امتداد لشخصية أبيها


عاصرت السيدة زينب اباها لخمس وثلاثين عاماً ، كانت خلالها القريبة الى قلبه والعزيزة عليه ، وكان هو الأقرب الى نفسها ، والأشد تأثيراً عليها . . لذلك تقمصت السيدة زينب شخصية أبيها علي في شجاعته واقدامه ، وفي فصاحته وبيانه ، وفي عبادته وانقطاعه الى الله وفي سائر الفضائل والخصال الكريمة التي ورثتها زينب من أبيها علي بعد أن تربت في أحضانه وتتلمذت على يديه طوال خمس وثلاثين سنة .
ففي مجال البلاغة والفصاحة يقول العلامة الشيخ جعفر النقدي بعد أن يتحدث عن بلاغة علي وبيانه . فأعلم أن هذه الفصاحة العلوية ، والبلاغة المرتضوية ، قد ورثتها هذه المخدرة الكريمة ، بشهادة العرب أهل البلاغة والفصاحة أنفسهم ، فقد تواترت الروايات عن العلماء وارباب الحديث بأسانيدهم عن حذلم بن كثير ، قال :
قدمت الكوفة في المحرم سنة احدى وستين عند منصرف علي بن الحسين من كربلاء ومعهم الأجناد ، يحيطون بهم ، وقد خرج الناس للنظر اليهم ، فلما أقبل


( 136 )

بهم على الجمال بغير وطاء ، وجعلن نساء الكوفة يبكين وينشدن فسمعت علي بن الحسين يقول بصوت ضئيل وقد أنهكته العلة ، وفي عنقه الجامعة ويده مغلولة الى عنقه : أن هؤلاء النسوة يبكين فمن قتلنا ؟ .
قال : ورأيت زينب بنت علي ولم أرَ خفرة أنطق منها كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين .
وهذا حذلم بن كثير من فصحاء العرب أخذه العجب من فصاحة زينب وبلاغتها ، وأخذته الدهشة من براعتها وشجاعتها الأدبية ، حتى أنه لم يتمكن أن يشبهها الا بأبيها سيد البلغاء والفصحاء ، فقال : كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين (37) .
وفي جانب العبادة والمناجاة والتضرع كانت تحفظ العديد من أدعية ومناجاة أبيها علي وتواظب على قرائتها ، فقد روي عنها أنها كانت تدعو بعد صلاة العشاء بدعاء أبيها علي وهو : « اللهم إني أسألك ياعالم الأمور الخفية ، ويا من الأرض بعزته مدحية ، ويا من الشمس والقمر بنور جلاله مشرقة مضيئة . . » ، الى آخر الدعاء (38) .
كما كانت تناجي ربها بمناجاة أبيها علي ، وهي قصيدة روحية تفيض خشوعاً وتضرعاً لله ( سبحانه ) مطلعها :

لك الحمد ياذا الجود والمجد والعلى * تباركت تُعطي من تشاء وتمنع (39)

وكانت تلهج أيضاً بأبيات حكمية وعظية لأبيها علي جاء فيها :

وكم لله من لطف خفي * يدق خفاه عن فهم الذكي


____________
(37) ( زينب الكبرى ) جعفر النقدي ص 48 .
(38) ( عقلية بني هاشم ) الهاشمي ص 16 .
(39) المصدر السابق ص 16 .

( 137 )

وكم يسر أتى من بعد عسر *وفرج كربة القلب الشجي
وكم أمر تساء به صباحاً *فتأتيك الـمسّرة بالعشي
اذا ضاقت بك الأحوال يوماً *فثق بالواحد الفرد العلي (40)

هكذا تتابع السيدة زينب خطى أبيها علي ، وتتقمص شخصيته وتلهج بأدعيته وكلماته .
____________
(40) المصدر السابق ص 19 .
( 138 )


( 139 )

في محنة أخيها الحسن





( 140 )


( 141 )

