(121)
رأينا أن الأنسب بالمقام هو بحث التداين ونظرة الاسلام إليه من
ناحيتين :
1 ـ اقتصادية.
2 ـ اخلاقية.
1 ـ التداين ونظرة الاسلام إليه من الناحية الاقتصادية
:
لابد أولاً من معرفة معنى الدَّين ، وقد عرّفه فقهاء الاسلام بانه :
المال الكلي الذي أشغل وعاء الذمَّة الذي يفترض لصيقاً بالانسان. وحينئذ من الواضح
أنَّ تصور الفقه الاسلامي لنقل الدَّين وانتقاله على حدّ تصورهما في المال الخارجي ، ولذا اعترف الفقه الاسلامي ( الشيعي ) بشيئين :
1 ـ الحوالة : التي هي عبارة
عن تحويل المدين الدائنَ على شخص آخر ، أو قل هي عبارة عن نقل المال من مكان الى
مكان آخر ( أي من ذمّة الى ذمّة ) وهي معروفة في الفقه الوضعي بـ ( حوالة الدَّين ).
2 ـ بيع الدَّين : وهو عبارة عن تبديل مالك المال الموجود في الذمّة ، كما اذا
باعه لشخص ثالث ، أو وهبه له. وهذا يسمى في الفقه الوضعي بـ ( حوالة الحق ).
اما البحث حول الحوالة : فان معناها عند الشيعة هو الحوالة المطلقة ( غير
المقيدة بالدَّين ) ، فان مشهور علماء الشيعة ـ على ما جاء في كتاب جواهر الكلام ـ
(122)
على الاعتراف بالحوالة على البريء. قال : « ويصح أن يحيل على من ليس
عليه دَين ، وفاقاً للمشهور ، بل عن السرائر الاجماع عليه ، وهو الحجة بعد اطلاق
النصوص السابقة وعموم ( اوفوا بالعقود ) (1) والسيرة على فعلها بحيث يعلم
شرعيتها » (2).
واما الحوالة على المدين فقد قال بها كل علماء الشيعة ، والنصوص
التي اشير اليها كدليل على صحة الحوالة بصورة مطلقة كثيرة ، منها : ما رواه ابو
أيوب الخزاز في الصحيح : أنه سأل الامام الصادق ( عليه السلام ) : « عن الرجل يحيل
الرجل بالمال أيرجع عليه ؟ قال : لا يرجع عليه ابدا إلاّ أن يكون قد أفلس قبل ذلك
» (3).
وأما من ينكر الحوالة على البريء من علماء الشيعة ، فهو ليس لأجل الصعوبة
في أصل تصويرها بل لأجل الدعوى القائلة بأن الحوالة على البريء ترجع الى الضمان
الذي هو عبارة عن نقل المال من ذمّة الى ذمّة ، وهذا يختلف عن الضمان عند ابناء
العامة الذي هو « ضم ذمّة الى ذمّة » فقد ذكر هذا المعنى السيد الشهيد الصدر ( رحمه
الله ) حيث قال :
« إن هذا الانكار ليس لاجل الصعوبة في تصوير أصل الحوالة ، بل
لدعوى ان الحوالة على البريء ترجع الى الضمان ، فباب الضمان يختلف عن باب الحوالة ، فان الحوالة تصدر من المدين الى من يقع عليه الدَّين بعد الحوالة ، والضمان بالعكس
; فهو شيء يصدر من نفس من يقع عليه الدَّين ، ويقال : إن الحوالة على البريء يرجع
روحها الى الضمان ، فانه ـ في الحقيقة ـ يصدر من الذي يقع عليه الدَّين بهذه
المعاملة المتقبل للدَّين ، وهذا عبارة عن الضمان ، فلا تتصور الحوالة على البريء
بنحو يفترق عن الضمان ، هذا ما يذكر في المقام. وهذا كما ترى غير مربوط بصعوبة أصل
تصوير الحوالة ، والحق أن الحوالة على البريء ـ ايضاً ـ صحيحة ولا
(1) المائدة ، 1.
(2) جواهرالكلام ، ج 26 ، ص 165.
