الحسين يغادر الى مكة :
وغادر الإمام الحسين المدينة المنورة في ( 28 ـ رجب ـ 60 هـ ) متجهاً الى مكة المكرمة بعد أن عهد الى أخيه محمد بن الحنفية بوصية أبان فيها هدف خروجه وتحركه حيث جاء فيها : « إني لم أخرج أشراً ، ولا بطراً ، ولا مفسداً ، ولا ظالماً ، وإنما خرجت لطلب الأصلاح في أمة جدي ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب ، فمن قبلني بقبول الحق ، فالله أولى بالحق ، ومن رد عليّ أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين » (17) .
ووصل مكة المكرمة في الثالث من شهر شعبان ، وبدأ يعلن موقفه هناك ، ويوضح رأيه في الحكم الأموي لجموع المسلمين الذين يؤمون البيت الحرام حجاجاً ومعتمرين .
كما بعث الإمام برسائله الى زعماء العراق والكوفة والبصرة يخبرهم بموقفه الرافض لحكم يزيد ويستحثهم على تأييده ونصرته .

استجابة الكوفة
أجواء الكوفة كانت مهيأة للثورة على الحكم الأموي ، لذلك تفاعل الكوفيون مع موقف الإمام الحسين ، وبعثوا له الوفود ، وكتبوا له آلاف الرسائل يعلنون بيعتهم له واستعدادهم لنصرته .
ويقول المؤرخون : انه اجتمع عنده في نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب ، ووردت اليه قائمة فيها مائة وأربعون ألف اسم يعربون عن نصرتهم له حال ما يصل الكوفة ، كما ورد عليه في يوم واحد ستمائة كتاب (18) .
فبعث اليهم الإمام الحسين ابن عمه مسلم بن عقيل ، ليرى حقيقة الأوضاع
____________
(17) المصدر السابق ص 264 .
(18) المصدر السابق ص 335 .

( 160 )

في الكوفة ، وليأخذ منهم البيعة للإمام ، وليهيء الأمور لمقدم الإمام ( عليه السلام ) .
وغادر مسلم مكة المكرمة ليلة النصف من شهر رمضان المبارك ليصل الكوفة في الخامس من شهر شوال حيث استقبلة أهلها بالبهجة والترحيب ، وبادرت جماهيرها لمبايعته كممثل وسفير للإمام الحسين ، فكتب للإمام يبشره باستجابة الناس لبيعته ويستحثه على الأسراع في القدوم للكوفة .
الا أن الحكم الأموي والذي أرعبه تمرد الكوفة على سلطته بادر الى عزل والي الكوفة « النعمان بن بشير » لضعفه في مواجهة التمرد ، وعين يزيد بن معاوية بدلاً منه عبيدالله بن زياد وهو معروف بقسوته وغلظة .
وبعد أن استلم ابن زياد ولاية الكوفة خطط بمكر ودهاء ، واستخدم أشد أساليب القمع والأرهاب للقضاء على التمرد الموالي للإمام الحسين ، وكانت النتيجة إلقاء القبض على سفير الحسين مسلم بن عقيل واعدامه في الثاني من ذي الحجة الحرام ، مع زعماء آخرين ، واعتقال مجموعة كبيرة من شخصيات الكوفة وزعمائها ، واعلان حالة الطوارئ القصوى .

الى العراق :
كتب مسلم بن عقيل الى الإمام الحسين يخبره عن استجابة أهل الكوفة لطاعته وتشوقهم لقدومه ـ طبعاً قبل التطورات اللاحقة ـ فعزم الإمام الحسين على مغادرة مكة باتجاه العراق ، لأنه لا يريد أن تكون مكة ساحة لتفجير الثورة والصدام مع الحكم الأموي ، حفاظاً على قداسة الحرم وأمنه ، ولأن جمهور العراق أكثر تهيأ للثورة حسب رسائلهم وتجاوبهم مع سفير الحسين اليهم .
وقد استفاد الإمام من فترة وجوده في مكة المكرمة للأتصال بجموع المسلمين القادمين للحج والعمرة .
وغادر مكة في اليوم الثاني من شهر ذي الحجة ( سنة 60 هـ ) وكان توقيت المغادرة مثيراً لجموع الحجيج والمسلمين حيث كانوا يتأهبون لأداء مناسك الحج ،


( 161 )

