(171)
الثاني : انما لاتباع دار السكنى واشباهها في أداء الدَين مادام المدين حياً ، اما لو مات المدين ولم يترك غير دار سكناه ، او شيئاً من ثيابه ، او دابته او خادمه ، وكان دَينه مستوعباً لما تركه ، فهنا تباع هذه الأشياء وتصرف في أداء الدَين لاجل تفريغ ذمة الميت. وهذا واضح لا يحتاج الى دليل بعد الآية القرآنية القائلة : ( من بعد وصية يوصي بها او دَين ) (1).
    الخلاصة : ان الميزان لبيع الدار وكذا الخادم والثياب واشباهها هو عدم الاحتياج اليها وهو معنى اليسر ، والميزان لعدم وجوب بيع الدار هو الاحتياج وهو معنى العسر ، والامثلة التي ذكرتها الروايات لا تخرج عن كونها أمثلة لما يحتاج اليه الانسان في ذلك الزمان ، اما في زماننا هذا فان الامثلة قد تكثر وقد تتبدل كما في الدابة فان العربة تقوم مقامها في هذه الازمنة ، وقد يكون الانسان محتاجا في أيامنا هذه الى الهاتف والراديو والمسجل واشباه ذلك كثير ولا يمكن حدّه بأمثلة معدودة ، فالاولى ما ذكرناه من الميزان المتقدم من الحاجة الى الشيء بحيث يصعب عليه تركه فهو ميزان الاعسار الذي لا يباع في الدَّين ، ومن عدم الحاجة الى الشيء بحيث يتمكن من تركه بسهولة فهو معنى اليسر الذي يباع في الدَّين.

هل يجب على المدين المعسر ان يقتصر على ما يمسك رمقه ؟
    نقول : لا يلزم ذلك ، بل يجوز له أن يأكل ماشاء ( بشرط ان لا يؤدي الى الاسراف المحرم ) فقد روى علي بن اسماعيل عن رجل من أهل الشام أنه « سأل الامام أباالحسن الرضا ( عليه السلام ) عن رجل عليه دين قد فدحه وهو يخالط الناس وهو يؤتمن ، يسعه شراء الفضول من الطعام والشراب ، فهل يحل له ام لا ؟ وهل يحل ان يتطلع من الطعام ام لا يحل له إلاّ قدر ما يمسك به نفسه
     (1) النساء ، 11.
(172)
ويبلغه ؟ قال : لا بأس بما أكل » (1).

هل يجب على المدين المعسر التكسب وأن يؤاجر نفسه ؟
    اختلف فقهاء الإمامية في هذه المسألة ، فمنهم من ذهب الى عدم الوجوب كالشيخ الطوسي في المبسوط قال : « لا خلاف في انه لا يجب عليه قبول الهبة والوصية والاحتشاش والاحتطاب والاغتنام ، مؤيداً بالمشهور نقلا وتحصيلا على عدم وجوب التكسب عليه » (2). والقول بان مؤاجرته منفعة ، والمنفعة مال يتعلق بها حق الغرماء : « يدفعها أنه لا اشكال في عدم عدّ منفعة الحرّ مالا ، ولذا لا تضمن بالفوات وإنما تكون مالا بالاجارة لا قبلها ، فلا يتعلق بها حينئذ حق الغرماء » (3).
    واما القول الثاني في المسألة فيقول بوجوب التكسب والمؤاجرة على المدين المعسر اذا كان من شأنه ذلك ، وهذا القول أقوى من الاول ، اذ من الواضح أن القادر على الاكتساب بحيث يكفيه اكتسابه لمؤونة سنته غني ، وحينئذ اذا كان مديناً معسراً وهو قادر على الاكتساب فيجب عليه لانه قادربالقوة على أداء الدين ، ومن كان قادرا على أداء الدين بالفعل يجب عليه اداؤه ، ومن كان قادرا على أداء الدين بالقوة يجب عليه السعي لاداء الدين وهو الاكتساب مثلا ، لذا صرّح بعض الفقهاء بوجوب السعي لقضاء الدين ، ففي السرائر : « ومن كان عليه دين وجب عليه السعي في قضائه » وفي القواعد : « ويجب على المدين السعي في قضاء الدين » (4).
    ولكن هذا الوجوب ليس معناه تسلط الغرماء على استعماله ومؤاجرته ، بل يجب عليه السعي في قضاء دينه ، وهذا غير تسليط الغرماء عليه.

     (1) وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 27 من الدين ، ح 1 ، ص 115.
     (2) جواهر الكلام ، ج 25 ، ص 324.
     (3) المصدر السابق ص 325.
     (4) جواهر الكلام ، ج 25 ، ص 326.

