مواجهة حادة


بعكس ما كان يقصده ويهدفه يزيد من دخول السبايا الى مجلسه بأن يستعرض قوته ، ويؤكد انتصاره ، ويوجه لأهل البيت ضربات جديدة من الأذلال والهوان .
فقد انعكس الأمر ، وتحول المجلس الى ساحة محاكمة لجرائمه ، وميدان معركة تكبد فيها هزيمة نكراء . . وفوجئ يزيد بحصول مالم يكن يتوقع ، وفقد السيطرة على نفسه ، ولم يعد يدري كيف يواجه الموقف ، بينما استمرت العقيلة زينب توجه له ضربات التحدي ، وسهام التبكيت والاحتقار .
ونظر رجل من أهل الشام ومن القريبين من يزيد الى السيدة فاطمة بنت الامام علي ـ وحسب روايات أخرى بنت الامام الحسين ـ فقال مخاطباً يزيد : يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية لتكون خادمة عندي ! ! .
فاسودت الدنيا في عين السيدة فاطمة ، وانتابها الرعب والقلق ، فلاذت بزعيمة الركب العقيلة زينب ، فطمأنتها زينب وهدأت روعتها حيث رفعت صوتها لتسمع يزيد قائلة للرجل :
ـ كذبت ولؤمت ما ذلك لك ولا لأميرك .
واستشاط يزيد غضباً لهذه الضربة القاصمة لصرح هيبته الزائفة ومقامه الباطل


( 244 )

فرد بانفعال : كذبت ولله ، إن ذلك لي ، ولو شئت أن أفعله لفعلت .
فعاجلته السيدة زينب بضربة أكثر وقعاً وصرامة حين قالت :
« كلا والله ما جعل الله لك ذلك الا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا » .
وطفح الكيل في نفس يزيد وما عاد يتحمل ما يسمع من كلمات التحدي والتحقير وفي مقر حكمه وبين أنصاره وجمهوره فصاح غاضباً :
ـ إياي تستقبلين بهذا ؟ انما خرج من الدين أخوك وأبوك ! .
وإذا كان يزيد منفعلاً قد فقد السيطرة على نفسه فإن السيدة زينب كانت في قمة الأطمئنان والثبات ، لذلك أجابته واثقة :
ـ بدين الله ودين أبي ودين أخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك إن كنت مسلماً ! ! .
وما عسى أن يكون جواب يزيد أو موقفه تجاه هذا التحدي الصارخ ، فهو يتربع على عرش خلافة المسلمين لكن السيدة زينب تجعل اسلامه موضع شك ، وتعلن على رؤوس الأشهاد فضل أسرتها عليه وعلى أسرته بهديهم للاسلام . . لذك لم يحر يزيد جواباً ولم يجد رداً فلجأ الى الشتم ، بحنق وغيظ ، حيث خاطب زينب قائلاً : كذبت يا عدوة الله ! ! .
لكن غضب يزيد وانفعاله وشتمه لم يسكت العقيلة زينب ولم يضع حداً لهجومها عليه وتحديها له ، بل أوضحت أمام الجمع أن دافع يزيد الى الشتم هو سوء استخدامه لموقعه باعتباره حاكماً يمارس الظلم والقهر ، قالت ( عليها السلام ) :
ـ أنت أمير مسلط ، تشتم ظالماً ، وتقهر بسلطانك .
فسكت يزيد وأفحم واعترف بخسارته المعركة ، حيث إن الرجل الشامي كررعليه الطلب وكأنه يريد أن يعرف النتيجة ، وينتزع من يزيد الاعتراف بالهزيمة أمام تحدي السيدة زينب له ، فقال الشامي :


( 245 )

ـ يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية ! .
فصب يزيد عليه جام غضبه قائلاً له :
ـ اعزب وهب الله لك حتفاً قاضياً (42) .
____________
(42) ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 381 .
( 246 )


( 247 )

ردود الفعل


خلافاً لما كان يقصده يزيد من مجيء السبايا ورؤوس الشهداء إلى الشام ، بأن يصنع من خلال ذلك جواباً مضاداً لثورة الحسين ، ويدعم عرش حكمه وسلطته ، فقد حصل العكس من ذلك تماماً ، حيث سادت النقمة وانتشر الاستياء في مختلف أوساط العاصمة الأموية ، استنكاراً لما فعله يزيد .
ومما رصده لنا التاريخ من مظاهر الاستنكار ما يلي :

ممثل ملك الروم :
وكان في مجلس يزيد ممثل ملك الروم ، فلما رأى رأس الامام بين يدي يزيد تأثر من ذلك وسأل يزيد : رأس من هذا ؟ .
أجابه يزيد : رأس الحسين .
فسأل : من الحسين ؟ .
قال يزيد : ابن فاطمة .
وسأله : من فاطمة ؟ .
قال يزيد : ابنة رسول الله .


