بيتٌ جديدٌ


( 44 )


( 45 )

التحقت مواكب المهاجرين بمقرّ القيادة الجديدة ، واطمأنت بها الدّار الجديدة ، ولكن لا ليميلوا إلى الدعة والخمول ، ولكن ليواجهوا مسؤوليات جدّ جسيمة ، مسؤولية بناء الدّولة ونشر المبدأ وتركيز العقيدة والدّفاع عن الرّسالة و .. و.،
وكانت فاطمة ( عليها السلام ) قد عاشت هذه الأحداث العظيمة من تأريخ الدّعوة في مراحلها ، وخاصّة هذه المرحلة الجديدة وهي على عتبة شبابها ، وقد نضجت جسميّاً وروحيّاً وفكريّاً.
وأحسّ صحابة الرّسول ( صلى الله عليه وآله ) بقيمة فاطمة لدى أبيها وعلموا أنّها بلغت مرحلة النُضج بكلّ أبعادها فتباروا لخطبتها من أبيها طلباً للشرّف ورغبة في الكرامة ، وحرصاً على التقرُّب إلى الرّسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وكان لا بد لكبّار الصحابة أن يتقدّموا لطلبها من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وفي طليعتهم أبو بكر وعمر وغيرهما ـ وكان الرسول ( صلى الله عليه وآله ) يُعرض في كلّ مرّة بوجهه عنهم بعد أن يتّصل بفاطمة ( عليها السلام ) نفسها ، فتظهر عدم رغبتها ورفضها لعرض الخطبة ، والرسول ( صلى الله عليه وآله ) حين يتّصل بالزهراء في هذه القضايا ، لا لأنّه لا يعلم من يستحق أن يكون لها كفؤاً ، ولكنّ روح الشريعة الإسلامية هي التي تفرض على الآباء أن لا يبتّوا في موضوع زواج بناتهم وأبنائهم دون الإطلاع على مدى رغبتهم أو رفضهم للفتيات إن كانوا رجالاً ، أو رغبتهنّ أو رفضهنّ فيما لو كنّ نساءً.
والرسول ( صلى الله عليه وآله ) إنّما يعكس لنا واقع الشريعة المقدسة ومعين الرّسالة الإلهية القويمة الذي يفرض ذلك ويرسمه للمجموعة الإنسانية لخلق الأسرة الصالحة المتحابة المتعانقة القلوب والعواطف لكي يخلق المجتمع الصّالح المتين المتكاتف كالبنيان المرصوص دون أن تلعب به الأهواء والمصالح المقطوعة الصّلة بالعلائق الوشيجة ، تتخلّله علائق الرّحمة والإلفة والوفاء..
أجل يدخل محمد على بضعته فيحدثها عن الخاطب لكي يؤدي واجبه نحوها ولكي ينقل رأيها ـ بأمانة ـ لخاطبها ولكي يعلّمنا دروساً لبناء الأُسرة الكريمة المتحابة.
واستمرّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) يُعرض بوجه عمّن يخطب ابنته الزّهراء ( عليها السلام ) ويردَّه بقول : « أنتظرُ فيها أمر القضاء »(1) مما جعل اليأس يستبد بأصحاب
____________
(1) ذخائر العقبى.


( 46 )

