بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: 111 ـ 120
(111)
ما لو قال : إن خطته اليوم فلك درهم وان خطته غداً فَلَكَ نصف درهم ، وإن خطته
روميّاً فَلَكَ درهم ، وإن خطته فارسياً فَلَكَ نصف درهم ، مع أنَّ الاجارة والبيع
مشتركان في اعتبار عدم الغرر والجهالة.
ولكن الحقّ : أنّه لا جهالة في صفة الثمن ، أمّا الجهالة فهي متحقّقة في
(111)
أصل الثمنية ، بمعنى أن المشتري وكذا البائع بعد القبول على الترديد
لم يعلما ما صار ثمناً في مقابل المبيع أصل الثمنية ، بمعنى أن المشتري وكذا البائع
بعد القبول على الترديد لم يعلما ما صار ثمناً في مقابل المبيع.
ودعوى تعيينه باختيار المشتري فيما بعد ينافي سببية العقد المقتضية لترتب الأثر
عليه بالفراغ منه.
وحينئذ لا فرق بين البيع والاجارة وغيرهما من عقود المعاوضات ( كالسَلَم ) (1).
ولكن الذي يقف في وجه قبول هذا القول أمران :
الأول : أنّ النهي الوارد في هذه الصورة والاهتمام من قبل النبي ( صلى الله عليه
وآله ) في ذلك يمنع من حمله على الارشاد (2) ، إذ أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) «
بعث رجلا إلى أهل مكّة وأمره أن ينهاهم عن شرطين في بيع » فهذا الاهتمام يدل على أن
النهي لتحريم العمل لا لأجل الارشاد إلى وجود غرر أو جهالة.
الثاني : وجود رواية صحيحة تقول بصحة هذا البيع إذا قبله المشتري على صفة
الترديد ، ويكون للبائع أقل الثمنين إلى أبعد الاجلين ، والرواية هي صحيحة
(1) أي كما لا يصح أن يقال : بعته نقداً بدرهم وبدرهمين إلى شهر ، فكذا لا يصح
أن يقال : إن خطته اليوم فلك درهم وان خطته غداً فلك نصف درهم ، وكذا لا يصح أن
يقال : إن سلّمت المبيع السلمي بعد ثلاثة اشهر فلك الف وبعد ستة أشهر فلك ثمانمائة
فقبل الآخر من دون أن يكون القبول على أحد الصورتين ، كل ذلك الغرر والجهالة في
الثمن أو الاُجرة ، فان المتبايعين لم يعلما على أي ثمن أو اُجرة وقع البيع أو
الاجارة وذلك مبطل للعقد.
(2) وأيضاً يمنع من حمله على الكراهة ، حيث ذهب بعض إلى ذلك نتيجة وجود صحيحة
محمد بن قيس الدالة على صحة البيع بثمن أقل للأجل الأبعد.
(112)
محمد بن قيس البجلي ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « قال أمير المؤمنين
( عليه السلام ) : من باع سلعة فقال : إنّ ثمنها كذا وكذا يداً بيد وثمنها كذا وكذا
نظرة فخذها بأي ثمن شئت واجعل صفقتها واحدة ، فليس له إلاّ أقلهما وإن كانت نظرة ... » (1). وكذا رواية السكوني بهذا المضمون (2).
فالخلاصة : أنّنا إذا قلنا بالبطلان في هذه الصورة نتيجة الغرر والجهالة تكون
هذه الصحيحة معارضة للروايات المرشدة إلى بطلان المعاملة (3).
القول الثاني : حرمة المعاملة لوجود الربا من دون بطلان ، إذ هذه المعاملة ترجع
إلى بيع السلعة بنقد حالٍّ بشرط انه إذا أراد المشتري تأخير الثمن فيزيد فيه ، وهذا
ربا محرم قد نهى عنه رسول الله ; لأنّه ربا مبطّن بصورة البيع. وحينئذ إن حصلت هذه
المعاملة الربوية المبطّنة فالذي يبطل هو الشرط دون العقد ; لأنّ النهي متوجّه
للشرط وقبوله ، لا للعقد.
