الفاجعة الكبرى




( 56 )

( 57 )


بعد خمس سنوات عاشتها زينب في كنف عائلتها الحنون ، وفي ظل أجواء المحبّة والعطف ، حيث كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يظلل بيت زينب برعايته ، ويغمر أفراد ذلك البيت بعنايته واجلاله . فلا يكاد يمر يوم لا يلتقي فيه محمد بأهل بيته ، واذا ما سافر كان بيتهم آخر محطة ينطلق منها لسفره ، واذا ما عاد كان بيتهم أول منزل يدخله .
روى الحاكم في ( المستدرك ) بسنده عن أبي ثعلبة الخشني : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) اذا رجع من غزوة أو سفر أتى المسجد فصلى فيه ركعتين ثم ثنى بفاطمة ثم يأتي أزواجه .
وبسنده عن ابن عمران : ان النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان إذا سافر كان آخر الناس عهداً به فاطمة ، واذا قدم من سفر كان أول الناس به عهداً فاطمة » (23) .
____________
(23) ( أعيان الشيعة السيد محسن الأمين ) ج 1 ، ص 307 .
( 58 )

ويقول الشيخ مغنية : وكان النبي لا يصبر عن بيته هذا ، ولا يشغله عنه شاغل ، بخاصة بعد ان نبتت فيه رياحينه ، فاذا دخله قبل هذا ، وشمّ ذاك وابتسم لتلك . . . ودخله ذات يوم فأخذ الحسن وحمله ، فأخذ علي الحسين وحمله ، فأخذت فاطمة زينب وحملتها (24) ، فإهتزت أركان البيت طرباً لجوّ الصفوة المختارة ، وابتهاج الرسول بآله وابتهاجهم به ، وتدلنا هذه الظاهرة وكثير غيرها ان محمداً كان أكثر الأنبياء غبطة وسعادة بأهل بيته » (25) .
وشاء الله ( سبحانه وتعالى ) أن يكون حظ السيدة زينب من تلك الحياة الهانئة السعيدة محدوداً بالسنوات الخمس الأولى من حياتها ، فما ان دخلت السنة الحادية عشر للهجرة ، وتصرّمت أيام شهرها الثاني شهر صفر ، الا وشمس السعادة في بيت زينب قد آذنت بالغروب ، فرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يلبّي نداء ربه ويفارق الحياة ويلتحق بالرفيق الأعلى في الثامن والعشرين من شهر صفر سنة ( 11 هـ ) .
واذا كان فقد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يشكل صدمة كبرى وفاجعة مهولة عظمى على المسلمين جميعاً فانه ولا شك أشد وقعاً وأعظم أثراً على أهل بيته الملتصقين به والمتنعمين برعايته وعطفه .
وزينب الصغيرة في السن المرهفة الأحساس الرقيقة المشاعر وجدت نفسها في مواجهة هذه الرزية الكبرى ، ورأت كيف انقلبت الأجواء في بيتها رأساً على عقب من بهجة وغبطة وسرور الى كآبة وحزن واضطراب .
لقد صحبت زينب أمها الزهراء وهي تنكّب على أبيها رسول الله عند مصارعته لسكرات الموت نادبة .
« واويلتاه لموت خاتم الأنبياء ، وامصيبتاه لممات خير الأتقياء ، ولإنقطاع سيد
____________
(24) ( بحار الأنوار ) المجلسي ج 10 ، ص 58 .
(25) ( مع بطلة كربلاء ) محمد جواد مغنية ص 22 .

( 59 )

