أنت في الصفحة : مقالات

مقالات
إذا بَلَغَتِ القُلوبُ الحَناجِرَ!
إذا بَلَغَتِ القُلوبُ الحَناجِرَ!
الكاتب : أحمد سالم إسماعيل

تأريخ النشر : 2021-02-12

أحمد سالم إسماعيل
بسم الله الرّحمن الرّحيم، الحمدُ لله وسلامٌ على عباده الّذين اصطفى مُحمّدٍ وآله خير الورى.
وبعدُ: فإنّ الإنسان يبلغ في آخر حياته لا بُدّ أن يموت، فبعضٌ يموتُ على فراشه، وبعضٌ يموتُ شهيدًا، وما أسعدَ من يموت شهيدًا! وبعضٌ يأخذه مرضٌ يُقعِدُهُ إلى أنْ يموت.
فإذا جاءَهُ المَوتُ بَلَغَتْ روحُهُ حُلقومَهُ، أي، وصلتْ إلى ما نُسمّيهِ بـ(البُلعوم)، وعبّر القُرآن الكريم عن هذه اللحظات في أواخر سورة الواقعة، قال عزّ وجلّ: ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾( )، فلا استطاعة للمحتضَر، ولا لِمَنْ حولَهُ أن يفعلوا شيئًا لإنقاذه، بل الأمرُ كُلُّهُ بِيَدِ الله عزّ وجلّ.
ثُمّ قد ذكر القُرآنُ الكريمُ في موضعين أنّ الرّوحَ بلغتِ الحناجِرَ، وهو معنًى يُشبِهُ المعنى المُتقدّم في سورة الواقعة المباركة، فأمّا الموضعان فهُما:
1. الآية (10) من سورة الأحزاب: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾.
2. الآية (18) من سورة غافر: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾.
في كُلّ آيةٍ صورةٌ، ففي سورة الأحزاب صورةٌ لحالةِ فَزَعٍ أصابَ المُسلمين في معركة الخندق( )، حتّى ﴿زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾، وهذه حالُ المُحتَضَرِ الّذي مَلَأهُ الخوفُ، فمعنى ﴿زَاغَتِ الْأَبْصَارُ﴾: «مالَتْ عن كُلِّ شَيءٍ، فَلَمْ تَنظُرْ إِلّا إلى عَدُوِّها مُقبِلًا مِن كُلِّ جانِبٍ. وقيلَ معناهُ: عَدَلَتْ الأبصارُ عن مَقَرِّها مِنَ الدَّهَشِ والحَيرةِ، كما يكونُ الجَبانُ، فلا يَعلَمُ ما يُبصِرُ»( ).
وقيل في معنى ﴿بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾: «شَخَصَتِ القُلوبُ مِن مَكانِها، فلولا أنّهُ ضاقَ الحُلقومُ عَنها أنْ تَخْرُجَ لَخَرَجَتْ»( ).
قال السّيّدُ الطّباطبائيُّ (رحمه الله): «والوصفانِ -أَعني زَيغَ الأبصارِ وبُلوغَ القُلوبِ الحناجِرَ- كنايتانِ عَن كمالِ غَشَيانِ الخَوفِ لَهُمْ حتّى حَوَّلَهُمْ إلى حالِ المُحتَضَر الّذي يَزيغُ بَصَرُهُ وتبلُغُ روحُهُ الحُلقومَ»( ).
إذن: وصلَ المسلمونَ في معركة الخندق إلى حال الاحتضار، فكيف انتصروا؟!
هذه الصّورة الأُولى، أمّا الصّورة الثّانية ففي سورة غافر، وهي عبارةٌ عن مشهدٍ من مشاهدِ يوم الآزفة، وهُو يومُ القيامة، فقوله عزّ وجلّ: ﴿إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ﴾: «كنايةٌ عن غايةِ الخَوفِ، كأنّها تزولُ عن مَقَرِّها وتَبلُغُ الحناجِرَ مِن شِدَّةِ الخَوفِ، و﴿كاظِمينَ﴾ من الكَظْمِ، وهُوَ شِدَّةُ الِاغتِمامِ»( )، عِندَئذٍ لا موتَ يُخَلِّصُهُم مِن حالةِ الرُّعبِ والخوف فيرتاحوا، ولا يلوحُ في الأفقِ ما يُنبِئُ بِخَلاصِهِم، فإمّا جنّةٌ وإمّا نارٌ، قال تعالى: ﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ﴾( )، وقال أمير المؤمنين (عليه السّلام): «يَوْمُ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ أَشَدُّ مِنْ يَوْمِ الظَّالِمِ عَلَى الْمَظْلُومِ»( ).
وتستمرّ الآية فتُشير إلى وجود فريقين، وتُبيّن حال أحدهما، وهو فريق الظّالمين، فقالت الآية: ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾، وهذا يدعونا إلى أن نسأل: هل للفريق الآخر شفيعٌ يُطاعُ؟
