يقول : « ما زال الزبير رجلاً منّا أهل البيت حتى نشأ ابنه المشؤوم عبدالله » (2).
وفي أثناء المعركة قام مروان بن الحكم بقتل طلحة بن عبيدالله مبرراً قتله بالثأر من قتلة عثمان (3) على الرغم من خروجهما معاً للطلب بدم عثمان بقتالهم للاِمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام .
وانتهت المعركة بمقتل عشرة آلاف من الطرفين (4)وقد تنبأ الاِمام عليّ عليه السلام بمصير أهل الجمل ، فقال قبل بدء القتال : « والله إنّ راكبة الجمل لا تصعد عقبة ولا تنزل منزلاً إلاّ إلى معصية الله وسخطه ، حتى تورد نفسها ومن معها متالف الهلكة » (5).
وكان عدد المشاركين من الصحابة إلى جنب الاِمام عليّ عليه السلام هو العدد الراجح حيثُ كان معه ثمانمائة من الاَنصار وأربعمائة ممّن شهد بيعة الرضوان (6)اِيمانهم بوجوب القتال معه .

____________
1) تاريخ الطبري 5 : 200 . والكامل في التاريخ 3 : 239 . وتهذيب تاريخ دمشق 5 : 367 ـ 368 .
2) شرح نهج البلاغة 20 : 102 .
3) تاريخ المدينة المنورة 4 : 1170 . وتاريخ الاِسلام عهد الخلفاء الراشدين ، للذهبي : 486 . وشرح نهج البلاغة 9 : 36 .
4) تاريخ الطبري 4 : 539 . وقيل : عشرون ألفاً . والعقد الفريد 5 : 74 .
5) المعيار والموازنة : 53 .
6) تاريخ الاِسلام عهد الخلفاء الراشدين : 484 .

( 97 )
حرب صفين :
عزل الاِمام علي بن أبي طالب عليه السلام أغلب ولاة عثمان بن عفان ، وحينما أشار عليه المغيرة بن شعبة بإبقاء معاوية قال عليه السلام : « لا أُداهن في ديني ، ولا أعطي الدنيَّة في أمري » (1)، فكان يرى إبقاء معاوية في ولايته مداهنة في الدين ، ولذا عزله بعد أن يئس من رجوعه إلى الطاعة .
وقد كتب إليه عدة كتب يدعوه فيها إلى الطاعة ، ويبيّن له غيّه ومساوءه، جاء في أحدها قوله عليه السلام : « وأرديت جيلاً من النّاس كثيراً ، خدعتهم بغيِّك ، وألقيتهم في موج بحرك ، تغشاهم الظلمات ، وتتلاطم بهم الشبهات ، فجاوزوا عن وجهتهم ، ونكصوا على أعقابهم.. فاتق الله يا معاوية في نفسك ، وجاذب الشيطان قيادك.. » (2).
وكتب عليه السلام إليه أيضاً : « فسبحان الله ! ما أشدَّ لزومك للاَهواء المبتدعة... فإمّا إكثارك الحِجاجَ على عثمان وقتلته ، فإنّك إنّما نصرت عثمان حيثُ كان النصر لك ، وخذلته حيثُ كان النّصر له » (3)، فقد بيّن له أنّه اتخذ دم عثمان وسيلة لينتصر بها ، حيثُ إنّه لم ينصره في حياته .
وحينما أراد معاوية استمالة عمرو بن العاص إلى جانبه استشار الاَخير ابنيه عبدالله ومحمداً ، فقال له عبدالله : (.. فإنّك إنّما تفسد دينك بدنيا يسيرة تصيبها مع معاوية فتضجعان غداً في النار) ، وقال ابنه محمد : (بادر هذا الاَمر) وقال له مولاه وردان : (اعترضت الدنيا والآخرة على قلبك ، فقلت : عليّ معه آخرة بلا دنيا ، ومعاوية معه دنيا بلا آخرة ، وليس في
____________
1) الكامل في التاريخ 3 : 197 .
2) نهج البلاغة : 406 الكتاب 31 .
3) نهج البلاغة : 410 الكتاب 37 .

