في مواجهة ابن زياد


امعاناً منه اذلال سبايا أهل البيت ، استجابة لأحقاده الكامنة ضد آل الرسول ، ولاستعراض القوة ، وتمكين الرعب في قلوب الناس . . فقد عقد في قصره ومجلس حكمه مهرجاناً ضخماً أحضر فيه رجالات جيشه وقادة عسكره وزعماء الكوفة الملتفين حوله ، وأمر باحضار رأس الحسين بين يديه ، وادخال السبايا عليه .
وجلس ابن زياد على أريكة حكمه الجائر منتشياً بانتصاره الزائف ، وبيده عصاة يعبث بها في رأس الحسين ، وينكث بين شفتيه .
فلما رآه يزيد بن ارقم لا ينجم عن نكته بالقضيب ، قال له :
اعل بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين ، فوالذي لا آله غيره ، لقد رأيت شفتي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على هاتين الشفتين يقبلهما ! ! ثم انفضخ الشيخ يبكي ، فقال له ابن زياد :
أبكى الله عينيك فوالله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك ! ! .
قال : فنهض فخرج ، فلما خرج سمعت الناس يقولون : والله لقد قال


( 224 )

زيد بن أرقم قولاً لو سمعه ابن زياد لقتله ! .
قال : فقلت : ما قال ؟ .
قالوا : مرّ بنا وهو يقول : « ملك عبدٌ عُبدا ، فاتخذهم تلدا ، أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم ، قتلتم ابن فاطمة وأمرتم ابن مرجانة ، فهو يقتل خياركم ، ويستعبد شراركم ، فرضيتم بالذل ، فبُعداً لمن رضي بالذل » (20) .
وأدخلت السبايا عليه وكن في حالة يرثى لها من الأرهاق والعناء والألم ، وكانت في الطليعة زينب وهي تلبس أرذل الثياب ، وقد تنكرت وانحازت الى ناحية من المجلس تحف بها النساء المسبيات .
وابن زياد يعلم مكانة السيدة زينب في البيت العلوي ، لذلك اراد ان يصوب اليها بسهام الشماتة ، وأن يتلذذ باذلالها في مجلسه وأمام الملأ .
فالتفت نحوها قائلاً : من هذه الجالسة ؟ .
فلم تكلمه استهانة به ، واحتقاراً لشأنه .
وأعاد السؤال مرة ثانية وثالثة دون أن يظفر منها بجواب ، الا أن احدى السيدات المسبيات انبرت اليه مجيبة .
هذه زينب ابنة فاطمة بنت رسول الله .
وانفعل ابن زياد مع ترفع السيدة زينب عن اجابته واندفع يخاطبها غاضباً متشمتاً : الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم ! ! .
ومع أن السيدة زينب كانت تحبذ التسامي والتعالي على حقارة ابن زياد ، وأن لا تدخل معه في حديث استهانة به . . الا أن الموقف كان يتطلب من السيدة زينب ممارسة دورها الرسالي في الدفاع عن ثورة أخيها الحسين ، وتأكيد موقعية أهل بيتها العظيمة في الأمة ، وتمزيق هالة السلطة والقوة التي أحاط بها ابن زياد
____________
(20) ( تاريخ الأمم والملوك ) الطبري ج 6 ص 262 .
( 225 )