الأصفياء ، واحسرتاه لإنقطاع الوحي من السماء ، فقد حرمت اليوم كلامك » (26) .
ورأت زينب أخويها الحسنين حينما القيا بنفسيهما على جدهما الرسول يودعانه وهما يذرفان الدموع ، فجعل يقبلهما وهما يقبلانه واراد عليّ أن ينحيهما عنه ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) :
« دعهما يتمتعان مني وأتمتع منهما فستصيبهما بعدي اثرة » (27) .
وتوالت مشاهد الألم الحسرة أمام ناظري زينب فهذه أمها الزهراء تنكب على جثمان أبيها رسول الله ( ص ) بعد وفاته تبكي أمر البكاء قائلة : « واأبتاه ، الى جبرئيل أنعاه ! واأبتاه جنة الفردوس مأواه ! واأبتاه أجاب رباً دعاه ! ! » (28) .
وتقول أيضاً : « واأبتاه وارسول الله ، وانبي الرحمتاه ، الآن لا يأتي الوحي ، الآن ينقع عنا جبرئيل ، اللهم إلحق روحي بروحه ، واشفعني بالنظر الى وجهه ، ولا تحرمني أجره وشفاعته يوم القيامة » (29) .
وهذا أبوها علي بن أبي طالب ( ع ) وهو الجبل الأشم في صموده وبطولته لكنه تذوب نفسه أمام هذه المصيبة ، فيقول : « إن الصبر لجميل الا عنك ، وإن الجزع لقبيح إلاّ عليك ، وان المصاب بك لجليل ، وإنه قبلك وبعدك لجلل » (30) .
وقال أيضاً وهو يلي غسل رسول الله ( ص ) وتجهيزه : « بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! لقد انقطع بموتك مالم ينقطع بموت غيرك من النبوة والإنباء وأخبار السماء ، خصّصت حتى صرت مسلياً عمن سواك ، وعممت حتى صار الناس
____________
(26) ( حياة الإمام الحسن ) باقر شريف القرشي ج 1 ، ص 133 .
(27) المصدر السابق ، ص 134 .
(28) المصدر السابق ، ص 136 .
(29) ( حياة الإمام الحسين ) باقر شريف القرشي ج 1 ، ص 221 .
(30) ( نهج البلاغة ) الإمام علي ، قصار الحكم ، رقم : 292 .

( 60 )

فيك سواء ، ولولا انك أمرت بالصبر ، ونهيت عن الجزع ، لأنفذنا عليك ماء الشئون ، ولكان الداء مماطلا ، والكمد محالفاً ، وقلا لك ، ولكنه ما لا يملك رده ، ولا يستطاع دفعه بأبي أنت وأمي ! اُذكرنا عند ربك ، واجعلني من بالك ! » (31) .
ويتحدث الامام جعفر الصادق ( ع ) عن مدى وقع المأساة على بيت زينب ، فيقول : « لما مات النبي ( صلى الله عليه وآله ) سقط سطران ؟ ؟ خمسة وسبعين يوماً لم تر كاشرة ولا ضاحكة تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرتين الاثنين والخميس ، فتقول : « ها هنا كان رسول الله ، وها هنا كان المشركون » .
وقال ابن شهر اشوب في ( المناقب ) روي أنها مازالت بعد أبيها معصبة الرأس ناحلة الجسم منهذة الركن باكية العين محترة القلب يُغشى عليها ساعة بعد ساعة ، وتقول لولديها : أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحمكما مرة بعد مرة ؟ أين أبوكما الذي كان أشد الناس شفقة عليكما فلا يدعكما تمشيان على الأرض ولا أراه يفتح هذا الباب أبداً ولا يحملكما على عاتقه كما لم يزل يفعل بكما .
وروي أنه لما قبض النبي ( صلى الله عليه وآله ) امتنع بلال من الأذان ، وقال : لا اُؤذن لأحد بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وإن فاطمة قالت ذات يوم :
( أشتهي أن أسمع صوت مؤذن أبي بأذان ) .
فبلغ ذلك بلالاً فأخذ في الاذان فلما قال : الله أكبر الله أكبر . ذكرت أباها وأيامه ، فلم تتمالك من البكاء ، فلما بلغ الى قوله : أشهد أن محمداً رسول
____________
(31) المصدر السابق ، الخطبة رقم : 235.
(32) ( حياة الإمام الحسين ) باقر شريف القرشي ج 1 ، ص 225.

( 61 )

الله ) .
شهقت فاطمة وسقطت لوجهها وغشي عليها ، فقال الناس لبلال : امسك فقد فارقت ابنة رسول الله الدنيا .
وظنوا أنها قد ماتت ، فلم يتم الاذان . فأفاقت فسألته اتمامه فلم يفعل ، وقال لها : يا سيدة النسوان إني أخشى عليك مما تنزلينه بنفسك اذا سمعت صوتي بالاذان .
فأعفته من ذلك .
وعن علي ( عليه السلام ) قال : غسلت النبي في قميصه فكانت فاطمة تقول : أرني القميص . فاذا شمته غشي عليها ، فلما رأيت ذلك غيبته (33) .
ورأت الزهراء ( ع ) يوماً أنس بن مالك ، فقالت : يا أنس كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على النبي التراب ؟ (34) .
ولك أن تتصور حالة السيدة زينب وهي طفلة ذات خمس سنوات من العمر لابد أنها كانت ملتصقة بأمها الزهراء ( ع ) وتعايش معها هذه الصدمة العاطفية الكبيرة .
____________
(33) ( أعيان الشيعة ) السيد محسن الأمين ج 1 ، ص 319 .
(34) ( تاريخ الاسلام ) الحافظ الذهبي « السيرة النبوية » ص 562 .