(3) وسائل الشيعة ، ج
13 ، باب 11 من احكام الضمان ، ح 1 ، ص 158.
(123)
ترجع الى باب الضمان على تحقيق موكول الى محله » (1).
وذكر السيد
الحائري ( تلميذ السيد الشهيد ) توضيحاً لما ذكره السيد الشهيد الصدر اخيراً من عدم
رجوع الحوالة على البريء الى باب الضمان فقال : « ولعله ينظر ( رحمه الله ) في تصحيحه
للحوالة على البريء ـ من دون رجوع الى باب الضمان ـ الى ما ذكره في الجواهر ، من أن
انشاء الضمان : يكون في باب الضمان من الضامن ، وفي باب الحوالة من المحيل ، غاية
الامر أن يفرض اشتراط رضا المحال عليه بما أنشأ المحيل من الحوالة ، وهذا غير انشاء
الضمان منه مباشرة » (2) ، فتختلف الحوالة على البريء عن الضمان.
أقول : تبين ـ
مما تقدم ـ أن علماء الشيعة تصوّروا نقل الدَّين من ذمّة الى ذمّة أي تغيير المدين. وتغيير المدين مرة يكون عن طريق الحوالة بصورة مطلقة ( على المدين او على غير
المدين ) كما تصور ذلك في الحوالة المطلقة اكثر علماء الشيعة ، ومرة يكون تغيير
المدين بصورة الحوالة على المدين ، وبصورة الضمان ، وقد اعترف بالحوالة على المدين
وبالضمان كل علماء الشيعة. اذن يمكن القول بأن الشيعة الإمامية تصوروا امكان تغيير
المدين من اول الامر ، كما أن الدليل على ذلك من ائمة الهدى ( أهل البيت ) قد تقدم
في تصوير مطلق الحوالة.
وأما الدليل على صحة ضمان الضامن للمدين ففيه ـ ايضا ـ
نصوص وردت عن أئمة اهل البيت منها :
1 ـ صحيحة عبدالله بن سنان عن الإمام
الصادق ( عليه السلام ) : « في الرجل يموت وعليه دين ، فيضمنه ضامن للغرماء ، فقال : اذا
رضي به الغرماء فقد برئت ذمّة الميت » (3).
2 ـ موثق اسحاق بن عمار عن الإمام
الصادق ( عليه السلام ) : « في الرجل يكون عليه
(1) فقه العقود ، للسيد الحائرى ، ص 66 ـ 67 ( مخطوط ).
(2) فقه العقود ، للسيد الحائرى ، ص 66 ـ 67 ( مخطوط ).
(3) وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 14 من أبواب
الدين ، ح 1.
(124)
دين فحضره الموت ، فقال وليه : عليَّ دينك ، قال ( عليه السلام ) :
يبرؤه ذلك وان لم يوفه وليه من بعده » (1). وطبعا هذه الرواية الثانية تقيد بما اذا
رضي الغرماء بضمان الابن دَين ابيه كما دلت عليه الرواية الاولى.
3 ـ روى الشيخ
الطوسي ( رحمه الله ) في الخلاف عن ابي سعيد الخدري قال : « كنا مع رسول الله ( صلى
الله عليه وآله ) في جنازة ، فلما وضعت قال : هل على صاحبكم من دَين ؟ قالوا : نعم
درهمان ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : صلّوا على صاحبكم ، فقال علي ( عليه السلام )
هما عليَّ يا رسول الله وأنا لهما ضامن ، فقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فصلى
عليه ، ثم أقبل على علي ( عليه السلام ) فقال جزاك الله عن الاسلام خيرا ، وفك رهانك
كما فككت رهان أخيك » (2). وهذه الرواية ـ كالرواية الثانية ـ مقيدة بما اذا رضي
الغرماء بضمان الضامن كما دلت عليه الرواية الاولى.
اذن ثبت بالدليل الشرعي
امكان تغيير المدين في صورة رضاء الغريم بذلك ، وهوى يؤدي معنى الحوالة.