نفسه ، لذلك بادرت الى الرد عليه قائلة :
« الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد ، وطهرنا من الرجس تطهيراً إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا يا ابن مرجانة » .
وما كان ابن زياد يتوقع هذا الرد الشجاع القوي من امرأة تعيش أفظع مأساة ، وأسوأ حال ، فأراد أن يلفتها الى مأساتها ومصيبتها حتى تفقد جرأتها وتنهار معنوياتها ، فقال لها متشفياً :
فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك ؟ .
لكن العقيلة أفشلت محاولته وانطلقت تجيبه بكل بسالة وصمود :
« ما رأيت الا جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجهم وسيجمع الله بينك وبينهم ، فتحاج وتخاصم ، فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يا ابن مرجانه ! ! » .
إنه لموقف ايماني بطولي عظيم يندر أن يحتفظ تاريخ البشرية بمثيل له : لقد تجاوزت السيدة زينب بارادتها وبصيرتها النافذة كل ما أحاط بها من الآم الماساة ، ومظاهر قوة العدو الظالم ، ولم تبال بجبروته وعساكره ، بل جابهته بالتحدي وجهاً لوجه أمام أعوانه وجمهوره ، معلنة أنها لا يساورها أي شعور بالهزيمة والهوان ، فما حدث لأسرتها شيء جميل بمنطق الرسالة التي يحملونها ، والمسألة لا تعدو أن تكون استجابة لأمر الله ( تعالى ) الذي فرض الجهاد ضد الظلم والعدوان ، وهي واثقة أن المعركة بدأت ولم تنته ، ونهايتها الحاسمة يوم القيامة بين يدي الله وهناك سيكون النصر الحقيقي حليفاً لها ولأسرتها الكريمة .
ثم تختم كلامها بالدعاء بالهلاك للطاغية المتجبر أمامها مخاطبة له « ثكلتك أمك يابن مرجانة » .
وكان ردها عليه قاسياً شديداً أسقط هيبته الزائفة في أعين الحاضرين جميعاً ، بل حطم كبرياءه وغروروه ، واستبد به الغضب متوعداً السيدة زينب بالعقوبة والتنكيل . . فتدارك الموقف عمرو بن حريث ليخفف من غلواء غضب ابن زياد


( 226 )

قائلاً :
أصلح الله الأمير إنما هي أمرأة ! وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها ؟ إنها لا تؤاخذ بقول ولا تلام على خطل ! .
فتراجع ابن زياد عن تهديده بالعقوبة والتنكيل الجسدي مستبدلاً به العقاب النفسي حيث توجه الى السيدة زينب ليلذع قلبها بعبارات الشماتة والتشفي قائلاً :
« لقد شفى الله قلبي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك ، فأثار بهذا الكلام شجون السيدة زينب ، وأشعل الحزن والألم في قلبها ، ولعها أرادت حينئذٍ استخدام سلاح العاطفة وإعلان المظلومية فأجابته بلوعة وأسى .
« لعمري لقد قتلت كهلي ، وأبدت أهلي ، وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي ، فإن يشفك هذا فقد أشتفيت » .
وشعر ابن زياد بالضعف والصغار أمام منطق العقيلة زينب فغير دفة الحديث قائلاً : هذه سجاعة ، لعمري لقد كان أبوها سجاعاً شاعراً .
فردته السيدة زينب بقولها : « إن لي عن السجاعة لشغلاً ما للمرأة ما للمرأة والسجاعة » (21) .
ونقل السيد المقرم عن ( الكامل في التاريخ ) للمبرد ( ج 3 ص 145 ) طبع سنة : 1347 هـ قوله : لقد أفصحت زينب بنت علي وهي أسن من حمل الى ابن زياد ، وأبلغت ، وأخذت من الحجة حاجتها .
فقال ابن زياد لها : إن تكوني بلغت من الحجة حاجتك فقد كان أبوك خطيباً شاعراً .
فقالت : ما للنساء والشعر ! .
____________
(21) ( تاريخ الأمم والملوك ) الطبري ج 6 ص 262 ـ 263 . و ( الكامل في التاريخ ) ابن الأثير ج 4 ص 81 و ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 343 .
( 227 )

وكان ابن زياد ألكناً يرتضخ الفارسية (22) .

تأثير زينب والسبايا في الكوفة
كان هدف السلطة الأموية من التشهير بسبايا أهل البيت ارعاب الناس حتى لا يفكر أحد في معارضة السلطة أولاً ، وتعبئة الجمهور ضد الإمام الحسين وثورته ثانياً ، باظهاره خارجياً متمرداً قد شق عصا المسلمين طمعاً في السلطة والحكم .
لكن وجود العارفين بفضل أهل البيت في الأمة ، والحالة المأساوية للسبايا والتي كانت تثير مشاعر التعاطف معهم ، والدور الرسالي الذي قامت به السيدة زينب في الإعلام الصادق للثورة الحسينية وكذلك الإمام زين العابدين وبعض نساء العائلة الحسينية كأم كلثوم وفاطمة بنت الحسين . . كل ذلك أفشل مخطط السلطة بل وجعل آثاره ونتائجه معكوسة ، حيث تأججت روح الثورة والرفض في أوساط الجماهير المسلمة ضد السلطة ، وتعاطف الناس مع أهل البيت ( عليهم السلام ) .
ففي الكوفة ينقل لنا التاريخ بعض الأحداث والمشاهد الرافضة لسياسات السلطة الأموية والمتعاطفة مع أهل البيت على إثر دخول السبايا .
وقد تحدث راوي خطاب السيدة زينب عن تأثير خطابها على الناس ـ كما سبق ـ .
وحينما خطبت السيدة فاطمة بنت الحسين على صغر سنها فقد أثار خطابها مشاعر الناس « فارتفعت الأصوات بالبكاء والنحيب وقالوا : « حسبك يا ابنة الطاهرين فقد حرقت قلوبنا وأنضجت نحورنا وأضرمت أجوافنا » (23) .
وعلى أثر خطاب السيدة أم كلثوم أيضاً : « ضج الناس بالبكاء ونشرن الشعور
____________
(22) ( مقتل الحسين ) المقرم ص 325 .
(23) المصدر السابق ص 315 .

