[ مختار المؤلّف في المسألة ] فالقول بعدم كونه حقا للناس بمعنى وجوب البراءة ، نظير الحقوق المالية ، لا يخلوعن قوة ، وإن كان الاحتياط في خلافه ، بل لا يخلو عن قرب ، من جهة كثرة الأخبار الدالة على وجوب الاستبراء منها ، بل اعتبار سند بعضها (1).
والأحوط الاستحلال إن تيسر ، وإلا فالاستغفار.
غفر الله لمن اغتبناه ولمن اغتابنا بحق محمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.
1 ـ مثل الدعاء التاسع والثلاثين من الصحيفة السجادية ، المتقدم في أدلة وجوب الاستحلال ( الصفحة : 338 ) ، ومن البديهي أن الصحيفة وصلت إلينا بسند معتبر عن سيد الساجدين زين العابدين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المعصومين.
[ مستثنيات الغيبة ]
[ استثناء ما فيه مصلحة عظمى ] فاعلم أن المستفاد من الأخبار المتقدمة وغيرها أن حرمة الغيبة لأجل انتقاص المؤمن وتأذيه منه ، فإذا فرض هناك مصلحة راجعة إلى المغتاب ـ بالكسر ، أو بالفتح ، أو ثالث ـ دل العقل أو الشرع على كونها أعظم من مصلحة احترام المؤمن بترك ذلك القول فيه ، وجب كون الحكم على طبق أقوى المصلحتين ، كما هو الحال في كل معصية من حقوق الله وحقوق الناس ، وقد نبه عليه غير واحد.
قال في جامع المقاصد ـ بعد ما تقدم عنه في تعريف الغيبة ـ : إن ضابط الغيبة المحرمة : كل فعل يقصد به هتك عرض المؤمن ، أو التفكه به ، أو إضحاك الناس منه ، وأما ما كان لغرض صحيح فلا يحرم ، كنصح المستشير ، والتظلم وسماعه ، والجرح والتعديل ، ورد من ادعى نسبا ليس له ، والقدح في مقالة باطلة خصوصا في الدين (1) ، انتهى.
وفي كشف الريبة : اعلم أن المرخص في ذكر مساءة الغير هو غرض صحيح في الشرع لا يمكن التوصل إليه إلا به (2) ، انتهى (3).
1 ـ جامع المقاصد 4 : 27.
2 ـ كذا في المصدر ، والعبارة في النسخ كما يلي : اعلم أن المرخص في ذكر مساوئ الغير غرض صحيح لا يمكن التوصل إليه إلا بها.
3 ـ كشف الريبة : 77.
(343)
وعلى هذا ، فموارد الاستثناء لا تنحصر في عدد. نعم ، الظاهر استثناء موضعين لجواز الغيبة من دون مصلحة :
أحدهما :
[ جواز غيبة المتجاهر بالفسق ] ما إذا كان المغتاب متجاهرا بالفسق ، فإن من لا يبالي بظهور فسقه بين الناس لا يكره ذكره بالفسق. نعم ، لو كان في مقام ذمه كرهه من حيث المذمة ، لكن المذمة على الفسق المتجاهر به لا تحرم ، كما لا يحرم لعنه.
وقد تقدم (1) عن الصحاح أخذ المستور في المغتاب.
وقد ورد في الأخبار المستفيضة جواز غيبة المتجاهر :
[ الأخبار المستفيضة الدالّة على الجواز ] منها : قوله عليه السلام ـ في رواية هارون بن الجهم ـ : إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة (2).
وقوله عليه السلام : من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له (3).
ورواية أبي البختري : ثلاثة ليس لهم حرمة : صاحب هوى مبتدع ، والإمام الجائر ، والفاسق المعلن بفسقه (4).
ومفهوم قوله عليه السلام : من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم
1 ـ في الصفحة : 322.
2 ـ الوسائل 8 : 604 ، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث 4.
3 ـ الاختصاص : 242 وعنه مستدرك الوسائل 9 : 129 ، الباب 134 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث 3.
4 ـ الوسائل 8 : 605 ، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث 5 ، وفيه : المعلن بالفسق.
(344)
يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، فهو ممن كملت مروته [ وظهر عدله ] (1) ووجبت اخوته ، وحرمت غيبته (2).
وفي صحيحة ابن أبي يعفور ـ الواردة في بيان العدالة ، بعد تعريف العدالة ـ : أن الدليل على ذلك أن يكون ساترا لعيوبه حتى يحرم على المسلمين تفتيشما وراء ذلك من عثراته (3) دل (4) على ترتب حرمة التفتيش على كون الرجل ساترا ، فتنتفي عند انتفائه.
