بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: 301 ـ 310
(301)
الأول وخلقة نسله ـ الحصر ، وقلنا : إنّ الخليّة التي تؤخذ من الذكر ( غير
الخلية الجنسية ) لن تتحوّل إلى مني حين صعقها وتلقيحها ببويضة المرأة ـ كما هو
الفرض ـ فسوف لن تنجح طريقة الاستنساخ الآنفة الذكر في الإنسان.
أمّا إذا لم يكن الحصر مراداً من الآية أو افترضنا أنّ الصعق الكهربائي ( أو
التلقيح الذي يحدث ) يستخرج من الخلية حيمناً ، أو قلنا : إنّ المراد من الماء
المهين هو ماء المرأة ( البويضة ) فتكون عملية الاستنساخ المفروضة غير منافية
للآيات القرآنية ، ويحتمل أن تقع في الخارج (1).
(1) هناك فروض واحتمالات على مصطلح ( الأرأيتيون ) لابدّ من طرحها لنرى إجابة
الشارع المقدّس حولها ، منها :
أ ـ لو تمّ الاستنساخ بين امرأة واُخرى وغيّب العنصر الذكري فما هو حكم الشارع
في هذه العملية ؟
لو أصبح هذا الأمر ممكناً ـ كما لو كانت الآيات القرآنية التي هي في صدد أصل
الخلقة لم تكن للحصر ، وكان المراد من الماء المهين هو بويضة المرأة ـ فلابدّ من
معرفة الحكم من الناحية الشرعية.
ب ـ إمكان تنوّع الاستنساخ الواحد ليصبح نصفه من الإنسان ونصفه من الحيوان ، كما
لو أخذنا نواة خلية من إنسان وزرعناها في بويضة ( غزال أو فيل أو ذئب أو أسد أو
طائر ) منزوعة النواة فما حكم الناتج الذي قد يكون انساناً بسرعة غزال أو قوة فيل أو
أنياب ذئب أو أسد أو أجنحة طائر ؟
أقول : إنّ هذين الفرضين إن أمكنا فإنّ الفقه لا يتوقف في حكم ما اُنتج ، حيث إنّ
أحكام الله تعالى تابعة لِمَا يصدق عليه هذا الموجود عرفاً من كونه اُنثى أو
إنساناً ذكراً في الشكل والمظهر ، وبما أن المولود سيكون نسخة طبق الأصل عن صاحب
النواة فإن حكمه واضح وإن كانت له سرعة الغزال أو انياب الفيل ، وإن كنا قد نتوقف
في صحة فرض أن يأخذ المولود من صاحب البيضة إذا كانت الصفات الوراثية هي لصاحب
النواة.
ح ـ عذراء صنعت نسخة لها ثم اُودعت الزريعة رحمها لتنمو حتى الميلاد فهل هذا
الحمل شرعي وهي لا زواج لها ، وهل هي بنتها أو توأمها ؟
د ـ لو اُخذت خلية مني بقصد اصدار نسخة وراثية طبق الأصل مع بويضة امرأتي وحفظت
في التبريد حتى مات الزوجان ثم وضعت في رحم وصارت ولداً فهل يستحق ارثاً مع بقية
الورثة حتى إذا كان الإرث قد قسّم وانتهى ؟
(302)
خلاصة البحث :
بالنسبة إلى الاستتئام : عبارة عن عدّة نقاط :
أولا : أنّ عمل الأجنة المتعددين من لقيحة واحدة ، أو قل عمل عدّة توائم جائز
بشرطين :
أ ـ أن لا يكون في ذلك العمل مخاطرة على حياة الجنين أو حياة ما سيكسى جلداً
خلوياً ليكون منشأً لحياة جنين ، وأن لا يكون خطر على صحتهما.
ب ـ أن لا يكون عمل التوائم بصورة واسعة بحيث يؤدي إلى اختلال النظام لعدم
التمييز بينهم.
ثانياً : إذا عملنا أجنة متعددين بإيجاد الجدار الخلوي الاصطناعي للخلايا
المقسَّمة بحيث تكون كل خلية هي خلية اُمّ ففي هذه الصورة لا يجوز قتل هذه الأجنة
ولو كانت فائضة ; لأنّها مبدأ نشوء إنسان ولا يجوز قتل مبدأ نشوء الإنسان. نعم ،
إذا حفظنا الخلية المقسمة في التبريد العميق قبل أن نعمل لها جداراً خلوياً ونلئم
ما تمزّق من الجدار ، فإنّ قتل هذه الخلية لا بأس به ; لأنّ حال هذه الخلية حال
المني الذي يجوز اهداره بمثل العزل ، أو قل لأنّه ليس مبدأ نشوء إنسان حتى يحرم
قتله.