( 98 )
الدنيا عوض من الآخرة) .
وقال ابنه عبدالله أيضاً : (بال الشيخ على عقبيه ، وباع دينه بدنياه) (1).
وكتب الاِمام علي عليه السلام إلى ابن العاص كتاباً جاء فيه : « فإنّك قد جعلتَ دينك تبعاً لدنيا امرىء ظاهر غيُّه ، مهتوكٍ ستره... فأذهبت دنياك وآخرتك...» (2).
وبعد خدعة رفع المصاحف خطب الاِمام علي عليه السلام أصحابه قائلاً : «عباد الله ، امضوا على حقكم وصدقكم وقتال عدوّكم ، فإنّ معاوية وعمراً وابن أبي معيط وحبيباً وابن أبي سرح والضحّاك ليسوا بأصحاب دين ولاقرآن ، أنا أعرف بهم منكم ، قد صحبتهم أطفالاً ثم رجالاً ، فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال ، ويحكم والله ما رفعوها إلاّ خديعة ووهناً ومكيدةً... فإنّي إنّما أقاتلهم ليدينوا لحكم الكتاب ، فإنّهم قد عصوا الله فيما أمرهم ، ونسوا عهده ، ونبذوا كتابه » (3).
وكتب الاِمام عليّ عليه السلام إلى معاوية : « ... فاحذر يوماً يغتبط فيه من أحمد عاقبة عمله ، ويندم من أمكن الشيطان من قياده فلم يجاذبه ، وقد دعوتنا إلى حكم القرآن ولست من أهله ، ولسنا إياك أجبنا ، ولكنّا أجبنا القرآن في حكمه » (4)».
وانتهت المعركة بالتحكيم ، وقد كان الاِمام عليّ عليه السلام يحذّر معاوية من
____________
1) تاريخ اليعقوبي 2 : 184 ـ 185 .
2) نهج البلاغة : 411 الكتاب 39 .
3) الكامل في التاريخ 3 : 316 ـ 317 . وبنحوه في المنتظم 5 : 121 .
4) نهج البلاغة : 423 الكتاب 48 .

( 99 )
القتال وسفك الدماء فلم يستجب وكان جوابه لسفراء الاِمام عليّ عليه السلام : (...ليس بيني وبينكم إلاّ السيف) (1).
وكان عدد القتلى من الطرفين سبعين ألفاً (2)وقتل مع الاِمام عليّ عليه السلام خمسة وعشرون صحابياً ، منهم عمّار بن ياسر قتله أبو العادية يسار بن سبع السلمي وهو من الصحابة الذين شهدوا بيعة الرضوان (3).
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمّار رضي الله عنه : « تقتلك الفئة الباغية » (4)والفئة الباغية التي قتلت عمّار كان يقودها معاوية وعمرو بن العاص .
ما بعد صفين :
انتهت معركة صفين بالتحكيم ، وانتهى التحكيم بخديعة عمرو بن العاص لاَبي موسى الاَشعري ، فقال الاَشعري لابن العاص : (غدرت وفجرت ، إنّما مثلك كمثل الكلب) فقال له ابن العاص : (إنّما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً) (5).
وبما أنّ الحكم كان نابعاً من الهوى والابتعاد عن الهدى تبرَّء الاِمام عليّ منهما ونسب إليهما نبذ حكم القرآن ومخالفته فقال عليه السلام : « ألا إنَّ هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء
____________
1) مروج الذهب 2 : 377 .
2) مروج الذهب 2 : 352 . والمنتظم 5 : 120 .
3) الفصل في الاَهواء والملل والنحل 4 : 161 .
4) صحيح البخاري 1 : 194 . وصحيح مسلم 4 : 2235 | 70 و 72 و 73 . ومسند أحمد 2 : 16 و164 .
5) نهاية الارب 20 : 159 .