وبادر الناس الى مبايعة الإمام الحسن بعد شهادة أبيه علي ( عليه السلام ) لما تواتر في أوساطهم من أحاديث وروايات عن جده رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في فضله ومكانته كقوله ( صلى الله عليه وآله ) :
« من سره أن ينظر الى سيد شباب أهل الجنة فلينظر الى الحسن » (1) .
وما رواه البراء قال : رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والحسن على عاتقه يقول : « اللهم إني أحبه فأحبه » (2) .
وفي رواية عن أبي هريرة عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) انه قال للحسن : « اللهم إني أحبه فأحبه ، وأحبب من يحبه » (3) .
وعنه ( صلى الله عليه وآله ) : « الحسن والحسين ريحانتاي من الدينا » (4) .
____________
(1) ( حياة الإمام الحسن ) القرشي ج 1 ، ص 96 .
(2) ( صحيح البخاري ) ج 5 ، ص 33 .
(3) ( صحيح مسلم ) ج 2 ، ص 367 .
(4) ( حياة الإمام الحسن ) القرشي ج 1 ، ص 96 .

( 142 )

وقد بادر بعض الصحابة للإدلاء بشهاداتهم وما سمعوه عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في حق الإمام الحسن عندما خطب الإمام الحسن مؤبّناً أباه علياً ومستقبلاً البيعة من الناس كما روى زهير بن الأقمر قال :
بينما الحسن بن علي يخطب بعدما قتل علي إذ قام اليه رجل من الأزد آدم طوال ، فقال : لقد رأيت رسول الله ( صلى الله علي وآله ) واضعه في حبوته يقول « من أحبني فليحبه فليبلغ الشاهد الغائب » ولولا عزمه من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما حدثتكم (5) .
ومما دفع الناس الى مبايعة الإمام الحسن ما عرفوه من صفاته وكفاءاته التي لا يدانيه فيها أحد ، فهو أفضل الأمة بعد أبيه علي .
فهذا أنس بن مالك يقول : لم يكن أشبه برسول الله من الحسن (6) .
وتذاكر قوم من الصحابة يوماً حول من أشبه النبي من أهله ، فقال عبدالله بن الزبير ، أنا أحدثكم بأشبه أهله به وأحبهم اليه الحسن بن علي (7) .
وهذا عبدالله بن عمر وهو جالس في مسجد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بالمدينة في حلقة فمرّ الحسن بن علي ، فقال : « هذا أحب أهل الأرض الى أهل السماء » (8) .
ويقول عمرو بن اسحاق : ما تكلم أحد أحب اليّ أن لا يسكت من الحسن بن علي وما سمعت منه كلمة فحش قط (9) .
____________
(5) ( الاصابة في تمييز الصحابة ) ابن حجر ج 1 ، ص 329 .
(6) المصدر السابق ص 329 .
(7) المصدر السابق ص 329 .
(8) ( در السحابة في مناقب القرابة والصحابة ) الشوكاني ص 289 .
(9) ( أئمتنا ) علي دخيل ج 1 ، ص 167 .

( 143 )

وعن واصل بن عطاء : كان الحسن بن علي عليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك (10) .
وقال محمد بن اسحاق : ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ما بلغ الحسن كان يبسط له على باب داره ، فاذا خرج وجلس ، انقطع الطريق ، فما يمر أحد من خلق الله اجلالاً له ، فاذا علم قام ودخل بيته فمر الناس ، ولقد رأيته في طريق مكة ماشياً فما من خلق الله رآه الا نزل ومشى ، وحتى رأيت سعد بن أبي وقاص يمشي (11) .
ولأن الإمام الحسن بعد ذلك وصي أبيه أمير المؤمنين ، فلهذه العوامل جميعاً بادر الناس الى مبايعته ، فقد انبرى عبيدالله بن العباس مخاطباً الجمع الحاشد الذي اجتمع بعد مقتل الإمام علي قائلاً :
معاشر الناس هذا ابن نبيكم ـ يعني الحسن ـ ووصي إمامكم فيايعوه فهتف الناس مستجيبين قائلين : « ما أحبه الينا وأوجب حقه علينا ، وأحقه بالخلافة » (12) .
وهكذا بويع الإمام الحسن بالخلافة في الثاني والعشرين من شهر رمضان سنة (40 هـ ) ، بايعه الناس في الكوفة والبصرة والمدائن وجميع أهل العراق ، وبايعته فارس والحجازيون واليمانيون وجميع البلاد الإسلامية ، لكن معاوية بن أبي سفيان أصر على التمرد كما كان موقفه من خلافة الإمام علي ، بل وبدأ يعد العدة ويحشد الجيوش للزحف على عاصمة الخلافة الشرعية الكوفة ، ولم تنجح الجهود التي بذلها الإمام الحسن من رسائل ومبعوثين الى معاوية من ثنيه عن موقفه المتمرد الخارج على الشرعية .
____________
(10) المصدر السابق ص 168 .
(11) المصدر السابق ص 168 .
(12) ( حياة الإمام الحسن ) القرشي ج 2 ، ص 34 .

