أنت في الصفحة : مقالات

مقالات
الإعجازُ البلاغيُّ في القُرآنِ الكريمِ
الإعجازُ البلاغيُّ في القُرآنِ الكريمِ
الكاتب : الشيخ مرتضى الاسدي

تأريخ النشر : 2020-02-20

المُشتَركُ اللفظيّ مثالًا
 الشّيخ مُرتضى الأسديّ (طالب في الحوزة العلميّة)
إنّ القُرآنَ الكريمَ كتابُ أُعجوبةٍ صياغةً وانتقاءً، فضلاً عن إعجازه العلميّ والتّشريعيّ، ولِكَونهِ دستوراً في استقامة الشُّعوب وتنظيم حياة النّاس بما يضمن لهم العيشَ الكريمَ من عدالةٍ ومُساواةٍ.
وخُلودُ القُرآن الكريم على مدى الدُّهور والعُصور هو سِرُّ إعجازِهِ، وهذا الخُلود له مِنَ الأسبابِ ما لا يُحصى ممّا عَلِمناه وما لم نَعلَمهُ.
ولكنْ لو أردنا أن نتحدّثَ عن إعجازه بما نراهُ واضحاً لعُقولنا نجدُ أنّ هُناكَ أموراً اتّضحَ لنا أنّها هي أسبابُ خُلودِ القُرآن الكريم:
أوّلُها: الإعجاز العِلميّ
إنّ اللـٰهَ بيّن لنا في كتابه العزيز كثيراً من المفاهيم والنّظريّات العلميّة والظّواهر الطّبيعيّة الّتي كانت خافيةً، كالأمور العقليّة وغيرها من الأمور الّتي كانت مجهولةً ليس لها تفسيرٌ, ومِثلُ هذا الإعجاز العلميّ عندما يتحدث القُرآن الكريم عن خلق الإنسان في مراحله مُذ كَونِهِ نطفةً وإلى كونِهِ إنساناً كاملاً، فقال جلّ مِن قائلٍ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾( ).
أيضاً من إخبارات القُرآن الكريم أنّهُ أخبر بانفصال الأرض عن السّماء، وذلك في قوله تعالى: ﴿كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾( )، أي أنّهما كانا وحدةً واحدةً مُتلاصقةً، ثم انفَصَلَتا بأمر اللـٰه عزَّ وجلَّ، وهذا ما يُعرَفُ في العِلم بالانفجارِ العظيمِ، الّذي يُرجِّحُ العُلماء حُدوثَهُ قبل بَدءِ الحياة على الأرض.
ويطولُ الكلام عن الإعجاز العلميّ في كتاب اللـٰه بما لا يَسَعُهُ هذا الـمختَصَرُ.
ثانيها: الإعجازُ البلاغيُّ
إنّ هذا النّوعَ من الإعجاز هو أكبرُ وأعظمُ بالنّسبة للعصر الّذي جاء فيه القرآنُ، وهذا النّوع من الإعجاز هو أوضحُ الأنواع؛ لأنّنا قد لا نصلُ إلى معرفة الإعجاز العلميّ لِقُصورنا عن إثباتِ النّظريات العِلميّة الّتي جاء بها القُرآنُ الكريم، لكنّنا لا نحتاجُ إلى التّحرّي والتّمحيص لنعرفَ بلاغةَ القُرآن وفصاحتَهُ، فقد كانت كلماتُ القُرآن في عصر نُزوله كالصّاعقة، فذلَّتّ لها الأعناقُ، وخَشَعَتْ لها الأبصارُ والقُلوبُ، وأذعنتْ لـها الأصواتُ والأسمـاعُ مُـصغِـيَـةً لِلَطيفِ العِباراتِ، وجَودَةِ الكلماتِ، فكان لا بُدّ مِنَ التّسليم لها في أنّها أبلغُ وأفصحُ ما سَمِعَ العربُ من الكلام، والّذي جاء به رجلٌ لـم يُسبَـقْ لـهُ أنّـهُ نظـمَ شِعـراً أو كتبَ في فَـنٍّ مِن فُـنـون الأدب، بـل لـم يكـتُبْ شيئـاً قَـطُّ.
وحتّى لا نطيلُ الكلامَ، فخيرُهُ ما قلَّ ودَلَّ، ندخلُ إلى الغرض الأساسيّ مِنَ الـمـقـالة: أنّنا لا نشكُّ بأنّ بلاغةَ القُرآنِ لها أسبابُها الكثيرةُ، وأرى أنّ السّببَ الأساسيَّ هو سببٌ واحدٌ مُهِمٌّ، ولا يمنعُ مِن وُجودِ أسباب أُخرى، وهذا السّبب هو: تَنَـوُّع كلماتِهِ واستخداماتها، وانتقاء أكثر الكلمات فصاحةً وبلاغةً، وتعدُّد الأساليب البلاغيّة الّتي وردت في القُرآن الكريم, فجاء استعمالُ الكلمات الغريبة, الـمُشتركة، الـمنقولة والـمجازيّة.
ومحورُ حديثنا هُنا هو: ”اللفظُ الـمشـترك“، وهو (لفظٌ وُضِعَ لمعنيين أو أكثر بأوضاعٍ مُتعدّدة، فهو إذن لم يوضع لمجموعِ ما يدلّ عليه بوضعٍ واحدٍ، بل بأوضاعٍ مُتعدّدة، أي: وُضِعَ لكل معنىً مِن معانيـهِ بوضعٍ على حِدَةٍ، كان يُوضَعُ لهذا المعنى, ثُمّ يوضَعُ مرّةً ثانيةً لمعنىً آخرَ)( ).