السنهوري وما فهمه من فقه السنة ( بالنسبة لحوالة الدَين والحق )
:
لقد رأى السنهوري في الفقه السنّي باباً باسم باب الحوالة ( ويقصدون بها
حوالة الدين ) ولكنه لم يجد اصطلاح حوالة الحق في المذاهب الأربعة إلاّ في الفقه
المالكي في الجملة (3). فقد رأى الدكتور السنهوري أن هذا شيء لا يمكن أن يقع في فقه
ما ، وإلاّ لكان هذا بدعاً في تطور القانون ـ على حد تعبيره ـ وذلك لأمرين
:
احدهما : إنه من غير الطبيعي أن يعرف نظام قانوني حوالة الدَين قبل أن يعرف
حوالة الحق ، لما مضى من ان رابطة الالتزام بالمدين اشد وأقوى منها
(1) وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 14 من أبواب الدين ، ح 2.
(2) المصدر السابق ، باب 3 من احكام الضمان ، ح 2.
(3) الوسيط ج 3 ، فقرة 240 ، ص 421 ، وفقرة 434 ـ 437.
(125)
بالدائن ، وشخصية المدين أخطر في هذه الرابطة من شخصية الدائن.
ثانيهما : إنه من غير الطبيعي ان يسلّم نظام قانوني بانتقال الدَّين بين
الاحياء من مدين الى آخر ، وهو لم يعترف بانتقاله بسبب الموت ، لأنَّ تصور قيام
الوارث مقام الميت أسهل من تصور قيام شخص مقام من هو حي يرزق كما مضى ، والاسلام لا
يعترف بانتقال ديون الميت الى الوارث.
وهنا يواجه السنهوري فتاوى فقهاء السنة
الذين أفتوا بحوالة الدَّين بين الاحياء ، ولم يفتوا بانتقال الدَّين بالموت الى
الوارث ولا بحوالة الحق إلاّ في المذهب المالكي الذي اعترف به في الجملة ، لذا فان
السنهوري أخذ يفسر هذا بالنحو الذي لا يعارض ما ذكره ( من عدم امكان معرفة حوالة
الدَّين قبل معرفة حوالة الحق ) ، و ( عدم امكان معرفة انتقال الدَّين بين الاحياء
قبل معرفة انتقاله بالموت ) ، ثم ذكر شواهد على تفسيره من كتب اهل السنة ( العامة ) ، وبعد ذلك يصل الى ان الحوالة ( حوالة الدَّين ) يجب صرفها عن معنى الحوالة
بمعناها الدقيق ( وهو الحوالة المطلقة غير المقيدة بالدَّين ) ، الى معنى الوفاء
الذي يفسر على اساس التجديد بتغيير المدين ، وتوضيح ذلك أن المدين يوفي ( عن طريق
ما يسمى بالحوالة ) الدَّين الذي عليه للدائن بالحق الذي له في ذمّة المحال عليه ، فالمدين بدلاً من أن يستوفي حقه من المحال عليه ثم يوفي ( بهذا الحق الذي استوفاه )
دَينه الذي عليه للدائن ، يختصر هاتين العمليتين في عملية واحدة ، فيقضي الدَّين
الذي عليه بالحق الذي له دون أن يستوفي شيئاً من مدينه او يوفي شيئاً لدائنه ، بل
يقتصر على أن يحيل دائنه على مدينه ، وهذا لا يعني الاعتراف بفكرة الحوالة بمعناها
العام ، وإلاّ لأعترفوا بها في الحوالة على البريء.
وكأنَّ الدكتور السنهوري
التفت الى وجود طريق آخر لعلماء السنة ، فقد يقولون له : أن الحوالة على المدين
يمكن ارجاعها الى حوالة الحق بأن يفترض أن المحيل في الحقيقة قد نقل ( الحق الذي
كان له على المحال عليه ) الى دائنه ، فيكون
(126)
الفقه السني قد اعترف بحوالة الحق ، ولم يعترف بحوالة الدين. وهذا
أمر منسجم مع تطور الفقه من دون مشكلة. إلاّ ان الدكتور السنهوري استبعد هذا
الارجاع وذكر لذلك شواهد من الفقه السني.