( 144 )

فصصم الإمام الحسن على مواجهة بغي معاوية ، واستنهض جمهوره وعبأهم للقتال ، بعد ما بلغته أنباء تحرك جيش معاوية باتجاه العراق وقوامه ( 60 الفاً ) ، وقيل أكثر من ذلك (13) .
لكن الظروف لم تكن في صالح الإمام الحسن ، فقد كان جيشه وجمهوره متعباً منهكاً من الحروب الثلاثة التي خاضها مع الإمام علي ، كما كان الجيش والجمهور موزّع الولاء والاتجاه للتيارات المختلفة ومنها الخوارج وأصحاب المطامع ، وبلغ تعداد جيش الإمام الحسن ( 40 الفاً ) على أرجح الروايات التاريخية (14) .
واجتهد معاوية بن أبي سفيان كثيراً لتفتيت وتخريب الجبهة الداخلية لمعسكر الإمام الحسن فبث في أوساطه العملاء الذين ينشرون الأشاعات المثبطة والتشكيكات ، كما كثف مساعيه لأغراء واستقطاب العديد من الزعماء والرؤساء والشخصيات في معسكر الإمام ، بتقديم المبالغ المالية الضخمة لهم وتطميعهم بالمناصب والمواقع .
وبالفعل فقد تخلى عن الإمام الكثير من قيادات جيشه حتى ابن عمه عبيدالله بن العباس والذي كان يقود مقدمة جيش الإمام لمواجهة معاوية ، حيث أغراه معاوية بمبلغ مليون درهم فتسلل منحازاً الى معاوية ومعه ثمانية الآف جندي من أصل اثني عشر ألفاً كان يقودهم ! ! .
كل ذلك أدى الى اضطراب جيش الإمام ، مما جرأ البعض منهم على النيل من هيبة الإمام شخصياً ومحاولة اغتياله وقد هجم جماعة من معسكر الإمام على مضاربه وسرداقه وانتهبوا أمتعته ، وتضيف بعض المصادر أنهم نزعوا بساطاً كان يجلس عليه وسلبوا رداءه ، كما خاطبه أحد الخوارج وهو الجراح بن سنان قائلاً :
أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل ! .
____________
(13) المصدر السابق ص 71 .
(14) المصدر السابق ص 80 .

( 145 )