( 228 )

وخمشن الوجوه ، ولطمن الخدود ، ودعون بالويل والثبور ، ولم ير أكثر باك ولا باكية من ذلك اليوم » (24) .
ولما سمع الناس خطاب الإمام علي بن الحسين قالوا بأجمعهم : « نحن يا ابن رسول الله سامعون مطيعون ، حافظون لذمامك ، غير زاهدين فيك ، ولا راغبين عنك ، فمرنا بأمرك يرحمك الله ، فإنا حرب لحربك ، وسلم لسلمك ، نبرأ ممن ظلمك وظلمنا » (25) .
وزيد بن أرقم وهو صحابي معروف أعلن احتجاجه واعتراضه على ابن زياد لما رأى عبثه برأس الحسين ( عليه السلام ) ـ كما سبق ـ .
وكان في مجلس ابن زياد رجل من بكر بن وائل يقال له جابر ، آلمه ما حصل لأهل البيت وأذهلته التصرفات الطائشة لابن زياد ، فانتفض معلناً معلناً معارضته ، وهو يقول مخاطباً ابن زياد : « لله عليّ أن لا أصيب عشرة من المسلمين خرجوا عليك الا خرجت معهم » (26) .
من أهم مواقف الرفض والمعارضة التي برزت في الكوفة ذلك اليوم ، انتفاضة عبدالله بن عفيف الأزدي الغامدي ، وكان ضريراً ذهبت احدى عينيه يوم الجمل ، والأخرى بصفين مع الإمام أمير المؤمنين وكان لا يفارق المسجد يتعبد فيه .
وعند دخول السبايا الى الكوفة اعتلى عبيدالله بن زياد منبر مسجد الكوفة ليعلن فرحته وانتصاره بمقتل الحسين قائلاً :
« الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ، ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه ، وقتل الكذاب ابن الكذاب » الحسين بن علي وشيعته ! .
____________
(24) المصدر السابق ص 316 .
(25) المصدر السابق ص 317 .
(26) ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 343 ، نقلاً عن ( مرآة الزمان في تواريخ الأعيان ) ص 98 .

( 230 )

وحينما طرقت هذه الكلمات الفاجرة مسامع عبدالله بن عفيف ، انفتل من عبادته وصاح بابن زياد من وسط المسجد غاضباً :
ياابن مرجانة الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك ، والذي ولاك وابوه ، ياابن مرجانة ، أتقتلون أولاد النبيين ، وتتكلمون بكلام الصديقين ؟ ! .
وطاش لب الطاغية ، فقد كانت هذه الكلمات كالصاعقة على رأسه فصاح بأعلى صوته : من هذا المتكلم ؟ .
فأجابه ابن عفيف بكل شجاعة وبسالة : أنا المتكلم يا عدو الله أتقتلون الذرية الطاهرة التي أذهب الله عنهم الرجس ، وتزعم أنك على دين الإسلام ؟ واغوثاه أين أولاد المهاجرين والأنصار ؟ لينتقموا من طاغيتك اللعين ابن اللعين على لسان محمد رسول رب العالمين .
فصاح ابن زياد وقد امتلأ غضباً : عليّ به .
فبادرت الجلاوزة لإلقاء القبض عليه ، فنادى بشعار أسرته « يا مبرور » وكان في المجلس سبعمائة رجل من الأزد ، وثبوا اليه وأنقذوه من أيدي الجلاوزة ، ثم حصلت مناوشات بين جنود ابن زياد وأسرة عبدالله بن عفيف انتهت بإلقاء القبض عليه ، وأمر ابن زياد بقتله وصلبه (27) .
وأشار الطبري الى مواقف مشابهة لموقف ابن عفيف ، قال : وثب اليه عبدالله بن عفيف الأزدي ، ثم الغامدي ، ثم أحد بني والبة (28) .
وحتى عائلة ابن زياد واسرته ظهرت في اوساطهم أصوات ومواقف رافضة لقتل أهل البيت ، حيث ينقل عن أم عبيدالله بن زياد وهي مرجانة أنها سخطت عليه ووبخته قائلة :
____________
(27) ( تاريخ الأمم والملوك ) الطبري ج 6 ص 263 . ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 348 .
(28) ( تاريخ الأمم والملوك ) الطبري ج 6 ص 263 .