( 248 )

فانذهل ، وقال : نبيكم ؟ .
أجابه يزيد : نعم .
ففزع ممثل ملك الروم : وأبدى انزعاجه قائلاً : تباً لكم ولدينكم ، وحق المسيح إنكم على باطل ، إن عندنا في بعض الجزائر ديراً فيه حافر فرس ركبه المسيح فنحن نحج اليه في كل عام ، من مسيرة شهور وسنين ، ونحمل اليه النذور والأموال ، ونعظمه أكثر مما تعظمون كعبتكم ، افٍ لكم .
ثم قام وخرج غضباناً من مجلس يزيد (43) .

حبر يهودي :
وحضر حبر يهودي مجلس يزيد أثناء دخول السبايا ، وسمع خطاب الامام زين العابدين فتأثر الحبر والتفت الى يزيد سائلاً : من هذا الغلام ؟ .
أجابه : علي بن الحسين .
فسأل : من الحسين ؟ .
قال : ابن علي بن أبي طالب .
وسأل الحبر : من أمه ؟ .
أجابه يزيد : بنت محمد .
فاندهش الحبر وأعلن استنكاره أمام يزيد قائلاً : يا سبحان الله ! ! ابن بنت نبيكم قتلتموه ، بئسما خلفتموه في ذريته ، فوالله لو ترك نبينا موسى بن عمران فينا سبطاً لظننت أنا كنا نعبده من دون ربنا ، وأنتم فارقكم نبيكم بالأمس فوثبتم على ابنه وقتلتموه سوأة لكم من أمة ! ! .
وغضب يزيد من قوله ، وأمر بتنكيله ، فقام الحبر وقد رفع عقيرته قائلاً : إن
____________
(43) ( تاريخ الأمم والملوك ) الطبري ج 6 ص 256 .
( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 389 . ( الكامل في التاريخ ) ابن الأثير ج 4 ص 86 .

( 249 )

شئتم فاقتلوني ، إني وجدت في التوراة من قتل ذرية نبي فلا يزال ملعوناً أبداً ما بقي ، فاذا مات أصلاه الله نار جهنم (44) .

قيصر ملك الروم :
فقد وصلته أخبار قتل الحسين وأخبار السبايا ، فكتب الى يزيد مستنكراً :
ـ « قتلتم نبياً أو ابن نبي » (45) .

رأس الجالوت :
وممن أظهر استنكاره وادانته لما حدث الزعيم الديني لليهود رأس الجالوت فقد قال لمحمد بن عبد الرحمن : إن بيني وبين داود سبعين أباً ، وإن اليهود تعظمني وتحترمني وأنتم قتلتم ابن بنت نبيكم ؟ (46) .

شيخ من أهل الشام :
أخرج ابن جرير عن أبي الديلم قال : لما جيء بعلي بن الحسين ( رضي الله تعالى عنهما ) أسيراً فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم وأستأصلكم ! .
فقال له علي ( رضي الله تعالى عنه ) : أقرأت القرآن ؟ .
قال : نعم .
قال : أقرأت الـ ( حم ) (47) ؟ .
قال : نعم .
قال : أما قرأت : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ) (48) .
____________
(44) ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 394 .
(45) المصدر السابق ص 395 .
(46) المصدر السابق ص 396 .
(47) سورة الشورى آية 1 .
(48) سورة الشورى آية 23 .

( 250 )

قال : فانكم لأنتم هم ؟ .
قال : نعم (49) .
وفي نص آخر : دنا شيخ من الامام زين العابدين ، وقال له :
ـ الحمد لله الذي أهلككم وأمكن الأمير منكم ! .
فقال ( عليه السلام ) له : يا شيخ أقرأت القرآن ؟ .
قال : بلى .
قال : أقرأت : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ) (50) .
وقرأت قوله تعالى : ( وآت ذا القربى حقه ) (51) ، وقوله تعالى : ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى ) (52) ؟ .
قال الشيخ : نعم قرأت ذلك .
فقال الامام : نحن والله القربى في هذه الآيات .
ثم قال له الامام : أقرأت قوله ( تعالى ) : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) (53) ؟ .
قال : بلى .
فقال الامام : نحن أهل البيت الذين خصهم الله بالتطهير .
قال الشيخ : بالله عليك أنتم هم ؟ .
____________
(49) سورة الشورى آية 23 .
(50) ( تفسير روح المعاني ) الآلوسي ج 25 ص 31 .
(51) سورة الإسراء آية 26 .
(52) سورة الأنفال آية 41 .
(53) سورة الأحزاب آية 33 .

