بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: 311 ـ 320
(311)
بصورة تحدّ من انتشاره ، ففي هذه الحالة تكون المصلحة العامّة مقدّمةً على
المصلحة الخاصة الفردية في عدم كشف سرّه. وايضاً يقيّد هذا الكشف بحدود
اطلاع السلطات المكلّفة بوقاية الأمراض والسهر على الصحة العامة.
3 ـ إذا استشير الطبيب الذي يعرف سرّ المريض في أهلية المريض من الناحية الصحية
للزواج ، بأنّه هل لديه أمراض معدية أو جنسية تنتقل إلى الذرية أو الزوجة ؟ ففي هذه
الحالة لا يجوز للطبيب أن يخون المستشير ، بل يجب إصداقه الأمر وكشف السرّ إذا كان
ترك الكشف موجباً لمفسدة كبيرة أهم من مفسدة كشف السرّ.
4 ـ إذا استدعي الطبيب من القضاء للإشهاد حول مريض معين ( كما إذا كان افشاء
السرّ قد نجم عن حادث جنائي ) فإذا كان في شهادة الطبيب افشاء سرّ المريض فهو جائز
بل واجب لوجوب الادلاء بالشهادة شرعاً ، وهو مبرر شرعي للبوح بهذا السرّ ، إذ يكون
حاكماً على حرمة كشف السرّ.
5 ـ إذا كان كشف السرّ لدفع الاتهام المتوجّه إلى الطبيب من المريض أو ذويه
يتعلق بتقصيره في مهنته ومعالجته ، فهذا أيضاً كسابقه مبرر شرعي للكشف عن السرّ
فيكون حاكماً على حرمة كشف السرّ.
6 ـ إذاكان إفشاء سرّ المريض يحول دون ارتكاب جريمة ، كما إذا كان المريض
مصاباًبمرض عصبي ( عقلي ) يكون في كشفه منعاً لارتكاب جريمة في حق الآخرين.
وهكذا بقية الموارد التي يكون هناك مبرر شرعي الزامي للكشف عن السرّ الذي يقدم
على حرمة كشفه ولكن في كل هذه الموارد وامثالها إنّما يتحدّد كشف السرّ امام
الآخرين بالقدر الواجب لا أكثر.
الاسرار المتعلقة بالأدوية القاتلة أو الضارّة :
أرى من اللازم عليَّ أن اُبيِّن هذا الموضوع وحكمه الشرعي وإن لم يذكر عادة تحت
عنوان السرّ الطبي ، ولكن ارى من اللازم أن نقسّم السرّ الطبي إلى قسمين :
(312)
1 ـ السرّ المتعلّق بالمريض وما يكشفه لطبيبه ، وهذا تقدّم الكلام عنه.
2 ـ السرّ المتعلّق بالأدوية القاتلة أو السامّة أو الضارة.
وهذا الأمر الثاني واجب كما يجب كتم اسرار المريض ، فيجب على الطبيب أن لا يكشف
عن الأدوية القاتلة أو السامّة أو الضارة لمن يسي استعمالها مطلقاً.
والسرّ في هذا الوجوب هو : أنّ الطبَّ الذي أوجب الله سبحانه وتعالى على العباد
تعلّمه وجوباً كفائياً ، وقد يكون عينياً في بعض الحالات إنّما هو لأجل خدمة
الإنسانية ولتخفيف آلامها ، فإذا عرفنا أن التعريف ببعض الأدوية القاتلة أو الضارة
يؤدّي إلى إسائة استعمالها فيكون الطب حينئذ وبالا على الإنسانية وضرراً كبيراً قد
يؤدّي إلى قتل النفوس واشاعة المرض ، لذا لا ترضى الشريعة بكشف اسرار الدواء لمن
يسيء استعماله حتى لا يكون الطبيب الذي اُريد له أن يكون عامل رخاء في المجتمع
مساعداً لزيادة آلام البشر بإعطاء هذا السرّ لمن يسيء استعماله. وقد ورد عن الإمام
علي ( عليه السلام ) قوله : « ثلاثة لا يُستحى من الكتم عليها : المال لنفي التهمة ،
والجوهر لنفاسته ، الدواء للاحتياط من العدو » (1) والمراد بالعدو هنا من يسيء
استعمال الدواء.