وجرت ثلاث محاولات لأغتيال الإمام في معسكره (15) .
هذه الظروف المؤلمة الحرجة دفعت الإمام الحسن لأعادة النظر في قرار المواجهة والقتال مع معاوية ، لعدم تكافؤ المعسكرين عدداً وعدة وتماسكاً ، مما يجعل مستقبل المواجهة والحرب لصالح معاوية حتماً ، وذلك يعني الأخطار والمضاعفات الكبيرة على وضع الأمة الإسلامية ككل وخط أهل البيت ( عليهم السلام ) بشكل خاص .
لذلك قرر الإمام الحسن الأستجابة الى دعوة الصلح التي كان معاوية يلح في طرحها ، وتنازل الإمام عن الخلافة والحكم بشروط قبلها معاوية ومن أهمها العمل بكتاب الله وسنة نبيه ، وعدم الظلم والأعتداء على حقوق الناس وخاصة أهل البيت وأتباعهم ، وأن تكون الخلافة بعد معاوية للإمام الحسن أو حسب اختيار المسلمين .
وتم الصلح حوالي شهر ربيع الأول سنة ( 41 هـ ) أي بعد ستة أشهر من خلافة الإمام الحسن ( عليه السلام ) .
بالطبع كان مؤلماً للإمام الحسن ولأهل بيته وأتباعه أن يروا معاوية متسلطاً على المسلمين متحكماً في أمورهم ، وأن يلاحظوا الأنحرافات الكبيرة الخطيرة التي يقوم بها دون رادع أو مانع ، لكن ماذا يصنع الإمام الحسن وقد خانته الظروف ولم تخلص له الأمة ؟ .
وانفعل العديد من المخلصين من أتباع الإمام لما حدث ، ووجهوا للإمام الحسن عتابهم الحاد الجارح على قرار الصلح ، لكن الإمام بقلبه الواسع وحلمه الكبير كان يعذرهم على انفعالهم ، ويوضح لهم حقيقة الموقف وأبعاده .
وبعد الصلح بقي الإمام في الكوفة أياماً وهو مكلوم القلب قد طافت به الهموم والالام ، يتلقى من شيعته مرارة الكلام ، وقسوة النقد ، ويتلقى من معاوية
____________
(15) المصدر السابق ص 106 .
( 146 )

وحزبه الاستهانة بمركزه الرفيع ، وهو مع ذلك صابر محتسب ، قد كظم غيظه ، وأوكل الى الله أمره ، وقد عزم على مغادرة العراق ، والشخوص الى مدينة جده (16) .
وطلب منه بعض أهل الكوفة البقاء عندهم ، لكنه لم يستجب لهم وكان يوم سفره مشهوداً في الكوفة حيث خرج الناس بمختلف طبقاتهم الى توديعه ، وهم ما بين باك وآسف .
ولم تكن العقيلة زينب بعيدة عن تلك الأحداث القاسية ، بل كانت الى جانب أخيها الحسن تشاطره معاناته ، وتعيش معه آلام الأمة المنكوبة . . وقد غادرت الكوفة مع أخيها الى مدينة جدها ومسقط رأسها بعد أن قضت في الكوفة حوالي خمس سنوات مليئة بالحوادث والآلام ، ومن أشدها وأفجعها فقد أبيها علي .
وفي المدينة واصلت السيدة زينب تحمل مسؤليتها في الهداية والأرشاد وبث المعارف الوعي ، كما كانت تشارك أخاها الإمام الحسن مواجة اساءات الحكم الأموي وانحرافاته ، حيث لم يلتزم معاوية بأي شرط من شروط الصلح ، وصار يحكم المسلمين حسب رغباته وشهواته بعيداً عن تعاليم كتاب الله وسنة رسوله ، كما كان يوجه سهام بغيه وحقده صوب أهل البيت ( عليهم السلام ) وشيعتهم ، فسن شتم الإمام علي على المنابر ، وقتل خيار أتباعه ، وضيق على شيعته ، وصار يخطط لتنصيب ولده يزيد خليفة وحاكماً على الأمة من بعده .
بالطبع كان وجود الإمام الحسن يقلق معاوية ، ويعرقل بعض مخططاته الفاسدة ، لذلك فكر في تصفية الإمام الحسن والقضاء على حياته ، فأغرى زوجته جعدة بنت الأشعث بمائة ألف درهم ، ووعدها بأن يزوجها ولده يزيداً إن هي دست السم للإمام الحسن وقضت على حياته .
واستجابت جعدة لتلك الأغراءات وألقت السم الفتاك الذي بعثه اليها معاوية في طعام الإمام الحسن ، فتقطعت بذلك كبده وامعاؤه واستعد لمفارقة الحياة .
____________
(16) المصدر السابق ص 285 .
( 147 )