ومفهوم قوله عليه السلام في رواية علقمة ـ المحكية عن المحاسن (5) ـ : من لم تره بعينك يرتكب ذنبا ولم يشهد عليه شاهدان فهو من أهل العدالة والستر ، وشهادته مقبولة وإن كان في نفسه مذنبا ، ومن اغتابه بما فيه فهو خارج عن ولاية الله تعالى ، داخل في ولاية الشيطان ... الخبر (6) ، دل على ترتب حرمة الاغتياب وقبول الشهادة على كونه من أهل الستر وكونه من أهل العدالة ـ على طريق اللف والنشر ـ أو على اشتراط الكل بكون الرجل غير مرئي منه المعصية ولا مشهودا عليه بها ،
1 ـ من ص و ش والمصدر.
2 ـ الوسائل 8 : 597 ، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث 2 ، مع اختلاف.
3 ـ الوسائل 18 : 288 ، الباب 41 من أبواب الشهادات ، مع اختلاف.
4 ـ كذا ، والمناسب : دلت.
5 ـ كذا ، والظاهر أنه مصحف المجالس ، انظر أمالي الصدوق : 91 ، المجلس 22 ، الحديث 3 ، وقد رواها في الوسائل عنه ، لا غير.
6 ـ الوسائل 8 : 601 ، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث 20 ، باختلاف يسير.
(345)
ومقتضى المفهوم جواز الاغتياب مع عدم الشرط ، خرج منه غير المتجاهر.
وكون قوله : من اغتابه ... الخ جملة مستأنفة غير معطوفة على الجزاء ، خلاف الظاهر.
[ عدم اعتبار قصد الغرض الصحيح في غيبة المتجاهر ] ثم إن مقتضى إطلاق الروايات جواز غيبة المتجاهر في ما تجاهر به ، ولو مع عدم قصد غرض صحيح ، ولم أجد من قال باعتبار قصد الغرض الصحيح ، وهو ارتداعه عن المنكر.
نعم ، تقدم عن الشهيد الثاني احتمال اعتبار قصد النهي عن المنكر في جواز سب المتجاهر ، مع اعترافه بأن ظاهر النص والفتوى عدمه (1).
وهل يجوز اغتياب المتجاهر في غير ما تجاهر به ؟
[ هل يجوز اغتياب المتجاهر في غير ما تجاهر به ؟ ] صرح الشهيد الثاني وغيره بعدم الجواز (2) ، وحكي عن الشهيد أيضا (3).
وظاهر الروايات النافية لاحترام المتجاهر وغير الساتر (4) هو الجواز ، واستظهره في الحدائق من كلام جملة من الأعلام (5) وصرح به بعض الأساطين (6).
1 ـ قد تقدم في حرمة سب المؤمنين نقل ذلك عن الروضة البهية ، فراجع الصفحة : 255.
2 ـ كشف الريبة : 79 ، وصرح بذلك قبل الشهيد الثاني المحقق الثاني في رسالته في العدالة ، انظر رسائل المحقق الكركي ، ( المجموعة الثانية ) : 45.
3 ـ القواعد والفوائد 2 : 148.
4 ـ انظر الوسائل 8 : 604 ، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة.
5 ـ راجع الحدائق 18 : 166.
6 ـ صرح به كاشف الغطاء قدس سره في شرحه على القواعد ( مخطوط ) الورقة : 35 ، وفيه : ومنها ذكر المتجاهرين بالفسق ، فإنهم لا حرمة لهم ولو في غير ما تجاهروا به.
(346)
وينبغي إلحاق ما يتستر به بما يتجاهر فيه إذا كان دونه في القبح ، فمن تجاهر باللواط ـ والعياذ بالله ـ جاز اغتيابه بالتعرض للنساء الأجانب (1) ، ومن تجاهر بقطع الطرق جاز اغتيابه بالسرقة ، ومن تجاهر بكونه جلاد السلطان يقتل الناس وينكلهم جاز اغتيابه بشرب الخمر ، ومن تجاهر بالقبائح المعروفة جاز اغتيابه بكل قبيح ، ولعل هذا هو المراد ب من ألقى جلباب الحياء ، لا من تجاهر بمعصية خاصة وعد مستورا بالنسبة إلى غيرها ، كبعض عمال الظلمة.
