الإمامُ عَلِيٌّ(عليه السلام) كَعبةُ الفَضَائِلِ
وسط محيط صاخب بالجاهليّة ومظاهر التيهِ والزيغ، وُلِد الإمام عليّ(عليه السلام) في جوف الكعبة بعد دعاء أمّه وتوسّلها بالله الواحد الأحد أن يسهّل عليها ولادتها، وتلقّى التربية الإلهيّة خلال السنوات الطوال التي قضاها مع النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) منذ نعومة أظفاره، حتى بلغ من العمر ثلاثاً وثلاثين عاماً، وهي مدّة عمره التي عاشها معه(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد صدّقه ولم تمسّ قلبه عقيدة سابقة، أو يخالط عقله شوبٌ من شرك، ولازمه فتىً يافعاً في غدوّه ورواحه، وسِلمه وحربه حتى تخلّق بأخلاقه واتّسم بصفاته، وفقه عنه الدين وتفقّه فيما نزل به الروح الأمين، فكان من أفقه المحيطين به وأقضاهم وأحفظهم وأدعاهم وأدقّهم في الفُتيا، وأقربهم إلى الصواب.
كان العالِم المجرّب الحكيم، والناقد الخبير، وكان لطيف الحسّ، نقيّ الجوهر، وضّاء النفس، سليم الذوق، مستقيم الرأي، حسن الطريقة، سريع البديهة، حاضر الخاطر، عارفاً بمهمّات الأمور.
اشتهر الإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) بتقواه التي كانت علّة جميع تصرّفاته مع نفسه ومع ذويه والناس، ترى العبادة عنده أخْذاً من كلّ قوّة ووصلاً لأطراف الحلقة الخلقية التي تشتدّ وتمتدّ حتى تجمع الأرض والسماء، ومعنىً من معاني الجهاد في سبيل ما يربط الأحياء بكلّ خير، وهي على كلّ حال شيء من روح التمرّد على الفساد الذي يريد محاربته من كلّ صوب، ثمّ على النفاق وروح الاستغلال والاقتتال من أجل المنافع الخاصّة، وعلى المذلّة والفقر والمسكنة والضعف، ثمّ على سائر الصفات التي تميّز بها عصره المضطرب القَلِق.
كان متفرّداً في عبادته وتقواه، مثلما كان متفرّداً في أسلوبه في السياسة والحكم، ففي عبادته افتتان في ذات الله تعالى، صافي النفس، ممتلئ القلب، حتى إذا انكشفت له جمالات هذا الكون، تجاوبت وما في كيانه من أصداء وأظلال وموازين، فأطلق هذه الكلمة الرائعة التي نرى فيها دستوراً كاملاً لتقوى الأحرار وعبادة عظماء النفوس، حيث قال: "وإنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار"(1)، إنّ عبادة الإمام(عليه السلام) ليس فيها شيء من سلبيّة الخائف الهارب، أو التاجر الراغب مثلما هي عليه الحال عند الكثيرين من المتعبّدين، بل هي شيء من إيجابيّة الإنسان العظيم الواعي بنفسه والكون على أساس من خبرة المجرّب وعقل الحكيم.
اجتمع للإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) من صفات الكمال، ومحمود الشمائل والخِلال، وسناء الحسب وعظيم الشرف، مع الفطرة النقيّة والنفس المرضيّة ما لم يتهيّأ لغيره من أفذاذ الرجال، فإنّه(عليه السلام) تحدّر من أكرم المناسب وانتمى إلى أطيب الأعراق، فأبوه أبو طالب عظيم المشيخة من قريش، وجدّه عبدالمطّلب أمير مكّة وسيّد البطحاء، ثمّ هو قبل ذلك من هامات بني هاشم وأعيانهم(2).
إذا كان القرآن الكريم هو معجزة النبوّة، فإنّ نهج البلاغة معجزة الإمامة، فليست هذه العقليّة العظيمة المتجلّية في ذلك الأسلوب العلويّ، الواضحة في كلّ فقرة من فقرات (النهج)، وفي كلّ شذرة من تلك الشذور إلّا غرس ذلك النبيّ العظيم المستمدّ من وحي الله تعالى، فما من موضوع يطرقه الإمام(عليه السلام) إلّا وترى نور الله يشعّ أمامه وهدي الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ينير له الطريق.
......................................
1- ميزان الحكمة: ج3، ص9.
2- يُنظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج1، ص4.
رئيس التحرير