ورأته أخته زينب وهو في فراش الموت ، فانفطر قلبها لمأساة أخيها وتجددت عليها المصائب والأحزان .
ومما زاد في آلام السيدة زينب وأحزانها ما تعرضت له جنازة أخيها من إساءة وهوان ، حيث كان الإمام الحسن قد أوصى بأن يدفن عند قبر جده رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أولاً أقل أن يمر به على قبر جده ليجدد به عهداً ، لكن الحزب الأموي اعترض جنازة الإمام وأثاروا السيدة عائشة لتتبنى مواجهة الهاشميين ومنعهم من الأقتراب بجنازة الإمام الحسن عند قبر جده بحجة أنه يقع في بيتها وأنها لا تسمح لهم بذلك ‍ ! ! .
وهكذا رافقت الظلامة والمأساة الإمام الحسن حتى بعد وفاته ، ومنعوا اقتراب جنازته من قبر جده رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو سبطه الحبيب وولده العزيز ! .
كل ذلك ضاعف من أحزان السيدة زينب والهاشميين لذلك ورد في التاريخ أن نساء بني هاشم وفي طليعتهن السيدة زينب استمرين في النياحة على الإمام الحسن ( عليه السلام ) شهراً كاملاً ، وأظهرن الحداد ، ولبسن السواد سنة كاملة (17) .
____________
(17) المصدر السباق ص 502 .
( 148 )


( 149 )

بطلة كربلاء





( 150 )


( 151 )

يبدو أن كل ما سبق في حياة السيدة زينب كان بمثابة اعداد وتهيئة للدور الأكبر الذي ينتظرها في هذه الحياة .
فالسنوات الخمس الأولى من عمرها والتي عايشت فيها جدها المصطفى ( صلى الله عليه وآله ) وهو يقود معارك الجهاد لتثبيت أركان الإسلام ويتحمل هو وعائلته ظروف العناء والخطر .
والأشهر الثلاثة التي رافقت خلالها أمها الزهراء بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ورأت أمها تدافع عن مقام الخلافة الشرعي ، وتطالب بحقها المصادر ، وتعترض على ما حصل بعد الرسول من تطورات ، وتصارع الحسرات والآلام التي أصابتها .
والفترة الحساسة الخطيرة التي عاصرت فيها حكم أبيها علي وخلافته وما حدث فيها من مشاكل وحروب .
ثم مواكبتها لمحنة أخيها الحسن وما تجرع فيها من غصص وآلام كل تلك المعايشة للأحداث والمعاصرة للتطورات . . كان لإعداد السيدة زينب لتؤدي امتحانها الصعب ودورها الخطير في ثورة أخيها الحسين بكربلاء .


( 152 )

وما كان للسيدة زينب أن تنجح في أداء ذلك الأمتحان ، وممارسة ذلك الدور لو لم تكن تمتلك ذلك الرصيد الضخم من تجارب المقاومة والمعاناة ، ولو لم يتوفر لها ذلك الارث الكبير من البصيرة والوعي .
وواقعة كربلاء تعتبر من أهم الأحداث التي عصفت بالأمة الإسلامية بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
ففي واقعة كربلاء تجلى تيار الردة الى الجاهلية والأنقلاب على الأعقاب ووصل الى قمته وذروته من خلال المعسكر الأموي . . كما تجسد وتبلور خط الرسالة والقيم الالهية في الموقف الحسيني العظيم .
وواقعة كربلاء شرعت للأمة مقاومة الظلم والطغيان ، وشقت طريق الثورة والنضال أمام الطامحين للعدالة والحرية .
وكان للسيدة زينب دور أساسي رئيسي في هذه الثورة العظيمة .
فهي الشخصية الثانية على مسرح الثورة بعد شخصية أخيها الإمام الحسين ( عليه السلام ) .
ومن يقرأ أحداث كربلاء ويقلب صفحات كتابها ، يرى السيدة زينب الى جانب الحسين في اغلب الفصول والمواقف ، بل انها قادت مسيرة الثورة بعد استشهاد الإمام الحسين وأكملت حلقاتها .
ولولا كربلاء لما بلغت شخصية السيدة زينب هذه القمة من السمو والتألق والخلود . . ولولا السيدة زينب لما حققت كربلاء أهدافها ومعطياتها وآثارها في واقع الأمة والتاريخ .
لقد أظهرت كربلاء جوهر شخصية السيدة زينب ، وكشفت عن عظيم كفاءاتها وملكاتها القيادية ، كما أوضحت السيدة زينب للعالم حقيقة ثورة كربلاء ، وأبعاد حوادثها .
وحقاً انها بطلة كربلاء وشريكة الحسين .