فلماذا يحرمون من الحج مع الإمام ؟ ! .
وقد رافق الإمام في سفره عدد كبير من أهل بيته رجالاً ونساءً وجماعة من أنصاره وأتباعه ، وفي احدى مراحل الطريق وصلت الى الإمام الحسين أنباء التطورات الخطيرة في الكوفة وسيطرة الأمويين عليها ، ومقتل سفيره مسلم بن عقيل ، ورغم تألمه لما حدث الا أنه صمم على الأستمرار في حركته ومسيرته .
وحينما علمت السلطة الأموية باتجاه الحسين الى العراق ، بعثت بعض الفرق والمفارز العسكرية لتمنع الإمام الحسين من دخول الكوفة .
وبعدما تجاوزت قافلة الإمام الحسين موقعاً يقال له « شراف » واجهتهم فرقة عسكرية من الجيش الأموي تضم زهاء ألف فارس بقيادة الحر بن يزيد الرياحي ، وكان جنود الفرقة يعانون من الظمأ الشديد في حر الصحراء اللاهب ، فأنقذهم الإمام من الموت المحتم وبذل لهم ما يحتاجون من الماء ثم بدأ يحاورهم موضحاً لهم أسباب قدومه الى العراق ، لكنهم أصروا على أن يستسلم لهم ليقدموا به على ابن زياد والي الأمويين على الكوفة ، كما لم يسمحوا له بالرجوع من حيث أتى ، وحصل الاتفاق أن تسير قافلة الإمام الحسين في طريق لا يدخله الكوفه كما يريدون هم ، ولا يرجعه الى الحجاز كما يريده الإمام .

في كربلاء :
ووصلت الى قائد الفرقة الأموية رسالة من عبيدالله بن زياد ، تأمره بإبقاء الحسين في فيافي الصحراء ، وعدم اجباره على الدخول الى الكوفة ، خلافاً لقراره السابق ، ولعله فكر في أن دخول الحسين الى الكوفة قد يؤدي الى تطورات غير محسوبة ، فمواجهته في الصحراء وبعيداً عن الجمهور أفضل .
وعلى إثر الأمر الجديد أرادت الفرقة العسكرية أن تعرقل سير الإمام وتمنعه بينما كان الإمام يريد مواصلة السير ، ومع المشادة وتوتر الأجواء وصلوا الى منطقة على شاطئ الفرات ، وسأل الإمام عن اسم تلك المنطقة ، فأجيب انها كربلاء ، فأمر بالنزول فيها ، فهي الأرض التي اختارها الله لتكون مسرح ثورته ، وميدان


( 162 )

شهادته ، وموضع قبره .
وإذا كانت كربلاء في الجغرافيا مجرد بقعة محدودة من الأرض .
وإذا كانت في التاريخ قد سجلت باعتبارها مسرحاً لأهم حدث ديني سياسي في الأمة الإسلامية بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وإذا كانت قد أصبحت قبلة للمؤمنين يؤمونها ويقصدونها بقلوبهم وعواطفهم وأبدانهم .
وإذا كانت كربلاء قد أضحت وتراً حزيناً تعزف عليه قرائح الشعراء والأدباء وملحمة بطولية يستلهم منها الثوار والمصلحون .
فانها عند أهل البيت ( عليهم السلام ) أعمق من كل ذلك وأكبر .
فليست هناك قضية أو حادثة نالت من الأهتمام والتركيز لدى أهل البيت ما نالته قضية كربلاء .
فقبل وقوع الحادثة كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يتحدث عنها ويشرح بعض تفاصيلها ويبين أهميتها وابعادها . . وكذلك الإمام علي والسيدة الزهراء والإمام الحسن . . وبعد الحادثة كان أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) يجددون ذكراها ويحيون وقائعها ويأمرون الناس بتخليدها وتعظيمها .
روي أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أعطى أم سلمة تراباً من تربة الحسين حمله اليه جبرئيل ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأم سلمة :
اذا صار هذا التراب دماً فقد قتل الحسين .
فحفظت أم سلمة ذلك التراب في قارورة عندها ، فلما قتل الحسين صار التراب دماً ، فأعلمت الناس بقتله أيضاً (19) .
وأخرج ابن سعد عن أم سلمة أيضاً قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه
____________
(19) ( الكامل في التاريخ ) ابن الأثير ج 4 ، ص 93 .
( 163 )

وآله ) : « أخبرني جبريل أن الحسين يقتل بأرض العراق ، فقلت لجبريل : أرني تربة الأرض التي يقتل فيها ، فجاء فهذه تربتها » (20) .
وأخرج ابن سعد أيضاً والطبراني في ( الكبير ) عن عائشة عنه ( صلى الله عليه وآله ) انه قال : « أخبرني جبريل ان ابني الحسين يقتل بعدي بارض الطف ، وجاءني بهذه التربة وأخبرني ان فيها مضجعه » (21) .
وأخرج البغوي ، وابن السكن ، والباوردي ، وابن مندة ، وابن عساكر ، والطبراني في ( الكبير ) باسناد رجاله ثقات عن أم سلمة :
« ان ابني هذا ـ يعني الحسين ـ يقتل بارض من أرض العراق يقال لها كربلاء فمن شهد ذلك منكم فلينصره » (22) .
وأخرج أحمد ، وابو يعلى ، والبزاز ، والطبراني في الكبير ( الكيبر ) باسناد رجاله ثقات ، عن نجي الحضرمي انه سار مع علي ، وكان صاحب مطهرته ، فلما حاذى نينوى ، وهو منطلق الى صفين ، فنادى عليّ : أصبر أبا عبدالله ، اصبر عبدالله بشط الفرات .
قلت : وما ذاك ؟ .
قال : دخلت على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذات يوم واذا عيناه تذرفان ، قلت : يا نبي الله أأغضبك أحد ؟ ما شأن عينيك تفيضان ؟ .
قال : بل قام من عندي جبريل فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات ، قال : فهل لك أن أشممك من تربته ؟ قلت : نعم ! فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني ان فاضتا (23) .
____________
(20) ( درّ السحابة في مناقب القرابة والصحابة ) محمد بن علي الشوكاني ص 294 .
(21) المصدر السابق .
(22) المصدر السابق .
(23) المصدر السابق ص 297 .