ثالثاً : يجوز اعطاء الأجنة المبرّدة إلى سيدة اُخرى لوضعها في رحمها ، بل لعلّ
هذا العمل مستحب لما فيه من المحافظة على الجنين ورعايته إلى حين الولادة. نعم ،
ثبت حرمة أن يفرغ الرجل ماءه في رحم يحرم عليه ، ولكنّ وضع اللقيحة ليست ماءً للرجل
، إذ بعد التقليح لا يطلق على اللقيحة إنّها ماءٌ للرجل.
(303)
رابعاً : أنّ الأب هو صاحب المني ، والاُم صاحبة البيضة وإن وضع الجنين في رحم
غير صاحبة البيضة ، لأنّ القرآن الكريم يقول : ( إنّ اُمّهاتهم إلاّ اللائي ولدنهم ) والولد الحقيقي والولادة الحقيقية هي ما تولد منه الشيء ، ونحن نعلم
بأنّ الولد قد تولد من المني والبيضة حقيقية.
خامساً : لا يبعد أن تكون الاُم الحاضن محرَماً على الجنين الذي سيولد ، من باب
أولويته من الاُم المرضعة عرفاً ، فيتعدى من المحرمية الرضاعية إلى محرمية الجنين
على اُمّه إذا حضنته في رحمها حتى الولادة.
سادساً : أنّ الاستفادة من الجنين الثاني ( الطفل الثاني التوأم ) للطفل الأول
إنّما تكون جائزة بشرط أن لا تؤدّي إلى موت الطفل الثاني ولا إلى الاضرار به ،
وأمّا إذا أدّت إلى موته أو الاضرار به فهي غير جائزة.
سابعاً : لا حرمة في أن يرى الطفل الثاني الذي يفصل بينه وبين أخيه المشابه له
عدّة سنين مستقبله وما يعرض لأخيه من أمراض هي له بالمرصاد.
ثامناً : لا يجوز اذى الطفل الثاني أو الولد الثاني بإعلامه بمصيره الذي سوف
ينتهي إليه فيما إذا علمنا بذلك نتيجة ابتلاء الولد الأول به.
أمّا بالنسبة إلى الاستنساخ فخلاصته عدة نقاط أيضاً :
أولا : أنّ عملية الاستنساخ في البشر بعنوانها الأوّليّ ـ لو نجحت ـ لا بأس بها
إن لم تقارن محرّماً آخر ، من قبيل كشف العورة أمام الأجنبي.
ثانياً : أنّ الأب في عملية الاستنساخ هو صاحب الخلية ، والاُم هي صاحبة البيضة
، فبالإضافة إلى أنّ مفهوم الولد هو ما تولّد من الشيء وهذا الولد تولّد منهما يفهم
العرف أن صاحب الخلية هو الأب ، إذ لا يفهم العرف أنّ هذا الولد نشأ من غير أب ،
كعيسى ( عليه السلام ).
ثالثاً : إذا ادّى الاستنساخ البشري إلى اختلال النظام ـ كما لو طبق بصورة
(304)
واسعة ـ فهو أمرٌ محرّم ; لأنّ الشارع المقدّس جرت حكمته على حفظ النظام باختلاف
الألسنة والألوان.
وبهذا الّذي تقدّم يتبيّن لنا : أنّ العلماء الذين قاموا بالاستنساخ أو
الاستتئام لو اداموا عملهم هذا ونجحوا فيه في الإنسان فإنّ عملهم هذا سيكون عبارةً
عن اكتشاف سرٍّ من أسرار الخلق التي خلقها الله سبحانه وتعالى في الجسد ، فلم يكن
لأحد الحقّ في القول بأنّهم قد خلقوا قانوناً أو أوجدوا سرّاً في جسد الإنسان أو
الحيوان ، بل هم كشفوا هذا السرّ الذي أودعه الله في الجسد فلم يأتوا بشيء جديد غير
الاكتشاف.
إذن ليس في هذين العنوانين أيّ تحدٍّ لله ، كما يحبّ البعض أن يسمّيه اهتزاراً
بين العِلم والدين.