( 100 )
ظهورهما ، وأحيا ما أمات القرآن ، واتبع كل منهما هواه بغير هدى من الله ، فحكما بغير حجة بينة ولا سُنة ماضية ، واختلفا في حكمهما وكلاهما لم يرشد ، فبرىء الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين » (1).
وحول الحكمين قال عبدالله بن عمر : (انظروا إلى ما صار أمر هذه الاُمّة ، إلى رجل لا يبالي ما صنع ، وآخر ضعيفاً) (2).
ولم يكتف معاوية بالبغي على إمام زمانه وقتل في هذا البغي آلاف المسلمين وخيرة الصحابة ، بل استمر في بغيه بالاعتداء على الاَبرياء الذين يوالون الاِمام عليّ عليه السلام باعتباره الخليفة الشرعي ، وكان يبعث الغارات على المدن التابعة للدولة الاِسلامية التي يحكمها الاِمام علي عليه السلام فبعث بسر بن أرطأة ـ وهو من الصحابة ـ في ثلاثة آلاف إلى الحجاز وإلى المدينة فدخلها فخطب في الناس وهدّدهم وقال : (والله ما لكم عندي من أمان ولا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبدالله) فلما سمع الصحابي جابر ابن عبدالله انطلق إلى أُم المؤمنين أم سلمة وقال لها : (ماذا ترين ؟ انّي قد خشيت أن أُقتل ، وهذه بيعة ضلالة) ، وكان ذلك الجيش يقتل (من أبى أن يقرّ بالحكومة) (3).
ثم مضى بسر بن أرطأة إلى اليمن فقتل جماعة من أهلها ، ومنهم طفلان صغيران لعبيد الله بن العباس (4).

____________
1) تاريخ الطبري 5 : 77 . والكامل في التأريخ 3 : 338 .
2) نهاية الاَرب 20 : 159 .
3) تاريخ الطبري 5 : 139 .
4) تاريخ الطبري 5 : 140 .

( 101 )
وكثر الحديث حول دهاء معاوية فأجاب الاِمام عليّ عليه السلام قائلاً : « والله ما معاوية بأدهى منّي ، ولكنه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس... » (1)ّ .
الفواصل السلوكية في عهد معاوية بن أبي سفيان :
ثم إنّ الاِمام عليه السلام قد أوصى بالاِمامة من بعده ـ بأمرٍ من الله ورسوله ـ إلى ولده الاِمام الحسن بن علي عليهما السلام وقد بايعه أيضاً أهل الكوفة وبعض الاَمصار ، وعلى الرغم من شرعية خلافته إلاّ أنّ معاوية لم يستجب إلى بيعته وتمرّد على شرعيته وأعلن العصيان والبغي ، وحينما رأى الاِمام الحسن عليه السلام أنّه لا يستطيع إخماد التمرّد ، وأنّه لا يملك القوة اللازمة في الاستمرار في الخلافة صالح معاوية(2)واشترط الاِمام الحسن عليه السلام شروطاً على معاوية ولكنّه لم يفِ بها(3).
وكانت سياسة معاوية بعد استيلائه على السلطة المخالفة لسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد اعترض الاِمام الحسن عليه السلام على معاوية في ذلك قائلاً : « إنَّ الخلافة لمن سار بسيرة رسول الله... وليس الخلافة لمن عمل بالجور وعطّل الحدود » (4) .
وفي مجلس معاوية والحسن حاضر شتم جماعة ـ وهم من الصحابة!! ـ
____________
1) شرح نهج البلاغة 10 : 211 .
2) تاريخ اليعقوبي 2 : 215 . والكامل في التأريخ 3 : 404 . وتاريخ الخميس 2 : 290 .
3) الكامل في التأريخ 3 : 405 .
4) ربيع الاَبرار 2 : 837 .