محمد ( صلى الله عليه وآله ) . فاجتمع بعضهم يوماً في مسجد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) يتذاكرون في شأن الزهراء ( عليها السلام ) ورفض محمد ( صلى الله عليه وآله ) تزويجهم بها.
وكان في طليعة المؤتمرين أبو بكر وعمر وسعد بن معاذ الأنصاري ، وبعد مداولات عديدة قرّ رأيهم على الإتصال بعليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) فيذكرون له أمر فاطمة.
وبحث هؤلاء النّفر من المسلمين عن علي ( عليه السلام ) وأخيراً وجوده ينضح ماءً لسقي نخيل لرجل من الأنصار لقاء أُجرة يتقاضاها ، وأحسّ علي ( عليه السلام ) أنّ مع القوم نبأ جديداً يحملونه إليه حيث يتساءل عمّا وراءهم.
وبعد أن حيوه يتقدم أبو بكر ( رضي الله عنه ) فيفضي بما عندهم من نبأ جديد حيث يقول : إنّ أهل الشرف والقدم في الإسلام قد قدموا على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليخطبوا بضعته فاطمة ( عليها السلام ) ، ولكنّه قد ردّهم جميعاً وأعرض عنهم ، وقد رأينا أن نلفت نظرك إلى ذلك ، فحبذا لو عرضت نفسك على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بشأن خطبتها منه(1).
ويجد علي ( عليه السلام ) هوىً في نفسه لهذا الحديث ، ويفرغ من عمله فيتجه إلى بيته لكي يرتدي ملابس أُخرى ، وفي هذه اللحظات المباركة يكون الوحي قد زار محمداً ( صلى الله عليه وآله ) قبل زيارة علي ( عليه السلام ) له يأمره بتزويج الزهراء من عليّ بقوله :
« يا محمد إن الله تعالى يقرأ عليك السلام ويقول لك إنّي قد زوجت فاطمة ابنتك من عليّ بن أبي طالب في الملأ الأعلى ، فزوّجها منه في الأرض »(2).
ويزور علي محمداً في بيته إذ كان ( صلى الله عليه وآله ) في حجرة أمّ سلمة ـ الإمرأة الصالحة ـ ويطرق عليّ الباب على الرسول ( صلى الله عليه وآله ) فيخفق قلب محمد ( صلى الله عليه وآله ) لذلك ويتهلّل فرحاً ، فيقول لأُم سلمة : « هذا رجل يحبُّه الله ورسوله ، ويحبهما ».
ولكن أُم سلمة تطلب من محمد ( صلى الله عليه وآله ) أن يعلّمها باسمه لا بصفاته فيقول لها : « هذا أخي وابن عمي ، وأحبُّ الخلق إليّ »
____________
(1) المناقب للخوارزمي.
(2) ذخائر العقبى للطبري.


( 47 )

وتعلم أُمُّ سلمة : أنه علي ( عليه السلام ) حبيب محمد ( صلى الله عليه وآله ) وموضع سرّه وأكرم الناس لديه ، وتبادر إلى فتح الباب ، فتفتحه وتعود لكي تختفي في خدرها ، وعلي ( عليه السلام ) ينتظر قليلاً حتى يتأكد من دخولها في خدرها ، فيدخل بيت أخيه محمد ( صلى الله عليه وآله ) فيحيّيه بتحيّة الإسلام ويردُّ الرسول عليه بأحسن منها ويوسع محمد ( صلى الله عليه وآله ) لزائره العزيز فيجلس بجنبه ، ولكنّ تقاسيم وجهه تحمل نبأ جديداً لمحمد ( صلى الله عليه وآله ) حيث أنّ جلوسه غير معتاد ، فالصمت يستولي عليه هذه المرة ، ويأخذ الحياء مأخذه منه ، وقد أطرق برأسه إلى الأرض فأحسّ محمد ( صلى الله عليه وآله ) أنّ وراء سلوك عليّ ـ هذا ـ حاجة لا يقوى على الإفضاء بها ،. ويخاطب محمد ( صلى الله عليه وآله ) عليّاً ( عليه السلام ) بقوله : « إني أرى أنّك أتيت لحاجة ، فقل حاجتك ، وأبدِ ما في نفسك ، وكلّ حاجة لك عندي مقضيّة »(1).
وحين يستمع علي ( عليه السلام ) لهذا الحديث ، حديث الأمل يدخل السرور قلبه ويرفع رأسه لكي يطرح عنه رداء الصمت ، فيخطب من محمد ( صلى الله عليه وآله ) ابنته مفتتحاً حديثه عن أيّام طفولته وفتوّته التي قضاها مع محمد ( صلى الله عليه وآله ) حيث أوضح له أنّه قد عاش في كنفه وتربى في بيته يوم أملق أبوه ـ أبو طالب ـ وقد ذاق طعم الحنان والعاطفة الفيّاضة بالمودّة والإخلاص ، وأنّه قد تربّى منذ نعومة أظفاره في كنفه وتحت ظلاله الوارفة ، وأخيراً هداه الله به إلى الإسلام فحمل لواءه ودافع عن بيضته ، وصارع قوى الضّلال بغية نصره وإعزازه.
واستطرد عليٌ ( عليه السلام ) فأفضى لمحمد ( صلى الله عليه وآله ) أنّه يرغب أن يكون له بيت وزوجة يسكن إليهما كما يرغب أن يخطب فاطمة منه ، ويسمع محمد ( صلى الله عليه وآله ) حديث ابن عمّه علي ( عليه السلام ) فيتهلّل وجهه فرحاً وتمتلىء نفسه سروراً ، ولكنّه لا بد أن يتّصل بفاطمة ( عليها السلام ) فيحدّثها عن خطيبها الجديد ـ كما أمر الشّرع المقدّس ـ.
فيدخل على بضعته الطاهرة ( عليها السلام ) ويقول لها : « إن عليّ بن أبي طالب ممّن قد عرفت قرابته وفضله وإسلامه » واستطرد حديثه قائلاً : « وقد ذكر من أمركِ شيئاً ، فما ترين ؟ ».
وهنا يستولي الحياء على الصّدّيقة فاطمة ( عليها السلام ) فلم تستطع أن تنطق بكلمة
____________
(1) الدمعة الساكبة.