ما المقصود بسرِّ المهنة ؟
ويقصد به : السرّ الطبي الذي هو عبارة عن كتمان ما اطّلع عليه الطبيب من أحوال
مريضه ، وهذا الكتمان هو عبارة عن اتفاق مكتوم بين الطبيب ومريضه وخلاصته هو عبارة
عن المبدأ الذي يقضي على الطبيب أن يكون دائماً هو المدافع عن مصالح مريضه ليمنع
عنه الضرر وهذا المبدأ مقيد بقيد ارتكازي عقلائي هو أن لا يكون كتمان السرّ سبباً
في نشر مرض أو تولّد ضرر عند الآخرين.
فإن المريض عند مراجعته الطبيب يذكر له أسراره مضطرّاً بسبب المرض الذي ألمّ به
وعطله عن عمله اليومي كليّاً أو جزئيّاً ، وهذا السرّ الذي يبوح به المريض إلى
طبيبه قد يكون حاجة ملحّة في الاستشارة الطبية ، وقد يتوقّف على نتائجها تشخيص
المرض ووصف الدواء الضامن للشفاء وربما المنقذ للحياة ، ولذا وردت الروايات في ذم
كتمان سرّ الداء كما عن علي ( عليه السلام ) « من كتم مكنون دائه عجز طبيبه عن شفائه
» (1) « ومن كتم الأطباء مرضه خان بدنه » (2).
وهذا السرّ الطبي يختلف عن الاسرار الاُخرى التي نطّلع عليها صدفةً عن
(1) غرر الحكم : ج2 ، ص668.
(2) غرر الحكم : ج2 ، ص663.
(308)
اُناس آخرين ، إذ المطلوب ممّن اطلع على سرّ اخيه في غير حالة العلاج الطبي هو
نسيانه ، أمّا السرّ الطبي الذي اطّلع عليه الطبيب من مريضه يوجب عليه أن يتمسّك به
ولا ينساه وأن يتذكره كلّما راجعه المريض أو أحد اقربائه كولده ـ مثلا ـ أو اخيه
إذا راجعه في سنيّ حياته المقبلة ، إذ قد يكون هذا السرّ هو مفتاح حياة المريض أو
اُسرته ، كما هو الحال في الأمراض التي تنتقل بالوراثة إلى الفروع.
وعلى كل حال فنحن نريد أن نعرف الحكم الشرعي في إفشاء هذا السرّ خصوصاً إذا كان
المريض لا يرغب أو يمانع اطلاع غير طبيبه على هذا السرّ من ناحية كونه عيباً عرفياً
في بدنه أو يوجب الاطلاع عليه هتكه وتعييره في بعض الأحيان.
والجواب : أنّ الشريعة الإسلامية قد اوجبت كتمان كل سرٍّ من اسرار الإنسان
المسلم بالعنوان الأولي ، فقد ورد الحث في الشريعة الإسلامية على كتمان سرّ المؤمن
، ووعد الله سبحانه أن يجعل لمن يكتم سرّ أخيه المؤمن الاستظلال بظل العرش يوم
القيامة حيث لا ظلّ إلاّ ظلّ الله (1).
وعلى هذا يكون حفظ السرّ الطبي من ناحية حكمه الأولي واجباً ، فلا يجوز البوح به
ـ إذا لم ينطبق عليه غير عنوان كشف السرّ ـ من ناحية الأطباء والجراحين ورجال الصحة
والقوابل وكل من يتلقى الأسرار الطبية كالطلبة والمساعدين في الكليات والمستشفيات.
ولا حاجة إلى أن نستدل على حرمة كشف السرّ الطبي ـ إذا لم ينطبق عليه غير عنوان
كشف السرّ ـ بعد معرفة حرمة أذيّة الإنسان (2) بإفشاء عيبه وتعييره
(1) وسائل الشيعة : ج14 ، ب12 مقدمات النكاح ، ح3.
(2) وقد دلّت الروايات المتواترة على حرمة إيذاء المؤمن وإهانته وسبّه وتعييره
حتى في صدور المعصية منه ، راجع وسائل الشيعة : ج8 ، أبواب العشرة من الحج. كما
دلّت الروايات الكثيرة على حرمة كشف عيب المؤمن للآخرين وهو ما يسمى بغيبة المؤمن ،
وبما أن كشف سرّه إذا كان عيباً في جسمه فيكون مشمولا لها ، وقد قال تعالى : « ولا
يغتب بعضكم بعضاً أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه ». الحجرات : 12.