ما هي العقوبات التي تقع على من كشف سرّ مريضه في حالة المنع ؟
قد يقال : إنّ العقوبة في هذه الصورة منوطة بنظر الحاكم الشرعي في تعزير وتأديب
الطبيب ، وقد يكون التأديب بالتأنيب أو عدم مزاولة مهنته لمدّة معينة ، أو الحبس أو
الضرب كبقية المحرمات التي تصدر من الفرد المخالف للشرع. وقد تكون الطلب بتعويض
عما اُلحق بالمريض وسمعته من جرّاء الاباحة بسرّ مرضه.
(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلي : ج2 ، ص289.
مسؤولية الطبيب
إنّ الله سبحانه قد أمر المريض بمراجعة الطبيب عند حدوث علامات المرض فيه ، إذ
الطبيب هو الذي يستطيع أن يقدّم للمريض المعونة بتخفيف آلامه أو انقاذ حياته ، لهذا
فإن الطبيب يتحمل اعظم مسؤولية في هذا المجال ، سواءً على صعيد تقديم الدواء
والعلاج أو على صعيد المعونة النفسية للمريض ببعث الأمل واعادة الثقة في النفس ،
لهذا نرى أن مسؤوليات الطبيب بالنسبة لنفسه وبالنسبة لمن يفترض أن يعالجه هي كثيرة
ومتنوعة من ناحية التشريع الإسلامي ، ونحن نجمل هنا ما أمكن منها :
1 ـ المبادرة إلى علاج المريض :
فلا يجوز له التعلّل بعدم الأجر أو قلته ، إذ يؤدّي هذا إلى فسح المجال
للمرض بالفتك بصاحبه إذا ضعفت قدرات المريض ومناعاته. وهذا الوجوب يختص بحالة
الطوارئ التي لا مجال لتأخير العلاج إلى وقت لاحق ، أمّا إذا كان العلاج قابلا
لتأخيره إلى وقت لاحق فمن حقّ الطبيب أن يؤخره لسبب أو لآخر.
(316)
2 ـ عدم التمييز بين الغني والفقير :
إنّ الواجب الشرعي الكفائي أو العيني يوجب على الطبيب العمل على تخفيف آلام
البشر أو انقاذهم من الموت ، وهذا أمر لا يفرق فيه بين الغني والفقير ، وقد عرفنا
أنّ الإسلام يفضّل بين البشر بالعمل الصالح والتقوى ، إلاّ أن هذه الأفضلية لا تكون
موجبة للتمييز في الحقوق والواجبات ، بسبب العرق أو اللون أو اللغة أو الجنس فضلا
عن الوضع الاجتماعي ( الغنى والفقر ). وقد ورد عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) قوله
: « من لقي فقيراً مسلماً فسلّم عليه خلاف سلامه على الغني لقي الله عزّوجلّ يوم
القيامة وهو عليه غضبان » (1).
3 ـ إقدام الطبيب على ما تخصّص به ( ما يعرف به ) :
ومن الواضح أن الطبيب لا يجوز له أن يتصدّى لمعالجة أمراض لا يعرف عنها شيئاً ،
إذ يكون في هذه الحالة كالجاهل الذي يقدم على المعالجة ، وحينئذ يجوز للإمام (
الحاكم الشرعي المتصدّي لقيادة الاُمة المتمثّل بوزارة الصحة مثلا ) محاسبته.
4 ـ بذل الجهد :
وممّا يجب على الطبيب بذل الجهد في معالجة المريض ، من حذاقته وامانته وتقواه
ونصحه للمريض وقد ورد عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « كل ذي صناعة مضطر إلى
ثلاث خصال يجتلب بها المكسب ، وهو : أن يكون حاذقاً بعمله ، مؤدّياً للأمانة فيه ،
مستميلا لمن استعمله » (2).