وعلى هذا القول لا معارضة بين الروايات الناهية وبين الروايات التي تصحح
المعاملة بأقل الثمنين إلى أبعد الاجلين. وقد ذهب إلى هذا القول جمع من القدماء
وبعض المتأخرين.
(1) وسائل الشيعة : ج12 ، ب2 من أبواب أحكام العقود ، ح1.
(2) المصدر السابق : ح2.
(3) هذا ، وقد ذهب الإمام الخوئي ( قدس سره ) إلى أن المعاملة هذه باطلة من ناحية
التعليق في العقد الذي قام الإجماع على بطلانه في العقود ، وحينئذ تكون الروايات
المجوزة لهذا البيع مخالفة لقاعدة تبعيّة العقود للقصود فتخصصها كما تخصص الإجماع
بغير هذه الصورة ; لوجود الدليل على صحة المعاملة مع مخالفتها للقواعد وللاجماع ،
وحينئذ تحمل الروايات الناهية على الكراهة. راجع مصباح الفقاهة : ج7 ، ص558 ـ 563
، ولكن الإمام الخوئي في ص299 و ص300 في الكتاب نفسه ذكر : أن التعليق المضرّ في
العقود هو أن يكون على أمر استقبالي غير حاضر ، أمّا إذا كان أصل الالتزام مربوطاً
بشيء آخر بمعنى أنّه لا يبيع مع عدم هذا الالتزام من المشتري فلا يضر التعليق هنا ;
لكونه واقعاً على أمر حاصل وهو الالتزام ، كما في قولنا : بعتُ السيارة بشرط أن
تبيعها إلى زيد.
(113)
فقد ذكر صاحب الجواهر عن المختلف أو الدروس فقال : « والاقرب الصحة ولزوم الأقل
... فالزيادة ربا ; ولأجلها ورد النهي ، وهو غير مانع من صحة البيع » (1).
وهذا القول هو الذي احتمله الفاضل في المختلف ، إذ قال : « ويمكن أن يقال انه
رضي بالأقل فليس له الأكثر في البعيد وإلاّ لزم الربا ، إذ تبقى الزيادة في مقابلة
تأخير الثمن لا غير ... » (2).
وعلى هذا القول يمكن أن يختلف الحكم في البيع عن الاجارة ، بأن تكون هذه الصورة
في البيع محرمة لوجود الربا ، وغير محرمة في الاجارة لعدم وجود الربا ، ولكنّها
صحيحة في الصورتين إذا تمكّنا من إزالة اشكال الجهالة في أصل الثمنية والاُجرة.
بقولنا : إنّها لا تضر لأن العلم بأحد البيعين معلوم بعد العقد مباشرة ، أو نقول :
بأنّ هذه الجهالة وان كانت موجودة لكنّها لا تضر بصحة العقد لأنّها لا تجرّ إلى
التنازع ، فتكون الجهالة والضرر المبطل للبيع أو الاجارة هو في خصوص ما إذا كانت
الجهالة بطبعها تؤدي إلى التنازع.
على أننا لو اخترنا القول الأول القائل ببطلان المعاملة فيما إذا قال : بعته
نقداً بكذا وبنسيئة بأكثر منه للجهالة والغرر فيمكننا أن نقول بصحة الاجارة فيما
إذا قال : إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غداً فلك نصف درهم ، وذلك لإمكان أن
يكون الدرهم ونصف الدرهم على الخياطة اليوم أو غداً جعالة لا اجارة ، والجعل لا
يعتبر فيه المعلومية ، أو نقول بالفرق بين الاجارة والبيع بأنّ العمل الذي يستحقّ
به الاُجرة لا يمكن وقوعه إلاّ على أحد الصفقتين فتتعيّن الأجرة المسماة عوضاً له ،
فلا يقتضي التنازع ، بخلاف البيع الذي يمكن أن يقبل المشتري في نيّته
(1) جواهر الكلام : ج23 ، ص104.
(2) المصدر السابق.
(114)
النقد ويتلكّأ في توفير المبلغ حتى يمضي الأجل فيقع التنازع بينهما في الثمن.
وعلى هذا فلا يصح ما قيل : « إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم وإن خطته غداً فلك
نصف درهم » (1).