[ المراد بالمتجاهر ] ثم المراد بالمتجاهر من تجاهر بالقبيح بعنوان أنه قبيح ، فلو تجاهر به مع إظهار محمل له لا يعرف فساده إلا القليل ـ كما إذا كان من عمال الظلمة وادعى في ذلك عذرا مخالفا للواقع ، أو غير مسموع منه ـ ، لم يعد متجاهرا.
نعم ، لو كان اعتذاره واضح الفساد لم يخرج عن المتجاهر.
[ لو كان متجاهراً عند قوم مستوراً عند غيرهم ] ولو كان متجاهرا عند أهل بلده أو محلته مستورا عند غيرهم ، هل يجوز ذكره عند غيرهم ؟ ففيه إشكال ، من إمكان (2) دعوى ظهور روايات الرخصة في من لا يستنكف عن الاطلاع على عمله مطلقا ، فرب متجاهر في بلد ، متستر في بلاد الغربة أو في طريق الحج والزيارة ، لئلا يقع عن عيون الناس.
وبالجملة ، فحيث كان الأصل في المؤمن الاحترام على الإطلاق ، وجب الاقتصار على ما تيقن خروجه.
1 ـ كذا في النسخ ، والمناسب : الأجنبيات.
2 ـ كذا في النسخ ، ولم يذكر وجه الجواز ، ولعله تركه لوضوحه.
فالأحوط الاقتصار على ذكر المتجاهر بما لا يكرهه لو سمعه ولا يستنكف من ظهوره للغير.
نعم ، لو تأذى من ذمه بذلك دون ظهوره ، لم يقدح في الجواز ، ولذا جاز سبه بمالا يكون كذبا.
[ بيان الفارق بين السبّ والغيبة ] وهذا هو الفارق بين السب و الغيبة ، حيث إن مناط الأول المذمة والتنقيص فيجوز ، ومناط الثاني إظهار عيوبه فلا يجوز إلا بمقدار الرخصة.
[ تظلّم المظلوم ]
[ أدلّة الاستثناء ] الثاني :
تظلم المظلوم وإظهار ما فعل به الظالم وإن كان متسترا به ـ كما إذا ضربه في الليل الماضي وشتمه ، أو أخذ ماله ـ جاز ذكره بذلك عند من لا يعلم ذلك منه ، لظاهر قوله تعالى : ( ولمن انتصر بعد ظلمه فاولئك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق ) (1) وقوله تعالى : ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) (2) فعن تفسير القمي : أي لا يحب أن يجهر الرجل بالظلم والسوء ويظلم إلا من ظلم ، فأطلق له أن يعارضه بالظلم (3).
وعن تفسير العياشي ، عنه صلوات الله عليه : من أضاف قوما فأساء ضيافتهم (4) فهو ممن ظلم ، فلاجناح عليهم فيما قالوا فيه (5).
1 ـ الشورى : 41 ـ 42.
2 ـ النساء : 148.
3 ـ تفسير القمي 1 : 157.
4 ـ في النسخ : إضافتهم ، وما أثبتناه من المصدر.
(348)
وهذه الرواية وإن وجب توجيهها ، إما بحمل الإساءة على ما يكون ظلما وهتك الاحترامهم أو بغير ذلك ، إلا أنها دالة على عموم من ظلم في الآية الشريفة ، وأنكل من ظلم فلا جناح عليه فيما قال في الظالم.
ونحوها في وجوب (6) التوجيه رواية اخرى في هذا المعنى محكية عن المجمع : أن الضيف ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته ، فلاجناح عليه في أن يذكره بسوء (7) ما فعله (8).
[ تأييد الحكم بأنّ في منع المظلوم من التظلّم حرجٌ عظيم ] ويؤيد الحكم فيما نحن فيه أن في منع المظلوم من هذا ـ الذي هو نوع من التشفي ـ حرجا عظيما ، ولأن في تشريع الجواز مظنة ردع الظالم ، وهي مصلحة خالية عن مفسدة ، في ثبت الجواز ، لأن الأحكام تابعة للمصالح.
ويؤيده ما تقدم من عدم الاحترام للإمام الجائر (9) ، بناء على أن عدم احترامه من جهة جوره ، لا من جهة تجاهره ، وإلا لم يذكره في مقابل الفاسق المعلن بالفسق. وفي النبوي : لصاحب الحق مقال (10).
والظاهر من جميع ما ذكر عدم تقييد جواز الغيبة بكونها عند من
5 ) تفسير العياشي 1 : 283 ، الحديث 296.
6 ـ في ن ، خ ، خ و ع : وجوه.
7 ـ في أكثر النسخ : أن يذكر سوء.
8 ـ مجمع البيان 2 : 131.
9 ـ تقدم في رواية أبي البختري ، المتقدمة في الصفحة : 343.