(173)
السلم وتطبيقاته المعاصره


(174)

(175)
السَلَم ـ بِفَتح السين واللام ـ : مرادف للفظ السلف لغةً (1) ، واصطلاحاً : هو نوع من البيع. فاستعمال صيغة البيع فيه استعمال للفظ فيما وضع له ، غاية الامر ان هذا الفرد من البيع له احكامه الخاصة الزائدة على احكام البيع : « وقد عطف في مختصر النهاية القرض عليه ، ولعل اشتراكهما لفظاً فيه لاشتراكهما في أن كلاً منهما اثبات مال في الذمة بمبذول في الحال » (2).
    والايجاب فيه :
    1 ـ اذا كان بلفظ السلم او السلف ، هو أن يقول المشتري اسلمت اليك او اسلفتك كذا في كذا الى أجل ، فيقول المسلَم اليه ( البائع ) : قبلت وشبهه. وهذا من مختصات بيع السلم لعدم تعقل معناهما من غير المشتري.
    2 ـ اما اذا وقع بغير لفظ اسلمتك او اسلفتك فيصح الايجاب من البائع فيقول : بعتك كذا بكذا وصفته كذا الى أجل كذا ، فيقول المشتري : قبلت ، ودفع الثمن في المجلس انعقد سلماً لا بيعاً مجرداً عن كونه سلماً اذ اتضح عدم اعتبار لفظ السلمية في صيرورته سلماً بعد ان كان مورده متشخصاً في نفسه. « فما عن بعض الشافعية من أن ذلك بيع لا سلم فلا يجب القبض في المجلس وغيره من احكامه نظراً الى كون الايجاب بلفظ البيع واضح الفساد ، اذمع كون الأوْلى النظر الى المعاني ،
     (1) والأول : لغة اهل الحجاز ، والثاني لغة اهل العراق. راجع نيل الاوطار ، ج 5 ، ص 239.
     (2) جواهرالكلام ، للمحقق النجفي ، ج 24 ، ص 267 ـ 269.

(176)
لا تنافي هنا بين اللفظ والمعنى ضرورة كون السلم نوعاً من البيع ، فليس في لفظ البيع ما يقتضي كونه غير سلم حتى يحتاج الى ترجيح النظر الى اللفظ على المعنى » (1).
    3 ـ وكذا يقع السلم ( من البائع ) بلفظ : استلمتُ ، وتسلّفتُ وتسلّمتُ ، فيقول المشتري ( المسلِم ) : قبلت ونحوه ، فيكون الموجب هو البائع والقابل هو المشتري.
    4 ـ كما يصح السلم بلفظ الشراء ، فيقول : اشتريتُ منك ثوباً او طعاماً صفته كذا بهذه الدراهم الى أجل كذا ، فقال البائع : بعته منك ، فهنا ينعقد هذا البيع سلماً ويكون صحيحاً بناءاً على جواز تقديم القبول على الايجاب ، كما هو الصحيح. اما لو قال البائع : قبلت ، فقد يقال بصحته ايضاً بناءاً على صحة العقد ، بالايجاب من المشتري والقبول من البائع.

تعريف بيع السلم :
    عُرِّف عند البعض بانه : « ابتياع مال مضمون الى أجل معلوم بمال حاضر او في حكمه » (2). وهذا التعريف ينسجم مع من يقول بان البيع هو اسم للنقل والانتقال المراد من الابتياع هنا (3).
    والمراد من المضمون هنا هو الكلي في الذمة بقرينة الى أجل معلوم ، وبهذا يحترز عن البيع المضمون قبل القبض الذيورد النهي فيه اذا كان طعاماً. واخرج بقوله بمال حاضر أو ما في حكمه بيع النسيئة لعدم اعتبار ذلك فيها ، فالمراد بالمال الحاضر هو المال الموجود المشخّص في مجلس العقد.
    والمراد بما في حكمه :
     (1) المصدر السابق.
     (2) شرائع الاسلام للمحقق الحلي ، ج 2 ، ص 75.
     (3) اما مَنْ يقول بان البيع هو انشاء التمليك بعوض وهو فعل البائع ، البائع فلا ينسجم معه التعريف

(177)
    1 ـ المال المقبوض قبل التفرق وإن لم يكن موجوداً في مجلس العقد وهو الكلي في الذمة المدفوع قبل التفرق.
    2 ـ او كان موجوداً بدون تشخيص ثم يشخّص قبل التفرق ويقبض.
    3 ـ او كان الثمن ديناً في ذمة البائع بناء على جواز جعله ثمناً للسلم.
    وهذه وامثالها لم تعتبر في النسيئة. واما الاجل في السلم فهو المشهور وسيأتي تحقيق الحال فيه.