فعن أحمد روايتان : أحداهما : لا يصح ، وله أجر المثل. نقلها أبو الحارث عن
أحمد ، وهذا مذهب مالك والثوري والشافعي واسحاق وأبي ثور ، لأنّه عقد واحد اختلف
فيه العوض بالتقديم والتأخير فلم يصح كما لو قال : بعتك نقداً بدرهم أو بدرهمين
نسيئة (2).
إذا قبل المشتري أحد الثمنين :
أمّا إذا قبل المشتري أحد الثمنين كما لو قال : قبلته نسيئة أو قبلته نقداً فهذه
الصورة خارجة عن محلّ النزاع والروايات ، ويكون البيع صحيحاً إذا رضي البائع بعد
ذلك ، إذ يكون القبول بنقد ـ مثلا ـ إيجاباً ، والقبول من البائع قبولا للايجاب ،
أمّا الايجاب الأولي من البائع فهو استدعاء للبيع. وقد اجاز هذه الصورة ـ بالاضافة
إلى الامامية ـ جماعة من أهل السنة أيضاً (3).
(1) لا بأس بالتنبيه إلى أن هذا الفرض ( جعل اُجرتين على تقديرين ) يختلف عن الشرط
الجزائي في الاجارة ، وهو ما إذا قال : آجرتك على أن توصلني إلى السوق يوم كذا وكذا
بكذا وكذا درهماً ، فإن أوصلتني بعد ذلك بيوم فيسقط من الاُجرة درهم ، فإن أوصلتني
بعد يومين فيسقط من الاُجرة درهمان ، فإنّ هذا شرط صحيح ما لم يحط بجميع الكراء ،
حيث إن عقد الاجارة كان باتاً على أجر معين وزمن معين ، فإن أخلَّ بالشرط ووصل بعد
ذلك بيوم فيسقط من الاُجرة شيء ، وهذا شرط نتيجة يكون صحيحاً من دون خلل في الاُجرة
، وقد ورد بهذا الشرط الجزائي نصّ موثّق عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) في الاجارة.
(2) راجع بحث مناقصات العقود الادارية ، د. رفيق المصري ص44 ، عن المغني
: ص6 ، ص87 ، واعلام الموقعين : ج3 ، ص401 ، والمدونة : ج3 ، ص389 ، والموسوعة
الفقهية الكويتية : ج1 ، ص256.
(3) المصدر السابق.
(115)
أقول : النتيجة التي انتهينا إليها : أنّ روايات نهي النبي ( صلى الله عليه وآله )
عن صفقتين في صفقة لا علاقة لها بالعقود المركبة التي تكلمنا عنها سابقاً.
أثر المواعدة ( التفاهم ) السابقة على العقود المجتمعة :
إنّ العقود المجتمعة يسبقها عادةً اتفاق عام حول إيجادها ، وهو ما يسمى بـ (
إطار التعامل ). فالمناقصة في المقاولات أو البيوع سواء كانت لسلع جاهزة أو لتوريد
سلع (1) يسبقها تفاهم واتفاق بين الأطراف حول إيجادها ، فهل يكون هذا الاتفاق العام
ملزماً للاطراف ؟
أقول : إنّ المواعدة والتفاهم العام بين الأطراف قد يكون شرطاً ابتدائياً ، وقد
يكون وعداً أكيداً رَتَّب الطرفُ الآخر عليه أثراً ، وحينئذ لابد من الكلام حول
الوعد الأكيد وحول الشرط الابتدائي.
فنقول : الوعد (2) : إذا رجعنا إلى معنى المواعدة التي تكون بين اثنين المشتقة
(1) وكذا الأمر في « المرابحة للآمر بالشراء » كأن يقول شخص للبنك : اشترِ لي
هذه السلعة وأنا اُربحك كذا ، وأقدم البنك على الشراء بقصد بيعها لمن أمره.
