بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: 391 ـ 400
(391)
الحالة الثالثة : وقد يكون الطبيب حاذقاً ، لكنّه قد عالج البالغ العاقل الرشيد
من دون إذنه ، أو مع ممانعته ولم تكن حالته محسوبة من الطوارئ ، فالطبيب في هذه
الحالة يكون متعدّياً بعمله فيكون ضامناً ، لأنّه من الواضح جداً أن الإنسان أولى
بنفسه من غيره ، فقيام الطبيب بعمل على جسم المريض من دون إذنه يكون تعدّياً وظلماً
، فيكون الطبيب ضامناً لما يحدث من ضرر أو تلف ، وحتى مع عدم صورة الضرر والتلف
يكون هذا الطبيب مستحقّاً للعقوبة الجزائية وللعقوبة في الآخرة.
الحالة الرابعة : وقد يكون الطبيب حاذقاً ، لكنّه يقصّر في عمله ، فيكون ضامناً
لتقصيره الذي يؤول إلى التفريط في العمل ، وكل إنسان أضر غيره بتقصيره بعد أن تعهّد
بطبابته فهو ضامن ، حيث ينسب التلف إليه ، وهذا لا ينافي ما سيأتي من تجويزنا
للطبيب الحاذق المباشرة للمريض حتى بدون إذن كما في حالة الطوارئ ، فإنّه إحسان محض
قد يجب من باب المقدّمة لحفظ النفس المحترمة ، كما في خبر ابان بن تغلب عن الإمام
الصادق ( عليه السلام ) قال : « كان المسيح ( عليه السلام ) يقول : إنّ التارك شفاء
المجروح من جرحه شريك لجارحه لا محالة; وذلك أنّ الجارح أراد فساد المجروح والتارك
لإشفائه لم يشأ صلاحه ، فإذا لم يشأ صلاحه فقد شاء فساده اضطراراً ، فكذلك لا
تحدّثوا بالحكمة غير أهلها فتجهلوا ، ولا تمنوها أهلها فتأثموا ، وليكن أحدكم
بمنزلة الطبيب المداوي إن رأى موضعاً لدوائه وإلاّ أمسك » (1).
فهذه الرواية لا تنافي الضمان الذي كان منشؤه هنا هو التقصير ( التفريط ) من
الطبيب الذي هو من باب الاسباب ، والـمُسَبَّب ـ وهو الضمان ـ يتبع سببه كما في
تأديب الزوجة والصبي ونحوهما ، بل هنا أولى لوجود التفريط.
(1) الكافي : ج8 ، ح545.
(392)
الحالة الخامسة : وقد يكون الطبيب عارفاً ( حاذقاً ) وقد اذن له المريض في
العلاج ولم يقصّر الطبيب في علاجه ، ولكن آل العلاج إلى التلف في النفس أو الطرف ،
فهل يضمن الطبيب ؟ يوجد خلاف في هذه الحالة ، قال ابن ادريس : لا يضمن ، حيث نشك في
الضمان فالأصل عدمه ، ولأنّ التطبيب صاراً سائغاً فهو لا يستتبع ضماناً.
وقال آخرون بالضمان ، لقاعدة مباشرة الاتلاف ( الضمان على المتلف ) وأمّا الإذن
في العلاج فهو ليس إذناً في الإتلاف ، والإذن في العلاج جاء بالجواز الشرعي ،
والجواز الشرعي لا ينافي الضمان كما في ضرب الطفل للتأديب ، فإنّه جائز ، ولكن إذا
حدث تلف فالضمان موجود على الضارب.
وقد يقال : إنّ الطبيب لم يتلف العضو عمداً ، وهذا صحيح ، إلاّ أنّه يرفع عن
الطبيب القصاص فقط مع الحرمة.
وقد وردت بعض الأخبار تؤيّد الضمان ، منها : ما رواه السكوني عن الإمام الصادق
( عليه السلام ) قال : قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « من تطبب أو تبيطر فليأخذ
البراءة من وليه ، وإلاّ فهو ضامن » (1).
بتقريب : أنّ المراد من الولي من له الولاية ، وهو يشمل نفس الأمر أيضاً.
ومنها : ما ورد في تضمين الختّان القاطع لحشفة الغلام ، فقد روى السكوني أيضاً
عن جعفر عن أبيه أن علياً ( عليه السلام ) : « ضمن ختّاناً قطع حشفة غلام » (2). وهذا
داخل في الجرح الشبيه بالعمد ، فيكون الضمان من مال الطبيب ، لقصد الطبيب الفعل دون
القتل ، وواضح أنَّ الدية فيه على الجاني.
(1) وسائل الشيعة : ج19 ، ب24 من موجبات الضمان ، ح1.
(2) المصدر السابق : ح2.
(393)
الحالة السادسة : وقد يكون الطبيب عارفاً ، وقد اُذِنَ له في العلاج من قبل
المريض أو وليه ولم يقصّر في علاجه ، وقد أخذ الابراء من التلف قبل العلاج فهل يضمن
الطبيب ؟ هنا خلاف على قولين :
الأول : القول بالبراءة من الضمان عند التلف ، ونسب هذا إلى المشهور لرواية
السكوني عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) المتقدّمة ، قال : قال أمير المؤمنين ( عليه
السلام ) : « من تطبب أو تبيطر فليأخذ البراءة من وليه ، وإلاّ فهو ضامن ».
