بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: 121 ـ 130
(121)
قوم خيانةً فانبذ اليهم على سواء إنّ الله لا يحب الخائنين ) (1) ، والخوف هنا
بمعنى اليقين بالنبذ من ظهور أماراته الكاشفة عنه مثل قوله تعالى : ( واللاتي تخافون
نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع ) (2)
وما هذه المعاهدات التي تحصل بين الدول الإسلامية أو غيرها إلاّ كنموذج ومصداق
للمعاهدات النبوية مع المشركين ، لذا فهي تقتضي عرفاً وقانوناً الالتزام بما نصّت
عليه المعاهدة فيما إذا لم تكن مخالفة للقوانين الإسلامية وذلك لقاعدة « المسلمون
عند شروطهم إلاّ شرطاً خالف كتاب الله تعالى أو إلاّ شرطاً حرم حلالا أو حلّل
حراماً ».
ونحن لا نرى أي ملزم للمسلمين في عهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الالتزام
بالقرارات الواقعة بينهم إلاّ التعاهد ، وهذا هو معنى وجوب الوفاء بالوعد إذا كان
بمعنى العهد.
وإذا كان معنى الوعد هو العهد بواسطة قرائن الأحوال فيجب الوفاء به كما تقدّم.
ولعلّه لهذا كان المشركون يتحرزون من قول : « لا إله إلاّ الله » حينما كان
الرسول ( صلى الله عليه وآله ) يقول لهم : « قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا ».
ب ـ السنّة :
لقد وردت النصوص (3) الشرعية الدالّة على إلزامية الوعد الذي بمعنى الالتزام
والتعهد :
1 ـ روايات جعلت مخالفة العهد والوعد من خصال النفاق ، فقد قال
(1) الأنفال : 58.
(2) النساء : 34 ، وراجع تفسير القرطبي : ج5 ، ص170 ، وتفسير الميزان : ج4 ،
ص345.
(3) وبما أن هذه النصوص متواترة ـ ولو معنىً ـ فلا حاجة إلى البحث في سندها ،
حيث إنّنا نقطع بصدورها من المشرِّع الأقدس فهي حجّة بمضمونها الضيّق.
(122)
النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « أربع مَنْ كنّ فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن
كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدّث كذب ، وإذا عاهد
غدر ، وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر » (1).
2 ـ روايات جعلت الوعد ( العهد ) من قسم النذر الذي ليس فيه كفارة ، فقد روى
هشام بن سالم في الصحيح قال : سمعت الإمام الصادق ( عليه السلام ) يقول : عدة المؤمن
آخاه نذر لا كفارة له ، فمن أخلف فبخلف الله بدأ ولمقته تعرّض وذلك قوله تعالى : ( يا
أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا
تفعلون ) (2)
3 ـ روى علي بن عقبة عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال : « المؤمن أخو
المؤمن عينه ودليله ، لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشّه ولا يعده عدةً فيخلِفه » (3).
4 ـ موثّق سماعة بن مهران عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « من عامل الناس
فلم يظلمهم وحدّثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم كان ممن حرمت غيبته وكملت مروءته
وظهر عدله ووجبت اُخوّته » (4).
وهذه النصوص المتقدّمة وان كانت مطلقة لمخالفة كل وعد حتى إذا لم يكن بمعنى
العهد إلاّ أن معلومية عدم حرمة مخالفة الإخبار عن إنشاء معروف في المستقبل تخصّص
حرمة المخالفة بالوعد الذي هو بمعنى العهد.
5 ـ صحيحة عبد العظيم بن عبد الله الحسني قال : « حدثني أبو جعفر الثاني ( الإمام
الجواد ( عليه السلام ) ) قال : سمعت أبي الإمام الرضا ( عليه السلام ) يقول : سمعت أبي
(1) صحيح البخاري ، كتاب الايمان : ج1 ، ص89 ، صحيح مسلم ، كتاب الايمان : ج1 ،
ص78.
(2) وسائل الشيعة : ج8 ، ب109 من أحكام العشرة ، ح3.
(3) المصدر السابق : ب122 من أحكام العشرة ، ح6.
(4) المصدر السابق : ب152 من أحكام العشرة ، ح2.