(2) الكلام في الشرط كالكلام في الوعد بلا أي اختلاف من حيث دلالة الشرط الذي هو
معنى حدثي على الالتزام بالعمل أو بثبوت الحقّ للغير ويحصل منه الزام بالعمل أو
بثبوت الحقّ للغير ، فان المراد من الشرط هنا هو المعنى الحدثي الذي يشتق منه ، لا
المعنى الذي هو « ما يلزم من عدمه عدم الشيء » أو المعنى الأدبي الذي يقع بعد أداة
الشرط ، أو المعنى الاصطلاحي للشرط في مقابل المقتضي والمانع. فإنَّ هذه المعاني
الثلاثة ليست مرادةً عرفاً من الشرط الذي يقع في إطار العقود.
ولا بأس بالتنبيه : إلى أن المراد من الوعد والشرط في كلامنا هذا : هو في خصوص
ما يكون قد دخل الآخر ( الموعود أو المشروط له ) في عمل نتيجة الشرط أو الوعد بحيث
صار هناك التزام من الطرفين فحصل معنى العقد بناءً على تقوّم العقد بالربط بين
التزامين ، وحينئذ فيشمله قوله تعالى : « أوفوا بالعقود » والصحيحة الواردة عند
الفريقين : « المسلمون عند شروطهم » وقد طبق الإمام ( عليه السلام ) هذا القانون
الوارد في الصحيحة على موارد متعددة ، فمن ذلك ما رواه سليمان بن خالد عن الإمام
الصادق ( عليه السلام ) قال : « سألته عن رجل كان له أبٌ مملوك وكانت لأبيه امرأة
مكاتبة قد أدّت بعض ما عليها ، فقال لها ابن العبد : هل لك أن أعينك في مكاتبتك حتى
تؤدي ما عليك بشرط أن لا يكون لك الخيار على أبي إذا أنت ملكت نفسك ؟ قالت : نعم ،
فاعطاها في مكاتبتها على أن لا يكون لها الخيار عليه بعد ذلك.
قال الإمام ( عليه السلام ) : لا يكون لها الخيار « المسلمون عند شروطهم » ، وسائل
الشيعة : ج16 ، ب11 من كتاب المكاتبة ، ح1.
(116)
من الوعد الصادر من واحد لرأينا أنّ الوعد في اللغة جاء بمعنى العهد كما جاء
بمعنى الخبر ، فقد ذكر في مجمع البحرين من معاني العهد : الوعد والخبر قوله :
أتخذتم عند الله عهداً (1) أي خبراً ووعداً بما تزعمون. وجاء في المنجد : واعد
مواعدة : وعد كل منهما الآخر ... عاهده على أن يوافيه في موضع أو وقت معين.
وقال في لسان العرب : إنّ الوعد هو العهد ، فقد قال تعالى : ( ما أخلفنا موعدك
بملكنا ) (2) ، فقال مجاهد : الموعد : العهد ، وكذلك قوله تعالى : ( وأخلفتم موعدي ) قال : عهدي.
ثم إنّ من الواضح أنّ العهد لغةً : هو الالتزام ، فقد استعمل العهد مع مشتقاته
في القرآن الكريم في أكثر من مائة وخمسين موضعاً ، وفي كل هذه المواضع دلّ على
إلزامية العهد. وممّا ذكرته كتب اللغة عن معنى العهد هو « ما التزمه المكلف من
الأعمال مع الله تعالى ومع غيره » فقد ذكر في مجمع البحرين قوله : ( والموفون بعهدهم
إذا عاهدوا ) قيل : يدخل فيه النذر وكلما التزم المكلف من الأعمال مع الله تعالى ومع
غيره ... والضمان ، ومنه قوله تعالى : ( وأوفوا بعهدي اُوفِ بعهدكم ) (3) أي ( أوفوا بما ضمنتم أوفِ بما ضمنت لكم من الجنة ) ومثله ( وأوفوا بالعهد إن العهد
(1) البقرة : 80.
(2) طه : 87.
(3) البقرة : 40.
(117)
كان مسؤولا ) (1)
وقد ذكر الخليل الفراهيدي في العين انَّ العهد : الموثِق ، وجمعه عهود.
