(61)
مقابل الأجل بقولهم : « إن للاجل قسطاً من الثمن » ، ولكن هذا التعليل
هو الذي جاء لنا بالشبهة القائلة : « إن الشارع المقدس قد حرّم الزيادة في مقابل
الأجل كما في القرض ، فلماذا أحلها في مقابل الأجل في بيع النسيئة ؟ فما هو الفرق
بين الصورتين ».
نقول : إن هذا الفرق هو الذي نريد بيانه هنا ( خصوصاً وأن بعض
الفقهاء قد حرّم (1) هذه الزيادة في مقابل الاجل في بيع النسيئة ) ، وسوف نبين الفرق
على مستويين :
1 ـ إن الفرق بين الصورتين على مستوى الادلة الشرعية هو شيء واضح
جلي ، حيث ان الادلة الشرعية دلت على جواز الزيادة في بيع النسيئة بداعي الاجل (
النسأ ) ، ودلت الادلة الشرعية ايضا على حرمة الزيادة في مقابل الأجل في عقد القرض.
2 ـ إن الفرق بينهما على مستوى النظرية الإسلامية هو شيء يحتاج الى بيان اي
عندما نتدرج من الاحكام والادلة نعرف السرّ الذي فرَّق بين الصورتين وهو معنى
النظرية الإسلامية الفارقة بين الصور.
النظرية : تقول إن السلع المبيعة تختلف
عن النقود والسلع المقروضة ، فالسلع المبيعة قد أجاز الشارع المقدس للفرد أن يوسع
ماليته عن طريق تملكها والإتجار بها ( بان يبيعها أو يؤجرها ومعنى الإجارة هو بيع
المنفعة ). وما ذاك إلاّ لان السلعة هي عمل مختزن يجوز للانسان أن ينتفع به بكل
انحاء الإنتفاع غير المحرم ، ومن الإنتفاع غير المحرم البيع والإجارة. وبطبيعة
الحال عندما يؤجر الإنسان سلعته ويحصل على الايجار فهو قد دفع الى المستأجر منافع
السلعة المؤجرة ، وهذه المنافع عندما تستوفى تستهلك تلك السلعة ( العمل المختزن )
بالتدريج فتقل قيمة العمل
(1) انظر نيل الاوطار 5/172 ، فقد ذهب الناصر والمنصور بالله والهادوية والإمام
يحيى وغيرهم الى الحرمة.
(62)
المختزن فيها.
وكذلك إذا باع الإنسان سلعته ، فإنه قد حوّل العمل
المختزن ( الذي اوجده هو أوْ ملكه بالشراء ) في السلعة الى الغير وأخذ في مقابله
كمية من المال ، وهذا أيضا قد أجازه الشارع المقدس ، والادلة على ما قلناه هي ما
ورد من الاحاديث الشريفة في باب الاجارة والبيع الواردة في كل المجاميع الفقهية
الإسلامية. اما بالنسبة للنقود : فبما أن القرض هو عبارة عن تمليك الغير النقد مع
الضمان ، فاذا أقرضت مئة دينار ، فاكون أنا قد ملّكت المقترض هذا المبلغ مع اشتراط
ضمانه للمال يدفعه بعد سنة مثلاً ، وكذا الامر في إقراض السلع المثلية او القيمية ، فان معنى قرضها هو تمليك المقترض السلعة وان كانت قيمية مع اشتراط ضمان المقترض
لقيمتها وقت القرض.