( 230 )

يا خبيث قتلت ابن رسول الله لا رايت وجه الله أبداً (29) .
وأخوه عثمان بن زياد أيضاً أعلن رفضه وانكاره لما حصل وخاطب أخاه عبيدالله بن زياد معنفاً .
والله لوددت أنه ليس من بني زياد الا وفي أنفه خزامة الى يوم القيامة وان الحسين لم يقتل (30) .
____________
(29) ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 358 نقلاً عن عدة مصادر .
(30) ( تاريخ الأمم والملوك ) الطبري ج 6 ص 268 .

( 231 )

في مجلس يزيد


وكان موقف السيدة زينب في مجلس يزيد بن معاوية من اروع مواقف الدفاع عن الحق ، وتحدي جبروت الطغيان والظلم .
فيزيد بن معاوية كان أمامها متربعاً على كرسي ملكه ، وفي أوج قوته ، وزهو انتصاره ، تحف به قيادات جيشه ، ورجالات حكمه ، وزعماء الشام ، وتشير الروايات التاريخية الى حضور بعض الدبلوماسيين الأجانب كرسول قيصر ملك الروم ، وبالتالي فقد كان يزيد حريصاً على التمتع بكامل هيبته ، والظهور بأعلى درجات القوة والسيطرة .
وتعرف السيدة زينب فظاظة يزيد وغلظته ، وتهوره في القمع والأرهاب ، وإن أي استفزاز له يمكن أن يدفعه الى أسوأ الأجراءات فليس له رداع من دين أو عقل .
كما أن أجواء المجلس كانت مهيأة ومعدة ليكون الإجتماع مهرجاناً للأحتفال بانتصار الحاكم على ثورة أهل البيت .
من ناحية أخرى فقد كانت السيدة زينب في ظروف بالغة القسوة والشدة ، جسدياً ونفسياً ، فهي لا تزال تعيش تحت وطأة الفاجعة وتأثيرها الهائل على


( 232 )

أحاسيسها ومشاعرها ، ولأجواء الشماتة والأذلال التي استقبلتها في الشام وقع كبير على نفسها ، ومجرد حضورها سبية أسيرة في مجلس عدو ظالم حاقد قد ارتضع وتوارث عداء أسرتها منذ عهود وعقود ، وهي من هي في خدرها وصونها وعزها ، إن ذلك وحده كفيل بتحطيم المعنويات وهزيمة الروح .
وجسدياً فإن السفر كان مرهقاً وشاقاً ، حيث كان السير حثيثاً تنفيذاً لرغبة السلطة في الوصول بأسرع وقت الى الشام ، ومراكب السفر وهي الجمال لم تتوفر لها أدنى وسائل الراحة التي اعتادها المسافرون في ذلك الزمن .
والمرافقون العسكريون لقافلة السبايا كانوا جفاة صلفين في تعاملهم مع النساء والأطفال كزجر بن قيس وشمر بن ذي الجوشن ، حيث يقذفون السبايا بالشتم والسب ويضربونهم بالسياط لأدنى مناسبة .
وعامل الجوع والعطش كان له دور في انهاك السيدة زينب وارهاقها حيث كان الجنود يقترون على السبايا في الطعام والشراب ، مما يدفع السيدة زينب للتنازل عن حصتها لسد جوع وعطش الأطفال ، متحملة مضاضة الجوع والعطش .
ويصف الأستاذ عبد الباسط الفاخوري حالة قافلة السبايا الى الشام بقوله : « ثم إن عبيدالله جهز الرأس الشريف وعلي بن الحسين ومن معه من حرمه بحالة تقشعر منها ومن ذكرها الأبدان ، وترتعد منها مفاصل الأنسان بل فرائص الحيوان » (31) .
اضافة الى كل ذلك فقد أحيط دخول السبايا الى الشام وحضورهم في مجلس يزيد باجراءات بالغة الصعوبة قصد منها ايقاع أكبر قدر من الأذلال والهوان بنفوس السبايا .
وقبل ادخالهم على يزيد أوقفوهم فترة على درج باب المسجد حيث مكان ايقاف سبي الكفار ، ثم أتوا اليهم بحبل أوثقوهم به كتافاً وقد كانت بداية الحبل في عنق
____________
(31) ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 367 .
( 233 )