( 164 )

وفي ( تذكرة الخواص ) ( ص 260 ) أنه لما قيل للحسين هذه أرض كربلاء أخذ ترابها فشمه : وقال : والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله أنني أقتل فيها .
وجاء في ( حياة الحيوان ) للدميري ( ج 1 ص 60 ) ان الحسين سأل عن اسم المكان : فقيل له : كربلاء .
فقال : ذات كرب وبلاء ، لقد مر أبي بهذا المكان عند مسيره الى صفين وأنا معه ، فوقف وسأل عنه فأخبروه بإسمه ، فقال : هاهنا محط رحالهم ، وهاهنا مهراق دمائهم ! . . فسئل عن ذلك ؟ فقال : نفر من آل محمد ينزلون هاهنا . . ثم أمر بأثقاله فحطّت في ذلك المكان .
وكذلك جاء في ( مختصر صفة الصفوة ) (24) .
وكان وصول الإمام الحسين الى كربلاء في اليوم الثاني من شهر المحرم ( سنة 61 هـ ) .

عاشوراء :
زحفت القوات العسكرية الأموية لتحاصر الحسين وأصحابه في كربلاء ، واختلف المؤرخون في عدد أفراد القوات الزاحفة نحو كربلاء ، ولعل القول الأقرب والأصح هو ثلاثون ألف مقاتل (25) ، بينما كان عدد أفراد معسكر الحسين لا يزيد على ثمانين رجلاً .
بينما فرضت السلطات الحصار على الكوفة وحالة الطوارئ في داخلها حتى لا يتسلل منها أحد للالتحاق بالإمام الحسين .
وكانت قيادة الجيش الأموي بعهدة عمر بن سعد .
وتحدّث الإمام الحسين للجيش الأموي الزاحف لقتاله مراراً ، ليعرفهم بنفسه
____________
(24) ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ، ص 91 .
(25) المصدر السابق ص 122 .

( 165 )

وليشرح لهم مبررات وأهداف موقفه المعارض للسطلة الأموية ، وليوضح لهم سوء الواقع المعاش في ظل الأمويين ، ومسؤولية الثورة والرفض لظلمهم وطغيانهم .
لكن خطابات الإمام لم تؤثر الا في عدد قليل محدود من أفراد الجيش كالحر بن يزيد الرياحي قائد الفرقة العسكرية التي واجهت الإمام في الطريق ، فقد تأثر بموقف الإمام وخطاباته وتمرد على معسكره والتحق بمعسكر الإمام الحسين .
وتشديداً للحصار على الإمام الحسين وأصحابه فقد احتل الجيش الأموي شاطيء الفرات ومنعوا الحسين وأصحابه وعياله من الوصول الى الماء ، منذ اليوم السابع من المحرم .
وفي صبيحة اليوم العاشر من المحرم بدأ الجيش الأموي هجومه على معسكر الإمام الحسين فتبادر أصحاب الإمام ورجالات أسرته الهاشمية للدفاع عن وجود الإمام وعياله وعن أنفسهم ، وسطروا من خلال معركة دفاعهم المقدس ملحمة خالدة من البطولة والفداء لم يعرف التاريخ لها نظيراً ، وبعد ظهر اليوم العاشر من المحرم كان جميع الأصحاب والأنصار قد عانقوا الشهادة ، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه ، بينما بقي الإمام الحسين يواجه القوم بمفرده وخلفه نساؤه وعياله قد أقضهم العطش والظمأ ، وآلمهم الحزن والمصاب ، وأصبحوا ينتظرون مستقبلاً مأساوياً بعد فقد رجالاتهم وحماتهم .
وتصدى الإمام لمواجهة القوم وقتالهم ، غير آبه بكثرة جموعهم ، ولا نالت المصائب والآلام من عزيمته وشجاعته ، حتى أذن الله له بلقائه ، فوقع صريعاً شهيداً على بوغاء كربلاء ، مضمخاً بدمائه الشريفة ، شاهداً على انحراف الأمة عن رسالة جده ، راسماً لأجيال البشرية طريق الثورة والنضال دفاعاً عن المبدأ والكرامة .
ولم يكتف الجيش الأموي الظالم بقتل الإمام وأصاحبه جميعاً بل قتلوا حتى الأطفال الرضع كعبدالله الرضيع ابن الإمام الحسين وهو دون العام من عمره حيث ذبحوه على صدر أبيه الحسين ، ولم يسلم من رجالات معسكر الحسين الا ولده علي بن الحسين زين العابدين لأنه كان عليلاً مريضاً .