(123)
موسى بن جعفر الإمام الكاظم ( عليه السلام ) يقول : دخل عمرو بن عبيد على الإمام
الصادق ( عليه السلام ) فلمّا سلّم وجلس وتلا هذه الآية ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ) ثم أمسك. فقال له الإمام الصادق ( عليه
السلام ) : ما أسكتك ؟ قال : اُحب أن أعرف الكبائر من كتاب الله عزّوجلّ. فقال :
نعم يا عمرو ، أكبر الكبائر الشرك بالله يقول الله تعالى : ( ومن يشرك بالله فقد حرّم
الله عليه الجنة )
ونقض العهد وقطيعة الرحم لأن الله عزّوجلّ يقول : ( لهم اللعنة ولهم سواء الدار ... ) » (1).
6 ـ وفي حديث الحسين بن مصعب الهمداني قال : سمعت الإمام الصادق ( عليه
السلام ) يقول : « ثلاثة لا عذر لاحد فيها : أداء الأمانة إلى البرِّ والفاجر ،
والوفاء بالعهد للبرِّ والفاجر ، وبرِّ الوالدين برّين كانا أو فاجرين » (2).
ورويت الرواية المتقدّمة عن عنبسة بن مصعب أيضاً إلاّ أنّه قال : « لم يجعل الله
لاحد من الناس فيهن رخصة ».
7 ـ ويؤيد ما ذكرنا في سيرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) حيث يقول ابن القيّم
:
أ ـ ثبت عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنّه قال لأبي رافع وقد أرسلته إليه قريش
فأراد المقام عنده وأنّه لا يرجع إليهم فقال ( صلى الله عليه وآله ) : « إني لا أخيس
بالعهد ولا أحبس البُرد ولكن ارجع إلى قومك ... » وثبت عنه ( صلى الله عليه وآله )
أنّه ردّ إليهم أبا جندل للعهد الذي كان بينه وبينهم « أن يردّ إليهم مَنْ جاء منهم
مسلماً » (3).
ولا يمكن أن يقال بأنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) إنّما ردّ من أسلم إليهم
لعمله بالراجح الذي هو الوفاء بالوعد.
(1) وسائل الشيعة : ج11 ، ب46 من جهاد النفس ، ح2 ، والآية القرآنية إشارة إلى
قوله تعالى : ( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن
يوصل ويفسدون في الأرض اولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ) الرعد : 25.
(2) وسائل الشيعة : ج13 ، ب2 من أحكام الوديعة ، ح1.
(3) زاد المعاد : ج5 ، ص87 ـ 88.
(124)
ب ـ وقال ( صلى الله عليه وآله ) : « مَنْ كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلّن عقداً
ولا يشدّنه حتى يمضي أمده أو ينبذ اليهم على سواء » قال الترمذي : حديث حسن صحيح (1).
ج ـ ولما أسَّرَتْ قريش حذيفة بن اليمان وأباه أطلقوهما وعاهدوهما أن لا
يقاتلاهم مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكانوا خارجين إلى بدر ، فقال رسول
الله ( صلى الله عليه وآله ) : « انصرفا نَفِي لهم بعهدهم ونستعين بالله عليهم » (2).
وعلى هذا الذي تقدّم تبيّن لنا أنّ الوعد ( إذا كان بمعنى العهد ) الذي يعطيه
إنسان لآخر في الحالات الاعتيادية ويقبل به الآخر ويرتب عليه أثراً يكون من العقود
الواجبة الوفاء بها حسب الأدلّة المتقدّمة ، وإن نوقش في بعضها فإنّ في ما لا
نقاش فيه كفاية.
أمّا الوعد الذي يكون بمعنى العهد الذي يعطيه إنسان لآخر ولم يقبله أو قبله ولم
يرتب عليه أثراً ـ بمعنى أنّه لم يصل إلى حدّ العقد ـ فلا يسمى عقداً ولا عهداً ،
فلا يجب الوفاء به ، بمعنى أن الموعد أو المعاهد يتمكّن أن يرجع عن عهده وعِدته.
الضمان والكفالة :
نتمكّن أن نقول : إنّ عقد الضمان العرفي الارتكازي القائل : « بأنّ المدين إذا
لم يفِ بدينه إلى الدائن فأنا ملزم بالوفاء به » أو القائل : « إذا لم يفِ فلان
بالشروط والالتزامات التي عليه والتي لها مالية عرفية عقلائية فأنا مسؤول عنها » أو
القائل : « أطلقوا فلاناً من السجن وأنا مسؤول عن الاتيان به في الوقت المطلوب الذي
يكون لاتيانه مالية عقلائية أو عرفية » نتمكّن أن نقول : إنّ هذه العقود
المقبولة
(1) المصدر السابق.
