(71)
أثر الموت في حلول الأجل


(73)

(73)
إن المال الذي يدفع مؤجلا له صور متعددة : منها
    1 ـ في مال السَلَم ، فان المثمن يكون في هذا العقد مؤجلا.
    2 ـ في الجناية الخَطَئية المحضة ( فمال الجناية هنا على العاقلة ) ، وشبه العمد ، فقد أجل الشارع الدية في هذين الموردين ، ففي المورد الاول اجلّها ثلاث سنين ، وفي المورد الثاني أجلّها سنتين على قول المشهور ، وهناك قول آخر يقول انها تستوفى في ثلاث سنين (1).
    اما في مال الجناية العمدية فهي تؤجل سنة واحدة ، والدّية في المورد الثاني والثالث على الجاني.
    3 ـ في الدَّين او القرض ، كما إذا باعني بيتاً وبقي قسم من الثمن في ذمتي ، او أقرضني كمية من المال لمدة معينة.
    ففي هذه الحالات أو غيرها مما شابهها تكون ذمة الانسان مشغولة لغيره بكمية من المال ، وحينئذ اذا حصل الموت فهل يؤثر الموت في حلول الأجل ؟
    نقول : نتكلم اولاً في حالة موت المدين ، ثم نتكلم في حالة موت الدائن.
     (1) مباني تكملة المنهاج ، ج 2 ، ص 195 للإمام الخوئي.
(74)
أولا : إذا مات المدين :
    ذكر فقهاء الإمامية أن المدين إذا مات فقد حلت جميع الديون المؤجلة عليه ، والدليل الذي يذكرونه على ذلك هو الروايات ، منها صحيحة الحسين بن سعيد ( المضمرة ) : « قال سألته عن رجل أقرض رجلا دراهم الى أجل مسمّى ، ثم مات المستقرض أيحل مال القارض عند موت المستقرض منه ، او للورثة من الاجل مثل ما للمستقرض في حياته ؟ فقال ( عليه السلام ) : اذا مات فقد حل مال القارض » (1). ومنها رواية السكوني عن جعفر عن ابيه ( عليهما السلام ) انه قال : « اذا كان على الرجل دَين الى أجل ومات الرجل حلّ الدَين » (2).
    ولعل النكتة العقلائية والعرفية في حلية ديون المدين اذا مات هي أن المدين قبل موته كانت له ذمة قد شغلت بمال لغيره مؤجلاً الى أجل ، فمادامت هذه الذمة موجودة مادام حيّاً يبقى المال مؤجلاً حسب العقد او الشرط او التمديد الشرعي ، اما اذا مات المدين فقد زالت الذمة التي افترضناها مدينة ويتعلق حق الدائن في التركة التي بقيت للميت ، وهذا هو معنى حلول الدين بموت المدين ، ويكون الدائن له الحق في هذه التركة مقدماً على جميع الورثة ، اذ لا تركة إلاّ بعد سداد الديون وكذا لا تركة إلاّ بعد وصية من الميت كما هو الدستور الالهي الإسلامي المستند الى الآية القرآنية ( من بعد وصية يوصي بها او دين ) (3).

إشكالات :
    1 ـ قد يقال : إن الاجل الذي ضرب في عقد السلم يقتضي قسطاً من الثمن ،
     (1) وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 12 من ابواب الدَّين ، ح 2.
     (2) المصدر السابق ، ح 3.
     (3) النساء ، 11.

    


(75)
فكيف يحل المثمن بموت البائع الذي اصبح مديناً للمشتري بعقد السلم ؟
    2 ـ إذا اشترى انسان من آخر شيئاً نسيئة ، فبما أن للاجل قسطاً من الثمن ، فكيف يحل الدين بموت المشتري ؟
    3 ـ قد يقال : إن الشارع المقدس قد فرّق بين الجنايات ، فجعل الجناية الخطئية المحضة والجناية الشبه عمدية مؤجلة أجلاً اكثر من أجل الجناية العمدية فكيف تحل بموت الجاني اذا كان الجاني قد جنى جناية شبه عمد ( او موت العاقلة كما اذا كانت العاقلة افرادا معدودين وقد ماتوا كلهم لسبب ما وقد جنى الجاني جناية خطئية محضة ) ؟ اذا حل مال الجناية الخطئية المحضة وشبه العمدية يوجب ان يكون حكم الجناية العمدية المؤجل الى سنة هو اهون من حكم الجناية الخطئية المحضة وشبه العمدية ؟ وهذا قد يقال إنه مناف لحكم الشارع بالفرق بينها حسب شدة الجريمة وضعفها.