( 166 )

وأجهزوا على الجثث الطاهرة للإمام الحسين واصحابه يحتزون رؤوسهم ثم وطأوا جسد الإمام بخيولهم ، وأغاروا على خيم نساء الحسين وأطفاله ، واحرقوها بالنار ، وسلبوا ما فيها من متاع ، وما على النساء والأطفال من حلي وحلل ! ! .
لقد ارتكب الجيش الأموي الباغي في كربلاء جرائم فظيعة ، لا يصح ارتكابها حتى مع الأعداء الكافرين ، فضلاً عن عترة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
لذلك اصبحت كربلاء تمثل أفظع مأساة في تاريخ البشر ، وفي ذات الوقت فهي أروع ملحمة في سجل البطولة والفداء والصمود .

قافلة السبايا :
وفي اليوم الحادي عشر من المحرم قام الجيش الأموي بمواراة جثث قتلاهم ، بينما تركوا الأجساد الطاهرة للإمام الحسين وأصحابه على صعيد كربلاء تسفي عليهم الرياح دون مواراة .
وساروا بنساء الحسين وأطفاله سبايا كأسارى الى الكوفة تتقدمهم رؤوس الحسين وأصحابه معلقة على رؤوس الرماح .
وكان عدد السبايا عشرين امرأة عدا الصبية ، وقد سيروهن على الجمال بغير وطاء (26) وساقوهن بكل عنف وشدة .
وأدخلوا السبايا الى الكوفة في اليوم الثاني عشر وسط مظاهر الفرح والبهجة بانتصار الظالمين على أهل البيت .
وبعد أن بقيت السبايا أياماً في الكوفة يعانين الإذلال والآلام سيروهن الى الشام مع رؤوس الشهداء ، فكانت رحلة مضنية مرهقة لتلك النساء المفجوعات ، والصبايا اليتيمات . . ولقين في الشام ضروب الشماتة والأهانة ، وخاصة في مجلس الطاغية يزيد بن معاوية .
ومع أن دمشق كانت عاصمة الأمويين ، وأجواؤها كانت معبأة ضد أهل
____________
(26) المصدر السابق ص 321 .
( 167 )

البيت ( عليهم السلام ) ، الا أن مأساة السبايا ، وأخبار كربلاء ، وخطابات الإمام زين العابدين والسيدة زينب وأم كثلوم ، كل ذلك ترك أثراً في جمهور الشام ، وخلف تياراً من الإنكار والرفض لسياسات يزيد بن معاوية ، وخوفاً من تنامي ذلك التيار أمر يزيد بإعادة السبايا الى المدينة المنورة حسب طلبهم .
وهكذا عادت قافلة السبايا الى المدينة تشكو الى رسول الله ما اصابهم من ظلم وضيم واضطهاد لا شبيه له في التاريخ .
وبعد قراءة هذه السطور المتقضية السريعة من كتاب الثورة الحسينية الذي لم تستوف الأجيال قراءته ، يمكننا الآن التحدث عن دور السيدة زينب ( عليها السلام ) في تلك الثورة العظيمة .


( 168 )


( 169 )