أقول : وبهذا البحث الذي ذكره الدكتور
السنهوري يكون قد فرّغ الفقه السنِّي من الاعتراف بحوالة الحق وحوالة الدين معا.
نقول : إن السيد الشهيد الصدر ( رحمه الله ) ذكر الشواهد التي ذكرها السنهوري ، وردَّها ، واثبت أنها حيادية اتجاه مسألتنا (1) ، إلاّ ان الرد الحاسم لما ذهب إليه
السنهوري ذكره السيد الشهيد الصدر أيضا فقال : « إن السنهوري خلط بين تصورات الفقه
الغربي وتصورات الفقه الاسلامي ، فلئن واجه الفقه الغربي مشكلة من هذا القبيل على
اساس أنه يرى الدَّين عبارة عن الالتزام ، وهو خيط بين الدائن والمدين ، لا مالاً
موجوداً في ذمّة المدين ، وعندئذ يصعب عليه تصور تبديل احد طرفي الالتزام ، لأنَّ
الالتزام متقوم بطرفيه ، فالفقه الاسلامي من أساسه لا يواجه مشكلة كهذه ، لانه يرى
ان الدَّين مال موجود في ذمَّة المدين يتصور النقل والانتقال على حدّ تصورهما في
المال الخارجي ، فحوالة الدَّين : عبارة عن نقل المال من مكان الى مكان ( اي من
ذمّة الى ذمّة ) وحوالة الحق : عبارة عن تبديل مالك هذا المال الموجود في الذّمة.
وهذان أمران لا يرتبط احدهما بالآخر ، ويجوز للفقه أن يتصور احدهما من دون الآخر ، سواء كان ما تصوره عبارة عن حوالة الحق دون حوالة الدَّين او بالعكس. اما عدم
اعتراف الاسلام بانتقال الدَّين في باب الموت الى الورثة مع اعترافه بانتقال الحق
اليهم ، فليس بسبب ما يقوله السنهوري من أن تصور انتقال الدين أصعب من تصور انتقال
الحق ، وانما هو بسبب ما قاله استاذنا الشهيد الصدر ( رحمه الله ) وهو أن الاسلام يرى
ان الدَّين عبارة عن مال موجود في الذّمة ، وليس عبارة عن الالتزام كما جاء في
الفقه الغربي ويرى أن
(1) المصدر السابق نفسه.
(127)
ذمّة الشخص لا تموت بموت الشخص ، فانها وعاء اعتباري قابل للبقاء حتى
بعد الموت ، ولذا لا حاجة الى قيام الوارث مقام المورث في الدّين ، فإنَّ الوارث
انما يقوم مقام المورث في ما يكون المورّث ميتاً بلحاظه ، وهذا هو الحال بلحاظ
أمواله الخارجية وبلحاظ ما كان يطلبه من غيره ، ولذا عرف الفقه الاسلامي انتقال
الحق في باب الارث. وأما بلحاظ الديون الثابتة على الميت ، فذمّة الميت باقية على
حالها مالم يوف دينه ( ولا مجال لقيام الوارث مقامه ) ويوفى دينه من تركته ثم يورث
المال كما قال تعالى : ( من بعد وصية يوصي بها او دين ) (1). وعلى هذا الاساس لا
يقول الاسلام بما جاء في الفقه الغربي من انتقال ديون الميت الى الورثة وادائهم
اياها بمقدار ما ورثوه من التركة ، بل يقول : ان دَين الميت لا علاقة له بالورثة.
والصحيح : أن التركة تبقى ملكاً للميت ، ويوفى دَينه الثابت في ذمته بها ( لا
أن الدَّين يتعلق بالتركة ). وإن لم تفِ تركته بمقدار دَينه بقيت ذمَّته مشغولة
الى أن يتبرع عنه متبرع » (2) او يبرئه الدائن.