( 251 )

قال الامام : وحق جدنا رسول الله إنا لنحن هم من غير شك .
فوقع الشيخ على قدمي الامام يقبلهما ويقول : أبرأ الى الله ممن قتلكم . وتاب على يد الامام مما فرط في القول معه وبلغ يزيد فعل الشيخ وقوله : فأمر بقتله (54) .

الصحابي أبو برزة الأسملي :
وكان هذا الصحابي حاضراً في مجلس يزيد فلما رأى أحوال السبايا وعبث يزيد برأس الحسين أعلن استياءه واستنكاره .
قال الطبري : فقام رجل من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقال له : أبو برزة الأسلمي ، وقال :
أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين ؟ أما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذاً لربما رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يرشفه ! أما أنك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك ، ويجيء هذا يوم القيامة ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) شفيعه .
ثم قال فولى (55) .
وفي رواية أخرى : قال أبو برزة الأسلمي : أشهد لقد رأيت النبي يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ، ويقول : انتما سيدا شباب أهل الجنة قتل الله قاتلكما ، ولعنه وأعد له جهنم وساءت مصيرا .
فغضب يزيد منه وأمر به فأخرج سحباً (56) .

من داخل الأسرة الأموية
وهكذا كانت أمواج السخط والأستنكار تتلاطم بتأثير قافلة السبايا حتى
____________
(54) ( مقتل الحسين ) المقرم ص 349 .
(55) ( تاريخ الأمم والملوك ) الطبري ج 6 ص 267 .
(56) ( الكامل في التاريخ ) ابن الأثير ج 4ص 85 .

( 252 )

ضربت أطناب البيت الأموي الحاكم ، وتعالت أصوات المعارضة لما حصل في أوساط عائلة يزيد ، فيحيى بن الحكم أخو مروان بن الحكم اعترض على يزيد في مجلسه وشتم ابن زياد أمامه متعاطفاً مع آل الرسول حيث أنشد البيتين التاليين :

لهام بجنب الطف أدنى قرابه * من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل
سمية أمسى نسلها عدد الحصى * وليس لآل المصطفى اليوم من نسل

قال : فضرب يزيد بن معاوية في صدر يحيى بن الحكم ، وقال : اسكت (57) .
وابنة يزيد عاتكة بادرت الى رأس الإمام الحسين فطيبته ، وقالت نادبة : رأس عمي (58) .
أما معاوية بن يزيد فموقفه واضح اذ رفض حتى تولي الخلافة بعد أبيه يزيد وأعلن تنديده لسياسة أبيه وجده .
وزوجته هند لم تستطع كتمان ألمها واعتراضها ، يقول ابن الأثير : ثم دخلوا على يزيد فوضعوا الرأس بين يديه وحدثوه ، فسمعت الحديث هند بنت عبدالله بن عامر بن كريز ، وكانت تحت يزيد ، فتقنعت بثوبها وخرجت ، فقالت :
يا أمير المؤمنين أرأس الحسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ .
قال : نعم ، فاعولي عليه ، وحدّي على ابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وصريخة قريش ، عجل عليه ابن زياد فقتله قتله الله (59) .
هذا الأستياء الشامل والأستنكار من مختلف الأوساط أظهر ليزيد فشل سياسته
____________
(57) ( الكامل في التاريخ ) ابن الأثير ج 4 ص 85 .
(58) ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 400 .
(59) ( الكامل في التاريخ ) ابن الاثير ج 4 ص 84 .