( 153 )

سطور من كتاب الثورة


قبل أن نتحدث عن دور السيدة زينب في ثورة كربلاء ، لابد من قرائة بعض سطور كتاب الثورة الحسينية ، لتوضيح خلفيات ذلك الدور الزينبي .

طبيعة الحكم الأموي
في شهر ( جمادي الأول ـ سنة 41 هـ ) وبعد صلح الإمام الحسن تم لمعاوية ما كان يريده ويسعى اليه ، فقد أصبح هو الخليفة والحاكم على الأمة الإسلامية جمعاء .
ودخلت الأمة في نفق الحكم الأموي ، حيث لم تعد مبادئ الإسلام وأنظمته هي المرجع والمقياس ، وإنما هي ارادة الحاكم يعمل كيف يشاء وما يشاء ، وحتى لا تزاحمه أي ارادة اخرى ولا يجرأ أحد على معارضته فقد بدأ في تنفيذ مخطط لتصفية كل رجالات المسلمين الأحرار الشرفاء وكان من ضحايا ذلك المخطط .
الإمام الحسن بن علي حيث دسّ اليه السم ، وحجر بن عدي الصحابي الجليل ، وعبد الرحمن بن حسان العنزي ، وصيفي بن فسيل الشيباني ، وقبيصة بن ربيعة ، وشريك بن شداد الحضرمي ، وكدام بن حيان العنزي ، ومحرز بن شهاب التميمي ، والصحابي العالم رشيد الهجري والصحابي العظيم


( 154 )

عمرو بن الحمق الخزاعي ، واوفى بن حصن ، وجويرية بن مسهر العبدي ، وعبدالله بن يحيى الحضرمي (1) ، وغيرهم من شخصيات الأمة وأفاضلها المخلصين .
كما عمل الحكم الأموي على تعبئة أجواء الرأي العام ضد أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وسن سب الإمام علي بن أبي طالب على المنابر وفي خطب الجمعة ، وفرض ذلك على جميع عماله وولاته ومن أبى منهم عزله ، وبقي ذلك سنّة الى عهد عمر بن عبد العزيز حيث أمر بإلغائه حين تولى الخلافة سنة ( 99 هـ ) أي أن سب الإمام علي استمر أكثر من نصف قرن من سنة ( 41 الى سنة 99 هـ ) .
وازدادت الضغوط القمعية على أهل البيت وشيعتهم من قبل الحكم الأموي ، فقد رفع معاوية مذكرة الى جميع عماله وولاته جاء فيها :
أنظروا الى من قامت عليه البينة انه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان واسقطوا عطاءه ورزقه .
ثم شفع ذلك بنسخة أخرى جاء فيها : ومن أتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره .
وتحدث الإمام الباقر عما جرى على أهل البيت وشيعتهم من الأضطهاد والأذى في زمن معاوية ، فقال : « وقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة ، وكان من يذكر بحبنا والإنقطاع الينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره » (2) .
اضافة الى اظهار الفساد والمخالفة للدين ، كتعطيل الحدود وممارسة الخلاعة والمجون ، واستلحاق معاوية لزياد بن أبيه ، والجرأة الصريحة على مخالفة الأحكام الشرعية من قبل معاوية حتى في العبادات كالأذان في صلاة العيد والخطبة قبل
____________
(1) ( حياة الإمام الحسن ) القرشي ج 2 ، ص 358 ، الى 385 . راجع تراجم المذكورين وكيفية قتلهم .
(2) المصدر السابق ص 356 .