( 48 )

واحدة ، ويطيل محمد ( صلى الله عليه وآله ) النّظر في وجهها فلم ير كراهة قد بدت فيه ، ولمّا طال سكوتها هتف الرّسول ( صلى الله عليه وآله ) من أعماق قلبه الطاهر متجهاً نحو علي ( عليه السلام ) وهو يقول : « الله أكبر ، سكوتها إقرارها ».
وقبل أن أُواصل هذا الحديث العذب عن خطبة عليّ ( عليه السلام ) للصديقة الزهراء ( عليها السلام ) أودُّ أن أُشير إلى نقطةٍ حساسة احتوى عليها حديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الزهراء ( عليها السلام ) : « إنّ عليّ بن أبي طالب ممن قد عرفت قرابته وفضله وإسلامه » فإنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) حين يستعرض صفات عليّ للزهراء ( عليها السلام ) ويتوج صفاته بالإسلام فيقول : « وإسلامه » وهذا القول إنّما صرّح به الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، لأنّ من شروط تزويج المرء إسلامه ، وهذا ما نصّت عليه الرّسالة الإسلامية في قانون الأُسرة وملابساتها كما في قول الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : « إذا جاءكم من ترضون خُلُقه ودينه ، فزوّجوه ، إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير »(1).
والرسول ( صلى الله عليه وآله ) حين يشرح لفاطمة ( عليها السلام ) صفات علي ( عليه السلام ) فليس ذلك لأنّ فاطمة تجهل صفات عليّ ، وإنّما استهدف أن يلقّن هذه الأُمّة ـ بشكل عملي وواقعيًّ ـ صورة الزّواج الطبيعي الذي رسم الإسلام حدوده ووتّد أركانه.
وعاد محمد ( صلى الله عليه وآله ) من فاطمة ( عليها السلام ) لينقل لعليّ نبأ قبولها بزواجه حيث تبسم في وجهه ، وقال : « يا أبا الحسن ، فهل معك شيء أُزوّجك به ». والرسول ( صلى الله عليه وآله ) حين يطلب إلى علي ( عليه السلام ) إحضار مهر لزواجه إنّما أراد بذلك أن يقرّر حكماً عامّاً هو الإهتمام بشؤون المرأة وتأكيد حقّها في الحياة الزوجية.
يعرض الرسول ( صلى الله عليه وآله ) على عليّ ( عليه السلام ) إحضار مهر لزواجه وسرعان ما يستجيب عليٌّ لعرض ابن عمّه ، ويكشف النقاب عمّا يمتلكه ، فقد كان في حيازته : سيفٌ ودرع وناضح ، وراح الرسول يحدّثه بشأن ملكيّته ، فقال : « أمّا سيفك فلا غنىً بك عنه ، تجاهد به في سبيل الله وتقاتل به أعداء الله ».
وهذا يعني أنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) منعه عن بيعه لما له من قيمة لا مثيل لها في إقامة صرح الإسلام الشّامخ ، ثم تداولا في شأن الناضح ، ولكنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أكّد قيمته بقوله : « وناضحك تنضح به على نخلك وأهلك وتحمل عليه رحلك في سفرك ».
____________
(1) الأُسرة المسلمة.