( 253 )

وتخطيطه ، وجعله يتمنى لو لم يقدم على قتل الحسين ، أو على الأقل لو تستر على جريمته ولم ينشرها على رؤوس الملأ عبر قافلة السبايا والرؤوس . وصدرت عن يزيد كلمات وتصريحات عديدة يلقي فيها المسؤلية عن قتل الحسين ومآسي عائلته على عبيدالله بن زياد . . ككلامه لزوجته وقوله مخاطباً رأس الحسين .
والله يا حسين لو كنت أنا صاحبك ما قتلتك ! ! (60) .
وينقل ابن الأثير أنه ، لما وصل رأس الحسين الى يزيد حسنت حال ابن زياد عنده وزاده ووصله وسره ما فعل ، ثم لم يلبث الا يسيراً ، حتى بلغه بغض الناس له ولعنهم وسبهم ، فندم على قتل الحسين فكان يقول :
وما عليّ لو احتملت الأذى ، وأنزلت الحسين في داري وحكمته فيما يريد ، وان كان عليّ في ذلك وهن في سلطاني حفظاً لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ورعاية لحقه وقرابته ، لعن الله ابن مرجانة فإنه اضطره ، وقد سأله أن يضع يده في يدي أو يلحق بثغر حتى يتوفاه الله ، فلم يجبه الى ذلك فقتله ، فبغضنى بقتله الى المسلمين ، وزرع في قلوبهم العداوة ، فأبغضني البر والفاجر بما استعظموه من قتلي الحسين ، ما لي ولابن مرجانة ، لعنه الله وغضب عليه (61) .
____________
(60) المصدر السباق ص 85 .
(61) المصدر السابق ص 87 .

( 254 )


( 255 )

خلق عظيم :





( 256 )


( 257 )

لقد تكاملت نواحي العظمة في شخصية السيدة زينب فتجسدت فيها معالي الصفات ومكارم الأخلاق ، وذلك هو سر تفردها وخلودها .
وإنما تتحدد قيمة الأنسان ومكانته حسب ما يتمتع به من مواهب وكفاءات ، ويترشح عنه من فضائل وأخلاق .
وشخصية السيدة زينب زاخرة بالمواهب العالية ، وسيرتها طافحة بالمكارم الرفعية .
لقد رافقنا حياة السيدة زينب عبر الفصول السابقة وهي وليدة ناشئة ، وفتاة يافعة ، وزوجة ناضجة ، وأم مربية ، ورأيناها تقف الى جانب أمها في آلامها وأحزانها ، وتواكب مسيرة أبيها في منعطفات الزمن وأحداثه ، وتواسي أخاها الحسن في محنته وابتلائه ، ثم تشارك أخاها الحسين في ثورته العظيمة الخالدة ، وتقود بعده ركب النهضة المقدسة .
ومن خلال تلك المواقف والأحداث تجلت لنا كفاءات السيدة زينب وعظمة شخصيتها ، وتبدي لنا من نورها المضيء ، وأفقها الرحيب بقدر ما كانت أبصارنا تستوعب الرؤية والنظر .
ونشير في هذا الفصل الى بعض مكارم أخلاقها وعظيم صفاتها .


( 258 )


( 259 )

رائدة المعرفة


بالعلم ميز الله الانسان على سائر المخلوقات حتى الملائكة : ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبؤني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ) (1) .
وبالعلم يتمايز بنو آدم فيما بينهم : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) (2) .
( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) (3) .
و « العلم رأس الخير كله » و « أكثر الناس قيمة أكثرهم علماً » ، « وأقل الناس قيمة أقلهم علماً » ، كما يقول الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) (4) .
____________
(1) سورة البقرة آية 31 .
(2) سورة الزمر آية 9 .
(3) سورة المجادلة آية 11 .
(4) ( ميزان الحكمة ) الري شهري ج 6 ص 451 ـ 455 .

( 260 )

أو كما يقول الإمام علي ( عليه السلام ) : « قيمة كل امرئ ما يحسنه » (5) .
فالعلم ساحة سباق وتنافس بين أبناء البشر يتقدم فيها من حاز منه بنصيب أوفر .
والمرأة كانسانة معنية بهذا السباق في ميدان العلم ، ولها حضورها في ساحة ، وقيمتها كالرجل تتحدد بما تحسنه من العلم والمعرفة .
لذلك قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة » .
واذا ما رأينا الجهل معشعشاً أكثر في أوساط نسائنا فذلك دليل على تخلفنا وانحرافنا عن هدي الرسالة .
لقد اثبتت المرأة في الماضي والحاضر أنها لا تقل عن الرجل استعداداً للمعرفة وكفاءة في طلب العلم . . فحتى العلوم التخصصية الهامة أحرزت فيها المرأة تفوقاً وتقدماً . . وكذلك المجالات العلمية التي تحفها المخاطر والصعوبات فحادثة « تشالنجر » لازالت ماثلة أمام الأذهان حينما تحطمت المركبة الفضائية المتطورة بعد ( 73 ) ثانية من انطلاقها في الجو بسبب شرخ في خزان الوقود بتاريخ ( 28 ـ 1 ـ 1986 م ) وكان ضمن طاقمها المكون من ستة أفراد فتاتان تعملان في أبحاث الفضاء هما « كريستا مكوليف » و « جودث رثنك » .
وقبل سنتين نشرت وسائل الإعلام تحقيقاً عن امرأة عربية متخصصة في فيزياء « البلازما » وهي الحال الرابعة للمادة التي يقال أن كتلة الكون تتألف منها .
تلك المرأة هي « مها عاشور عبدالله » أستاذة الفزياء في جامعة « لوس أنجلس » في الولايات المتحدة الأمريكية ، وقد تجاوزت هذه المرأة كل المستحيلات ، فاختارتها وكالة الفضاء الأمريكية « ناسا » مستشارة رئيسية في وضع خطة الأبحاث الأساسية في فيزياء الفضاء ، وقد منحت جائزة نساء العلم الأميركية .
____________
(5) ( نهج البلاغة ) الإمام علي ( قصار الحكم ) رقم : 81 .
( 261 )

