أمّه المكرَّمة (رضوان الله تعالى عليها) هي: شاهزنان (شهربانو) بنت يزدجرد آخر ملوك الساسانية، وتحتلّ هذه السيدة الجليلة المكانة المرموقة في عالم المرأة المسلمة، فقد كانت من النساء الحكيمات في عصرها بل في طليعة نساء المسلمين، وفي الأثر: أنّ الأصمعيّ كان يحدّث أنّ ابنة يزدجرد جاءت إلى عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) في مائة وصيفة، فقال علي(عليه السلام): أكرموها فإنّها حديثةٌ بنعمة.
في يوم ولادته(عليه السلام) سارع الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أو ولده الإمام الحسين(عليه السلام) إلى إجراء مراسيم الولادة الشرعية على الوليد المبارك فأذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى، وقد غرس بذلك في قلبه معبداً ينبض بأحاسيس التقوى والصلاح، فكانت نغماً حيّاً يسيره نحو البرّ والعمل الصالح.
إنّ أوّل ما استُقبِلَ به الإمامُ زين العابدين في هذه الحياة هو صوت (الله أكبر) وقد طبع في قلبه ومشاعره، وصار في ذاتياته ومقوّماته وفي اليوم السابع من ولادته عقّ عنه أبوه بكبشٍ وحلق شعر رأسه، وتصدّق بوزنه فضّةً أو ذهباً على المساكين عملاً بالسنّة الإسلامية المقدّسة.
كنيته المباركة (عليه السلام): أبو الحسن، وقيل: أبو الحسين، وقيل: أبو محمد، وقيل: أبو عبدالله، وقيل: أبو القاسم. وكان يُقال له أيضاً: ابنُ الخيرتين. أمّا ألقابه (عليه السلام) فهي كثيرة، منها: السجاد، زين العابدين، ذو الثفنات، الزكيّ، الأمين، ...وغيرها، وكان من أشهر ألقاب الإمام الرابع علي بن الحسين(عليه السلام) هو (زين العابدين)، ومن ألقابه(عليه السلام) أيضاً: سيّد العابدين، كما سمّاه بذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله).
كان الإمام زين العابدين(عليه السّلام) يخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب على ظهره وفيه الصرر من الدنانير والدراهم، وربّما حمل على ظهره الطعام أو الحطب حتّى يأتي باباً باباً فيقرعه، ثم يُناول مَن يخرج إليه، وكان يغطّي وجهه لئلاّ يعرفه الفقير، ولمّا وُضِع على المغتسل نظروا إلى ظهره وعليه مثل رُكب الإبل.
عن الإمام الصادق(عليه السّلام) أنّه قال: (كان عليُّ بنُ الحسين(عليهما السّلام) شديدَ الاجتهادِ في العبادة؛ نهاره صائمٌ وليلهُ قائم، فأضرّ ذلك بجسمه، فقلتُ له: يا أبه، كَم هذه الدؤب؟ فقال: أتحبّبُ إلى ربّي لعلّه يزلفُني).
وكان الإمام(عليه السلام) يصلّي في اليوم ألف ركعة فإذا أصبح الصباح يُغشى عليه من التعب، رآه عبدٌ من عبيده اسمه (سيف) في إحدى الليالي يبكي ويتضرّع إلى الله، فقال له: ممّ بكاؤك يا ابن رسول الله وأنت على ما أنت عليه من الفضل وجدّك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال الإمام: (اعلم يا سيف كلّ العيون باكيةٌ يوم القيامة إلّا خمس: عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ فقئت في سبيل الله، وعينٌ أعرضت عن محارم الله، وعينٌ بكت لمصاب أبي الحسين، وعينٌ باتت ساهرةً في عبادة الله، إنّ الله سبحانه وتعالى ينظر في الليالي إلى الساجدين والعابدين ويقول للملائكة انظروا إلى عبدي جسدُهُ ساجدٌ لي وروحُه عندي يناجيني خوفاً من عذابي وطمعاً في جنّتي، اشهدوا يا ملائكتي أنّي قد غفرت له)، فقال سيف: سيدي ومولاي ادعُ لي أن يجعلني اللهُ عيناً من تلك العيون الخمس.
تميّز الإمامُ زين العابدين بأنّه عاصر مجموعةً من العبّاد وحفظة القرآن ولكنّهم جهّال الدين كالذين قال عنهم رسول الله(صلى الله عليه وآله): (قتلني اثنان عالمٌ متهتّك وجاهلٌ متنسّك)، ذهب الإمامُ إلى بيت الله الحرام وكان عامَ جدبٍ لا ماء فيه، ورأى العباد مجتمعين وكان بينهم مالك بن دينار ورابعة العدوية اللذان تُضرب فيهما الأمثلة بالزهد والعبادة وهم يدعون ويصلّون صلاة الاستسقاء، فقالوا: يا ابن رسول الله أتصلّي معنا صلاة الاستسقاء، فقال: ويحكم أما فيكم رجلٌ يحبّه الله؟!.. انصرفوا عن الكعبة، ثم دعا ربّه قائلاً: (سيدي..! بحبّك لي إلّا سقيتهم الغيث..) فما أكمل الإمامُ(عليه السلام) دعاءه إلّا والمطر ينزل كالسيول في طرقات مكّة، فجاء مالك بنُ دينار فقال له: يا فتى من أين علمتَ أنّ الله يحبّك؟.. فأجابه الإمام جواباً مفحماً إذ قال: (لأنّه استوزرني ولو لم يحبّني لم يستوزرني.. فسألتُه بحبّه لي فأجابني..) -استوزرني: أي جعلني خليفته ووزيره-.