( 49 )

فالناضح تتصل أهمّيته برزق الأُسرة وحمل الأثقال سيّما وأنّ النّاضح بعير ، والبعير فضلاً عن أهميته في نقل الماء لسقي الزّرع فإنه يستعمل لحمل الأثقال أيّام الظّعن ، واتّجهت النيّةُ لبيع الدرع لأنّه شيء ثانوي ، بل لأنّه لا يبلغ درجة من الضرورة كما يبلغها السيف والناضح ، وكان الدّرع قد منحه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) لعليّ ( عليه السلام ) من غنائم بدر الكبرى.
وأسرع عليّ ( عليه السلام ) لبيع درعه ، فباعه بأربعمائة درهم ، وعاد بالدّراهم لمحمد ( صلى الله عليه وآله ) فقبض الرّسول قبضته منها وناولها لبلال لكي يتولّى دور اشتراء بعض الّلوازم البسيطة من عطور ونحوه ، ويتناول الرّسول مبلغاً من المال إلى أُمّ سلمة وسلمان ( وأبي بكر ) ( على قول ) ليشتروا أثاث العروسين ، ويسرع هؤلاء . وما هي إلا فترة تنقضي حتى يعودوا وهم يحملون الأثاث والجهاز الذي يعتبر أروع أثاث عرفه التاريخ الإنساني ، وليس عجيباً ولا بدعاً من الأمر أن نقول بروعته لأنّ العروسين قد واسيا في زواجهما وأثاثهما أقل الناس مالاً ، وأعلنا للبشريّة ـ بامتدادها التّاريخي ـ : إنّه ليس المهم أن يجمع الزّوجان الأثاث الفاخر والمتاع الجديد وما لذّ وطاب من الطّعام والشّراب ، وإنّما المهم أن تتعانق القلوب وتتآلف النفوس وتلتقي الأرواح وتسود المحبّة والإلفة والحنان والرّحمة وتتحقّق وحدة المصير والهدف ، فينعكس فكراً واحداً وسلوكاً واحداً وعاطفة واحدة ، وأُحضر الأثاث وكان أهم ما فيه :(1)
1ـ فراش من خيش مصر محشوّاً بالصوف.
2ـ وسادة من أدم حشوها من ليف النخيل.
3ـ عباءة خيبرية.
4ـ قربة للماء.
5ـ كيزان خزف.
6ـ جرّتان من خزف.
7ـ مطهّرة للماء.
8ـ ستر صوف رقيق.
9ـ سرير مشروط.
____________
(1) الدّمعة الساكبة.


( 50 )

10ـ حصير هجري.
11ـ مخضب من نحاس.
12ـ قعب للّبن.
13ـ قميص.
14ـ شنٌّ للماء.
15ـ منخل.
16ـ منشفة.
17ـ رحى.
18ـ قدر من نحاس.
ورجع القوم يحملون هذا المتاع البسيط ، وقد اشترك أعاظم الصحابة في حمل هذا المتاع من السّوق كبلال وعمّار بن ياسر وأبي بكر وسلمان الفارسي وغيرهم ، ويقيني : أنّ الروايات حين تختلف في ذكر من قام بشراء المتاع إنّما جاء الاختلاف نتيجة لكثرة المشتركين في جلبه من السّوق ، وأنا واثق من أنّ أُمّ سلمة هي التي تولّت مهمة ابتياعه من السّوق ، وأمّا الباقون فقد تولّوا مهمّة حمله من السّوق ، وقيام أُمّ سلمة بهذه المهمة أمر طبيعي لأنّها أعلم بحاجة الزوجة في البيت.
ولابد للرسول ـ بعد كلّ هذا ـ أن ينبىء المسلمين بخبر تزويج فاطمة من عليًّ ( عليه السلام ). ويقيني في ذلك أنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) حين يقوم بمهمة تبليغ المسلمين بهذا النبأ إنّما كان يستهدف أمرين لا ثالث لهما :
1ـ أراد أن يشرك جميع المسلمين بسرور أهل البيت ( عليهم السلام ) بمناسبة زواج عليًّ ( عليه السلام ) من فاطمة.
2ـ أراد أن يقطع خطّ الرّجعة على المنافقين الذين ينشطون في مثل هذه المناسبات ، إذ أنّ لديهم خير فرصة لبثّ البلبلة في صفوف المسلمين ، لا سيّما وأنّ فاطمة قد خطبها جلُّ الصحابة ولكنّه أعرض عنهم ، وقد زوّجها من عليّ ( عليه السلام ) ، فلابد للمنافقين أن يكرّسوا جهودهم لإثارة البلبلة علّهم يجدون ثغرة للتخريب في داخل المعسكر الإسلامي الفتّي ، ولكنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) سدّ في وجوههم كلّ ثغرة فأبلغ المسلمين جميعاً نبأ الزواج وعلّله بأنّه من أمر الله تعالى ، وقبل قيامه بهذه