نقول : ومما يؤيد صحة ما ذهب
إليه السيد الشهيد الصدر ( رحمه الله ) ( من عدم الارتباط بين حوالة الدَّين وحوالة
الحق ، وان الفقه يجوَّز له ان يتصور احدهما دون الاخر ، كما ان الدَّين في باب
الموت لا ينتقل الى الورثة ليس له علاقة بصعوبة انتقال الدَّين من انتقال الحق ) هو
ما وجدناه في الفقه الشيعي ( الإمامي من الاعتراف بحوالة الدَّين على المدين وعلى
البريء والاعتراف بحوالة الحق ، مع أن الشيعة أنفسهم لا يقولون بانتقال ديون الميت
الى الورثة ويقولون بانتقال حقوق الميت إليهم ، وهذا دليل على ان تصور انتقال الحق
لا ربط به بتصور انتقال الدَّين من الناحية الاولية في التصور.
(1) النساء ، 12.
(2) فقه العقود ، للسيد الحائرى ، ص 68 ـ 69 ( مخطوط ).
(128)
مصطفى الزرقاء :
اما الاستاذ مصطفى الزرقاء ، فقد ذهب الى
عكس ما ذهب اليه السنهوري ، حيث قال في كتابه : إن حوالة الحق وحوالة الدّين
ثابتتان معاً في الفقه الاسلامي في حوالة المدين دائنه على دَين مدين له ، لانه
يتحقق بهذه العملية حوالة الدائن وحوالة المدين في وقت واحد وتوضيح ذلك : لو حوّل
زيد دائنه ( وهو عمرو ) على مدين له ( وهو بكر ) ، فقد حوّل زيد ( المدين لعمرو )
دينه على بكر ، وهذه هي حوالة الدين ، وفي نفس الوقت قد حوّل زيد ( الدائن لبكر )
حقه الى عمرو ، فأصبح عمرو هو الدائن لبكر بدلاً عن زيد ، وهذه هي حوالة الحق (1).
واورد على ذلك السيد الشهيد الصدر ( رحمه الله ) :
« إن هذه الحوالة لا يمكن
أن تكون حوالة دَين وحوالة حق في وقت واحد ، بل يجب ان تكون حوالة دَين فقط او
حوالة حق فقط ، فزيد اما ان يحوّل الدَّين الذي في ذمَّته لعمرو على بكر استيفاء
لحقه الذي له على بكر ، وهذه هي حوالة الدَّين ، اي حوالة الدَّين الموجود في ذمَة
زيد على بكر. أما الدَّين الذي يطلبه زيد من بكر فقد سقط. واما ان يحوّل الحق
الذي له في ذمّة بكر الى عمرو وفاء لدَينه ، وهذه هي حوالة الحق ، وبهذا سقط
الدَّين الذي كان في ذمته لعمرو. أما اذا افترضنا ان هذه حوالة دَين وحوالة حق في
وقت واحد فهذا يعني أن يكون كلا الدَينين ثابتين لعمرو على بكر ، لأنَّ الدَين الذي
كان له على بكر حوّله لعمرو فملكه عمرو بحوالة الحق ، والدَّين الذي كان عليه لعمرو
حوّله على بكر فهو لا زال ملكاً لعمرو يستوفيه من بكر ، وهذا يعني ان يأخذ عمرو
المال من بكر مرتين وهو واضح البطلان » (2).
(1) المصدر السابق ، ص 69 ـ 70 ، ( مخطوط ).
(2) المصدر السابق نفسه.