( 62 )


( 63 )

المحنة السياسية





( 64 )


( 65 )

حينما تحل بالإنسان مصيبة أو كارثة فإن من أهم العوامل التي تساعده على التحمل والصمود في مواجهتها هو توفر التعاطف والمؤاساةله من قبل ذويه وأصحابه وجيرانه وأبناء مجتمعه .
إن ما يلقاه المصاب من تعاطف انساني ومواساة اجتماعية يكون بمثابة البلسم لجراحه ، والسّلوة لنكبته ، لذلك ورد التشجيع من قبل الاسلام على مواساة المصابين ، كما يندفع الناس بفطرتهم للتعاطف مع المصابين على اختلاف أديانهم ومللهم .
وعائلة زينب التي نكبت بفقد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بدل أن يغمرها المسلمون بتعاطفهم ومواساتهم خاصة مع كثرة توصيات الرسول بذريته وأهل بيته ، بدل ذلك ألمت بهم محنة سياسية رهيبة بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مباشرة ، ضاعفت عليهم المصاب وزادت آلامهم ومأساتهم .
وتسجل كتب التاريخ والحديث الكثير من تفاصيل تلك المحنة مع اختلاف المؤرخين والمحدثين والكتاب في تفسير وقائعها ، ولسنا الآن بصدد مناقشة الآراء


( 66 )

والتفسيرات لكننا نعرض بإيجاز ما اتفق عليه المؤرخون والمحدثون عن تلك المحنة لتكتمل لنا صورة الأجواء والحياة التي مرّت بها السيدة زينب في تلك الفترة .
فهناك قضيتان مهمتان تعتبران جوهر المحنة في أعقاب وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لدى أهل بيته :
الأولى : قضية خلافة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فقد كان الامام علي يرى نفسه الأجدر بمقام الخلافة والإمامة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكان بنو هاشم وبعض الصحابة يرون ذلك ، إما لنصوص سمعوها من الرسول في حق علي وأولويته في الخلافة ، أو لأنه الأكفأ والأجدر من بين الصحابة .
لكن اجتماعاً حصل في سقيفة بني ساعدة لم يحضره علي وبنو هاشم لانشغالهم بتجهيز رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم فوجئوا بأن ذلك الاجتماع في سقيفة بني ساعدة انتهى بمبايعة أبي بكر بخلافة رسول الله ( ص ) .
ورأى الامام علي وأهل بيته فيما حصل اغتاصباً لحقهم الشرعي في الخلافة ، وانتزاعاً لدور علي بن أبي طالب ( ع ) ، ولذلك لم يقبل علي بنتائج اجتماع السقيفة وتأخّر لفترة يختلف المؤرخون في تحديدها حتى خضع وبايع أبا بكر .
يقول ابن الأثير : لما توفي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة ، فبلغ ذلك أبا بكر فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح ، فقال : ما هذا ؟
فقالوا : منّا أمير ومنكم أمير . .
فقال أبو بكر : منّا الأمراء ومنكم الوزراء . .
ثم قال أبو بكر : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر وأبا عبيدة أمين هذه الأمة . .
فقال عمر : أيكم يطيب نفساً أن يخلُف قدمين قدمهما النببي ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ . .


( 67 )

فبايعه عمر ، وبايعه الناس . .
فقالت الأنصار أو بعض الأنصار : لا نبايع الا علياً . .
قال : وتخلّف علي وبنو هاشم والزبير وطلحة عن البيعة . .
وقال الزبير : لا اُغمد سيفاً حتى يبايع علي . .
فقال عمر : خذوا سيفه واضربوا به الحجر . .
ثم أتاهم عمر فأخذهم للبيعة . .
وقيل : لما سمع علي بيعة أبي بكر خرج في قميص ما عليه ازار ولا رداء عجلاً حتى بايعه ، ثم استدعى ازاره ورداءه فتجلّله (1) .
والصحيح : ان أمير المؤمنين ما بايع الا بعد ستة أشهر ، والله أعلم . .
ويقول المؤرخ المسعودي : ولما بويع أبو بكر في يوم السقيفة وجددت البيعة له يوم الثلاثاء على العامة ، خرج علي فقال :
أفسدت علينا أمورنا ولم تستشر ، ولم ترع لنا حقاً . .
فقال أبو بكر : بلى ، ولكني خشيت الفتنة . .
وكان للمهاجرين والأنصار يوم السقيفة خطب طويل ، ومجاذبة في الامامة ، وخرج سعد بن عبادة ولم يبايع ، فصار الى الشام ، فقتل هناك في سنة خمس عشرة ، وليس كتابنا هذا موضعاً لخبر مقتله . .
ولم يبايعه ـ أبا بكر ـ أحد من بني هاشم حتى ماتت فاطمة ( رضي الله عنها ) (2) .
وقال أحمد أمين : تمت البيعة في هذا المجلس لأبي بكر التيمي القرشي ، لم
____________
(1) ( الكامل في التاريخ ) ابن الأثير ج 2 ، ص 325 .
(2) ( مروج الذهب ) المسعودي ج 2 ، ص 301 .

( 68 )

يكن علي حاضراً هذا الاجتماع لاشتغاله هو وأهل بيته في جهاز رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأخذ العدة لدفنه ، فلما بلغه خبر البيع لأبي بكر لم يرض عنها ، وتكون أمر ثالث وهو أن تكون الخلافة في بيت النبي ، وأقرب الناس اليه ( صلى الله عليه وسلم ) عمه العباس بن عبد المطلب وابن عمه علي بن أبي طالب ، ولكن العباس لم يكن من السابقين الى الاسلام ، فقد حضر غزوة بدر مع المشركين ، ولم يسلم الا آخراً ، فأولى الناس من قرابة النبي علي بن أبي طالب ، وهو من أول الناس اسلاماً ، وزوج فاطمة بنت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وجهاده وفضله وعلمه لا ينكر ، وحجة أصحاب هذا الرأي ان أقرب الناس الى النبي أولى أن يخلفوه ، وان بيت بني هاشم خير من بيت أبي بكر ، فالقرب للأولين أطوع ، وان المهاجرين احتجوا على الأنصار بأنهم قوم النبي وعشيرته فآل النبي وأقربهم اليه أولى ، كما جاء في ( نهج البلاغة ) أن علياً سأل عما حدث في سقيفة بني ساعدة ، فقال : فماذا قالت قريش ؟ .
قالوا : احتجت بأنها شجرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) . .
فقال علي : « احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة » . .
يريد أن المهاجرين احتجوا بأنهم من شجرة النبي ، فأولى بالاحتجاج من يجمعهم والنبي أنهم من ثمرة قريش ، وهم قرابته ، وسواء صح هذا القول عن علي أم لم يصح فهو تعبير صادق عما في نفسه . ودعا الى هذا الرأي علي ، وأيده بعض بني هاشم ، وأيده الزبير بن العوام ، وعطف عليه بعض الأنصار لما كان موقفهم وموقف علي سواء في ضياع الأمر من أيديهم ، ولم يبايع علي أبا بكر الا بعد لأي (3) .
هذه بعض المقتطفات مما نقله المؤرخون حول موضوع الخلافة وموقف أهل البيت منها ولا يخلو كتاب يؤرخ تلك الفترة أو ينقل الأحاديث عن الخلافة من
____________
(3) ( فجر الاسلام ) أحمد أمين ص 253 .
( 69 )