إذا عرفنا ذلك : فالادلة القائلة بان القرض لا تجوز فيه
الزيادة تدلنا على أن الشارع المقدس لم يُجوّز لنا أن ننمي ثروتنا عن طريق الإقراض
للنقد او للسلع ، حيث اننا إذا اقرضنا النقد او السلعة ( وهو معنى تمليكها مع
الضمان ) وأخذنا في مقابل الأجل شيئاً فحينئذ يكون المقرض قد أخذ شيئا من دون أن
يعطي شيئا ومن دون أن يُستهلك شيء من نقده او سلعته ، لان المقترض يجب عليه أن يرجع
النقد الذي اقترضه كما هو ، ويرجع ما اقترضه إن كان سلعة قيمية بقيمتها حين
الإقتراض ، ويرجعه بمثله إن كان المال المقترض سلعة مثلية ، من دون استهلاك او نقص
للسلعة المقترضة ، وعلى هذا سوف يكون ما قد أخذه المقرض في مقابل الأجل اكلاً للمال
بالباطل ، وقد نهانا القرآن الكريم عن اكل المال بالباطل قال تعالى : ( لا تأكُلُوا
اموالَكُم بينَكُم بالبَاطِلِ إلاّ أَن تكُونَ تجارةً عن تراض مِنْكُم ) (1).
وبعبارة اخرى : إن المقرض إذا كان من المفروض ان يُرجَع إليه ما أقرضه
(1) النساء ، 29.
(63)
للغير كما هو من دون استهلاك ولا نقص ، فيكون ما أخذه في مقابل الاجل
بالإلزام والشرط هو كسب من دون عمل ، وهو لا يجوز شرعاً ولا يجوز من ناحية الاقتصاد
اذ هو معنى ما يقال عن هذه العملية ( من تحرك الميزان التجاري من جانب واحد ) وهو
لا يجوز اقتصادياً ، لان الذي يأخذ شيئاً في المفهوم الاقتصادي التجاري لابد ان
يعطي شيئا من عمل مخزون او مباشر (1). وقد يقال إن المقرض قد اعطى مقابلاً الى
المقترض ( عندما تسلّم النقد المحتاج اليه وملّكه اياه مع الضمان ) وهو « اتاحة
فرصة الانتفاع » وحينئذ يحق للمقرِض أن يأخذ زيادة على المال في مقابلة اتاحة فرصة
الانتفاع. ولكن نقول : إذا كانت إتاحة فرصة الإنتفاع ذات قيمة معينة ، اذن فلكل
واحد من الناس إذا اتاح فرصة الإنتفاغ لغيره ( من دون استهلاك في السلعة المنتفع
بها ) أن يأخذ منه فائدة ، ولكن لا قائل بهذا في الفقه الإسلامي الإمامي. ولعل
السر هو أن أتاحة فرصة الإنتفاع هي حكم شرعي ، بمعنى يجوز لمالك المال أن يقدم فرصة
الإنتفاغ بماله الى غيره ، ويجوز له ان لا يقدم ، وحينئذ لا يكون هناك حق لصاحب
المال ، واذا لم يكن هناك حق فلا يجوز له أن يقابله بالمال (2).
نعم : ان إتاحة
فرصة الإنتفاع بالمال مع المشاركة في الخسارة ـ ان وجدت ـ كما في عقد المضاربة هما
معا يسوغان الربح المحتمل ، لانه يعبر عن تحرك الميزان من
(1) ومن الطبيعي في العقود الربوية المشترط فيها الزيادة في عقد القرض ، والملزمة للمقترض ، لا يمكن القول بان الدافع قد تبرع بالزيادة الى المقرِض حتى تكون
صحيحة ، اذ لا يجتمع الإلزام بالزيادة من قبل المقرض والتبرع من قبل المقترض.
(2)
الفرق بين الحكم والحق هو : أن الحق قابل للاسقاط بينما الحكم غير قابل للاسقاط ، وثانيا : ان الحق يقابل بالمال بينما الحكم لا يقابل بالمال. ويمكن ان يستدل على ان
تقديم فرصة الإنتفاع بالمال الذي أملّكه لغيري هو حكم شرعي وليس حق ، بهذا البيان :
نقول لو قلت لغيري ( اسقطت حقي في أن انفعك بهذا المال فانني لو قلت ذلك مئة مرة
فلا يسقط حقي في ان انفعك به بواسطة القرض ، فمن هذا نستدل على ان حقي في انتفاعك
يمالي بواسطة القرض هو حكم لا حَقْ ، ولو كان حقاً لسقط هذا الحق الذي لي.