10 ـ أرسله الشهيد الثاني في كشف الريبة : 77.
(349)
[ هل يقيّد جواز الغيبة بكونها عند من يرجو إزالة الظلم عنه ؟ ]
يرجو إزالة الظلم عنه ، وقواه بعض الأساطين (1) ، خلافا لكاشف الريبة (2) وجمع ممن تأخر عنه (3) فقيدوه ، اقتصارا في مخالفة الأصل على المتيقن من الأدلة ، لعدم عموم في الآية وعدم نهوض ما تقدم في تفسيرها للحجية ، مع أن المروي عن الباقر عليه السلام في تفسيرها ـ المحكي عن مجمع البيان ـ : أنه لا يحب [ الله ] (4) الشتم في الانتصار إلا من ظلم ، فلا بأس له أن ينتصر ممن ظلمه بما يجوز الانتصار به في الدين (5). قال في الكتاب المذكور : ونظيره ( وانتصروا من بعد ما ظلموا ) (6).
وما بعد الآية (7) لا يصلح للخروج بها عن الأصل الثابت بالأدلة العقلية والنقلية ، ومقتضاه الاقتصار على مورد رجاء تدارك الظلم ، فلو لم يكن قابلا للتدارك لم تكن فائدة في هتك الظالم. وكذا لو لم يكن
1 ـ صرح به كاشف الغطاء قدس سره في شرحه على القواعد ( مخطوط ) : 34 ، وفيه : ومنها التظلم مع ذكر معائب الظالم عند من يرجو أن يعينه ... ويقوى جوازه عند غيره لظاهر الكتاب.
2 ـ كشف الريبة : 77.
3 ـ كالمحقق السبزواري في كفاية الأحكام : 86 ، والمحقق النراقي في المستند 2 : 347 ، والسيد العاملي في مفتاح الكرامة 4 : 66.
4 ـ من المصدر.
5 ـ مجمع البيان 2 : 131.
6 ـ الشعراء : 227.
7 ـ أراد بما بعد الآية : المؤيدات التي ذكرها ، والتعبير عنها بعنوان كونها ما بعد الآية مع كونها بعد الأخبار ، مبني على كون الأخبار واردة في تفسيرها ، فهي من توابع الآية ولواحقها ( حاشية المامقاني ).
(350)
[ ظاهر بعض الأخبار جواز الاشتكاء لترك الأولى ]
ما فعل به ظلما ، بل كان من ترك الأولى ، وإن كان يظهر من بعض الأخبار جواز الاشتكاء لذلك :
فعن الكافي والتهذيب بسندهما عن حماد بن عثمان ، قال : دخل رجل على أبي عبد الله عليه السلام فشكا [ إليه ] (1) رجلا من أصحابه فلم يلبث أن جاء المشكو عليه (2) ، فقال له أبو عبد الله عليه السلام : ما لفلان يشكوك ؟ فقال : يشكوني أني استقضيت منه حقي ، فجلس أبو عبد الله عليه السلام مغضبا ، فقال : كأنك إذا استقضيت حقك لم تسئ ! أرأيت قول الله عزوجل : ( ويخافون سوء الحساب ) (3) أترى أنهم خافوا الله عزوجل أن يجور عليهم ؟ لا والله ! ما خافوا إلا الاستقضاء ، فسماه الله عزوجل سوء الحساب ، فمن استقضى فقد أساء (4).
ومرسلة ثعلبة بن ميمون ـ المروية عن الكافي ـ ، قال : كان عنده قوم يحدثهم ، إذ ذكر رجل منهم رجلا فوقع فيه وشكاه ، فقال له أبو عبد الله عليه السلام : وأنى لك بأخيك كله (5) ! وأي الرجال (6)1 ـ من المصدر.
2 ـ لم يرد عليه في ش والمصدرين.
3 ـ الرعد : 21.
4 ـ الكافي 5 : 100 ، الحديث الأول ، التهذيب 6 : 194 ، الحديث 425. وعنهما في الوسائل 13 : 100 ، الباب 16 من أبواب الدين والقرض ، الحديث الأول.
5 ـ فسر العلامة المجلسي ـ في مرآة العقول ( 12 : 550 ) ـ عبارة بأخيك كله بقوله : أي كل الأخ التام في الاخوة ، أي : لايحصل مثل ذلك إلا نادرا ، فتوقع ذلك كتوقع أمر محال ، فارض من الناس بالقليل.
6 ـ كذا ورد في ف والمصدر ، وفي سائر النسخ كما يلي : وأنى لك بأخيك