الاشارة الى هذا الموضوع . .
وما يهمنا الآن الاشارة اليه التأكيد على أن أهل البيت كانوا يعتقدون بأحقيّة علي بالخلافة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وإن ما حصل من بيعة أبي بكر كان أشبه بالانقلاب على علي . .
1 ـ قال الامام علي ( عليه السلام ) في خطبة له بعد انصرافه من صفين :
« لا يقاس بآل محمد ( صلى الله عليه وآله ) من هذه الأمة أحد ، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً : هم أساس الدين ، وعماد اليقين . اليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة ، الآن اذا رجع الحق الى أهله ، ونقل الى منتقله » (4) .
وقد أثبت هذه الخطبه الشريف الرضي في ( نهج البلاغة ) ، كما ذكرها محمد بن طلحة الشافعي في الجزء الأول من ( مطالب السؤل ) ، ونقل بعض المقاطع من هذه الفقرات الآمدي في ( غرر الحكم ) ، كما روى الطبري في ( المسترشد ) قوله ( عليه السلام ) : « لهم خصائص حق الولاية والوراثة » (5) .
وواضح من خلال هذه الكلمات تمسك علي ( عليه السلام ) في الخلافة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فمن حيث الأفضلية لا يعدل أهل البيت أحد ، كما أن كفاءات الإمرة والولاية تتوفر فيهم فقط ، ووصية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيهم وهم ورثته ، وأخيراً فإن علياً بعد أن بويع بالخلافة يرى أن الحق رجع الى أهله . . .
2 ـ وفي خطبته المعروفة بـ « الشقشقيّة » يقول ( عليه السلام ) :
« أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة ، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ، ينحدر عني السيل ، ولا يرقى اليّ الطير ، فسدلت دونها ثوباً ،
____________
(4) ( نهج البلاغة ) الإمام علي ، الخطبة رقم : 2 .
(5) ( مصادر نهج البلاغة وأسانيده ) عبد الزهرة الخطيب ج 1 ، ص 302 .

( 70 )

وطويت عنها كشحاً ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جّذاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه ، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجاً ، أرى تراثي نهبا » (1) .
وهذه الخطبة من خطبه المشهورات حتى قال المفيد ( رحمه الله ) : هي أشهر من أن ندل عليها لشهرتها وقد روتها العامة والخاصة ، وشرحوها ، وضبطوا ألفاظها من دون غمز في متنها ولا طعن في أسانيدها . فهناك أكثر من ( 17 ) مصدراً معتمداً نقل هذه الخطبة غير الشريف الرضي في ( نهج البلاغة ) ، وبعضهم قبل الشريف الرضي ، والآخرون بطرق وأسانيد غير طرقه وأسانيده (7) .
وهذه الخطبة تحكي بصراحة عن رأي الامام علي ( عليه السلام ) وموقفه من الخلافة ، فهو الأجدر بها ، والذين تولوا الخلافة يعلمون ذلك ، وقد جعلته الظروف يعدل عن المواجهة لهم ، فصبر مضطراً غير راض عمن نهبوا تراثه . .
3 ـ وقال ( عليه السلام ) في خطبة له : « فوالله مازلت مدفوعاً عن حقي ، مستأثراً عليّ منذ قبض الله نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى يوم الناس هذا » (8) .
وقد استفاضت هذه الخطبة عنه ( عليه السلام ) ورواها المؤرخون واستشهد بها اللغويون قبل الرضي وبعده كالطبري في ( تاريخه ) ، وابن سلام في ( غريب الحديث ) ، والجوهري في ( الصحاح ) ، وغيرهم (9) .
____________
(6) ( نهج البلاغة ) الإمام علي ، الخطبة رقم : 3 .
(7) ( مصادر نهج البلاغة وأسانيده ) عبد الزهراء الخطيب ج 1 ، ص 309 .
(8) ( نهج البلاغة ) الإمام علي ، الخطبة رقم : 6 .
(9) ( مصادر نهج البلاغة وأسانيده ) عبد الزهرة الخطيب ج 1 ، ص 331 .

( 71 )