(2) المصدر السابق.
(125)
عرفاً وارتكازاً وقد افتى على وفقها علماء كبار هي مصاديق للوفاء بالعهد الذي
ندّعي إلزاميته ولو كان ابتدائياً.
إذن فمن قال لزيد : « إذا اشتريت هذا البيت فأنا مستعد لاقراضك الف دينار من
المال ، وقد أقدم زيد على الشراء مستنداً إلى الوعد الذي قدّم له من الموعِد » يجب
عليه الوفاء والالتزام بما قال تكليفاً ، ويجب عليه وضعاً رفع الضرر عن الطرف الآخر
فيما إذا لم يفِ له بما التزم وتعهد ، كل ذلك لوجود وعد بينهما وصل إلى مرحلة العقد
الواجب الوفاء.
أما الشرط
فله معان متعدّدة :
الأول : الشرط بالمعنى الحدثي الذي يشتق منه ، وهو الالتزام بالعمل أو بثبوت
الحقّ للغير (1) ويحصل منه الزام بالعمل أو بثبوت الحقّ للغير.
الثاني : « ما يلزم من عدمه عدم الشيء » مثل أن يقال : إن الوضوء شرط للصلاة.
الثالث : « أن يقع بعد أداة الشرط مثل : إنّ جاء زيد فاكرمه » وهذا اصطلاح أدبي
للشرط وهو مأخوذ من المعنى الثاني للشرط.
الرابع : « أحد أجزاء العلّة » وهو ما يكون به الأثر الذي يختلف عن السبب
(1) أما تعريف صاحب القاموس للشرط بأنّه الزام والتزام في البيع ونحوه فهو لا
مبرر له إذ اُطلق الشرط على الالتزام الابتدائي وان كان حكماً شرعياً كما في خبر
بريرة حيث قال الرسول ( صلى الله عليه وآله ) عندما اشترت عائشة بريرة وأعتقتها وقد
اشترط مواليها الولاء لهم قال ( صلى الله عليه وآله ) : « الولاء لمن اعتق وشرط الله
اوثق » ، فقد اطلق الشرط على حكم الله كما اطلق على خيار الحيوان حيث قالت الروايات
: الشرط في الحيوان ثلاثة أيام » ، كما اطلق الشرط على النذر والعهد والوعد في
الأخبار ، راجع وسائل الشيعة : ج15 ، ب20 من المهور.
(126)
الذي يكون منه الأثر ، ويختلف عن المانع الذي يمنع الأثر. وهذا المعنى منقول من
المعنى الثاني أيضاً (1).
أقول : الظاهر أن الشرط في جميع الموارد قد استعمل بمعنى الربط والاناطة وهذا
الربط قد يكون تكوينياً ، وقد يكون تشريعياً ، وعلى كل حال فنحن نتكلم في الشرط
بالمعنى الأول وان كانت كلمة « الشرط » إذا جاءت في لسان الشارع أو لسان العرف فلا
يراد بها المعنى الأدبي للشرط ، ولا المعنى الفلسفي للشرط اللذان هما اصطلاحان لأهل
الأدب والفلسفة ، إذ الشارع لا يخاطب العرف بلسان أهل الاختصاص ، وحينئذ إذا كانت
هناك قرينة على إرادة المعنى الأوّل الذي نحن نتكلّم عنه أو كانت هناك قرينة على
إرادة المعنى الثاني فهو ، وإلاّ أصبح الكلام مجملا من ناحية أن الربط تكويني أو
شرعي.
وقد ذكر الشيخ الأنصاري ( قدس سره ) : أن الشرط قد اُطلق على حكم الله وعلى النذر
( أي اطلق على الالتزام الابتدائي ) كما اُطلق على الالتزام في البيع فيكون
مشتركاً اشتراكاً معنوياً وهو مقدّم على المجاز. كما أنّ المتبادر من قول
الإنسان : شرطتُ على نفسي كذا هو الالتزام (2) ، فيكون معنى الشرط العرفي هو
الالتزام ولو كان ابتدائياً. بالاضافة إلى صحيحة منصور بن يونس بن برزج عن العبد
الصالح ( موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) ) قال : قلت له : « إنّ رجلا من مواليك تزوج
امرأة ثم طلقها فبانت منه فأراد أن يراجعها فأبت عليه إلاّ أن يجعل لله عليه أن لا
يطلقها ولا يتزوج عليها فأعطاها ذلك ثم بدا له في التزويج بعد ذلك كيف يصنع ؟ فقال
( عليه السلام ) : بئس ما صنع ، وما كان يدريه ما يقع في قلبه بالليل والنهار ؟ قل له
فليف للمرأة بشرطها فإنَّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : المؤمنون
(1) مكاسب الشيخ الأنصاري : ج2 ، ص275 طبعة حجرية.