علي بن الحسين ونهايته في عنق السيدة زينب ، كما تربق الأغنام ، وساقوهم باذلال ، وكلما قصروا عن المشي ضربوهم بالسياط ، والسبايا يكبرون ويهللون ، حتى أوقفوهم بين يدي يزيد في مجلسه وهو متربع على سريره ، فالتفت اليه علي بن الحسين قائلاً : « ما ظنك بجدنا رسول الله لو يرانا على مثل هذه الحالة » ؟ .
فتأثر يزيد ولم يبق أحد في مجلسه الا وبكى ، وأمر يزيد بالحبال فقطعت (32) .
ودعا يزيد برأس الحسين ووضعه أمامه في طست من ذهب (33) ومع يزيد قضيب فهوى ينكت به في ثغره ثم قال : إن هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام المرى :

يفلقن هاماً من رجال أحبّة * الينا وهم كانوا أعق وأظلما


فقام رجل من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقال له « أبو برزة الأسلمي » فقال : أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين ؟ أما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذاً لربما رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يرشفه ! أما انك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك ، ويجيء هذا يوم القيامة ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) شفيعه .
ثم قام فولى (34) .
وتمادى يزيد في اظهار شماتته وفرحه وصرح بما في مكنون نفسه من انه ينتقم من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومن أهل بيته حيث صار يتمثل بابيات شعر لعبدالله بن الزبعرى جاء فيها :

ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل


____________
(32) ( مقتل الحسين ) المقرم ص 350 . ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 376 .
(33) ( مقتل الحسن ) المقرم ص 354 .
(34) ( تاريخ الأمم والملوك ) الطبري ج 6 ص 267 .

( 234 )

لأهلوا واستهلوا فرحــاً*ثم قالوا يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القرم من ساداتهم*وعـدلناه ببدر فاعتـدل
لعبت هـاشم بالمـلك فلا *خبر جاء ولا وحي نزل
لست من خندف ان لم أنتقم*من بني أحد ما كان فعل

وسمعت العقلية زينب ترنم يزيد بهذ الأبيات ، التي يعلن فيها كفره بالرسالة والوحي ، وإن دافعه الى قتل أهل البيت هو الأنتقام وأخذ ثأر قتلى المشركين في بدر ، ورأته كذلك يعبث برأس أخيها الحسين . . هنا قررت السيدة زينب أن تتحمل مسؤليتها في مواجهة هذا الكفر الصريح ، وأن تمارس دورها الرسالي في اعلان الحق ، فتفجر بركان ارادتها الأيمانية ، ووقفت خطيبة قائلة :
« الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على رسوله وآله أجمعين ، صدق الله ( سبحانه ) حيث يقول : ( ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن ) (36) .
أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء ، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى . أن بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة ؟ .
وأن ذلك لعظم خطرك عنده ؟ فشمخت بأنفك ، ونظرت في عطفك ، جذلان مسرورا ، حين رأيت الدنيا لك مستوسقه ، والأمور متسقة ، وحين صفالك ملكنا وسلطاننا فمهلاً مهلاً ، لا تطش جهلاً ، أنسيت قول الله ( تعالى ) ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين ) (37) .
____________
(36) سورة الروم آية 10 .
(37) سورة آل عمران أية 178 .