( 51 )

المهمة كلّف ( بلالاً ) ليوجّه نداءً مستعجلاً من المسجد النبوي الذي كان بمثابة الإذاعة التي يسمع الناس منها بيانات الله ورسوله ، ويذيع بلال النبأ فيجتمع المسلمون في المسجد الشريف فيلقي الرّسول ( صلى الله عليه وآله ) بيانه بقوله :
« معاشر المسلمين إنّ جبريل أتاني آنفاً ، فأخبرني عن ربّي عزّ وجلّ أنّه جمع الملائكة عند البيت المعمور ، وأنّه أشهدهم جميعاً أنّه زوّج أمته فاطمة من عبده علي بن أبي طالب ، وأمرني أن أزوّجه في الأرض وأُشهدكم على ذلك ... »(1).
وبإلقاء هذا البيان أعلن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : أنّ زواج علي ( عليه السلام ) من فاطمة لم يكن بمثابة تحيّز من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعلي ( عليه السلام ) وإنّما جرى ذلك بإعلان من الله سبحانه وبأمره ، وهكذا اشترك المسلمون جميعاً بهذا النبأ السّار الذي أذاعه البشير محمد.
وبعد أن أعلن الرّسول ( صلى الله عليه وآله ) نبأ قبوله زواج عليّ من فاطمة ( عليها السلام ) جمع نفراً من صحابته ـ وبضمنهم عليٌّ ( عليه السلام ) ـ بغية تلاوة مراسيم العقد حيث قال :
« الحمد لله المحمود بنعمته ، المعبود بقدرته ، المطاع بسلطانه ، المرهوب من عذابه وسطوته ، النافذ أمره في سمائه وأرضه ، الذي خلق الخلق بقدرته ، وميّزهم بأحكامه ، وأعزّهم بدينه ، وأكرمهم بنبيّة محمد ، وإن الله ـ تبارك اسمه وتعالت عظمته ـ جعل المصاهرة سبباً لاحقاً وأمراً مفترضاً وأنتج بها الأرحام ، وانتظم بها الأنام ، وقال عزّ من قائل : « وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربُك قديراً » فأمر الله تعالى يجري إلى قضائه ، وقضاؤه يجري إلى قدره ، ولكلّ قدر أجل ، ولكلّ أجل كتاب ، يمحو الله ما يشاء ويثبت ويحكم ما يريد وعنده أُمّ الكتاب » . ثم اردف قائلاً : « إن الله أمرني أن أزوج فاطمة بعلي بن أبي طالب ابن عمي ، فاشهدوا أني قد زوجته بها » ثم خصّ عليّاً بقوله : « يا علي إن الله تبارك وتعالى أمرني أن أزوجك فاطمة ، وإنّي قد زوجتكها على اربع مائة مثقال فضة »(2) . فأجاب عليٌّ ( عليه السلام ) : « قد رضيتها يا رسول الله ، ورضيت بذلك عن الله الكريم ورسوله الكريم ». ثم إن عليّاً ( عليه السلام ) سجد لله شكراً.
وبعد أن استمع الحاضرون لهذه المراسيم ـ مراسيم العقد ـ المباركة عقّب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بقوله ـ مخاطباً عليّاً ( عليه السلام ) :
____________
(1) المناقب للخوارزمي.
(2) المناقب للخوارزمي.