كما ذكر في لسان العرب : « عهد : قال تعالى :
وأوفوا بالعهد إنّ العهد كان مسؤولا ... قال غير الزجاج : العهد كل ما عوهد
الله عليه وكل ما بين العباد من المواثيق فهو عهد ... وفي حديث الدعاء : « وانا
على عهدك ووعدك ما استطعت » ، أي أنا مقيم على ما عاهدتُك عليه من الإيمان بك
والاقرار بوحدانيتك لا أزول عنه. واستثنى بقوله : « ما استطعت » موضعَ القدر
السابق في أمره. أي إن كان قد جرى القضاء أن أنقض العهد يوماً ما فإني اُخلدُ عند
ذلك إلى التنصل والاعتذار لعدم الاستطاعة في دفع ما قضيته عليَّ. أو قيل : معناه
إني متمسك بما عهدته إليَّ من أمرك ونهيك ... والعهد : الموثق ».
والخلاصة : أنّ الوعد اللغوي الذي هو يأتي بمعنيين : الأول هو العهد ، والثاني
خبر عن إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل.
فإذا كان بمعنى العهد فهل يلزم الوفاء به شرعاً ؟
الجواب : اتفق الفقهاء على أنَّ خلف الوعد منهي عنه ، ولكن اختلفوا في إلزاميته
على نحو الوجوب بحيث يقاضى مَنْ لم يلتزم به أمام القضاء على أقوال أربعة :
1 ـ ذهب الجمهور من كل الطوائف إلى عدم لزومه وان كان المكلّف مأموراً بالوفاء
به ديانة لأنّه تفضل واحسان ، ويقول الله تعالى : ( ما على المحسنين من سبيل ) (2)
2 ـ الإلزام إذا دخل الموعود بسبب هذه العِدَة في شيء ، وهذا قول مالك
(1) الإسراء : 34.
(2) التوبة : 91.
(118)
وابن القاسم وقول سحنون ( وهذا هو المشهور عند المالكية ).
3 ـ الإلزام ، إذا كان الوعد على سبب وإن لم يدخل الموعود فيه فعلا. وهذا قول
لمالك وأصبغ من علماء المالكية.
4 ـ الإلزام مطلقاً ، وإلى هذا ذهب ابن شبرمة فيما حُكي عنه (1).
والصحيح هو التفصيل بين أن يكون الوعد على مستوى العهد فيجب الوفاء به ، وبين أن
يكون على مستوى الإخبار فلا يجب الوفاء به ، وتشخيص إرادة هذا دون ذاك أو العكس يتم
من خلال القرائن.
وحينئذ نقول : إنّ الوعد الذي يسبق العقد أو العقود المجتمعة ـ ويكون في الاطار
العام للتعامل ويبنى عليه العقد بمعنى دخول الموعود بسبب العدة في العقد ـ ويكون
بمعنى العهد والالتزام ـ الذي يجب أن يفي به المكلف (2) ـ للقرائن التي اكتنفت هذا
الوعد بالخصوص ، وعلى هذا فتعتبر المواعدة السابقة ( التفاهم ) على العقود المجتمعة
مرتبطة بالعقود ، وجزءاً منها من حيث حكمها التكليفي والآثار المترتبة عليها.
وإليك بعض الأدلّة على وجوب الوفاء بالوعد إذا كان على مستوى العهد :
(1) راجع المحلى لابن حزم : ج8 ، ص377.
(2) نودّ أن نذكر هنا : أنّ مشهور الطائفة الإمامية على أنّ الوعد والعهد الذي
بمعنى الالتزام إذا لم يكن في متن العقد فلا يجب الوفاء به ، فقد ذكر الشيخ
الأنصاري في الشرط الثامن من صحة الشرط أن يكون في متن العقد : « فلو تواطيا عليه
قبله لم يكف ذلك في التزام المشروط به على المشهور ، بل لم يعلم فيه خلاف عدا ما
يتوهّم من ظاهر الخلاف والمختلف ... ». راجع مكاسب الشيخ الأنصاري : ج2 ، ص282.
ونحن كلامنا في الشرط الابتدائي والوعد الذي يكون بين اثنين قد رتّب الآخر عليه
أثراً وعملا ، هذا وقد وجدت أنّ آية الله الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ( قدس سره )
يذهب إلى ما ذهبنا إليه ويعدّه من متفرداته ، فيقول : « فلو قال رجل لآخر : بع هذا
الشيء من فلان وإن لم يعطك الثمن أنا أدفعه لك ، فلو لم يعطه الثمن فان كان الوعد
بنحو الإلزام والتعهد وجب أن يدفع له ، وإلاّ فلا ، وهذا من متفرداتنا ، أمّا ظاهر
المشهور فعدم الوجوب مطلقاً ، فليتدبر » راجع تحرير المجلّة : ج1 ، ص54.