وذكرت « مهى » المعروفة بأبحاثها المشتركة مع أبرز علماء فيزياء الفضاء من فرنسا واليابان والصين والأتحاد السوفيتي ( سابقاً ) والمانيا أنها غالباً ما تجد نفسها المرأة الوحيدة في المؤتمرات العلمية الدولية ، وتعتقد أن النساء العربيات أكثر أقداماً على العلوم من الغربيات ، وان نسبتهن في الكليات العلمية العربية لا تقل كثيراً عن الرجال ، وانهن لو أعطين الفرصة فسيحققن الكثير .
وتعد « مهى » العالمة المصرية التي أصدرت الى الآن ( 210 ) بحثاً من أبرز المتخصصين في ظاهرة « الشفق القطبي » الجوية المحاطة بالغموض والأساطير .
واضافة الى اللجنة الأستشارية في « ناسا » تشغل عضوية « هيئة علوم الكمبيوتر المتقدمة » وهي مسؤولة التنسيق عن الأفادة من علوم فيزياء الفضاء في « المؤسسة القومية للعلوم » التي تعتبر من أهم مراكز اعداد القرار العلمي في الولايات المتحدة .
و « مهى » حفيدة فلاح من قرية « مطوبس » غير البعيدة عن الأسكندرية في مصر (6) .
فساحة العلم مفتوحة أمام المرأة ، وميدان المعرفة متسع لمشاركتها ، واهتمامها بطلب العلم وتلقي المعرفة واجب شرعي عليها أكثر مما هو حق لها ، كما ينص الحديث الشريف : « طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة » .
لكن ظروف التخلف والأنحطاط هي التي جعلت المرأة عندنا أسيرة الجهل محرومة من نعمة المعرفة والعلم ( غالباً ) .
وقراءة شخصية السيدة زينب تعطي لأمتنا دفعة انطلاق لتجاوز هذا الواقع الخاطئ .
فقد اهتمت السيدة زينب بتلقي العلم والمعرفة منذ نعومة أظفارها وفي وقت مبكر من حياتها ، فانها روت عن أمها فاطمة الزهراء (7) .
____________
(6) جريدة ( الحياة ) اليومية ، تصدر في لندن تاريخ : ( 22 ـ 12 ـ 1411 هـ ) .
(7) ( معجم رجال الحديث ) الخوئي ج 23 ص 19 .

( 262 )