( 102 )
الاِمام عليّاً عليه السلام وذكروه بسوء ، فأجاب الاِمام الحسن عليه السلام معاوية بالقول : «أما بعد يا معاوية ، فما هؤلاء شتموني ولكنّك شتمتني ، فحشاً ألفته ، وسوء رأي عرضت به ، وخُلقاً سيئاً ثبتَّ عليه ، وبغياً علينا ، عداوة منك لمحمد وأهله... » (1).
وأغلظ القول لعمرو بن العاص وقال له : «... فأنت عدوّ بني هاشم في الجاهلية والاِسلام... وأما ما ذكرت من أمر عثمان ، فأنت سعَّرت عليه الدّنيا ناراً... ثم حبست نفسك إلى معاوية ، وبعت دينك بدنياه... » .
وقال الاِمام الحسن عليه السلام للوليد بن عقبة : « ... فوالله ما ألومك على بغض عليٍّ ، وقد جلدك ثمانين في الخمر... وأنت الذي سمّاه الله الفاسق ، وسمّى عليّاً المؤمن » (2).
وقال عليه السلام للمغيرة بن شعبة : « ... وإنَّ حدَّ الله في الزنا لثابت عليك » (3).
وقال الاِمام الحسن عليه السلام لمروان : « لقد لعن الله أباك الحكم وأنت في صلبه على لسان نبيّه ، فقال : لعن الله الحكم وما ولد » (4).
أوامر معاوية في شتم الاِمام عليّ عليه السلام :
بعد استقرار الاَمر لمعاوية ، أمر ولاته بلعن وشتم الاِمام عليّ بن أبي
____________
1) شرح نهج البلاغة 6 : 288 .
2) شرح نهج البلاغة 6 : 292 .
3) شرح نهج البلاغة 6 : 294 . يشير الاِمام عليه السلام إلى قيام البيّنة على المغيرة بالزنا في زمن عمر ، لكنّ عمر عطّل الحد ولم يجره في حقّه ، انظر : تاريخ اليعقوبي 2 : 146 ، الاغاني 16 : 99 ، شرح نهج البلاغة 12 : 245 .
4) البداية والنهاية 8 : 259 .

( 103 )
طالب عليه السلام من على منابر المسلمين .
وأوصى معاوية المغيرة بن شعبة (لا تترك شتم علي وذمّه) ، فقال له المغيرة : (قد جَرّبتُ وجُرّبتُ ، وعملت قبلك لغيرك فلم يذممني ، وستبلو فتحمد أو تذم) ، فكان المغيرة (لا يدع شتم علي والوقوع فيه) (1).
وكان ينال في خطبته من عليّ ، وأقام خطباء ينالون منه (2).
وكان حجر بن عديّ يرد اللعن على المغيرة (3).
ونتيجة لاستمرار شتم الاِمام عليّ عليه السلام وسبّه ، كتبت أُمّ المؤمنين أُمّ سلمة إلى معاوية : (إنّكم تلعنون الله ورسوله على منابركم ، وذلك أنّكم تلعنون عليّ بن أبي طالب ومن أحبّه ، وأنا أشهدُ أنَّ الله أحبّه ورسوله) (4).
وروي أنّ قوماً من بني أُميّة قالوا لمعاوية : (... إنّك قد بلغت ما أمّلت ، فلو كففت عن لعن هذا الرجل ، فقال : لا والله حتى يربو عليه الصغير ، ويهرم عليه الكبير ، ولا يذكر له ذاكر فضلاً) (5).
كما وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على ( رواية أخبار قبيحة في الاِمام عليّ عليه السلام ، تقتضي الطعن فية والبراءة منه ، وجعل لهم على ذللك جُعلاً... منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرء بن شعبة وغيرهم .

____________
1) الكامل في التاريخ 3 : 472 .
2) سير أعلام النبلاء 3 : 31 .
3) تاريخ اليعقوبي 2 : 230 .
4) العقد الفريد 5 : 115 . وبنحوه في مسند أحمد 7 : 455 . والمعجم الكبير 23 : 323 .
5) شرح نهج البلاغة 4 : 57 .