( 52 )

« جمع الله شملكما ، وأعزّ جدّكما ، وأطاب نسلكما ، وجعل نسلكما مفاتيح الرّحمة ومعادن الحكمة وأمن الأُمّة ، وبارك الله لكما ، وبارك فيكما ، واسعدكما ، وأخرج منكما الكثير الطيب ».
ثم راح يؤكد قيمتهما عنده أمام الحاضرين من صحابته فقال :
« ألهم إنّهما مني وأنا منهما ، اللهم كما أذهبت عنّي الرّجس وطهرتني . فاذهب عنهما الرجس وطهرهما وطهر نسلهما... ».
وبإلقاء هذه الكلمات العذبة في هذه المناسبة الجليلة انفضّ المجتمعون والسرور يعمُّهم والفرحة تملأ نفوسهم وقلوبهم.


( 53 )
مراسيم الزواج


( 54 )


( 55 )

وبعد إعلان مراسيم العقد واصل الرسول ( صلى الله عليه وآله ) جهوده في بناء دولته المباركة لكي تواجه شتّى المؤامرات التي تحيطها من الداخل ومن الخارج ، فأخطار الداخل متمثّلة بحركة النفاق النشيطة التي تعمل داخل صفوف المعسكر القرآني ، وأخطار الخارج متمثّلة بمكائد الوثنيين واليهود وحلفائهم.
واستمر عليٌّ ( عليه السلام ) هو الآخر يواجه مسؤولياته كقائد نشيط وعضو فعّال من أعضاء كتلة الإيمان الفتيّة ، وراح يجتمع برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دون أن يجرأ على محادثته بشأن فاطمة ( عليها السلام ) نظراً لما يمتاز به من حياء يمنعه من التحدُّث أمام أخيه محمد ( صلى الله عليه وآله ) في مثل هذه القضيّة حتى مضى على مراسيم العقد قرابة شهر واحد(1).
واتّصل عقيل بن أبي طالب بأخيه علي ( عليه السلام ) فحدّثه بهذا الشأن وقد طالب بتعجيل زواجه بقوله : « فما بالك لا تسأل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يدخلها عليك فتقرّ أعيننا باجتماع شملكها... ».
وحين يسأل عقيل عليّاً : هذا السؤال ، إنّما يسأله اعتقاداً منه بأنّ عليّاً ( عليه السلام ) هو الذي كان سبباً في تأخير الزّواج عن قصد ولكنّ عليّاً ( عليه السلام ) أوضح لأخيه عقيل أنّه يرغب رغبة ملحة في الزواج إلاّ أن حياءه من محمد ( صلى الله عليه وآله ) يمنعه من التّعجيل في الزواج.
وحين استمع عقيل لهذا الحديث ـ حديث عليًّ ( عليه السلام ) الذي علّل فيه سبب تأخير زواجه ، اتّفق هو وعليٌّ أن يزورا الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في بيته ليحدّثاه بما عندهما ، ويسرع عقيل وعليٌّ إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وبيناهما في طريقهما إذ يلتقيان بأُمّ أيمن بركة بنت ثعلبة الإمرأة الصالحة ، وتسألهما عمّا وراءهما فيطلعانها على ما جاء بهما ، وتقترح عليهما أن يعودا إلى دارهما وهي بدورها ستتولّى هذه المهمّة حيث ستعرض هذا على أُمهات المؤمنين فيحدّثن ـ بدورهن ـ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ).
وفعلاً اتصلت أُمّ أيمن بأُمّ سلمة وبقية أزواج الرسول ( صلى الله عليه وآله ) فعقدن اجتماعاً في بيت عائشة ، حيث كان الرسول ( صلى الله عليه وآله ) عندها ، وتكلّمت أمُّ سلمة بلسان أُمهات المؤمنين بهذا الصدد حيث أوضحت للرّسول ( صلى الله عليه وآله ) أنّ عليّاً يرغب بالدخول على
____________
(1) المناقب للخوارزمي.