( 155 )

صلاة العيد ، وأخذ الزكاة من الأعطية ، والتطيب في الاحرام واستعمال أواني الذهب والفضة ، ولبس الحرير .
وقد ساءت أوضاع الناس الاقتصادية لأن معاوية كان يستأثر هو ومن حوله بأموال المسلمين ويضعون عليهم مختلف الضرائب ، وكان معاوية يرى لنفسه الحق في التصرف كما يشاء في ثروات الأمة بينما يتضور الفقراء والمستضعفون جوعاً وحرماناً ، وينقل عنه قوله .
الأرض لله وأنا خليفة الله فما أخذت من مال الله فهو لي وما تركته كان جائزاً لي (3) .
وذكر ابن حجر أنه جاء بسند رجاله ثقات : إن معاوية خطب يوم جمعة فقال : إنما المال مالنا ، والفيء فيئنا فمن شئنا أعطيناه ، ومن شئنا منعناه (4) .
وفي ( ربيع الأبرار ) قال : خطب معاوية فقال :
إن الله ( تعالى ) يقول : ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ) (5) فعلام تلومنني اذا قصرت في إعطائكم (6) .
كما سلط معاوية على الأمة ولاة جفاة قساة نشروا الرعب والبطش ، وحكموا الناس بالأرهاب والقمع مثل سمرة بن جندب والذي استعمله زياد على البصرة نائباً عنه فأسرف في قتل الأبرياء وازهاق الأنفس بغير حق ، فقد حدث محمد بن سليم وقال :
سألت أنس بن سيرين : هل كان سمرة قتل أحداً ؟ .
فاندفع أنس بحرارة والتأثر بادياً عليه قائلاً : وهل يحصى من قتل سمرة بن
____________
(3) ( النصائح الكافية لمن يتولى معاوية ) محمد بن عقيل ص 131 ـ 134 .
(4) ( النصائح الكافية لمن يتولى معاوية ) محمد بن عقيل ص 131 ـ 134 .
(5) سورة الحجر ، الآية ( 21 ) .
(6) ( النصائح الكافية لمن يتولى معاوية ) محمد بن عقيل ص 131 ـ 134 .

( 156 )

جندب ؟ استخلفه زياد على البصرة وأتى الكوفة فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس .
فقال له زياد : هل تخاف أن تكون قد قتلت أحداً بريئاً ؟ .
فأجابه سمرة : لو قتلت اليهم مثلهم ما خشيت (7) .
ومن ولاة معاوية الظالمين : بسر بن أرطاة ، والذي وجهه الى اليمن ففعل فيها الأفاعيل المنكرة التي لم يشهد التاريخ نظيراً لها في فظاعتها وقسوتها ، وذكر الرواة أن بسر بن أرطاة قتل ثلاثين ألفاً من المسلمين عدا من أحرقهم بالنار (8) .
ومن أخطر ولاة معاوية وأكثرهم جوراً وظلماً زياد بن أبيه وقد ولاه معاوية البصرة والكوفة وسجستان وفارس والسند والهند .
هكذا عاشت الأمة الإسلامية في ظل الحكم الأموي ، وبمراجعة بسيطة لكتب التاريخ يرى الأنسان صور الظلم الفظيعة البشعة التي سجلها الأمويون في تاريخ حكمهم الأسود .

يزيد بن معاوية حاكماً

واستكمالاً لمشروع الردة الى الجاهلية ختم معاوية بن أبي سفيان حياته باستخلاف ولده يزيد على الأمة ، ليبدأ بذلك عهد الملك العضوض والحكم الوراثي العائلي ، خلافاً لما أقره الإسلام وتعود عليه المسلمون .
ولم تكن لدى يزيد أدنى مؤهلات الحكم والخلافة ، فقد كان كلفاً بالصيد لاهياً به ، وكان يلبس كلاب الصيد الأساور من الذهب والجلال المنسوجة منه ، ويهب لكل كلب عبداً يخدمه (9) ، كما كان ولعاً بالقرود وله قرد يجعله بين يديه ويكنيه
____________
(7) ( حياة الإمام الحسن ) القرشي ج 2 ، 194 .
(8) المصدر السابق ص 199 .
(9) المصدر السابق ص 181 .