(119)
أ ـ الكتاب الكريم :
1 ـ قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند
الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) (1) ، فقد وصفت الآية انَّ القول بما لا يفعله الإنسان
ممقوت عند الله ، وهذا على قسمين :
الأول : يقول ما لا يفعل ، ولا يصدق عليه أنّه خدع وغش وخان.
الثاني : يقول ما لا يفعل ، ويصدق عليه أنّه خدع وغش وخان.
ولكن الأول خرج عن الحرمة بدليل عدم حرمة مخالفة الإخبار عن إنشاء معروف في
المستقبل.
والثاني ممقوت بحدِّ الحرمة لصدق عنوان الخداع والغش والخيانة المحرمة.
والأول يصدق على الوعد الذي لا يدخل فيه الموعود بسبب العدة في عقد.
والثاني يصدق على الوعد الذي يدخل فيه الموعود بسبب العدّة في عقد بحيث يكون عدم
الوفاء بالوعد خيانة وغشاً وضرراً على الموعود ، فيكون عدم الوفاء بالوعد محرّماً ،
كما يلزم الواعد رفع الضرر الذي حصل نتيجة وعده وخيانته وخداعه (2).
2 ـ قال تعالى على لسان موسى ( عليه السلام ) : ( أم أردتم أن يحلّ عليكم غضب من
ربكم
(1) الصف : 2 ـ 3.
(2) أقول : من المحتمل أن تكون الآية الشريفة ناظرة الى معنى آخر غير مسألة
الوفاء بالوعد وهو المعنى الذي يشير إليه شاعر حيث يقول :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله***عار عليك إذا فعلت عظيم
بأن يكون الناهي عن الخلق عازماً على فعل ما ينهى عنه ، ولكنّ عموم الآية يجعلها
تشمل كل ما التزم به الإنسان أمام الله والآخرين ولا يعمل به ، سواء كان عازماً من
الأول على عدم العمل أو طرأ له ذلك.
(120)
فاخلفتم موعدي ) (1) فقد بين النبي موسى ( عليه السلام ) أنّ في مخالفة موعده غضب
الله ، ونحن نعلم أن الغضب لا يكون إلاّ على أمر محرم ، وهذه قرينة على أنّ المراد
من موعده العهد والالتزام الذي قدم له ، بحيث تكون مخالفته موجبة للعقوبة الرادعة.
3 ـ قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) (2) وقد فسِّرت العقود
بالعهود.
4 ـ قال تعالى : ( وأوفوا بالعهد إنّ العهد كان مسؤولا ) (3)
فالمعاهدات التي كان يعملها المسلمون مع أعدائهم من المشركين قد أمر القرآن
الكريم بالالتزام بها بما تقدّم ، وقد استثناها القرآن الكريم من البراءة من
المشركين ، فقال تعالى : ( براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ... إلاّ الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً
فأتموا إليهم عهدهم إلى مدّتهم إن الله يحب المتقين * ... كيف يكون
للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلاّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما
استقاموا لكم فاستقيموا لهم إنّ الله يحب المتقين ) (4)
فالمشرك الذي عوهد من قِبل المسلمين ولم ينقض عهده ولم يظاهر على المسلمين ـ
بمعنى أنّه استقام على عهده ـ يجب الوفاء له بالعهد ، وحينئذ تكون البراءة من
المشركين الذين لم يكن بينهم وبين المسلمين عهد ، أو كان عهد ولم يستقيموا عليه بأن
ظاهروا على المسلمين أو نقضوا من العهد الذي تعهدوه ، فيكون من حقّ المسلمين أن
ينقضوا عهدهم وينبذوه إليهم ، لذا قال تعالى : ( وإمّا تخافنّ من
(1) طه : 86.
(2) المائدة : 1.
(3) الاسراء : 34.
(4) براءة : 4 ـ 7.