وهذه الرواية تشير إلى أن عدم الضمان هو من أجل البراءة الذي يوجب سقوط الفعل عن
اقتضاء الدية ، وليس معناه اسقاط الدية ليقال : إنّه إسقاط ما لم يجب. فالنتيجة
عدم ثبوت الدية في صورة أخذ البراءة ، وثبوتها في صورة عدم أخذ البراءة لأنّ القتل
أو التلف مستند إليه ، والإذن هو في الفعل لا في التلف أو القتل ، فلا موجب لسقوط
الضمان.
ثمّ إنّ هناك دليلا آخر على عدم الضمان في هذه الحالة ، وهو : أنّ العلاج ممّا
تمسّ الحاجة إليه ، فلو لم يشرع الابراء تعذر العلاج ، وإذا شرع الابراء فلا ضمان.
مضافاً إلى شمول المعتبرة القائلة : « المسلمون عن شروطهم » لما نحن فيه ، حيث إنّ
الطبيب قد اشترط عدم ضمانه إذا حصل التلف.
الثاني : هناك قول ضعيف بعدم براءة الطبيب من الضمان حتى إذا تبرّأ منه ، وذلك
لأنّه اسقاط للحقّ قبل ثبوته. وهذا القول باطل; لما تقدّم في القول الأول من أنّ
البراءة من الضمان ليس معناه إسقاط الدية حتى يقال : إنّه اسقاط لما لم يجب ، بل
معناه أنّ فعل الطبيب يسقط عن اقتضائه للدية.
الحالة السابعة : وقد لا يتولّى الطبيب العلاج بنفسه ، بل يقول : أظنّ أنّ هذا
الدواء نافع لهذا الداء ، أو يقول : لو كنت أنا لفلعت كذا ، ونحو ذلك ممّا لم تكن
فيه مباشرة منه ، وقد فعل المريض العاقل المختار أو وليه ذلك اعتماداً على القول
(394)
المتقدّم ، فالمتّجه هنا عدم الضمان; وذلك لأنّنا نشك في الضمان في هذه الحالة
والأصل عدم الضمان ( البراءة ) ، ولأنّنا نحتمل أنّ الموت أو التلف الذي حصل قد حصل
بغير العلاج ، وبغير الأخذ بقول الطبيب.
أسباب مرض الإيدز وانتقاله في العالم
إنّ سبب المرض وانتقاله في بعض نقاط العالم يختلف عن سببه وانتقاله في نقاط
اُخرى منه ; وتوضيح ذلك :
أ ـ في الغرب كان سبب مرض الايدز هو اللواط بنسبة 70 %.
ب ـ في ألمانيا وفرنسا كان سبب المرض هو نقل الدم بعد فحصه.
ج ـ في أفريقيا وشرق آسيا كان سبب المرض هو الزنا ، كما اكتُشف في بيوت الدعارة.
د ـ سبب المرض في الجنين هو انتقال المرض من الحامل الى الجنين بنسبة 10 % في
آخر مدة الحمل.
هـ ـ في البلدان الاسلامية ، تقول التقارير والابحاث : إنّ المرض جاء من نقل
الدم الذي استورد من بريطانيا وأميركا والدول الغربية ، ثم بعد الاتصال الجنسي بين
الزوجين ينتقل المرض الى الآخرين.
و ـ قد يكون سبب المرض هو تبادل الحقن الملوثة بين الافراد ، وحتى حقن الوشم
والحجامة (1).
(1) من خصائص فيروس الإيدز :
1 ـ ضعيف جداً.
2 ـ لا يقاوم الجفاف.
3 ـ لا يقاوم ارتفاع درجة الحرا رة.
4 ـ إذا اُصيب به انسان فلن يفارقه حتى يدخله القبر.
5 ـ لم يثبت الفيروس على شكل أو صورة معينة ، فهو يتطور تطوراً سريعاً; ولذلك لم
يتوصل العلماء الى علاج لهذا المرض.
6 ـ إذا دخل هذا الفيروس الى البدن فإنه يختفي بسرعة داخل بعض الخلايا ( وهذه هي
مرحلة الكُمُون ) ويأخذ في التكاثر تدريجاً وفي تدمير هذه الخلايا ، فينقص عددها
شيئاً فشيئاً ، حتى يصل المصاب الى مرحلة لا يتمكن من مقاومة الجراثيم أو الخلايا
الضارة ( كالخلايا السرطانية ) وحينئذ يحدث ما هو معروف من مرض نقص المناعة المكتسب.