( 56 )

زوجته فاطمة ، ولكنّ حياءه منعه من مصارحتك بذلك فتعجب محمد ( صلى الله عليه وآله ) مما سمع وأمر أُمّ أيمن أن تنطلق إلى علي ( عليه السلام ) فتحضره.
وتسرع أُمُّ أيمن لتحضر عليّاً ( عليه السلام ) ويطرق الباب فتغادر اُمّهات المؤمنين حجرة عائشة لينفرد محمد ( صلى الله عليه وآله ) بعلي ( عليه السلام ) ودخل علي ( عليه السلام ) ـ الحجرة والحياء يأخذ مأخذه من نفسه ـ ويسلّم على الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ويجلس إلى جنبه مطرقاً برأسه إلى الأرض ، وافتتح الرسول ( صلى الله عليه وآله ) الحديث بقوله : « أتحب أن تدخل عليك زوجتك ؟ ».
ويجيب علي ( عليه السلام ) بالإيجاب والقبول فيردّ محمد ( صلى الله عليه وآله ) عليه : « حباً وكرامة يا أبا الحسن ».
ويأمر الرسول ( صلى الله عليه وآله ) عليّاً ( عليه السلام ) أن يتهيّأ للمهنّئين ويقيم مأدبة يدعو المسلمين لحضورها ..
وأسرع عليٌّ ( عليه السلام ) إلى بيته ، وفرشه رملاً من البطحاء ، ثم عمد إلى السُّوق فابتاع سمناً وتمراً واقطاً ؛ وسلّمه لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي أحضر بدوره سفرة من أدم كي يصنع بيديه الشريفتين حيساً ، وأمر الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بكبش فذبحت ، وهيّأت(1) نساؤه خبزاً كثيراً ، ثم أمر عليّاً ( عليه السلام ) أن يدعو من يرغب من المسلمين لحضور وليمته.
وهبّ عليٌّ ( عليه السلام ) إلى المسجد النبوي الشريف ، فرأى جمعاً غفيراً من المسلمين قد اجتمعوا فيه فاستحيى أن تكون دعوته وقفاً على قوم دون قوم ، فدعا عامّة الحاضرين لحضور وليمته ، وتوالت جموع المدعوين إلى بيت الرسالة فكانوا يدخلون على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : عشرة عشرة ليتناولوا الطعام حتى شبع جميع الحاضرين من وليمة علي ( عليه السلام ).
ثم دعا الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بصحاف ، فملئت وأرسلت إلى الهاشميات وخصّص صفحة لعلي والزهراء ( عليهما السلام ).
ومالت الشمس إلى الغروب فدعا محمد ( صلى الله عليه وآله ) أُمّ سلمة وأُمّهات المؤمنين وغيرهن من النساء المؤمنات ليزففن فاطمة ( صلى الله عليه وآله ) إلى بيتها الجديد ، وزفّت فاطمة الزهراء إلى
____________
(1) المناقب للخوارزمي.

( 57 )

بيتها وسط عاصفة من التكبير والتّهليل ، وتظاهرت جماعة من المسلمين يقدمهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خلف فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) يرفعون أصواتهم تهليلاً وتكبيراً ، وكان لابد لمثل هذه المناسبة الكريمة ـ مناسبة الزّفاف ـ من مراسيم خاصة إلى جانب التّهليل والتّكبير ـ وفعلاً استمعت النساء إلى تلك المراسيم التي كان جلُّها رجز وأناشيد ألقتها أُمّهات المؤمنين ، حيث تقدّمت أُمّ سلمة فألقت أُرجوزة بهذه المناسبة :

سرن بعـون الله جـاراتي*واشكرنه فـي كـلّ حالات
واذكرن ما أنعـم ربُّ العُلى*من كشف مكــروه وآفات
فقد هدانـا بعد كـفـر وقد*أنعشنـا ربُّ السّمــاوات
وسرن مع خير نساء الورى*تفـدى بعمـّات وخـالات
يا بنت من فضّله ذو العلـى*بالـوحـي منه والرّسالات

ثم ألقت أُرجوزتها عائشة فقالت :