4 ـ وفي خطبة أخرى يقول ( عليه السلام ) : « حتى اذا قبض الله رسوله رجع قوم على الأعقاب ، وغالتهم السبل ، واتكلوا على الولائج ، ووصلوا غير الرحم ، وهجروا السبب الذي اُمروا بمودته ، ونقلوا البناء عن رصّ أساسه ، فبنوه في غير موضعه » (10) .
وقد روى الطبري فقرات من أواخر هذه الخطبة في ( المسترشد ) ( ص 74 ) (11) .
5 ـ ومن كلام له ( عليه السلام ) لبعض أصحابه وقد سأله : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به ؟ فمما أجابه :
« أما الاستبداد علينا بهذا المقام ، ونحن الأعلون نسباً ، والأشدون بالرسول ( صلى الله عليه وآله ) نوطاً ، فانها كانت اثرة شحت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين ، والحكم لله والمعول اليه يوم القيامة » (12) .
هذه بعض النماذج من كلمات الامام علي ( عليه السلام ) وغيرها كثير مما يؤكد اعتقاد علي ( عليه السلام ) بأحقيته بالخلافة وأنها اغتصبت منه ، وقد جمع الدكتور سعيد السامرائي من ( نهج البلاغة ) ما يؤيد هذا الموقف ضمن كتابه الجميل ( حجج النهج ) وطبع سنة : ( 1987 م ) في بيروت في ( 450 صفحة ) . .
وكذلك كان رأي فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) وقد أعلنت موقفها واضحاً أمام الخليفة أبي بكر وأمام نساء المهاجرين والأنصار ففي خطبتها المشهورة في المسجد ، قالت ( عليها السلام ) :
« وإطاعتنا نظاماً للملة ، وإمامتنا أماناً للفرقة » (13) .
____________
(10) ( نهج البلاغة ) الإمام علي ، الخطبة رقم : 150 .
(11) ( مصادر نهج البلاغة وأسانيده ) عبد الزهراء الخطيب ج 2 ، ص 337 .
(12) ( نهج البلاغة ) الإمام علي ، الخطبة رقم : 163 .
(13) ( فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد ) القزويني ص 387 .

( 72 )

كما تحدثت في خطبتها بإسهاب عن تفسيرها للتطورات التي حصلت بعد وفاة أبيها وأنها انحراف ومؤامرة على حق أهل البيت كقولها ( عليها السلام ) : « فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ظهر فيكم حسكة النفاق . . . . فوسمتم غير ابلكم وأوردتم غير شربكم ، هذا والعهد قريب والكلم رحيب والجرح لما يندمل ، والرسول لما يقبر ، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين » (14) .
ودافعت عن حق علي في الخلافة امام نساء المهاجرين والأنصار اللاتي جئن لعيادتها وزيارتها ، ومما قالته لهن :
« أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوة والدلالة ، ومهبط الروح الأمين والطيبين بأمور الدنيا والدين ؟ ألا ذلك هو الخسران المبين ، وما الذي نقموا من أبي الحسن ؟ نقموا منه والله نكير سيفه ، وقلة مبالاته بحتفه ، وشدة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمره في ذات الله ( عز وجل ) » (15) .
وتشير بعض الروايات إلى أن فاطمة برفقة بعلها علي وابنيها الحسنين كانت تدور على بيوت ومجالس المهاجرين والأنصار تدعوهم الى الالتفات حول قيادة الامام علي ( عليه السلام ) ، وقد جاءت تلك الروايات في العديد من المصادر . .
يقول ابن قتيبة الدينوري المتوفي سنة ( 276 هـ ) : وخرج علي ( كرم الله وجهه ) يحمل فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على دابة ليلاً في مجالس الأنصار تسألهم النصرة ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله ، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو أن زوجك وابن عمك سبق الينا قبل أبي بكر ، ما عدلنا به . .
فيقول علي ( كرم الله وجهه ) : أفكنت أدع رسول الله ( صلى الله عليه
____________
(14) المصدر السابق ص 431 .
(15) المصدر السابق ص 525 .

( 73 )

وسلم ) في بيته لم أدفنه ، وأخرج أنازع الناس سلطانه ؟ . .
فقالت فاطمة : ما صنع أبو الحسن الا ما كان ينبغي له ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم (16) .
ولثبوت هذا الأمر وشهرته فقد عير به معاوية الامام علي ( عليه السلام ) في احدى رسائله اليه بقوله : وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلاً على حمار ، ويداك في يدي ابنيك حسن وحسين يوم بويع أبو بكر ، فلم تدع أحداً من أهل بدر والسوابق الا دعوتهم الى نفسك ، ومشيت اليهم بإمرأتك ، وأدليت اليهم بابنيك . . . (17) .
هذه اللوعة والألم الذي يعتلج في نفس علي وفاطمة حول قضية الخلافة لابد وأنه ينعكس على نفوس أبنائهما ، ويحدثنا التاريخ أن الحسن بن علي على صغر سنه حيث كان في السابعة من العمر ، انطلق الى مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فرأى أبا بكر على منبر رسول الله يخطب الناس فإلتاع ووجه اليه لاذع النقد قائلاً له :
« أنزل . . انزل عن منبر أبي ، واذهب الى منبر أبيك » ! ! .
فأجابه أبو بكر : « صدقت والله ، إنه لمنبر أبيك لا منبر أبي » (18) .
بالطبع ليس بحث مسألة الخلافة من مهمات هذا الكتاب ولكننا أردنا تسليط الأضواء على الأجواء التي عاشتها السيدة زينب ( عليها السلام ) ضمن عائلتها بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . .
القضية الثانية : مصادرة فدك : وهي « قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان ، وقيل ثلاثة » كما يقول الحموي في ( معجم البلدان ) . .
____________
(16) ( تاريخ الخلفاء « الإمامة والسياسة » ) ابن قتيبة ص 12 .
(17) ( فاطمة الزهراء من المهد الى اللحد ) القزويني ص 581 .
(18) ( حياة الإمام الحسن ) القرشي ج 1 ، ص 164 ، ونقلها عن عدة مصادر .