وأبرزُ مثالٍ على اللفظ المشترك الّذي غالباً ما يتمّ استعمالُهُ في بيان معنى اللفظ المشترك هو لفظ (عَيْن)، فقد يُطلَقُ هذا اللفظُ ويُرادُ به ”العينُ الباصرةُ“ كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ﴾( ).
وقد يُطلَقُ لفظُ العين ويُـراد بـه ”العينُ الجاريةُ“, قال تعالى: ﴿فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ﴾( )، وكذا قولُهُ سُبحانَهُ ﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ﴾( ).
ويُطلقُ لفظُ العين ويرادُ به ”الجاسوس“، كما تقول (بَعَثَ الـمَلِكُ في المدينةِ عُيُونَـهُ)، أي: جواسيسَهُ.
والـمثالُ الأشهرُ في القُرآن الكريم الّذي يدلّ على استعمال اللفظ الـمُشترك: قولُهُ تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾( )، فالصّلاةُ مِنَ اللـٰهِ تعالى مغفرةٌ ورحمةٌ، ومِنَ الملائكة استغفارٌ، وهذانِ معنَيانِ مُتغايـرانِ.
واللفظُ الـمشتركُ دائماً يحتاجُ إلى قرينةٍ لفظيةٍ أو معنويّةٍ، وهذه القرينةُ هي الّتي تُحدّدُ الـمعنى الـمُراد مِنَ اللفظ، والقرينةُ اللفظيةُ إمّا تكون مضافاً إليه أو صفةً أو غيرهما، أو تكون قرينةً معنويّةً تُفهَمُ مِن سِياقِ الآية الكريمة. والغرضُ من القرينة هو تعيينُ المعنى، وحصرُ اللفظ بمعنىً واحدٍ، وطردُ المعاني الأُخرى. وهذا النّوع من الألفاظ ورد في القُرآن الكريم في مواضعَ كثيرةٍ لحكمةٍ بلاغيةٍ.
ومِنَ الأمثلة على اللفظ المشترك هو لفظ (الأُمّة)، ودلّ في مواضعه المختلفة على معانٍ متنوّعة تُعرَفُ من السّياق فمثلاً: في قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ﴾( )، جاء لفظُ (الأُمّـة) هنا بمعنى ”الأَمَدِ والـحِين“.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾( )، جاء لـفـظ (الأُمّـة) هُنا بمعنى ”الإمام“ الذي يُـقـتـدى بـه. وقولُهُ سُبحانَــهُ ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾( )، جاء لفظ (الأُمّـة) هُنا بمعنى ”الدِّين والـمِلّـة“. وقولُهُ عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ﴾( ) وهنا جاء لفظ (الأُمّـة) بمعنى ”الجماعة مِنَ النّاس“. وقولُهُ تبارك وتعالى: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾( ) جاء لفظُ (الأُمّـة) هنا بمعنى الفِرقـة والطّائـفـة( ).
وهكذا نجدُ أنّ لفظ (الأُمّـة) وهـو لفظٌ مُشـتركٌ جـاء في كُلّ آيـةٍ مِن هـذه الآيات بمعنـىً مُـختـلفٍ حَـدَّدَهُ السِّياقُ الّذي وَرَدَ فـيـهِ.
ومن الأمثلة على اللفظ الـمشترك لفظ (الفتح)، إذ وردَ هذا اللفظُ في القُرآن بمعانٍ متنوِّعةٍ حدّدها السّياقُ في الآيات الكريمة، فجاء بمعنى ”الفتح الـمـادّيّ“، وهو الأصلُ في معنى (الفتح)، والـمثالُ عليه قولُهُ سُبحانَـهُ ﴿وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ﴾( )، المقصود منه الفتحُ المادّيّ وهو أنّهم فتحوا أوعِيةَ مَتاعِهِم( ).
وفي موردٍ آخر جاء بمعنى ”الفتح الـمعنويّ“، كما في قول اللـٰه تعالى: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾( )، أي: بما منّ اللـٰه عليكم وأعطاكم( ).
وجاء (الفتح) في آيـةٍ أُخرى بمعنى ”النّصر والغَلَبـة“، كما في قوله سُبحانَـهُ: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾( ).
فهذه الشّواهدُ من الآيات -وغيرها مـمّا لا يَسَعُـهُ هذا الـمُختصرُ- تدلُّ على أنّ القُرآنَ الكريمَ جاء فـيـه استعمالُ اللفظ الـمشترك وغيره من أساليب البلاغة الّتي ما جاءت إلّا لِـحكمةٍ.
تعليقات القرآء (0 تعليق)
لاتوجد اي تعليقات حاليا.

ملاحظة: لطفا التعليق يخضع لمراجعة الادارة قبل النشر

الرجاء الضغط على المربع أدناه

جاري التحميل ...

لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...

جاري التحميل ...