مشروعيته :
    اما مشروعيته فقد دلّ عليها امور :
    1 ـ شمول العمومات القرآنية مثل : ( أحلّ الله البيع ) و ( تجارة عن تراض ) اذ لا اشكال في كونه بيعاً عرفاً فتشمله الادلة (1).
    2 ـ إجماع المسلمين على جواز هذا البيع. إلاّ ما حُكي في البحر الزخّارج 3/397 ، ونيل الأوطار 5/239 عن ابن المسيب أنّه لا يجيزه ، متمسكاً بحديث النهي عن بيع ما ليس عند الانسان.
    3 ـ الروايات المتواترة التي دلت على صحته وهي كاشفة عن السنة النبوية ، فمن الروايات :
    أ ـ صحيح جميل بن دراج عن الامام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لا بأس بالسلم في المتاع اذا وصفت الطول والعرض » (2).

     (1) اما الاستدلال بمشروعية السلم من الكتاب بقوله تعالى « يا أيها الذين آمنوا اذا تداينتم بدين الى أجل مسمى فاكتبوه » بشهادة ابن عباس عند ما قال : « اشهد ان السلف المضمون الى أجل مسمى قد احلّه الله في كتابه ثم قرأ : يا أيها الذين آمنوا... » فلعله لعموم اللفظ والاّ فإنَّ الديْن الذي وردت فيه الاية القرآنية يختلف عن بيع السلف الذي نحن بصدده فلا تكون الاية دليل عليه.
     (2) وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 1 من السلف ، ح 1.

(178)
    ب ـ صحيح زرارة عن الامام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لا بأس بالسلم في الحيوان اذا وصفت اسنانها » (1).
    ج ـ صحيح الحلبي عن الامام الصادق ( عليه السلام ) قال : « سئل عن الرجل يسلم في الغنم ثنيان وجذعان وغير ذلك الى أجل مسمى ، قال ( عليه السلام ) : لا بأس ، ( الى أن قال ) : والاكسية مثل الحنطة والشعير والزعفران والغنم » (2) ، وغيرها من الروايات.

هل مشروعية السلم اصلية او استثناء ؟
    ذهب البعض إلى أن مشروعية السلم ليست أصلية ، بل إن تعامل الناس والحاجة جعل الفقه الاسلامي يميز بيع السلم ، فقد ذكر السنهوري ما خلاصته : هنا نجد الفقه الاسلامي ـ على الوجه الذي استقر عليه في عصور التقليد ـ يضيق بحاجات التعامل. فقد كان الاصل الذي قام عليه عدم جواز بيع المعدوم هو فكرة الغرر (3) ، ولكن سرعان ما اختفى هذا الاصل ، وأصبح انعدام الشيء في ذاته هو سبب البطلان ولو لم يكن هناك غرر او كان هناك غرر يسير.
    لذلك نجد اجماعاً من المذاهب على أن الشيء اذا لم يكن موجوداً أصلاً وقت التعاقد كان العقد باطلاً ، حتى لو كان وجوده محققاً في المستقبل.
    لقد سلّم الفقهاء كما رأينا ، أن الشيء اذا كان موجوداً في أصله دون أن يوجد كاملاً ـ كالزرع او الثمر الذي لم يبد صلاحه وكالزرع الذي يوجد بعضه بعد بعض ـ فهذا الوجود الاصلي وإن لم يكن وجوداً كاملاً يكفي لجواز التعاقد. اما انعدام
     (1) المصدر السابق ح 3.
     (2) المصدر السابق ح 4 ، والاكسية معناها : الثياب.
     (3) الغرر هو عبارة عن التردد في حصول الشيء وعدمه كالطير في الهواء والسمك في الماء وهو يختلف عن المجهول الذي معناه ما علم حصوله مع جهل صفته.