الدور المنتظر


قضية كربلاء بأحداثها المروعة لم تكن مفاجئة للسيدة زينب ، ودورها في تلك الواقعة لم يكن عفوياً ولا من وحي الصدفة . فقد كانت مهيأة نفسياً وذهنياً لتلك الواقعة ، وكانت تعلم منذ طفولتها الباكرة بأن تلك الحادثة ستقع وأنها ستلعب فيها دوراً رئيسياً بارزاً .
صحيح أن أحداث كربلاء قبل وقوعها كانت في رحم الغيب ولا يعلم الغيب الا الله ، ولكن من الصحيح أيضاً أن الله ( تعالى ) قد كشف لنبيه الأعظم أستار الغيب ، وأظهره عليه ، يقول تعالى : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول ) (27) .
وثابت عند المسلمين أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد أخبر أصحابه بالعديد من المغيبات ، وأنبأهم بأنها ستقع ، وأدركوا وقوعها بالفعل ، وذلك مما لا نقاش في ثبوته بين المسلمين .
ومن المغيبات التي تحدث عنها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) واقعة كربلاء كما أشارت الى ذلك العديد من المصادر الموثوقة عند المسلمين من كتب الحديث .
____________
(27) سورة الجن ، الآيات ( 26 ـ 27 ) .
( 170 )
وأهل البيت المعنيون بتلك الواقعة كانوا في طليعة من أحاطهم الرسول بها علماً كما تؤكد ذلك مختلف المصادر الحديثية والتاريخية .
فطبيعي إذاً أن تكون السيدة زينب في أجواء تلك النبوءة ، وعلى معرفة بالخطوط العامة للحادثة ، بل وببعض تفاصيلها وجزئياتها .
وقد صرحت العقيلة زينب بمعرفتها المسبقة بواقعة كربلاء في الحديث الذي نقله الشيخ الأقدم أبو القاسم جعفر بن محمد بن جعفر بن موسى بن قولوية القمي ( المتوفى سنة : 367 هـ أو 368 هـ ) في كتابه ( كامل الزيارة ) وهو كتاب اعتمد كبار العلماء على رواياته وأسانيده .
والحديث مروي بسند متصل الى الإمام زين العابدين علي بن الحسين ( عليه السلام ) قال :
« إنه لما أصابنا بالطف ما أصابنا ، وقتل أبي ( عليه السلام ) ، وقتل من كان معه من ولده واخوته وساير أهله ، وحملت حرمه ونساؤه على الأقتاب يراد بنا الكوفة ، فجعلت أنظر اليهم صرعى ، ولم يواروا ، فيعظم ذلك في صدري ، ويشتد لما ارى منهم قلقي ، فكادت نفسي تخرج ، وتبينت ذلك مني عمتي زينب بنت علي الكبرى ، فقالت : ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي واخوتي ؟ .
فقلت : وكيف لا أجزع ولا أهلع ، وقد ارى سيدي وأخوتي وعمومتي ، وولد عمي وأهلي مصرعين بدمائهم مرملين بالعراء ، مسلبين لا يكفنون ولا يوارون ، ولا يعرج عليهم أحد ، ولا يقربهم بشر ، وكأنهم أهل بيت من الديلم والخزر ؟ .
فقالت : لا يجزعنك ما ترى : فوالله ان ذلك لعهد من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الى جدك وابيك وعمك . . ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض ، وهم معرفون في أهل السماوات ، إنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها ، وهذه الجسوم المضرجة ، وينصبون لهذا الطف


( 171 )

علماً لقبر أبيك سيد الشهداء ، لا يدرس أثره ، ولا يصفو رسمه ، على كرور الليالي والأيام ، وليجتهدن أئمة الكفر ، أشياع الضلالة ، في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره الا ظهوراً ، وأمره الا علواً .
فقلت : وما هذا العهد وما هذا الخبر ؟ .
فقالت : حدثتني أم أيمن ـ مولاة رسول الله ـ أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) زار منزل فاطمة في يوم من الأيام . وتستمر السيدة زينب في حديثها الطويل لابن أخيها زين العابدين نقلاً عن أم أيمن وهي تعدد ما يجري على أهل البيت من حوادث بعد رسول الله ( ص ) حسب ما أخبر به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومن بين تلك الحوادث واقعة كربلاء .
ثم تعقب السيدة زينب على ما نقلته عن أم أيمن بقولها :
« فلما ضرب ابن ملجم ( لعنه الله ) أبي ( عليه السلام ) ورأيت أثر الموت منه .
قلت : يا أبة حدثتني أم أيمن بكذا وكذا ، وقد أحببت أن أسمعه منك .
فقال : يا بنية الحديث كما حدثتك أم أيمن وكأني بك وببنات أهلك سبايا بهذا البلد ـ أي الكوفة ـ اذلاء خاشعين » (28) .
____________
(28) ( بحار الأنوار ) المجلسي ج 28 ، ص 55 ـ 60 .
( 172 )


( 173 )

المبادرة والأختيار


قد يجد الأنسان نفسه في معمعة معركة لم يكن مختاراً للدخول فيها ، وقد يصبح متورطاً في مشكلة فرضت عليه دون قصد منه .
ويحصل هذا غالباً بالنسبة للمرأة فبحكم تبعيتها للرجل أباً كان أو زوجاً أو ولداً ، قد تجد نفسها محشورة في معركته دون سابق وعي أو اختيار من قبلها .
فهل كان حضور السيدة زينب ودورها في ثورة كربلاء شيئاً من هذا القبيل ؟ .
بقرائة واعية لدور السيدة زينب ولمواقفها وكلماتها خلال أحداث الواقعة يتجلى للباحث أن السيدة زينب قد اختارت دورها في هذه الثورة العظيمة بوعي سابق وادراك عميق ، وانها كانت المبادرة للمشاركة كما احتفظت بزمام المبادرة في مختلف المواقع والوقائع الثورية .
ويحدثنا التاريخ أن السيدة زينب هي التي قررت وأرادت الخروج مع أخيها الحسين في ثورته ، مع أنها من الناحية الدينية والاجتماعية في عهدة زوجها عبدالله بن جعفر والذي كان مكفوف البصر ، كما كانت ربة منزلها والقائمة بشؤون ابنائها ، وكل ذلك كان يمنع التحاقها بركب أخيها الحسين . . لكنها قررت تجاوز