وقد قيل : إنّ معنى الطب هو الحذق بالأشياء وإن كان في غير علاج المريض ،
(1) وسائل الشيعة : ج8 ، ب36 من أحكام العشرة من الحجّ ، ح1.
(2) البحار : ج78 ، ص236.
(317)
ورجل طبيب أي حاذق ، سمي بذلك لحذقه (1).
وقد ورد عن الإمام علي ( عليه السلام ) أنّه قال : « من تطبب فليتَّقِ الله ولينصح
وليجتهد » (2).
وبهذه المسؤولية يكون الطبيب أداةَ خير للإنسان كما أراده الإسلام ، فيندفع
للقيام بواجباته الشرعية والإنسانية على النحو الأكمل.
5 ـ الرفق بالمريض ورفع معنوياته :
وقد ورد في بعض النصوص التعبير عن الطبيب « بالرفيق » فعن الإمام علي ( عليه
السلام ) : أنّه قال : « كن كالطبيب الرفيق الذي يدع الدواء بحيث ينفع » (3).
وفي رواية عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) أنّه قال : « سمعت موسى بن جعفر ( عليه
السلام ) وقد اشتكى فجاء المترفقون بالأدوية ، يعني الأطباء » (4).
وفي بعض النصوص : « أنّ الله عزّوجلّ الطبيب ولكنّك رجل رفيق ». وفي نصٍّ آخر :
« أنت الرفيق والله الطبيب » (5).
ومن الواضح أن المريض بما أنّه لم يتمكّن من التغلب على مرضه فهو ضعيف بسبب
شعوره بالألم والمتاعب ، فإذا انهارت نفسه تبعها الانهيار الجسدي لا محالة ، ولذا
فقد اهتمت الشريعة برفع معنويات المريض وربط أمله بالله وتسهيل أمر مرضه وفتح الأمل
أمام مريضه ، وبهذا يكون العلاج الجسدي أمراً ثانوياً.
(1) الطب النبوي لابن القيم : ص107 ـ 108.
(2) البحار : ج62 ، ص65.
(3) البحار : ج2 ، ص53.
(4) الفصول المهمّة : ص415.
(5) كنز العمال : ج10 ، ص1 و 8.
(318)
6 ـ غض البصر عن المحارم :
فقد عرفنا من الشريعة أنَّها اوجبت غض البصر عن المحارم إلاّ في صورة الضرورة
إلى ذلك فيقتصر عليها ، وإذا تمكّن للطبيب علاج مريضه بدون نظر ، بل يكتفي بما
يسمعه من كلام مريضه فيقتصر عليه ، وإذا حكمت الضرورة للنظرالمحارم فلا يجوز اللمس
، وإذا اضطر إلى اللمس القليل فلا يجوز له اللمس الكثير.
7 ـ العلاج بغير دواء ، أو بالدواء القليل :
إنّ الروايات الكثيرة التي تؤكّد على عدم تناول الدواء ما احتمل البدن الداء أو
مع عدم الحاجة إلى الدواء (1) هي كافية في الاستدلال على هذا الأمر. وقد ورد عن
الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قوله : « ادفعوا معالجة الأطباء ما اندفع الداء عنكم
فإنّه بمنزلة البناء قليله يجرّ إلى كثيره » (2). وقد ورد في بعض النصوص : « ليس
فيما أصلح البدن اسراف ، إنّما الاسراف فيما أتلف المال وأضرّ البدن » (3) ( 4).
والخلاصة : أنّ المسؤولية التي تجب على الطبيب هي عبارة عن مزاولة عمله
بصورة جيدة ، ومخالفة هذه المسؤولية يكون عند تحقّق شرطين :
أحدهما : وجود الأذى والضرر بالمريض.
وثانيهما : وجود صلة بين الضرر الحاصل والخطأ الذي وقع فيه الطبيب ، ولم يكن له
حقّ للوقوع بهذا الخطأ.
(1) وسائل الشيعة : ج2 ، ب4 من الاحتضار ، أحاديث الباب.
(2) البحار : ج81 ، ص207.