( 157 )

بأبي قيس ، ويسقيه فضل كأسه (10) كما كان مدمناً على شرب الخمر (11) .
يقول الحسن البصري ضمن تعداده لموبقات معاوية :
واستخلاف ابنه بعده سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب الطنابير (12) .
وقد اعترض كبار الصحابة على معاوية حينما أراد مبايعة ولده يزيد بولاية العهد ، وعقد مجلساً في المدينة المنورة ضم نخبة من أفاضل الصحابة ليخبرهم برغبته في تعيين ولده يزيد ولياً لعهده ، فانبرى له عبدالله بن جعفر بن أبي طالب زوج السيدة زينب قائلاً بعد حمد الله والثناء عليه :
« أما بعد : فإن هذه الخلافة إن أخذ فيها بالقرآن فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإن اُخذ فيها بسنة رسول الله فأولوا رسول الله ، وإن أخذ فيها بسنة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل الرسول ؟ وأيم الله لو ولوه بعد نبيهم لوضعوا الأمر موضعه لحقه وصدقه ، ولاُطيع الرحمن ، وعُصي الشيطان ، وما اختلف في الأمة سيفان ، فاتق الله يا معاوية فانك قد صرت راعياً ونحن رعية فانظر لرعيتك فانك مسؤول عنها غداً » (13) .
واندفع عبدالله بن عمر فقال بعد حمد الله والصلاة على نبيه :
« أما بعد : فإن هذه الخلافة ليست بهرقلية ولا قيصرية ، ولا كسروية ، يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فوالله ما أدخلني مع الستة من أصحاب الشورى ، الا أن الخلافة ليست شرطاً مشروطاً ، وإنما هي في قريش خاصة لمن كان لها أهلاً ممن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ممن كان أتقى وأرضى » (14) .
____________
(10) المصدر السابق ص 182 .
(11) المصدر السابق ص 183 .
(12) المصدر السابق ص 184 .
(13) ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 2 ، ص 205 .
(14) المصدر السابق ص 207 .

( 158 )

وبنفس المضمون تكلم عبدالله بن عباس ، وعبدالله بن الزبير ، الا أن معارضة هؤلاء الصحابة وغيرهم من أعيان الأمة لم تؤثر في عزم معاوية على فرض ولده حاكماً من بعده ، بل شهر سلاح التهديد أمام المعارضين ، وقال ناطق بإسم معاوية في حضوره وهو يزيد بن المقفع : أمير المؤمنين هذا ـ وأشار الى معاوية ـ فان هلك فهذا ـ وأشار الى يزيد ـ ومن أبى فهذا ـ واشار الى السيف ـ (15) .
ومات معاوية في شهر رجب سنة : ( 60 هـ ) وأصبح ولده يزيد خليفة وحاكماً على المسلمين .

الحسين يرفض البيعة :
وكتب يزيد الى الوالي الأموي على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان يطلب اليه أخذ البيعة قسراً من كبار الصحابة وفي مقدمتهم الإمام الحسين ( عليه السلام ) .
وفي منتصف الليل استدعي الإمام الحسين الى مجلس الوليد ، وطلب منه البيعة الى يزيد ، فأجاب الإمام : « إن مثلي لا يبايع سراً ، ولا يجتزي بها مني سراً ، فاذا خرجت الى الناس ودعوتهم للبيعة ، دعوتنا معهم كان الأمر واحداً » .
وقبل الوليد كلام الإمام الحسين لكن مروان بن الحكم والذي كان جالساً الى جانب الوليد رفض ما قاله الإمام وطالب الوليد بإجبار الحسين على البيعة فوراً ! ! .
ورداً على هذا التهديد أعلن الإمام الحسين موقفه الرافض لبيعة يزيد قائلاً : « أيها الأمير إنا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومحل الرحمة ، بنا فتح الله ، وبنا ختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب خمر ، قاتل النفس المحرمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون أينا أحقّ بالخلافة والبيعة » (16) .
____________
(15) المصدر السابق ص 203 .
(16) المصدر السابق ص 255 .