(64)
طرفين ( ان وجد الربح فلصاحب المال وللعامل ، وان وجدت الخسارة فهي
على صاحب المال ، واما العامل فقد خسر عمله ). أوْ أنَّ إتاحة فرصة الإنتفاع
بالمال مع كون المال قابلا للاستهلاك في مدة فرصة الإنتفاع كما في الإجارة للبيت أو
المعمل هما معا يسوغان اخذ الفائدة ( الاُجرة ) حيث تكون الاُجرة في مقابل حق
الإنتفاع مع قابلية العين المؤجرة للاستهلاك فيدخل تحت التجارة عن تراض. نعم :
الشارع المقدس قد فتح باب تنمية الثروة النقدية عن طريق دخولها في الاستثمار
التجاري باحتمال الربح والخسارة ، فمن له الربح يتحمل الخسارة إن حصلت ولو عن طريق
إدخال المال في عملية المضاربة الشرعية مع الآخرين ، فيشترك النقد من زيد مع العمل
من الآخرين في التجارة ، فإن حصل ربح يقسم حسب ما اتفقا عليه من النسبة في العقد ، وإن خسرت التجارة فيتحمل الخسران صاحب النقد فقط ، اما العامل فقد خسر عمله ، فلا
نحمّله خسارة اكثر من ذلك. وعلى هذا التفسير إتضح لماذا لم يجز الشارع المقدس
القرض مع الزيادة لأجل الأجَل ، لان الزيادة لم يكن في قبالها شيء فيكون أخذها من
قبل المقرض ظلماً واكلاً للمال بالباطل وهو لا يجوز ، واتضح لماذا أجاز الشارع
المقدس البيع نسيئة بزيادة على الثمن الحال بداعي الاجل ، حيث أنَّ كل الثمن يكون
في مقابل السلعة المبيعة فقد أعطى البائع عمله المخزون في قبال المال ، ومن حق كل
إنسان أن بيع سلعته ( التي ملكها بالشراء او انتجها بجهده البشري ) باي ثمن أراد
إذا علم المشتري بقيمتها الحالية ، وحينئذ لا يكون للمشتري خيار الغبن بعد ذلك ، واما إذا باعها باكثر من قيمتها ( مع عدم علم المشتري بذلك ) فالبيع صحيح ولكن يثبت
خيار الغبن للمشتري إذا عرف أن قيمتها اقل من السعر الذي بيعت إليه. كما أن
للانسان الحق أن يبيع سلعته نسيئة باكثر من ثمنها الحال فيكون الاجل داعياً لزيادة
قيمتها.
وعلى كل صورة الحق للبائع في بيع سلعته فيكون البائع قد اعطى شيئاً الى
المشتري وهو العمل المخزون في السلعة وتسلّم منه مكافأة على هذا العمل المخزون
(65)
وهو معنى البيع والتجارة عن تراض وتحرك الميزان من الجانبين الذي هو
صحيح إقتصادياً.
نعم : إذا باع البائع سلعته الى المشتري باكثر من قيمتها بصورة
علمنا من هذه المعاملة أن المشتري سفيه ، فهنا قد حكم الشارع المقدس ببطلان هذه
المعاملة لاشتراطه عدم سفاهة المتعاملين في صحة المعاملة ، والمثال الموضح لهذه
المعاملة ، كما اذا باع إنسان لآخر سريراً ( تساوي قيمته السوقية ديناراً واحداً )
بالف دينار ولم يكن هناك اي داع لهذه الزيادة من قبل المشتري للبائع ، فمثل هذه
المعاملة تكشف عن سفه المشتري وقد حكم الشارع المقدس ببطلانها.
اذن النظرية
تقول : ان الشارع المقدس قد جعل قانونا يقول :
1 ـ يتمكن الانسان ان ينمّي ثروته
بواسطة السلع ( اجارة او بيعاً ) ، والاجارة هي انتفاع للمالك مع استهلاك في السلعة ، وتتميز الاجارة بميزة الضمان في الامر مع عدم الارتباط بنتائج العملية وما
يكتنفها من خسائر وأرباح للمستأجر. والبيع هو تمليك العين التي هي عمل مخزون في
مقابل مال ، ونختصر التعبير عن هذا القانون بقولنا : « يجوز للانسان ان يأخذ مالاً
في مقابل العمل ».