( 174 )

كل تلك العوائق واستأذنت زوجها في الخروج مع أخيها ، فاذن لها بذلك بل وأمر ولديه عون ومحمد بالإلتحاق بقافلة الثورة .
ولأن سفر الإمام الحسين كان محفوفاً بالمخاطر فقد اقترح عليه شيوخ بني هاشم أن لا يصطحب معه أحداً من النساء والعيال ، ولكن السيدة زينب كانت بالمرصاد لمثل هذه المقترحات التي تحول بينها وبين المشاركة في المسيرة المقدسة .
فهذا عبدالله بن عباس وبعد أن عجز عن اقناع الإمام الحسين بالعودة عن قرار الخروج الى الثورة يناقشه في حمل النساء والعيال معه قائلاً :
إن كنت سائراً فلا تسر بنسائك وصبيتك ، فإني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون اليه (29) .
ومحمد بن الحنفية اخو الإمام الحسين طرح على الإمام نفس التساؤل بعدما أخبره الإمام الحسين بعزمه على الخروج قائلاً : « أتاني رسول الله وقال لي : يا حسين أخرج فإن الله شاء أن يراك قتيلاً .
فتساءل محمد بن الحنفية : فما معنى حمل هؤلاء النسوة والأطفال وأنت خارج على مثل هذا الحال ؟ .
وكان جواب الإمام على تساؤل هؤلاء المشفقين على مستقبل نسائه وعائلته أشد اثارة وغرابة حيث قال ( عليه السلام ) : « قد شاء الله أن يراهن سبايا » (30) .
ويروي الشيخ النقدي أن السيدة زينب اعترضت على نصحية ابن عباس للإمام بأن لا يحمل معه النساء : فسمع ابن عباس بكاءاً من ورائه وقائلة تقول : يابن عباس تشير على شيخنا وسيدنا أن يخلفنا هاهنا ويمضي وحده ؟ لا والله بل نحيا معه ونموت معه ، وهل أبقى الزمان لنا غيره ؟ فالتفت ابن عباس واذا المتكلمة هي زينب (31) .
____________
(29) ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ، ص 27 .
(30) المصدر السابق ص 32 .
(31) ( زينب الكبرى ) النقدي ص 94 .

( 175 )

وكما أن أصل اشتراكها في الثورة كان بقرارها الواعي ، فإن أغلب مواقفها في ميادين الثورة كانت تنبثق من مبادراتها الوثابة الشجاعة ، فيه التي تهرع نحو أخيها الحسين حينما تدلهم المصائب والخطوب لتشاركه المواجهة .
وهي في يوم عاشوراء تتحدى الآلام والظروف العصيبة لتمارس دورها البطولي العظيم ، مع أن بعض ما أصابها يكفيها عذراً للانشغال بأحزانها والإبتعاد عن ساحة المعركة .
ثم وما الذي دفعها للخطابة أمام جمهور الكوفة ؟ .
ومن كان يتوقع من مثلها خطابها الناري في مجلس يزيد بن معاوية ؟ لقد كانت ظروف السبي والأسر ، وطبيعة الخفارة والخدر لدى السيدة زينب ، وأجواء الشماتة والعداء المحيطة بها في الكوفة والشام . . لقد كان كل ذلك أو بعض ذلك يكفي دافعاً نحو الانكفاء على الذات ومعالجة الهموم والحزن . . لكن العقيلة زينب تسامت على كل ذلك ، وامتلكت زمام المبادرة مسيطرة على كل ما حولها من ظروف وأوضاع .
ولأنها كانت مختارة ومبادرة عن سابق وعي وتصميم ، فانها كانت تنظر الى ما واجهته من آلام ومآس قاسية تتصدع لهولها الجبال الرواسي ، تنظر اليها بايجابية واطمئنان ، وتعتبرها ابتلاءاً وامتحاناً إليها لابد لها من النجاج فيه .
بل انها وفي أشد المواقف وافظعها تضرع الى الله شاكرة حامدة آلاء نعمه ، معلنة تقبلها لقضاء الله ، واستعدادها لتحمل الأكثر من ذلك في سبيله .
فحينما حدثت الفاجعة الكبرى بمقتل أخيها الحسين بعد قتل كل رجالات بيتها وأنصارهم خرجت السيدة زينب تعدو نحو ساحة المعركة تبحث عن جسد أخيها الحسين غير عابئة بصفوف الجيش الأموي المدجج بالسلاح ، فلما وقفت على جثمان أخيها العزيز الذي مزقته السيوف ، جعلت تطيل النظر اليه ثم رفعت بصرها نحو السماء وهي تدعو بحرارة ولهفة : « اللهم تقبل منا هذا القربان » (32) .
____________
(32) ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ، ص 304 .
( 176 )