( 104 )
وروي أنّ معاوية بذل لسمرة بن جندب: ( مائة ألف درهم حتى يروي أنّ هذه الآية نزلت في حق علي ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ) (1) فلم يقبل ، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل ، فبذل له ثلاثمائة ألف درهم فلم يقبل ، فبذل له أربعمائة ألف درهم فقبل ، وروى ذللك ) .
وقام معاوية بقتل أخيار الصحابة الموالين للاِمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام ومنهم حجر بن عدي صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2).
اعتراض الاِمام الحسين بن علي عليهما السلام على معاوية :
ارتكب معاوية أعمالاً مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، ووجد في ذلك اعتراضاً من قبل الصحابة ، ومن أعماله إدّعاؤه زياد بن سمية واستلحاقه بأبي سفيان خلافاً لسُنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (3).
واعترض الاِمام الحسين بن علي عليهما السلام على مجمل أعماله ، فقد جاء في كتابه عليه السلام إلى معاوية بعد أن وصفه وأصحابه بالقاسطين الملحدين حزب الظالمين وأولياء الشياطين : « ألست قاتل حجر بن عدي وأصحابه المصلّين العابدين ، الذين ينكرون الظلم ويستعظمون البدع... أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أبلته العبادة... أولست المدعي زياد بن سميّة.. ؟! فتركت سُنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخالفت أمره متعمدّاً، واتّبعت هواك مكذِّباً بغير هُدىً من الله.. فلا أعلم فتنة على الاُمّة
____________
1) سورة البقرة 2: 204 وما بعدها .
2) الكامل في التاريخ 3 : 473 . وتاريخ اليعقوبي 2 : 231 .
3) سير أعلام النبلاء 3 : 495 .

( 105 )
أعظم من ولايتك عليها.. وأخذك بالبيعة لابنك غلامٍ سفيه يشرب الشراب ويلعب بالكلاب ، ولا أعلمك إلاّ خسرت نفسك، وأوبقت دينك ، وأكلت أمانتك ، وغششت رعيّتك ، وتبوّأت مقعدك من النار ، فبعداً للقوم الظالمين» (1) .
ففي هذا الكتاب بيّن الاِمام الحسين عليه السلام لمعاوية خلافه لسُنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وابتعاده عن هدى الله تعالى ، وجعله في صف الظالمين ، ليتبوأ مقعده من النار .
ما جرى بين الصحابة في بيعة يزيد :
شجّع المغيرة بن شعبة معاوية على تولية يزيد العهد من بعده حينما علم أنّ معاوية سيعزله عن إمرة الكوفة ، وحينما رجع من معاوية قال : (...فوالله لقد وضعت رجل معاوية في غرز لا يخرجها منه إلاّ سفك الدماء) (2) .
وفي رواية أنّه قال : (لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أُمّة محمّد ، وفتقت عليهم فتقاً لا يُرتق أبداً) (3).
وحينما أراد مروان أن يدعو إلى بيعة يزيد ، قال له عبدالرحمن بن أبي بكر : (كذبت والله يا مروان ، وكذب معاوية ! ما الخيار أردتما لاُمّة محمد...) فقال مروان : هذا الذي أنزل الله فيه : (والذي قال لوالديه أُفٍّ لكما) فسمعت عائشة مقالته فقالت : (يا مروان... أنت القائل لعبدالرحمن
____________
1) أنساب الاَشراف 1 : 120 ـ 122 . وبنحوه في الاِمامة والسياسة 1 : 181 .
2) تاريخ اليعقوبي 2 : 220 .
3) الكامل في التاريخ 3 : 504 .

( 106 )
إنّه نزل فيه القرآن ؟ كذبت ! والله ما هو به.. ولكنّك أنت فضض من لعنة نبي الله) (1) .
ودخل معاوية على عائشة فأخبرها عن موقفه من الاِمام الحسين وعبدالرحمن بن أبي بكر وعبدالله بن الزبير فقال : (لاَقتلنّهم إن لم يبايعوا)(2) .
وهكذا استباح دم الصحابة لرفضهم بيعة ابنه يزيد .

____________
1) الكامل في التاريخ 3 : 506 ـ 507 .
2) الكامل في التاريخ 3 : 509 .