يا نسـوة أشــرن بالمعاجر*واذكرن ما يحسن بالمحاضر
واذكرن ربّ النّاس إذ يخصُّنا*بدينه مع كـلّ عبد شاكـر
والحمـد لله علـى إفضالـه*والشُّكر لله العزيـز القـادر
سـرن بها فالله أعلى ذكرها*وخصّهـا منه بطهر طاهـر

ثم جاء دور حفصة وارتجزت تقول :

يــا نسوة أشرن بالمعاجز* واذكرن ما يحسن بالمحاضــر
فاطمة خير نسـاء البشـر*ومن لها وجـه كوجـه القمـر
فضّلك الله على كلّ الورى*بفضل من خص بــآي الزمر
زوّجـك الله فتـىً فاضـلاً*أعني عليّاً خير من في الحضر
فسرن جاراتـي بها فإنّهـا*كريمة بنت عظيــم الخطـر

وقد ألقت بعض المؤمنات منظومات أُخرى ابتهاجاً بهذه المناسبة الكريمة ، وكنّ يردّدن في هذه المنظومات والأراجيز بعيداً عن الفوضى والإنحلال الذي


( 58 )

اعتاد عليه عصرنا الحاضر ، فخرج عن مثله وضوابطه وعقائده.
وبعد زفاف فاطمة ( عليها السلام ) إلى بعلها علي ( عليه السلام ) جاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مهنئاً علياً ( عليه السلام ) بقوله : « بارك الله لك في ابنة رسول الله ».
ثم إنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أخذ إناء ماءٍ ، وتلا عليه شيئاً من آيات الله الكريمة تبرُّكاً بها ، وأمر علياً ( عليه السلام ) أن يشرب منه قليلاً ، وفعل مثل ذلك مع فاطمة ( عليها السلام ) ، ثم نضح منه شيئاً على رأسيهما ووجهيهما.
ثم إنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) دعا لهما بقوله :
« اللهم إنّهما أحبُّ الخلق إليّ ، أحبّهما ، فبارك في ذريتهما ، واجعل عليهما منك حافظاً ، وإنّي أُعيذهما بك وذرّيتهما من الشّيطان الرجيم ».
ثم ودّعهما وعاد إلى بيته.
وكانت تلك الليلة التي تم فيها زواج عليّ من فاطمة ( عليهما السلام ) نقطة انطلاق في حياة البيت الهاشمي المقدس ، ومرحلة جديدة من مراحل حياته ، لأنّ في زواجهما أُنشئت المدرسة المباركة مدرسة الوحي والإيمان التي ستخرج إمامة الأرض وخلفاء الأمّة بعد محمد ( صلى الله عليه وآله ) وقد آن لفاطمة أن تتولّى مسؤولياتها الجسيمة كزوجة وفيّة وأُمّ رؤوم ومدرسة للتّربية ـ التربية الإسلامية بكلّ معالمها وأُطرها التي رسمها خالق الوجود سبحانه وتعالى في كتابه الذي نزل على عبده محمد ( صلى الله عليه وآله ).
وتتحدّث أندية المسلمين عن زواج عليّ ( عليه السلام ) بفاطمة فتصفه هذه الأندية أنّه أروع زواج عرفه المسلمون حيث شارك المسلمون جميعهم بيت الرّسالة أفراحه وسروره.
فصرّحت عائشة وأُمُّ سلمة بهذا الشأن وهما تصفان هذه المناسبة الجليلة وقد جاء في حديثهما : « فما رأينا عرساً أحسن من عرس فاطمة ».
كما أنّ الصحابي الكبير جابر بن عبدالله الانصاري صرّح ـ مرّة ـ ذاكراً زواج علي ( عليه السلام ) من فاطمة قائلاً في مطلع حديثه : « حضرنا عرس عليًّ ( عليه السلام ) فما رأيت عرساً كان أحسن منه »(1) وهكذا كان زواج عليًّ ( عليه السلام ) قدوة اقتدى بها
____________
(1) فضائل الخمسة من الصّحاح الستة.

( 59 )

المسلمون حتى صارت أكثر مراسيمه سنناً تتّبع ودروباً تسلك.
وقد تم هذا الزواج المبارك وفاطمة قد أدركت التاسعة أو الثانية عشرة من عمرها ـ على قول ـ وفي حدود السنة الثانية للهجرة.