( 235 )

أمن العدل يابن الطلقاء ! .
تخديرك حرائرك واماءك ، وسوقك بنات رسول الله سبايا ، قد هتكت ستورهن ، وأبديت وجوههن ، تحدوبهن من بلد الى بلد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل ، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد ، والدني والشريف ، ليس معهن من حماتهن حمي ، ولا من رجالهن ولي ؟ .
وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء ، ونبت لحمه من دماء الشهداء ؟ .
وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنآن ، والإحن والأظفان ؟ .
ثم تقول غير مستأثم ولا مستعظم :

لأهلوا وأستهلوا فرحاً * ثم قالوا يا يزيد لا تُشل


منحنياً على ثنايا أبي عبدالله سيد شباب أهل الجنة ، تنكتها بمخصرتك ، وكيف لا تقول ذلك ؟ وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأفة ، بإراقتك دماء ذرية محمد ، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب .
وتهتف بأشياخك ، زعمت أنك تناديهم ، فلتردن وشيكاً موردهم ، ولتودّنّ أنك شللت وبكمت ، ولم تكن قلت ما قلت وفعلت .
اللهم خذ لنا بحقنا ، وانتقم ممن ظلمنا ، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا .
فهوالله ما فريت الا جلدك ، ولا حززت الا لحمك ، ولتردن على رسول الله بما تحملت من سفك دماء ذريته ، وانتهكت من حرمته في ذريته ولحمته ، حيث يجمع الله شملهم ، ويلم شعثهم ، ويأخذ بحقهم : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ) (38) .
____________
(28) سورة آل عمران آية 169 .
( 236 )

وحسبك بالله حاكماً ، وبمحمد خصيماً وبجبرئيل ظهيراً .
وسيعلم من سوّل لك ، ومكنك من رقاب المسلمين ( بئس للظالمين بدلاً ) (39) أيّكم ( شر مكاناً وأضعف جنداً ) (40) ؟ .
ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك ، إني لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، والصدور حرى ! ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء ! ! فهذه الأيدي تنطف من دمائنا ، والأفواه تتحلب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي ، تنتابها العواسل ، وتعفرها أمهات الفراعل ! ! ولئن اتخذتنا مغنماً ، لتجدنا وشيكاً مغرماً ، حين لا تجد الا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد ، والى الله المشتكى وعليه المعول .
فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا يرحض عنك عارها .
وهل رأيك الا فند ؟ وأيامك الا عدد ؟ وجمعك الا بدد ؟ .
يوم ينادي المنادي : ألا لعنة الله على الظالمين .
والحمد لله رب العالمين ، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة ، والرحمة ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلافة ، إنه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعمة الوكيل » (40) .
____________
(39) سورة الكهف آية 50 .
(40) سورة مريم آية 75 .

( 237 )

تأملات في الخطاب


إن خطاب السيدة زينب ( عليها السلام ) في مجلس يزيد يعتبر وثيقة فكرية سياسية تسلط الأضواء على خلفيات المعركة بين أهل البيت والأمويين كما تناقش بعض التفاصيل والقضايا الهامة في تلك المعركة ، وتقدم استشرافاً وتصوراً مستقبلياً لآثار المعركة ونتائجها .
ونشير فيما يلي الى أبرز وأهم آفاق هذا الخطاب الرائع العظيم :

أولاً : المعركة في منظار القيم والمبادئ
فالأمويون وان كانوا يتظاهرون بالأسلام ، ويحكمون باسمه ، الا أنهم يتعاملون مع الحياة ، وينظرون للأمور حسب المعادلات المادية ، وضمن دائرة المصالح الدنيوية العاجلة بعيداً عن القيم والمبادئ .
ويريدون لجمهور الأمة أن ينظر الى واقعة كربلاء من منظارهم المادي الجاهلي ، حيث يصرح يزيد بأنه قد قام بأخذ ثارات بدر ومعارك الإسلام الأولى ضد أسلافه المشركين ، والمسألة في نظر الأمويين لا تعدو أن تكون دفاعاً عن عرش السلطة وكرسي الحكم ، وهو أمر مشروع بالعقلية المصلحية .
ويرى الأمويون أن القوة التي بأيديهم ، والأنتصارات التي أحرزوها ، تكفي


( 238 )