جواب الإشكالات :
    نقول في الحقيقة ان هذه المقولة « للاجل قسط من الثمن » مقولة فيها شيء من التسامح ، إذ إن الاجل المؤجل يكون داعياً للزيادة ، فمثلاً إذا كان سعر السكر الآن ديناراً واحداً ، ولكن إذا اشتريته الآن على أن يسلم بعد ستة اشهر فتكون قيمته الآن نصف دينار ، فحينئذ عندما اشتري كمية من السكر الآن على أن أتسلمها بعد ستة أشهر ، يكون هذا الاجل داعياً لتقليل قيمة السكر في هذه العملية البيعية وحينئذ عندما يقع البيع ، يقع على كون كل كيلو من السكر يكون في مقابل نصف دينار ، بشرط أن أتسلمه بعد ستة اشهر ، وهذا هو معنى ان يكون الاجل المتأخر هو الداعي لتقليل قيمة السلعة اذا كانت السلعة تسلم بعد ذلك الاجل. ففي الحقيقة نحن لم نجعل شيئاً من الثمن في مقابل الاجل حتى يأتي الإشكال الذي يقول : اذا مات المدين فكيف تحل ديونه مع أن للاجل قسطا من الثمن ؟
    ونفس هذا الكلام نقوله في الجواب عن الإشكال الثاني ، فان من يشتري


(76)
بالنسيئة لم يجعل شيئاً من الثمن في مقابل الاجل حتى يأتي الاشكال المتقدم ، بل إن البائع والمشتري معا عندما يعلمون ان الثمن سوف يسدد بعد ستة اشهر فيكون هذا العلم داعياً لأن يقع البيع على السلعة بثمن اكبر من قيمتها الحالية ، وحينئذ إذا بيعت السلعة بثمن اكبر من قيمتها الحالية مع علم المشتري بذلك فيكون كل الثمن في مقابل السلعة وليس شيئاً من الثمن في مقابل الاجل ، بل يكون الاجل المتأخر داعياً للزيادة.
    واما الجواب عن الإشكال الثالث : فنقول إن الشارع عندما جعل الدية مؤجلة أجلاً بعيداً في بعض صور القتل ( كإرفاق بالقاتل ) هو في صورة كون القاتل له ذمة تتعلق بها الديون ، اما إذا مات ، فلا ذمة ، فقد زال موضوع تأخير الدية ، فحينئذ تكون حالّة. وفي التعبير الفني نقول إن الشارع المقدس قد جعل الدية ( في صورة القتل الخطئي المحض وفي صورة القتل الشبيه بالعمد ) مؤجلة ، وهذا الحكم له فردان ، الفرد الاول يبقى القاتل حياً الى ان ينقضي الاجل ، والفرد الثاني لا يبقى القاتل حياً الى أن ينقضي الاجل بل يموت قبل ذلك. ثم حكم الشارع المقدس بان القاتل اذا مات حل الدين الذي عليه ، وهذا الحكم اخص من الحكم الاول فيخصص الحكم الاول بغير هذه الصورة فيكون الحكم الاول هو في صورة ما اذا لم يمت القاتل فان الدية تبقى مؤجلة الى الاجل الذي حدده الشارع المقدس ، وعلى هذا التصوير لا يقال إن الحكم بحلول الدية مناف لحكم الشارع المقدس ، لان حكم الشارع العام يخصصه المخصص.
    اذن الفرق الذي جعله الشارع المقدس بين الجنايات تبقى له فائدة في كل جناية لم يحصل معها موت من عليه أن يدفع الجناية. وهذا الفرق بين الجنايات في هذه الصور هو غرض الشارع المقدس ، فلا منافاة بين تشريعه الآجل في مال الجنايات وبين تشريعه حلّ الديون اذا مات من عليه أن يسلم مال الجناية. ثم اننا نقول : إن اشتراط تأجيل المثمن في بيع السلم ، واشتراط تأجيل الثمن في بيع


(77)
النسيئة واشتراط الشارع أن تكون الدية في بعض الصور مؤجلة ، إنما يجب العمل بمقتضى هذه الشروط ان كنا نحن وهذه الشروط التي أمامنا ، اما إذا جاء دليل من الشارع له نظر الى هذه الشروط ويقول إنها ساقطة في حالة موت المدين ، فيكون الدليل الحاكم متقدما على الدليل المحكوم ، فهنا نقول إن الروايات القائلة اذا مات المديون فقد حلت جميع ديونه حاكمة على صحيحة عبدالله بن سنان عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) :« المسلمون عند شروطهم » (1) فتقدم. او نقول إن الروايات القائلة إذا مات المديون حلت ديونه هي مخصصة لعموم المؤمنين عند شروطهم ، فتندفع الإشكالات الثلاث ايضا.