(309)
وانتقاصه وهتكه بدون مبرر شرعي ، فإنّ كشف السرّ هو من مصداق أذّيته وسبب تعييره
وانتقاصه واشعاره بالذم ، وهو أمر غير جائز شرعاً ، فقد ورد في صحيحة عبد الله بن
سنان عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) انه قال : « قلت للإمام الصادق ( عليه السلام ) :
عورة المؤمن على المؤمن حرام ؟ قال : نعم ، قلت : سفلتيه ؟ قال : ليس حيث تذهب
إنّما هو إذاعة سرّه » (1).
والخلاصة : أنّ مقتضى القاعدة هو تحريم كشف سرّ المريض الذي نحن بصدده
بالعنوان الأولي حتى إذا رضي صاحب المرض بكشفه وكان عليه فيه مهانة ، لأنّ هذا هو
حكم شرعي لا يسقط بالاسقاط ، وعدم جواز إذلال الإنسان لنفسه من الاُمور التي أكّد
عليها الشارع المقدّس ، وقد ورد في الحديث : « إذا رضي الإنسان بالذل طائعاً فليس
منّا أهل البيت ».
كما لا يجوز لمن ليس له علاقة بمرض المريض من الموظفين والأطباء الآخرين الاطلاع
على الأسرار التي يكشفها المريض لطبيبه وتثبت في الملفّ الخاص بالمريض ، لما ذكرناه
سابقاً.
متى يستثنى من وجوب كتمان السرّ ؟
إنّ ما تقدم من وجوب كتمان سرّ المريض أو حرمة افشاء سرّه إنّما كان لأجل احترام
المؤمن ، وبما أنَّ كشف السرّ فيه أذى للمريض أو هتكاً له أو بياناً لعيبه الذي لا
يحب نشره وامثال هذه العناوين ، فهو ينافي وجوب احترام المؤمن فيكون حراماً أولا
وبالذات. أمّا إذا كان كشف سرّ المريض لغرض صحيح ( راجع إلى
(1) وسائل الشيعة : ج8 ، ب157 من أحكام العشرة ، ح1.
(310)
المريض نفسه أو الطبيب أو إلى شخص ثالث ) بحيث يكون هذا الغرض الصحيح أعظم
مصلحةً من احترام المؤمن فهنا يجب العمل على طبق أقوى المصلحتين أو أهم الأمرين ،
وعلى هذا المنهج جميع موارد التزاحم في الواجبات والمحرمات ، سواء كانت من حقوق
الله أو حقوق الناس (1).
وبعبارة اُخرى : إذا امتنع الجمع بين أمرين الزاميين في مقام الامتثال مع عدم
التكاذب في مقام التشريع فلابدّ من تقديم الأهم عند الشارع. وهنا نذكر بعض الأمثلة
كمصاديق لهذه القاعدة :
1 ـ إذا كان كتمان سرّ المريض يؤدّي بالمريض إلى ضرر أكبر من ضرر إفشائه ، كما
إذا كان المريض بحاجة إلى كشف مرضه أمام عائلته ( لأجل العناية به بصورة دقيقة ،
وكوقاية من استفحال المرض في صورة عدم الاعتناء بالمريض ، وكحجره في صورة اللزوم
لمعالجته ) حتى يقضى على ذلك المرض في مهده ولا يكون مهدداً لنفس المريض ، ففي هذه
الحالة يكون في كشف السرّ مصلحة أهم من كتمانه ، فيجوز في هذه الحالة الكشف لمصلحة
المريض ، ولكن الكشف في هذه الحالة ينبغي أن يقتصر فيه على حدود رفع الضرر على
المريض ولا يجوز تجاوزه كما هو واضح.
2 ـ إذا كان في كتمان سرّ المريض مفسدة كبيرة تؤدي إلى إصابة شريحة كبيرة من
المجتمع بذلك المرض المسري كعائلته وأهله وجيرانه بل أهل بلدته ، وبعبارة اُخرى :
يكون في إفشاء سرّ المريض مصلحة عامّة تكمن في الوقاية من هذا المرض
(1) إذا كان هناك حكمان الزاميان ليس في كل منهما دلالة التزامية على نفي الحكم
الآخر ولم يمكن امتثالهما معاً ، بل دار الأمر بين أن يمتثل هذا او ذاك ، فيسمى هذا
بالتزاحم بين الحكمين ، ومرجحات التزاحم التي ذكرت في الاُصول كلّها ترجع إلى أهمية
أحد الحكمين عند الشارع ، فالأهم عند الشارع هو الأرجح في التقديم ويكفي للتقديم
احتمال الأهمية أو قوة احتمال الأهمية.