دليلاً على أحقيتهم وشرعيتهم كواقع يفرض نفسه .
وفي مواجهة هذا المنطق الأموي المادي الأنتهازي كانت السيدة زينب في خطابها تؤكد على الرجوع الى القيم والمبادئ الدينية والأحتكام اليها في تقويم الواقع وتفسير أحداثه ، فلابد من محاكمة ما يجري على ضوء كتاب الله ، والنظر الى المعركة من خلال الرؤية الدينية التي يريد الأمويون تغييبها والغاءها في واقع حياة المسلمين .
لذلك تذكر يزيد بن معاوية بأن لا ينظر الى نفسه من خلال ما يملك من قوة وسلطة : « أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء » . فليس في ذلك دلالة على الأحقية والمشروعية والرضا الآلهي ، فقد يفسح الله المجال واسعاً أمام الكافرين لتتضاعف قوتهم وامكانياتهم دون أن يعني ذلك أحقيتهم أو رضا الله عنهم ، بل يكون ذلك سبباً لزيادة انحطاطهم وعذابهم عند الله .
والحسين وأهل بيته ليسوا مهزومين مغلوبين قد خسروا الحياة وابتلعهم الموت بل هم وفق مقياس المبادئ الآلهية شهداء خالدون وأحياء عند ربهم ، لأنهم قتلوا في سبيل الله .
واذا كانت المآسي قد حلت بأهل البيت فانهم يحتسبونها عند الله ، حيث لم تحدث لهم في سياق صراع دنيوي مصلحي وإنما لأنهم يحملون رسالة الله ويدافعون عن دينه ، وحسب المبادئ والقيم فهناك عدالة آلهية ، وهناك دار أخرى تكون فيها النتائج الحاسمة : « وحسبك بالله حاكماً وبمحمد خصيماً ، وبجبرئيل ظهيراً ولتردن على رسول الله » .
والصراع بين أهل البيت والأمويين في نظر السيدة زينب ليس صراعاً قبلياً على الزعامة ، بل هو مظهر وامتداد للصراع الأبدي الدائم بين الخير والشر ، بين حزب الله وحزب الشيطان .


( 239 )

ثانياً : ـ ادانة الجرائم الأموية
ففي مجلس يزيد وأمامه وبحضور أتباعه ومؤيديه ، أعلنت السيدة زينب الأدانة والأستنكار لما ارتكبه من جرائم بحق أهل البيت ، وأوضحت مظلومية أهل البيت وعمق مأساتهم بقتل رجالات أهل البيت ، وسوق نسائهم سبايا بتلك الحالة المفجعة ، وترك جثث أهل البيت دون مواراة . كما توبخه بشدة على أقواله التي تنضح كفراً وتشكيكاً في الدين ، وتعنفه على ما فعله برأس أخيها الحسين .
ومن يعرف مدى غرور يزيد وتجبره يدرك وقع هذا التوبيخ والأدانة على نفسه .
يقول المرحوم الأستاذ توفيق الفكيكي : وكان الوثوب على أنياب الأفاعي ، وركوب أطراف الرماح ، أهون على يزيد من سماع هذا الأحتجاج الصارخ (41) .

ثالثاً : ـ الجذور العائلية الفاسدة
فسياسات يزيد المنحرفة ، ومواقفة الفاسدة ، لم تنطلق من فراغ ، وإنما هي امتداد واستمرار لسلوكيات أسلافه المشركين والمنافقين ، لذلك تذكره السيدة زينب بجدته « هند » أم معاوية وزوج أبي سفيان ، والتي قادت حملة التأليب والتحريض على قتال رسول الله والمسلمين ، وأغرت « وحشي » بقتل الحمزة بن عبد المطلب عم رسول الله ، ثم مثلت بجسمه وانتزعت كبده وحاولت مضغها بأسنانها ، اظهاراً لحقدها البشع ، وبغضها المتوحش لرسول الله وذويه ، ويزيد في اعتداءاته الأليمة على أهل البيت لم يأت بشيء غريب ، وإنما هو شر خلف لشر سلف ، تقول ( عليها السلام ) « وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء » .
وتتوعده السيدة زينب بأن مصيره هو مصير أسلافه عتبة وشيبة والوليد وانه
____________
(41) ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 378 ـ 380 . ( مقتل الحسين ) المقرم ص 357 ـ 359 .
( 240 )

لاحق بهم في نار جهنم : « وتهتف بأشياخك زعمت أنك تناديهم فلتردن وشيكاً موردهم » .