إن ذروة الماساة وقمة المصبية هو مورد للتقرب الى الله ( تعالى ) عند السيدة زينب . . وذلك هو قمة الوعي وأعلى مستويات الأرادة الأختيار .
وحينما يسألها عبدالله بن زياد أمير الكوفة وواجهة السلطة الأموية في مجلسه سؤال الشامت المغرور بالنصر الزائف قائلاً : كيف رأيت فعل الله بأخيك ؟ .
فانها تجيبه فوراً ومن أعماق قلبها بجرأة وصمود قائلة : « ما رأيت إلا جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يا ابن مرجانة » (33) .
وتختم خطابها في مجلس يزيد بن معاوية بتأكيد رؤيتها الأيجابية لما حصل لها ولأهل بيتها من مصائب وآلام حيث تقول : « والحمد لله رب العالمين ، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلافة إنه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل » (34) .
فزينب لم تكن مستدرجة ، ولم تجد نفسها متورطة في معركة فرضت عليها بل اقتحمت ساحة الثورة بملء ارادتها وكامل اختيارها ، وهنا تتجلى عظمة السيدة زينب .
____________
(33) المصدر السابق ص 344 .
(34) المصدر السابق ص 380 .

( 177 )

سلاح المظلومية


في المعركة بين الحق والباطل يستخدم كل من طرفي الصراع جيمع ما يتاح له من أسلحة وما بحوزته من امكانيات ليقضي على خصمه أو ليوقع به أكبر قدر ممكن من الخسائر .
واذا كانت الأسلحة المادية المستخدمة في القتال على أرض المعركة متشابهة كالسيوف والرماح ، فإن الأسلحة المعنوية ووسائل الأستقطاب للمؤيّدين وأساليب التّأثير والتّعامل مع الناس ، تكون متفاوتة مختلفة بين الطرفين ، نتيجة لاختلافهما في الأهداف الدافعة والقيم الحاكمة .
حيث تسعى كل جبهة لتعبئة أفرادها ورفع معنوياتهم ، كما تجتهد في استقطاب الجمهور والتأثير في الرأي العام لصالح موقفها .
ولتحقيق ذلك تستخدم جبهة الباطل أساليب الأغراء والمكر والخداع ، لأثارة الأهواء والرغبات في نفوس أتباعها ، فتمنيهم بالأموال والمناصب والأمتيازات ، وتغريهم بانتصاراتها الزائفة وقوتها الزائلة بينما تشهر جبهة الحق سلاح الصدق والخلاص ، وتستثير في نفوس أتباعها قيم الحق والعدل وروح التضحية والفداء .


( 178 )

ومن أمضى أسلحة جبهة الحق التي تجلت في ثورة الإمام الحسين ( عليه السلام ) هو سلاح المظلومية ، بإبراز عدوانية الطرف الآخر وبشاعة جرائمه ، واظهار عمق المأساة وشدة الآلام والمصائب التي تحملها معسكر الإمام الحسين .
والمظلومية تستصرخ ضمائر الناس وتوقظ وجدانهم ، وتدفعهم الى الوقوف الى جانب أهل الحق المظلومين ، كما تستثير نقمتهم وغضبهم ضد المعتدين الظالمين .
والمظلومية تعبىء الأتباع المناصرين وتدفعهم للألتفاف أكثر حول معسكرهم وقضيتهم ، كما تؤثر في نفوس الجمهور ليتعاطف ويؤيد المظلومين ضد الظالمين ، بل وتمتد آثارها حتى الى معسكر العدو لتحرك فيه ضمائر بعض جنوده المخدوعين ، فيتمردون على معسكرهم الظالم ويلتحقون بصفوف الثوار المخلصين وأكثر من ذلك فإن تأثير المظلومية يتخطى الأزمنة والأعصار ليحشد أجيال البشرية على مر التاريخ الى جانب معسكر الحق .
وقد تحقق كل ذلك وبأروع صورة في واقعة كربلاء فبينما كانت السلطة الأموية تستعرض قوتها العسكرية أمام الناس لترهبهم حتى يقفوا الى جانبها وتمارس عليهم أشد ضغوط القمع .
وبينما كان الوالي الأموي على الكوفة عبيدالله بن زياد يغدق الأموال والرشوات على الزعماء والوجهاء ، ويزيد في عطاء الجنود ، ويعد القيادات كعمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وشبث بن ربعي بالمناصب والولايات .
في مقابل كل ذلك كان الإمام الحسين وأصحابه يبشرون بالقيم السامية ويخاطبون الضمائر الحرة ، ويبصرون الناس بواقعهم ومسؤلياتهم ، ويلفتون الأنظار الى جرائم السلطة الظالمة ، وعدوانيتها وجورها الذي تجاوز كل الحدود .
وكان سلاح المظلومية مؤثراً جداً ، فكلما شاهد اصحاب الحسين ما يصيب امامهم وعيالاته من الآلام والمصائب ، استماتوا أكثر في الدفاع والتضحية والفداء ، وازدادوا قناعة ويقيناً بعدالة قضيتهم .
ويحدثنا التاريخ كيف أن أفراداً بل قيادات من الجيش الأموي قد تأثرت