ثانياً : إذا مات الدائن :
    اما إذا مات الدائن فان الديون التي له على غيره لا تحل ، للأدلة التالية :
    1 ـ إن القواعد الاولية كما في آية ( أوفوا بالعقود ) تقول إن بيع السلم يجب الوفاء به سواء مات الدائن ( وهو هنا المشتري ) ام لا ، وكذا فان مفاد ( المسلمون عند شروطهم ) هو يجب الوفاء بالشروط ، فاذا كان الشرط في عقد القرض او البيع نسيئة هو ان اسلّمه المال المقترض بعد ستة اشهر او ادفع له سعر السلعة بعد مدة معينة ، فهنا يقول الحديث الشريف « المسلمون عند شروطهم » يجب الوفاء بذلك الشرط سواء مات الدائن ام لا ، وكذا الامر عندما حدد الشارع المقدس الاجل لدفع الدية في بعض صور القتل ، فان هذا الشرط هو شرط الهي يجب العمل به سواء مات الدائن ( وهو وارث المقتول خطأ او شبه العمد ) أم لم يمت. ثم إنه لا يوجد هنا نص صحيح يخرج هذا الفرد من تحت قاعدة ( اوفوا بالعقود ) و « أوفوا بالشروط » كما في صورة موت المدين ، فحينئذ يبقى الدين بحاله لا يحل إلاّ
     (1) وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 6 من أبواب الخيار ، ح 2.
(78)
بتحقيق الاجل.
    نعم ، توجد هناك روايتان مرسلتان تقولان : اذا مات الانسان حلت ديونه التي له والتي عليه ، وهما مرسلة الصدوق قال : « قال الامام الصادق ( عليه السلام ) اذا مات الميت حلّ ماله وما عليه » (1) وفي نفس المضمون مرسلة ابي بصير (2) إلاّ أن هاتين الروايتين مرسلتان فلا يجوز العمل بهما لاستنباط الحكم الشرعي إذا لم يكونا حجة ، بالاضافة الى انهما مهجورتان عند معظم الاصحاب من الإمامية.
    2 ـ لا يمكن قياس ديون الإنسان التي يطلبها على ديونه المطلوب بها ، لوجود الفرق ، وذلك فان ديون الإنسان المطلوب بها إذا كانت مؤجلة وقد مات ، فهنا اذا قلنا إنها لا تحل إلاّ اذا جاء الأجل ، فحينئذ ماذا نقول للورثة ؟ فان قلنا لهم لا تقسموا التركة حتى يحل الدين الذي على الميت ، فهذا يكون ضرراً عليهم. وإذا قلنا لهم اقتسموها من دون انتظار لحلول اجل الدَين ، فهذا يكون فيه تضرر للدائن ، اذ عندما يحل دينه لا توجد تركة للميت. اذن مراعاة لمصلحة الدائن والورثة وعدم الضرر بهما معا ووفقاً للروايات المتقدمة وللآية القرآنية القائلة ان الإرث ( مِن بَعدِ وصيَّة يُوصِي بِها أو دَين ) (3) لابد من القول بحلول الدين على المدين ، وأخذ ما يستحقه وتوزيع الباقي عن الدين ( والوصية ان كانت ) على الورثة (4). وهذا الذي ذكرناه ( في صورة موت المدين ) غير موجود في صورة
     (1) وسائل الشيعة ج 13 ، باب 12 من ابواب الدين ، ح 4.
     (2) نفس المصدر ، ح 1.
     (3) النساء ، 11.
     (4) إن حجة تضرر الورثة ( الذين مات مورثهم وهو مدين اذا لم يقتسموا التركة حتى يحل الدين ) وتضرر الدائن ( اذا اقتسم الورثة قبل حلول الدين ولم نقل بحل الدين ) غير مقبولة لامكان ان نقول إن الورثة يقتسمون ما عدا مقدار الدين. فان قيل ما هي فائدتهم في اقتسام ما عدا مقدار الدين اذا لم يحل الدين ويدفع للدائن ؟ نقول : الفائدة هي يضعون هذا المبلغ في بنك يمكنهم من اخذ الفائدة منه الى حين الاجل ، فان حل الاجل قدموه الى الدائن وحصلوا على الارباح في هذه المدة او ما شابه ذلك من الاعمال التي تضمن للدائن مقدار دينه ، ويكون فيها ربح مضمون ، وبهذا العمل لم يتضرر الدائن اذا لم يحل دينه ، ولم يتضرر الورثة. ولكن نحن لم تكن حجتنا في حلول الدين بموت المدين هي تضرر الوارث او المدين وانما الروايات والآية القائلة إن الارث هو بعد وفاء الديون.