(179)
الشيء اصلاً ، فقد خلطوا بينه وبين الغرر ، واعتبروا أن التعامل في شيء منعدم وقت التعاقد ينطوي في ذاته على غرر يفسد العقد ، ولم يميزوا بين مصير الشيء المعدوم في المستقبل ، هل هو محقق الوجود فتزول الخشية من الغرر وكان ينبغي أن يصح العقد أو هو محتمل الوجود ، وعند ذلك يدخل عنصر الغرر بقدر متفاوت فيعالج القدر الذي يقتضيه.
    على ان تعامل الناس والحاجة أوجدا ثغرتين في هذا المبدأ الذي جمد عليه الفقهاء ، فأجاز الفقه الاسلامي بيع المعدوم في السلم والاستصناع فنتكلم أولا عن المبدأ ثم نستعرض الاستثنائين. ثم استند السنهوري في رأيه هذا على أقوال بعض الفقهاء كقول صاحب البدائع في عدم جواز بيع المعدوم ، ونقل عن فتح القدير ( ج 5/102 ) : « لا خلاف في عدم جواز بيع الثمار قبل أن تظهر » وعن الفتاوى الهندية ( ج 3/106 ) : « بيع الثمار قبل الظهور لا يصح اتفاقاً ». وعن بداية المجتهد ( ج 2/124 ) : « أما القسم الاول وهو بيع الثمار قبل ان تُخلَق فجميع العلماء مطبقون على منع ذلك ، لانه من باب النهي عن بيع مالم يُخلَق او من باب بيع السنين والمعاومة وهي بيع الشجر أعواماً ، إلا ما روي عن عمر بن الخطاب وابن الزبير أنهما كانا يجيزان بيع الثمار سنين » (1).
    اقول : يرد على ما ذكره السنهوري عدة امور :
    1 ـ إن ما ننسبه الى الفقه الاسلامي يجب أن يكون مستخرَجاً من الادلة الشرعية التي هي مصدر الفتاوى عند علماء الاسلام ، فنسبة مشروعية السلم الى الاستثناء ( من عدم جواز بيع المعدوم ) دعت اليها الضرورة كما صرح بذلك ، استناداً الى أقوال بعض الفقهاء غير صحيح.
    2 ـ إن قاعدة « عدم جواز بيع المعدوم » ليس لها أصل في الشريعة المقدسة
     (1) مصادر الحق في الفقه الاسلامي ، ج 3 ، ص 31 ـ 32


(180)
( القرآن والسنة ) ، نعم ورد النهي عن بيع الغرر وهو كما يوجد في بيع بعض الاعيان المعدومة كبيع ما تحمل هذه الأَمَة او هذه الشجرة ، يوجد كذلك في بيع بعض الاعيان الموجودة كما في بيع الحنطة جزافاً ، وكبيع الآبق منفرداً. لقد أجاز الشارع المقدس بيع المعدوم في بعض الموارد ( كما سيأتي ذكر الروايات الدالة على ذلك ) فكيف مع هذا ننسب الى الفقه الاسلامي أن الاصل فيه عدم جواز بيع المعدوم ؟ !.
    3 ـ المبيع الشخصي لا يجوز بيعه قبل وجوده ، إما للغرر أولقاعدة عدم جواز بيع المعدوم ، وأما اذا كان المبيع كليّاً فلا يحتمل احدٌ عدم جواز بيعه قبل وجوده ، فانه اذا حُدِّد فلا يلزم غرر ولا تشمله قاعدة عدم جواز بيع المعدوم ، فانه لا اشكال في جواز بيع الكلي حالاًّ وإن لم يملك البائع حين البيع مصداقاً من مصاديق ذلك الكلي ، وحيث إن المبيع في باب السلم كلي لا جزئي ، فقاعدة عدم جواز بيع الغرر او عدم جواز بيع المعدوم لا تشملانه.
    4 ـ اجاز الشارع المقدس بيع السلم بروايات كثيرة وجعل له شروطاً رفعه عن دائرة الغرر والجهالة وبيع المعدوم الغرري ، فاشترط في المبيع ان يكون معلوم الجنس والنوع والصفة ، وان يكون معلوم القدر بالكيل او الوزن او العدّ او الذرع وان يكون مما يمكن ان يضبط قدره وصفته بالوصف الذي لا يفضي الى التنازع. كما اشترط في الثمن شروطاً معينة كأن يكون مقبوضاً في المجلس ، كما اشترط في الأجل ان لا ترقى اليه الجهالة ، وغير هذه الشروط المذكورة في الروايات التي صدرت في عصر التشريع الاسلامي الاول ، ومع هذا كيف يقال انه اُجيز للضرورة على خلاف الاصل ؟!.

روايات جواز بيع المعدوم ( الخاص ) :
    لقد وردت روايات كثيرة تصحح بيع المعدوم ، وهي تكشف عن رؤية اسلامية لصحة بيع المعدوم اذا توفرت فيه شروط خاصة تخرجه عن الجهالة والغرر ( الخطر ) المؤدي الى المنازعة ، واليك بعضها :