4 ـ النظرية تقول : إن ما يُقرض يعاد من دون استهلاك او نقص
( كما هو الفرض ) وحينئذ فتنمية الثروة بواسطة الإقراض مع الزيادة معناها اخذ من
دون عطاء ، وأخذ من دون عمل ، وهذا محرم في الشريعة الإسلامية ، ونلخص التعبير عن
هذا القانون بقولنا : « كل كسب لا يسوغه عمل منفق فهو حرام » او : « لا يجوز الكسب
من دون عمل » في المنظار التجاري. وإليك بعض المصاديق لهذه النظرية : 1 ـ إذا
أجَّرت داراً بخمسين ديناراً ثم أجرتها بالسعر نفسه مع شرط سكناي في هذه الدار ، أو
أجرتها باكثر من خمسين دينار مع عدم سكناي في الدار ، فهنا يوجد كسب قد حصلت عليه
من دون عمل وهو لا يجوز كما عليه جملة من علماء
(66)
الاسلام (1) وفي هذا الحكم نصوص كثيرة منها صحيحة محمد بن مسلم عن
أحدهما ( الإمامين الباقر او الصادق ( عليهما السلام ) « أنه سئل عن الرجل يتقبل
بالعمل فلا يعمل فيه ويدفعه الى آخر فيربح فيه قال : لا ، إلاّ أن يكون قد عمل فيه
شيئا » (2). وصحيحة محمد بن مسلم الثانية عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : «
سألته عن الرجل الخياط يتقبل العمل فيقطعه ويعطيه من يخيطه ويستفضل ، قال : لا بأس
قد عمل فيه » (3). وصحيحة الحلبي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) « في الرجل يستأجر
الدار ثم يؤاجرها باكثر مما استأجرها به ، قال ( عليه السلام ) : لا يصلح ذلك ألاّ ان
يحدث فيها شيئاً » (4) وغير هذه الروايات.
هذا وقد نقل الجزيري عن فقهاء الاحناف
: « أن الشخص إذا استأجر داراً أو دكاناً بمبلغ معين كُجنيه في الشهر ، فلا يحل له
أن يؤجرها لغيره بزيادة » (5)
وذكر السرخسي الحنفي في مبسوطه : « عن الشعبي في
رجل استأجر بيتا وأجَّره باكثر مما استأجره به ، أنه لا بأس بذلك اذا كان يفتح بابه
ويغلقه ويخرج متاعه فلا بأس بالفضل ، وعلق السرخسي على ذلك بقوله : بيّن أنه انما
يجوز له أن يستفضل اذا كان يعمل فيه عملاً ، نحو فتح الباب وإخراج المتاع ، فيكون
الفضل له بازاء عمله ، وهذا فضل اختلف فيه السلف ... وكان ابراهيم يكره الفضل
إلاّ أن يزيد فيه شيئاً ، فان زاد فيه شيئاً طاب له الفضل ، واخذنا بقول ابراهيم
» (6).
(1) كالسيد المرتضى والحلبي والصدوق وابن البراج والشيخ المفيد والشيخ الطوسي ، راجع المبسوط للشيخ الطوسي ، ج 3 ، ص 226 عن اقتصادنا للسيد الشهيد الصدر ، ص 607.
(2) وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 23 من احكام الاجارة ، ح 1.
(3) المصدر
السابق : ح 5.
(4) المصدر السابق : باب 22 ، ح 4.
(5) الفقه على المذاهب
الاربعة ، ج 3 ، ص 117.
(6) المبسوط ، للسرخسي ، ج 15 ، ص 78 ، عن اقتصادنا ، ص 613.
(67)
النتيجة من التحقيق والتحليل وبيان النظرية الإسلامية :
إتضح بما لا غبار عليه : « ان الزيادة في بيع النسيئة ( عن الثمن الحال ) ليس لأجل
الزمن » بل هي في مقابل العمل المخزون في السلعة ، وبهذا ارتفع اصل الإشكال على بيع
النسيئة. واتضح ايضا أن الزيادة في عقد القرض تكون كسباً من دون عمل وهي اكل للمال
بالباطل فلا تجوز شرعاً كما لا يجيزها الإقتصاد القائل : لابد ان يتحرك الميزان من
الجانبين.