رابعاً : الأشادة بأهل البيت :
في مجتمع تربى على بغض أهل البيت ، وفي أجواء معباة ضد الأسرة العلوية ، ووسط مجلس انعقد للشماتة بمقتل الحسين ، تقف السيدة زينب صادحة بالحق ، مشيدة بفضائل أسرتها الكريمة .
فهي تخاطب يزيد معلنة للأمة أن هذه الدولة والكيان الاسلامي إنما أشادته سيوف بني هاشم ، وتضحيات آل الرسول بالدرجة الأولى « وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا » فأهل البيت هم القادة الحقيقيون لهذه الأمة وهم الأولى بالسلطة والحكم .
ولأهل البيت فضل عظيم على يزيد بالذات فأبوه وجده وأسرته هم طلقاء عفو رسول الله عند فتح مكة لذلك تخاطبه العقيلة : « أمن العدل يا ابن الطلقاء » .
أما شهداء كربلاء فتصفهم السيدة زينب بأنهم : « ذرية محمد ونجوم الأرض من آل عبد المطلب » وتذكر أخاه الحسين باعتباره : « سيد شباب أهل الجنة » .
وتعتز السيدة زينب بفضل اسرتها وأمجادها العظيمة قائلة : « والحمد لله رب العالمين الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة » .

خامساً : المستقبل لمن ؟
يتبختر يزيد بانتصاره على أهل البيت ، ويظن أنه كسب المعركة لصالحه ، ووسائل أعلامه تكرر وتجتر هذا الوهم على مسامع الناس ، لكن العقيلة زينب تسنف أوهامه ، وتسفه أحلامه ، وتقرر أمام مجلسه الحاشد أنه قد تلطخ بأوحال الهزيمة ، وسقط في حضيض الهوان ، وإن تظاهر بالنصر وتراءى له الظفر .
أنها تتحدى يزيد في أن يتمكن من تحقيق هدفه بطمس خط أهل البيت ، مهما جند من قواه واستخدم من قدراته : فكد كيدك واسع سعيك ، وناصب


( 241 )

جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا » فخط أهل البيت يمثل الحق والعدل ن ويجسد الوحي الآلهي ، وسوف تبقى البشرية متطلعة للحق والعدل وسوف يظهر الله دينه على الدين كله .
كما تظهر العقيلة سخريتها واحتقارها لمظاهر القوة التي أحاط بها يزيد نفسه :
« وهل رأيك الا فند ، وأيامك الا عدد ، وجمعك الا بدد » .
ورهان السيدة زينب على النصر وثقتها بالظفر ليس محجماً بحدود الدنيا الفانية ، بل تتطلع للآخرة هناك حيث عدالة الله ، وحيث تكون العاقبة للمتقين ، والنار والخزي للظالمين .

سادساً : العزة الأيمانية
تلك المرأة السبية الأسيرة التي سيقت الى مجلس يزيد مكتفة بالحبال ، تقف أمام الحاكم المتغطرس المتجبر صارخة به : « يا ابن الطلقاء » ومنذرة له : « ولتودّن أنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت » وداعية عليه : « اللهم خذلنا بحقنا وانتقم ممن ظلمنا ، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا » .
وتتحداه قائلة : « فوالله ما فريت الا جلدك ولا حززت الا لحمك » وتكرر تحديها له هاتفة : « فكد كيدك واسع سعيك » .
وبصراحة أوضح تبدي احتقارها له وأنها أكبر وأسمى من أن تكلمه أو تخاطبه لولا ما فرضته عليها الظروف فتقول : « ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك إني لاستصغر قدرك ، واستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك » .
فمن يداني ابنة علي في شجاعتها وعزتها وبطولتها ؟ .
إنها ابنة أبيها وهي تفرغ عن لسانه وروحه .
لذلك تحطمت كبرياء يزيد أمامها وانهار غروره ، وأصابته الحيرة والأرتباك ، فلم يزد أن تمثل بعد خطابها بقول الشاعر :


( 242 )

يا صحيحة تحمد من صوائح * ما أهون النوح على النوائح


وكأنه يفسر خطاب السيدة زينب بأنه نوع من الأنفعال الطبيعي لما تعانيه من مصيبة ! !