يتّضحُ الجواب عند رجوعنا إلى الصّورة الأولى الّتي فيها ﴿زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾، ونبحث في التّأريخ لنرى أنّ العاملَ الوحيد الّذي استطاع أن يزيل حالة الاحتضار عن المسلمين هو الانتصارُ الّذي تحقّق بسيف أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبٍ (عليه السّلامُ).
قال ابنُ أبي الحديدِ المعتزليُّ: «والّذي هَزَمَ الأحزابَ هو عَلِيُّ بنُ أبي طالبٍ [عَلَيهِ السّلامُ]؛ لأنّهُ قَتَلَ شُجاعَهُمْ وفارِسَهُم عَمْرًا لمّا اقتَحَموا الخندقَ، فَأصبَحوا صَبيحةَ تِلكَ الليلةِ هارِبينَ مفلولينَ( )، مِن غَيرِ حَربٍ سِوى قَتلِ فارِسِهِم»( ).
إذن: كان حضورُ أميرِ المُؤمنينَ (عليه السّلام) يومَ الخندقِ كلمةَ الفَصْلِ، إذ إنّهُ أَنْقَذَ المُسلمين من حالة الاحتضار، كذلك يومَ الآزفة، ذكرت الآية أنّهُ لا شفيعَ للظّالمين، لكنّ الآية سكتتْ عن حال المؤمنين، هل لهم شفيع؟ فإذا نظرنا إلى مصيرهم في معركة الخندق عرفنا أنّ الشّفيع حاضرٌ، وبحضوره هَزَمَ الظّالمين، كذلك في الآخرة، يمكن أن يدلّ نفيُ شفيع الظّالمين في الآية على وجود شفيعٍ للمؤمنين، و(الشّفاعة) مبحثٌ كبير في العقائد لا يمكن الخوض فيه ها هُنا.
أمّا ما نُريدُ بيانَهُ في هذه المقالةِ هُو وُجودُ الشّفيعِ عِندَ بُلوغِ الرّوحِ الحُلقومَ، وفي موقف القيامة أيضًا، وتدلّ على ذلك أحاديثُ، منها: عن الإمام أبي جعفرٍ الباقر (عليه السّلامُ)، قال: «أنفعُ ما يكونُ حُبُّ عَلِيٍّ لَكُمْ إذا بَلَغَتِ النَّفْسُ الحُلقومَ»( ).
إنّ مَعنى حضورِ أميرِ المؤمنينَ (عليه السّلامُ) عند الِاحتضار للمُؤمن والمُنافق ثابت في الرّوايات( )، فقد ورد «عَنِ الحارث الهَمْدانيّ، قال: دخلتُ على أميرِ المؤمنينَ عليّ بن أبي طالبٍ (عليه السّلام) فقال: ما جاء بك؟ قال: فقلت: حُبّي لَكَ يا أميرَ المؤمنينِ. فقال: يا حارثُ أ تُحِبُّني؟ فقلتُ: نَعَمْ واللهِ، يا أميرَ المُؤمنينَ. قال: أَمَا لو بَلَغَتْ نَفسُكَ الحُلقومَ رأيتَني حيثُ تُحِبُّ، ولو رَأَيتَني وأنا أذودُ الرّجالَ عن الحوضِ ذَودَ غَريبةِ الإِبِلِ لَرأَيتَني حيثُ تُحِبُّ، ولو رأيتني وأنا مارٌّ على الصّراط بِلِواءِ الحمدِ بَينَ يَدَيْ رَسولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله) لَرَأَيتَني حيث تُحِبُّ»( ).
بعد التّأمُّل فيما مضى من الآيات أمكنَ لنا أن نُثبِتَ من القرآن الكريم حُضورَ أمير المؤمنين (عليه السّلامُ) ساعةَ الاحتضار، إذ إنّ مَن حضر لإنقاذ المسلمين في الدُّنيا، يمكنه الحضورُ لإنقاذهم في الآخرة، وذلك كُلّه بأمرٍ من الله تعالى، ولا غرابة في ذلك؛ لأنّ المُسلمين رووا فضائل أمير المؤمنين (عليه السّلامُ) على لسان رسول (صلّى الله عليه وآله)، فقد ورد «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: أَنْتَ سَيِّدٌ فِي الدُّنْيَا، وَسَيِّدٌ فِي الْآخِرَةِ، مَنْ أَحَبَّكَ فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَحَبِيبُكَ حَبِيبُ اللَّهِ، وَعَدُوُّكَ عَدُوِّي، وَعَدُوِّي عَدُوُّ اللَّهِ، الْوَيْلُ لِمَنْ أَبْغَضَكَ مِنْ بَعْدِي»( ).
إذن: هو (عليه السّلامُ) سيّدٌ في الدُّنيا وسيّدٌ في الآخرة، فمن سيادته في الدُّنيا حضوره لتخليص المسلمين فيها، وكذا في الآخرة، فهو سيّدٌ يكشف كروب المؤمنين في الدُّنيا والآخرة.
تعليقات القرآء (0 تعليق)
لاتوجد اي تعليقات حاليا.

ملاحظة: لطفا التعليق يخضع لمراجعة الادارة قبل النشر

الرجاء الضغط على المربع أدناه

جاري التحميل ...

لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...

جاري التحميل ...