(3) الكافي : ج6 ، ص499 ، الوسائل : ج1 ، ص397 و398 وغيرهما.
(4) لخّصنا بحث « مسؤولية الطبيب » مع تصرفات فيه من كتاب الآداب الطبية في
الإسلام ، للسيد جعفر مرتضى العاملي من ص110 ـ 122.
(319)
مداواة غير المسلم للمسلم ( استطباب غير المسلم )
إنّ الاستطباب كعمل فرديٍّ يقوم به الإنسان قد يُحتاج فيه إلى مراجعة غير المسلم
من يهود أو نصارى أو ملحدين ، فهل هناك منع من هذا الاستطباب شرعاً ؟
الجواب : لا يمنع الإسلام من مداواة غير المسلم للمسلم ، بل وردت الروايات التي
تجعل هذا الأمر جائزاً.
فقد ورد عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « سألته عن الرجل يداويه النصراني
واليهودي ويتّخذ له الأدوية ؟ فقال ( عليه السلام ) : لا بأس بذلك إنّما الشفاء بيد
الله » (1).
وعن عبد الرحمان بن الحجاج قال : « قلت للإمام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) :
إنّي احتجت إلى طبيب نصرانيٍّ ( اُسلّم عليه وادعو له ) قال : نعم ، إنّه لا ينفعه
دعاؤك » (2).
وواضح في هذه الرواية مفروغية جواز التطبيب عند النصراني ، إنّما كان السؤال عن
السلام عليه والدعاء له ، وقد أقرّ الإمام ( عليه السلام ) التطبيب ، وذكر أن الدعاء
لا ينفعه.
وقد حدثت ممارسات عملية لمداواة المسلمين من قبل غيرهم في زمان الرسول ( صلى الله
عليه وآله ) كما نقل ذلك التاريخ.
على أنّه يكفينا عدم وجود الردع من قبل الشارع المقدّس لهذا التطبيب ، فعند
الشك نحكّم البراءة والجواز. وعلى هذا فيكون الإسلام قد اهتم بالكفاءات في العلوم.
(1) وسائل الشيعة : ج17 ، ب136 من الأطعمة المباحة ، ح7.
(2) وسائل الشيعة : ج8 ، ب53 من احكام العشرة ، ح1.
(320)
ولكن لا ننسى أن هذا الجواز ـ الذي هو عبارة عن عدم الاقتضاء للمنع ـ قد يؤدّي
في حالات معينة إلى التأثير في عقيدة المسلم أو سلوكه ، أو يوجب مودّة للكافرين ،
وقد أمر الله تعالى بمودّة المؤمنين دون الكافرين ، قال تعالى : ( لا تجدُ قوماً
يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ اللهَ ورسولَه ولو كانوا آباءَهم أو
أبناءَهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه
ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه اُولئك
حزبُ الله ألا إنّ حِزبَ الله هم الملفحون ) (1).
فإذا حصلت هذه الحالة ـ وهي مودّة الكافرين من هذه المعالجة ـ فيقدم المنع على
الجواز; لأنّ المنع اقتضائي والجواز لا اقتضائي.
نعم ، إذا اضطر الإنسان إلى المعالجة عند غير المسلم وكان مع هذه المعالجة مودّة
لهم ، فنحكّم قانون التزاحم هنا فنقدم أهم الأمرين.
هل يمكن أن تقوم نقابة الأطبّاء أو شركة التأمين بدور العاقلة ؟
ممّا لا إشكال فيه أنّ الذي أقدم على جناية خطئيّة محضة عليه الدية والكفارة ،
كما ذكرت ذلك الآية القرآنية ( ومَنْ قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة أو دية
مسلّمة إلى أهله ... ) (2).
ولكن جاءت الروايات الكثيرة والصحيحة تذكر لنا حكماً تكليفياً محضاً ، مفاده :
أن العاقلة يجب عليها في هذه الصورة تحمّل الدية.
نقول : إنّ هذا التكليف في دفع الدية على العاقلة هو نوع تكليف شرعي
(1) المجادلة : 22.
(2) النساء : 92.