تسويغات خاطئة لصحة بيع النسيئة :
ثم ان هناك تسويغات خاطئة
لبيع النسيئة باكثر من الثمن الحال ، فلا بأس بعرضها وردِّها :
1 ـ قالوا : إن
الزيادة هي في مقابل الأجل ، وقد ذكر الفقهاء أن للاجل قسطاً من الثمن. وصاحب هذا
القول (1) يثبت ان هذه المعاملة ربوية إلاّ انه ليس كل ربا محرم ، بل هذا ربا حلال ، والربا المحرم في غير هذا المورد ، وانما هو في بيع المتجانسين وفي الذهب والفضة ، وفي القرض. نقول : اتضح من تحقيقنا السابق عدم صحة هذا القول ، اذ الزيادة ليست هي
في مقابل الاجل ، بل الثمن كله في مقابل السلعة وكان الأجل داعياً للزيادة في الثمن.
2 ـ ذكروا ان زيادة الثمن في بيع النسيئة يمكن أن تكون لسبب المخاطرة ( وهي
مخاطرة التخلف او التأخر عن سداد الدين ، او مخاطرة هلاك الدين ، او مخاطرة تقلبات
الاسعار كما إذا ارتفع السعر ) (2) نقول : العجب ممن يدعي المعرفة بالفقه الإسلامي
أن يقع في تأثير الفكر الرأسمالي الذي يتجه الى تفسير الربح
(1) بيع التقسيط تحليل فقهي واقتصادي ، د. رفيق يونس المصري ، ص 37.
(2)
المصدر السابق.
(68)
وتسويغه على أساس المخاطرة ، ولأجل الرد على هذه الفكرة نقول : ان
المخاطرة هل يمكن ان تكون وسيلة للكسب ؟ وهل الإيثار يمكن أن يكون وسيلة للكسب
؟
والجواب : كما تعرض له السيد الشهيد الصدر ( رحمه الله ) في كتابه اقتصادنا (1)
فقال :
لا يمكن أن يكون احد هذين الامرين وسيلة للكسب وذلك : « فان المخاطرة في
الحقيقة ليست سلعة يقدمها المخاطر الى غيره ليطالب بثمنها ، وليست المخاطرة عملا
ينفقه المخاطر على مادة ليكون من حقه تملّكها او المطالبة بأجر على ذلك من مالكها.
وانما المخاطرة ( هي حالة شعورية خاصة تغمر الانسان وهو يحاول الإقدام على أمر يخاف
عواقبه ، فاما أن يتراجع انسياقا مع خوفه ، واما أن يتغلب على دوافع الخوف ويواصل
تصميمه فيكون هو الذي رسم لنفسه الطريق واختار بمل بارادته تحمل مشاكل الخوف
بالاقدام على مشروع يحتمل خسارته مثلا ) فليس من حقه أن يطالب بعد ذلك بتعويض مادي
عن هذا الخوف مادام شعوراً ذاتياً وليس عملا مجسداً في مادة ولا سلعة منتجة. صحيح
أن التغلب على الخوف في بعض الاحيان ، قد يكون ذا اهمية كبيرة من الناحية النفسية
والخلقية ، ولكن التقييم الخلقي شيء والتقييم الإقتصادي شيء آخر ».
ثم إن
الديون اذا كانت مدعمة برهن وضمانات كافية فهل لا تؤخذ عليها فائدة ( عند من يقول
إن الفائدة هي في مقابل المخاطرة ) ؟ ! وهل إن البيع بنسيئة ( بثمن اكثر من الحال )
اذا كان مدعماً بضمانات ورهن كاف هل لا يجوز اخذ الزيادة على الثمن الحال ؟ ! او أن
المخاطرة إذا كانت في بعض البيوعات فهي كافية لتسويغ اخذ الفائدة في مقابل الاجل
( كما يقولون ) حتى في البيوعات التي ليست فيها مخاطرة؟
(1) ج 2 ، ص 633 ، طبعة دارالتعارف ، بيروت. وننصح من يهتم بالاقتصاد الاسلامي
بدراسة هذا الكتاب الجليل.