(2) المصدر السابق.
(127)
عند شروطهم » (1).
وفي هذه الرواية فقد اُطلق الشرط على النذر وأوجب الوفاء به بقول الرسول ( صلى
الله عليه وآله ) « المؤمنون عند شروطهم » (2).
ولنا أن نضيف موثّقة اسحاق بن عمار عن جعفر ( الإمام الصادق ( عليه السلام ) ) عن
أبيه ( الإمام الباقر ( عليه السلام ) ) أن عليّ ابن أبي طالب ( عليه السلام ) كان يقول
: « من شرط لامرأته شرطاً فليف لها به ، فإنَّ المسلمين عند شروطهم إلاّ شرطاً
حرَّم حلالا أو أحلَّ حراماً » (3).
وقد ذكر الشيخ الأنصاري فقال : « وكيف كان فالظاهر عدم الخلاف بينهم في أن مقتضى
عموم أدلّة الشرط ، الصحة في الكلّ ( أي صحة الشرط ووجوب الوفاء به في كل مورد سواء
كان عقداً أوْ لا ) وإنّما الاخراج لمانع ، ولذا قال في الدروس بعد حكاية المنع من
دخول خيار الشرط في الصرف عن الشيخ الطوسي ( قدس سره ) : « أنّه لم يعلم وجهه مع عموم
صحيحة ابن سنان : المؤمنون عند شروطهم » (4).
إذن تبين أن الشرط معناه لغةً وشرعاً هو مطلق الالتزام ، سواء كان في ضمن معاملة
أو ابتدائياً ، وتبيّن وجوب الوفاء به مطلقاً نتيجة عموم الأدلّة التي هي في خصوص
ما إذا رَتَّب الآخر أثراً على هذا الالتزام.
وبهذا تبيّن أن ما ذهب إليه مشهور العلماء من عدم وجوب الوفاء بالوعد ( العهد )
وعدم وجوب الوفاء بالشرط الابتدائي ليس له دليل واضح إلاّ ادّعاء
(1) وسائل الشيعة : ج15 ، ب20 من أبواب المهور ، ح4.
(2) مكاسب الشيخ الأنصاري : ج2 ، ص275.
(3) وسائل الشيعة : ج15 ، ب40 من أبواب المهور ، ح4 ، وإنّما قلنا : إنّها
موثّقة لأن الشيخ وثّق غياث بن كلوب في العدّة.
(4) مكاسب الشيخ الأنصاري : ج2 ، ص233.
(128)
الإجماع على عدم وجوب الوفاء بمطلق الوعد وبالشرط إذا لم يكن في ضمن العقد ، بل
الأدلّة دالة على وجوب الوفاء بهما في صورة ما إذا رتّب الآخر على الوعد والشرط
أثراً بحيث يكون عدم الوفاء بهما غشاً وخداعاً وخيانة محرمة. بالاضافة إلى أن هذا
الوعد والشرط يكون عقداً عرفاً فيجب الوفاء به.
ونتمكّن أن نقول : بأنّ الإجماع المدّعى على عدم وجوب الوفاء بمطلق الوعد
وبالشرط في غير متن العقد هو دليل لبّي على تقدير ثبوته ، فيقتصر فيه على صورة ما
إذا كان الوعد أو الشرط لم يرتّب عليه الطرف الآخر شيئاً ولم يصدق عليه العهد
والالتزام ، وبهذا يكون التفصيل هو المتّبع لثبوت دليل على كل شقّ منه. وينبني على
هذا أن التفاهم السابق على العقود إذا ترتّب عليه مع العقود أمرٌ محظور كالجهالة
والغرر والربا فانه يعدّ محظوراً شرعاً ، وإن لم يرتّب عليه أمرٌ محظور فيجب الوفاء
به وفقاً لما تقدم من الأدلّة السابقة.