وقال الطبرسي : انها روت أخباراً كثيرة عن أمها الزهراء (8) .
بالطبع كان عمرها عند وفاة أمها السادسة .
وفي طليعة ما روت عن أمها الزهراء خطبتها العظيمة في الأحتجاج على الخليفة الأول أبي بكر حول منطقة فدك التي كانت تحت يد الزهراء فصادرها الخليفة وضمها الى بيت المال . . وخطبة الزهراء هذه طويلة مفصلة تتضمن زيادة على موضوعها الأساس حول فدك الكثير من المفاهيم والتعاليم الإسلامية ، وكل أسانيد هذه الخطبة تنتهي الى السيدة زينب فهي التي حفظت خطبة أمها وانتقلت عبرها الى الأجيال .
وقد أشار ابن أبي الحديد المعتزلي الى أسانيد الخطبة المنتهية كلها الى السيدة زينب نقلاً عن أبي بكر الجوهري ، والذي وصفه بقوله . عالم محدث ، كثر الأدب ، ثقة ورع ، أثنى عليه المحدثون ، ورووا عنه مصنفاته (9) .
ويذكر أبو الفرج الأصفهاني لخطبة الزهراء سنداً آخر عن ابن عباس بروايته عن السيدة زينب قال : والعقيلة هي التي روى ابن عباس عنها كلام فاطمة في فدك ، فقال : « حدثتني عقيلتنا زينب بنت علي » (10) .
وكما روت عن أمها الزهراء ، فقد روت أيضاً عن أبيها علي ، وعن أخويها الحسنين (11) .
وروت عن مولى لجدها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ذكر ابن عساكر ان اسمه طهمان أو ذكوان (12) .
لكن الشيخ النقدي نقل عن كتاب ( الورع ) لأحمد بن حنبل أن اسم ذلك
____________
(8) ( أدب الطف ) جواد شبر ج 1 ص 243 .
(9) ( شرح نهج البلاغة ) ابن أبي الحديد ج 16 ص 210 ـ 211 .
(10) ( مقاتل الطالبيين ) الأصفاني ص 91 .
(11) ( زينب الكبرى ) النقدي ص 35 .
(12) ( تاريخ مدينة دمشق ) « تراجم النساء » ابن عساكر ص 119 .

( 263 )

المولى ميمون أو مهران ، فقال : ومن ذلك ما في كتاب ( الورع ) لاحمد بن حنبل المطبوع بمصر حديثاً عن عطاء بن السائب قال : حدثتني أم كلثوم ابنة علي ـ هي زينب ـ قال : أتيتها بصدقة كان أمر بها .
قالت : احذر شبابنا فإن ميموناً أو مهران أخبرني أنه مر على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال : يا ميمون أو يا مهران إنا أهل بيت نهينا عن الصدقة وإن موالينا من أنفسنا فلا تأكل الصدقة (13) .
وروت أيضاً عن فضليات نساء عصرها كأم أيمن مولاة النبي وحاضنته ، وأم سلمة زوج رسول الله ، وأم هاني بنت أبي طالب (14) ، وأسماء بنت عميس أم عبدالله بن جعفر (15) .
ولم تختزن السيدة زينب العلم لنفسها أو تحتكره لذاتها بل أفاضت من معارفها ومروياتها على أبناء الأمة ، فكانت تتحدث ليس فقط للنساء بل حدثت العديد من رجالات بيتها وسائر الأصحاب والتابعين . . فقد روى عنها جابر ، وعباد العامري (16) ، وابن اخيها علي بن الحسين زين العابدين (17) ، وروى عنها حبر الأمة عبدالله بن عباس (18) ، وزوجها عبدالله بن جعفر (19) ، وروى عنها محمد بن عمرو الهاشمي ، وعطاء بن السائب (20) ، وروى عنها أحمد بن محمد بن جابر ، وزيد بن علي بن الحسين (21) .
____________
(13) ( زينب الكبرى ) النقدي ص 38 .
(14) المصدر السابق ص 35 ـ 41 .
(15) ( تراجم النساء ) ابن عساكر ص 119 .
(16) ( معجم رجال الحديث ) الخوئي ج 23 ص 190 .
(17) ( أدب الطف ) جواد شبر ج 1 ص 238 .
(18) ( مقاتل الطالبيين ) الأصفهاني ص 91 .
(19) ( زينب الكبرى ) النقدي ص 35 .
(20) ( تراجم النساء ) ابن عساكر ص 119 .
(21) ( زينب الكبرى ) النقدي ص 37 .

( 264 )

وروت عنها بنت أخيها فاطمة بنت الحسين (22) ، وقد مر علينا سابقاً أنها كانت مهتمة بتعليم النساء وتثقيفهن ضمن مجالسها العلمية .
ويكفي لأدراك مقام زينب الريادي في ميدان المعرفة والعلم أن نتأمل ما رواه الصدوق محمد بن بابويه ( طاب ثراه ) من أنه كانت لزينب نيابة خاصة عن الإمام الحسين ( عليه السلام ) بعد شهادته ، وكان الناس يرجعون اليها في الحلال والحرام حتى برئ زين العابدين (23) .
كما أن شهادة الإمام زين العابدين في حقها لم تكن جزافاً ولا مبالغة وهو الإمام المعصوم حيث قال لها : « أنت بحمد الله عالمة غير معلمة وفهمة غير مفهمة » (24) .
____________
(22) ( تراجم النساء ) ابن عساكر ص 119 .
(23) ( زينب الكبرى ) النقدي ص 35 .
(24) المصدر السابق ص 34 .