(79)
موت الدائن اذا كانت له ديون مؤجلة على انسان آخر ، اذ لا ضرر على الورثة بانتظار المدين الى حين حلول الاجل ، فلهم الحق في قسمة التركة بمجرد موت مورثهم ، ولا توجد روايات تقول بحلول دين المديون اذا مات دائنه ، فبمقتضى وجوب الوفاء بالعقد ووجوب الوفاء بالشرط هو انتظار الورثة لمدين أبيهم حتى يحل الاجل فيستحقون ما لمورثهم حينئذ.
    والظاهر ان هذا الحكم المتقدم ( حلول الدين بموت المدين ) ليس فيه خلاف بين المسلمين ( كما يقول الفقيه صاحب الجواهر ( قدس سره) ) إلاّ من الحسن البصري المنقرض خلافه (1). ويكفي هذا الإتفاق دليلاً على المسألة.

الدائن للميت اذا وجد عين ماله في التركة :
    فهل يجوز له اخذها مقدماً على الديان ؟
    نقول : يوجد فرق بين المفلّس الذي وجد مع أمواله ( المحجور من التصرف بها ) نفس العين التي باعها اليه البائع ولم يسدد ثمنها ، فهنا ( البائع ) له الحق في أن يأخذ العين ( ان كان دينه حالاً ) مقدماً على كل الغرماء ، ولو كان ما عند المفلس لا يفي بحق الغرماء ، وليس للغرماء الاعتراض على ذلك. ولعل السر في ذلك : أن البائع عندما باع عين ماله الى شخص ولم يسدد المبلغ بعد حلول أجله ، فله المطالبة بالثمن ، فان لم يدفع اليه الثمن كما هو الحال فيما نحن فيه ( لان المدين قد فلس ) فيكون له الحق في فسخ ذلك البيع مادامت العين المبيعة موجودة ، فاذا فسخ فيكون مقدما
     (1) جواهر الكلام ج 25 ، ص 294.
(80)
على بقية الغرماء ، لانها عين ماله في يد المفلس ، فيأخذها من دون منازع. اما بالنسبة لما اذا مات المدين ووجدت عين احد الغرماء في التركة ، وكانت التركة غير وافية بحق الغرماء ، فليس للدائن أن يأخذ عين ماله ، نعم اذا كانت تركة الميت وافية بجميع حقوق الديان ، فهنا يجوز لمن وجد عين ماله أن ياخذها. وقد يقال هنا كما قيل بالنسبة للمفلس وتوضيح ذلك :
    ان المدين عندما مات وحلت جميع ديونه ، ومنها ثمن العين المبيعة الموجودة الآن مع تركة الميت ، فالدائن يستحق المطالبة ، واذا لم يدفع اليه الثمن ( كما هو مفروض المسألة من ان التركة لا تفي بديون الميت ) فيتمكن من الفسخ ، فاذا فسخ تقدم على كل الديان في أخذ عين ماله التي عند غيره ، ولا حق للاخرين في منعه عن أخذ عين ماله.
    هنا نقول : لكن الروايات فرقت بين الصورتين ففي صورة كون المدين قد فلِّس جاء صحيح عمر بن يزيد عن أبي الحسن ( عليه السلام ) ( الامام الكاظم ( عليه السلام ) ) قال ( عليه السلام ) : « قال سألته عن الرجل يركبه الدين فيوجد متاع رجل عنده بعينه ، لا يحاصّه الغرماء » (1). والمستفاد من هذا الحديث الشريف العموم ، اي : سواء كانت التركة كافية للديان ام لا. ثم المراد من عدم المحاصة هو فسخ العقد لا عدم المحاصة في الوفاء اذ عدم المحاصة في الوفاء توجب التعرض لزيادة العين على الدين او نقيصتها ، وبما أن الإمام ( عليه السلام ) لم يتعرض لهذا ، فيفهم منه فسخ العقد.
    وأما في صورة موت المدين ووجود عين الدائن في التركة ، فقد ذكرت الروايات عدم مزاحمة صاحب العين اذا وفت التركة ، فمن الروايات صحيحة أبي ولاد قال : « سألت ابا عبدالله ( عليه السلام ) ( الإمام الصادق ) عن رجل باع من رجل متاعاً الى سنة ، فمات المشتري قبل أن يحل ماله ، وأصاب البائع متاعه
     (1) وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 5 من ابواب احكام الحجر ، ح 2.