(69)
تفسير عملية المضاربة وأخذ الربح في مقابل المال :
إن عملية
المضاربة التي قلنا إنها معاملة شرعية ، يستحق صاحب المال ( النقد ) على نقده ربحاً ، كيف نفسر استحقاق صاحب النقد للربح ؟ قد يقال : إن المالك للمال انما يستحق الربح
في عقد المضاربة نتيجة عامل المخاطرة الذي أقدم عليه ، وسلم امواله الى العامل
ليتاجر بها ، فهو قد خاطر في امواله ( بهلاكها وتلفها ). ولكن نقول : إن هذا
التفسير خطأ فاضح وتوضيح ذلك : إن الربح الذي يحصل عليه المالك للمال في عقد
المضاربة هو نتيجة اتجار العامل بأموال المالك ، فالمالك للمال عندما يسلّم امواله
الى العامل ليتّجر بها لم تخرج تلك الاموال عن ملكه وحينئذ يصبح مالك المال هو
المالك لما يشتريه العامل بهذه الاموال ، نعم ان هذه السلع المشتراة بنقد المالك
تزداد قيمتها غالباً بعمل العامل الذي ينفقه على السلعة من نقلها الى السوق
واعدادها بين أيدي المستهلكين ، ولكن تبقى السلعة هي ملك لمالك النقد ، للقاعدة
القائلة : « ان كل مادة لا تخرج عن ملكيتها لصاحبها بتطوير شخص آخر لها » كما في
الصوف الذي يملكه زيد إذا غزله شخص آخر فهو لا يخرج عن ملك زيد رغم زيادة قيمته
بواسطة عمل عامل فيه ، وهذا ما اُطلق عليه في الفقه الإسلامي : « ظاهرة الثبات في
الملكية » وعليه ادلة كثيرة من الشارع المقدس لسنا الان بصدد ذكرها.
وبهذا اتضح
أن حق صاحب المال في الربح في عقد المضاربة هو نتيجة ملكية صاحب النقد للسلعة
المشتراة بامواله ، وقد باعها العامل وربح عن طريق بيعها فهو نظير حق مالك اللوح في
السرير الذي يصنع من لوحه. واتضح ايضا أن صاحب المال في عقد المضاربة يستحق هذا
الربح وان لم يمارس اي لون من الوان المخاطرة كما إذا اتجر شخص بأمواله من دون علمه
وربح في تجارته ، فان بامكان صاحب المال في هذه الحالة أن يوافق على ذلك ويستولي
على الارباح ، وهذا الحق لا يقوم على اساس المخاطرة.
(70)
ولنا أن نقول ( لمن يدعي أن المخاطرة هي السبب في الكسب ) من باب
النقض عليه اذن يلزمكم أن تحللوا القمار فانه كسب ناتج على اساس المخاطرة وحدها حيث
إن الفائز يحصل على الرهان لانه غامر بماله وأقدم على دفع الرهان لخصمه إذا خسر
الصفقة ، ولا ندري لعل القمار ( عند المحل للكسب على اساس المخاطرة ) جائز كما هو
جائز عند التفكير الرأسمالي. ولكن كلامنا لمن يلتزم الشريعة الإسلامية منهجاً في
حياته ولا يؤثر عليه التفكير الرأسمالي في حياته الإقتصادية ، فان الشريعة
الإسلامية قد حرمت القمار تحريماً حاسماً كما حرمت الربا وما ذاك كله إلاّ للنظرية
القائلة : « لا يجوز الكسب من دون إنفاق عمل مباشر او مختزن » وقد عرفنا ايضا تسويغ
أخذ الربح في عقد المضاربة ، حيث إنه لا يتنافى مع هذه النظرية المتقدمة (1).
* * *
(1) راجع الملحق في آخر الكتاب.