( 74 )

وكان يسكنها اليهود فاستسلموا بعد واقعة خيبر لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دون قتال .
ومقتضى الرواية التي يذكرها الجوهري في ( السقيفة وفدك ) أنها كانت تقدر بـ ( 100000 مائة ألف درهم ) ، ويقول الحموي عنها : وفيها عين فوارة ونخيل كثيرة . .
ولأنها لم يسبقها حرب ولا قتال فهي فيء وملك خاص لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حسب مفاد الآية الكريمة : ( ما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ) (19) .
فباتفاق المسلمين هي ملك خاص للنبي وقد وهبها وأنحلها لابنته فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، ويبدو أنها كانت تحت سلطتها كما يقول الامام علي : « بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين » (20) .
لكن الخليفة أبا بكر رأى أن يصادر فدك من فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) باعتبار أن النبي لا يورث كما ينقل هو أنه سمع ذلك من النبي ، ولم يقبل قول الزهراء أن أباها وهبها أياها كما رفض شهادة علي بذلك لفاطمة وشهادة أم أيمن الصحابية الجليلية ! ! (21) .
وقد جاء انتزاع فدك من فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) في الأيام الأولى لمصيبتها بأبيها ومواكباً لتنحية علي عن حقه الشرعي في خلافة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فأحدث ذلك أثراً كبيراً في نفس فاطمة دفعها لإعلان معارضتها للخليفة والاحتجاج عليه أمام المسلمين في خطبتها المشهورة ، كقولها :
____________
(19) سورة الحشر ، الآية ( 6 ) .
(20) ( نهج البلاغة ) الإمام علي ، الكتاب رقم : 45 .
(21) ( فاطمة الزهراء أم أبيها ) فاضل الميلاني ص 144 .

( 75 )

« وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا ! أفحكم الجاهلية يبغون ؟ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ؟ أفلا تعلمون ؟ بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية إني ابنته أيها المسلمون ! أغلب على إرثيه . . .
ياابن أبي قحافة ! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئاً فريّاً ! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول : ( وورث سليمان داود ) (22) .
وقال فيما اقتص من خبر زكريا اذ قال : ( فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب ) (23) .
وقال : ( واُولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) (24) .
وقال : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين ) (25) .
وقال : ( إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين ) (26) .
وزعمتم أن لا حظوة لي ولا أرث من أبي ! أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها ؟ أم تقولون : إن أهل ملتين لا يتوارثان ؟ أو لست أنا وأبي من أهل ملة واحدة ؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي ؟ . . .
إيها بني قيلة ! أأهضم تراث أبي ؟ وأنتم بمرأى مني ومسمع ؟ (27) .
وهكذا ظللت بيت زينب غيوم وهموم ثقيلة سلبت من عائلتها حالة السرور
____________
(22) سورة النمل ، الآية ( 16 ) .
(23) سورة مريم ، الآيات ( 5 ـ 6 ) .
(24) سورة الأنفال ، الآية ( 75 ) .
(25) سورة النساء ، الآية ( 11 ) .
(26) سورة البقرة ، الآية ( 180 ) .
(27) ( فاطمة الزهراء من المهد الى اللحد ) القزويني ص 447 .

( 76 )

والسعادة والهناء وجعلتهم يعيشون أفظع المآسي وأشد الآلام ، فقد فقدوا زعيمهم وأباهم الحنون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كما زوي عنهم حقهم السياسي في القيادة والخلافة ، واضافة الى ذلك صودرت أهم ممتلكاتهم المالية فدك ! ! .