( 179 )

لمظلومية الإمام الحسين وغيرت موقفها وتحولت الى جانب المعسكر الحسيني . . كالحر بن يزيد الرياحي وكان من قادة الجيش الأموي ومن اشجع أبطالهم ، وهو الذي قاد أول فرقة عسكرية حاصرت الإمام في الطريق ـ كما سبق ـ .
هذا الرجل حركت مظلومية الإمام وجدانه ومشاعره وأيقظت ضميره ، فألوى بعنان فرسه صوب الإمام وهو مطرق برأسه الى الأرض حياءاً وندماً ، فلما دنا من الإمام رفع صوته قائلاً :
« اللهم اليك أنيب فقد ارعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيك يا أبا عبدالله إني تائب فهل لي من توبة ؟ » .
ونزل عن فرسه ، فوقف قبال الإمام ودموعه تتبلور على وجهه ، وجعل يخاطب الإمام ويتوسل اليه بقوله :
« جعلني الله فداك يابن رسول الله أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وجعجعت بك في هذا المكان . والله الذي لا اله الا هو ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبداً ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة ابداً » .
لقد هزه وأثاره ما بلغه القوم من الإمام ، يعني ما أصاب الإمام منهم من المآسي والآلام .
ولم يكن الحر وحده قد تأثر بمظلومية الإمام بل ان حوالي ثلاثين فارساً آخر من الجيش الأموي قد اتخذوا ذات الموقف والتحقوا بمعسكر الإمام (35) .
أما انعكاس مظلومية الإمام الحسين وأصحابه وعيالاته على جماهير الأمة آنذاك فهذا ما تحدثناعنه الانتفاضات والثورات التي انطلقت في مختلف أرجاء الأمة كرد فعل على مقتل الإمام الحسين بتلك الصورة الفظيعة ، كثورة التوابين والتي كان شعارها : « يا لثارات الحسين » وثورة المختار الثقفي ، وثورة أهل المدينة .
ولا تزال مظلومية الإمام الحسين حية مؤثرة في القلوب والنفوس على مر
____________
(35) المصدر السابق ص 196 ـ 198 .
( 180 )

العصور والأجيال الى يومنا هذا والى أن يرث الله الأرض ومن عليها . .
وأبرع وأكثر من شهر سلاح المظلومية واستخدمه في واقعة كربلاء هي السيدة زينب . . حيث كانت تسلط الأضواء وتلفت الأنظار الى مواقع الظلامة ، وقامت بدور تأجيج العواطف والهاب المشاعر أثناء الواقعة ، وبعد الواقعة في الكوفة والشام وحينما عادت الى المدينة ، بل كرست باقي أيام حياتها للقيام بهذا الدور العظيم . .
إن المواقف العاطفية الوجدانية التي قامت بها السيدة زينب حيث كانت تبكي وتتألم وتنعي وتندب وتستغيث وتستصرخ لم تكن مجرد ردود أفعال عاطفية على ما واجهته من مآسي وآلام ، بل كانت تلك المواقف فوق ذلك سلاحاً مشرعاً تصوبه نحو الظلم والعدوان ، وتدافع به عن معسكر الحق الرسالة . .
ولنقف الآن بعض العينات والنماذج من تلك المواقف الزينبية :

ترى الإمام ينعى نفسه :
الحسين في نظر السيدة زينب ليس مجرد أخ عزيز ، ومكانته في نفسها لا تتحدد في كونه الإمام القائد والمفترض الطاعة فقط ، بل فوق ذلك كله انه يجسد ويمثل شخصية جدها رسول الله ، وأبيها الإمام علي ، وأمها فاطمة الزهراء ، وأخيها الإمام الحسن ، انه البقية والامتداد للبيت النبوي العظيم . .
لذلك حينما رأته ينعى بنفسه وينتظر الشهادة أدركت مدى الخسارة التي تحل بها وبالوجود عند فقده . .
فقد رأت الحسين ليلة العاشر من المحرم ، وهو يعالج سيفه ويصلحه في خيمته ويقول :

يا دهر أفٍ لك من خليل*كم لك بالاشراق والأصيل
من صاحب وطالب قتيل *والـدهر لا يقنع بـالبديل
وانما الأمر الـى الجليل*وكل حـي سالك سـبيل