(129)
نقول : ولو تنازل الاُستاذ مصطفى الزرقاء عن كلمة : « يتحقق بهذه
العملية حوالة الدائن وحوالة المدين في وقت واحد » وقال : نتمكن أن تتصور حوالة
الدائن وحوالة المدين في عمليتين ( اي في وقتين ) (1) ، فهل نتمكن ان نقول ان الفقه
السنّي قد عرف حوالة الدَّين وحوالة الحق معاً ؟
الجواب : لا يمكن ذلك ، وذلك
فانَّ حوالة الحق التي لم تذكر في المذاهب الاربعة إلاّ المذهب المالكي في الجملة (
كما ذكروا ) لا يمكن ان نقول إن الفقه السنّي قد عرفها وان تصور ذلك الاستاذ مصطفى
الزرقاء حيث إننا بحاجة الى دليل شرعي على اعتراف الفقه السنّي بحوالة الحق ، او
على الاقل نحتاج الى نص من فقيه قديم يصرح بحوالة الحق ، اما تصوّر الزرقاء فهو لا
يكفي لنسبة القول بحوالة الحق الى الفقه السنّي ، اذ فرق كبير بين تصور الشيء
وثبوته في الفقه بحيث ينسب الى الشريعة. وقد يتصور فقيه قديم حوالة الحق ، إلاّ ان
تصوره اياها غير كاف لثبوتها في الشريعة الاسلامية كما هو واضح ، وتصور حوالة الحق
في الفقه الاسلامي سهل يسير اذا عرفنا ان الدَّين هو مال كلي ثابت في ذمّة الغير ، وحينئذ يمكن نقله من مدين الى آخر ، ويمكن تغيير الدائن ايضا ، إلاّ ان هذا لا يكفي
لنسبة حوالة الدَّين وحوالة الحق الى الشريعة ، بل لابد من سنّة او على الاقل ذهاب
جمع من العلماء القدامى الى القول بحوالة الحق والدَّين كفتوى لهم تكشف عن وجود
ارتكاز لدى المتشرعة بقبولهما ، وهذا الارتكاز يكشف عن رضا المعصوم ( عليه السلام )
او تقريره ، وهو سنّة متبعة.
(1) اي شخص واحد يتمكن أن يحول دائنه على مدينه وهي حوالة الدَّين ، كما يتمكن
أن يفعل هذه العملية بصورة اُخرى كما اذا تصورنا ان دائن زيد لم يطالبه بالدَّين ، ولكن زيداً اراد تسديد دَينه ، فأمر مدينه بدفع المبلغ الى دائن زيد ، فيكون زيد قد
حوّل حقه الذي في ذمّة مدينه الى دائنه وهو حوالة الحق ، وهذا ليس فيه منع كما في
بيع الدَّين على غير المدين.
(130)
المفهوم الغربي للدّيْن :
الدَّين في المفهوم الغربي هو
مجرد التزام شخص لشخص ، وهذا أقرب ما يكون الى مفهوم انشغال العهدة عند الشيعة ، فكأنه رابطة بين انسان وانسان أو بين انسان ومال ، وكان هذا التعريف للدَّين هو
الفارق عند الغربيين بين ما يسمونه بالحق الشخصي والحق العيني ، فالشخصي هو الذي
يربط الانسان بانسان آخر ، والعيني هو الذي يربط الانسان بعين خارجية (1). قال
الدكتور السنهوري متحدثاً عن تطور الرابطة بين الدائن والمدين في الفقه الغربي
:
« ولم تثبت هذه الرابطة على حال واحدة ، بل انها تطورت فكانت في اول أمرها
سلطة تعطى للدائن على جسم المدين لا على ماله وكان هذا هو الذي يميز بين الحق
العيني والحق الشخصي. فالاول سلطة تعطى للشخص على شيء ، والثاني سلطة تعطى للشخص
على شخص آخر ، وكانت سلطة الدائن على المدين سلطة واسعة يدخل فيها حق الاعدام وحق
الاسترقاق وحق التصرف ، ثم تلطفت هذه السلطة فصارت مقصورة على التنفيذ البدني بحبس
المدين مثلاً ، ولم يصل الدائن الى التنفيذ على مال المدين ألاّ بعد تطور طويل ، فاصبح للالتزام منذ عهد الرومان مظهران :
مظهر باعتباره رابطة شخصية فيما بين
الدائن والمدين.
ومظهر باعتباره عنصراً مالياً يقوم بذمَّة الدائن ، ويترتب
دَيناً في ذمة المدين. ولا يزال الالتزام محتفظاً بهذين المظهرين الى الوقت الحاضر
وان اختلفت المذاهب فيه ، فمذهب يغلِّب الناحية الشخصية ; وهو المذهب الفرنسي
التقليدي
(1) أما الفقه الاسلامي فهو لا يعرف هذين الاصطلاحين مادام لا يعرّف الدَّين
بهذا التعريف بل يعرفه على أنه مال في ذمَّة الغير قابل للنقل والانتقال كالاعيان ، نعم الفقه الاسلامي يعرف الحق الكلي والحق العيني.