7 ـ إنّ المرحلة التي يدخل فيها الفيروس الى البدن وحتى ظهور الاعراض المميزة
لمرض الايدز تختلف من إنسان لآخر ، ففي الاطفال تكون قصيرة نسبياً ( أقل من سنتين ) ،
وفي البالغين تتراوح ما بين ( 7 10 ) سنوات ، وهذه المدة تقصر إذا حدثت أمراض
اُخرى ، أو كانت التغذية سيئة ، أو حصل حمل لدى المرأة ; ولذا يكون متوسط المدة في
أفريقيا خمس سنوات ( لما فيها من سوء التغذية وأمراض اُخرى كالملاريا ) في حين يكون
متوسط المدة في الدول المتقدمة عشر سنوات ( بفضل التغذية الجيدة والعلاج للامراض
المرافقة ).
8 ـ يكون الشخص المصاب معدياً طوال هذه المدة التي دخل فيها الفيروس الى البدن.
9 ـ إنّ هذا الفيروس يموت فوراً اذا تعرض للشمس أو للهواء أو للمطهرات
( كالديتول ) وحتى الصابون ، ولكن اذا بقي في الدم وفي بعض الافرازات فيمكن ان يبقى
مدة طويلة ، فاذا بقي في مكان مثلج ( تجميد المني مثلاً ) فانه يعود ولو بعد عشر
سنوات.
10 ـ وجدت حالة غريبة في اميركا خلاصتها : أنّ طفلةً حملت الفيروس من اُمها
وتُؤُكِّد من ذلك ، وفي السنة الثالثة اختفى الفيروس من دمها تماماً ، واُجري الفحص
عدة مرات ـ وفي أفضل المراكز الطبية ـ ولكنهم لم يجدوا للفيروس أثراً ، هذه الحالة
حيّرت الاطباء في كيفية القضاء عليه.
( من مقالة للدكتور محمد علي البار في مجمع الفقه الاسلامي في دورته التاسعة ).
(398)
طرق حصر العدوى :
لقد حصر العلماء طرق العدوى في ثلاثة اُمور :
أ ـ طريق الاتصال الجنسي بين افراد الجنس الواحد أو الجنسين ، وهذا يمثِّل
(399)
أخطر الطرق وأكثرها شيوعاً ، وتصل نسبة الاصابة عن هذا الطريق الى 80 %.
ب ـ الدخول الى الدم ، سواء كان بنقله أو بالحقن بالإبر ، وبخاصة المخدرات ، أو
الجروح النافذة وزراعة الاعضاء ، وحتى العمليات الجراحية اذا لم تكن الادوات معقمة
تعقيماً جيداً.
ج ـ عن طريق الاُم المصابة الى جنينها ( أمّا أثناء الحمل أو أثناء الولادة ) (1).
ومن حسن الحظ أنّ الطريقين الأخيرين أمكن السيطرة عليهما بعد التعرف على أساليب
الكشف عن الفيروس بالطرق السريعة والحديثة.
مميزات اُخرى للمرض ومخاطره :
1 ـ يعتبر مرض الايدز من أخطر الامراض التي أصابت البشرية ، وقد نُعت في
بعض التعبيرات بأنّه طاعون القرن العشرين ، وقد اُصيب به أكثر من سبعة عشر
مليوناً ، ويتوقع في السنوات الستّ الآتية أن يتصاعد الرقم الى
(1) ذكر هذه الطرق الدكتور احمد رجائي الجندي في مقالة ( رؤية إسلامية للمشاكل
الاجتماعية لمرض الايدز ) ولكن الدكتور محمد علي البار عندما قرر هذا البحث في
الدورة التاسعة لمجمع الفقه الاسلامي المنعقد في ( ابو ظبي ) ـ ما بين 1 ـ 6 من ذي
القعدة لسنة 1415 هـ.قـ ذكر شيئاً خطيراً إذ قال : لقد ثبت أن انتقال العدوى قد
يكون بسوائل الجسم كالعرق ، فالفيروس موجود في جميع الافرازات حتى اللعاب ، وفي
سائل النخاع الشوكي ، وفي لبن الاُمّ ، وحتى في الميت عندما يغسّل وهو مصاب بمرض
الايدز ، فتخرج منه افرازات يحتمل انتقال الفيروس منها الى المغسِّل.
والذي يحلّ المسألة هو ما جاء في توصيات الندوة الفقهية الطبية السادسة المنعقدة
في الكويت ـ ما بين 23 ـ 25 من جمادى الآخرة لسنة 1414 هـ.ق الموافق 6 ـ 8 كانون
الاول 1993 م ـ وقد جاء فيها : « انما تنتقل العدوى بصورة رئيسة باحدى الطرق
التالية » ( وذكر الطرق المتقدمة ). وعلى هذا فان القول الصحيح هو عدم حصر طرق
العدوى فيما تقدم من الصور ، بل تكون تلك الصور صوراً رئيسة لنقل العدوى ، اما
غيرها فكثير ، فقد نقل الدكتور محمد علي البار انتقال المرض من طفل صغير الى أخيه
ولا يعرف سبب الانتقال بالضبط.
(400)
أربعين مليوناً.
2 ـ إنّ جميع دول العالم فيها إصابات ، ولا يوجد شعب محصّن ضد هذا المرض.
3 ـ إنّ أعداد المصابين بهذا المرض في زيادة مستمرة ، ومعظم الحالات هي بين
الذكور ، اذ تصل الى نحو 75 %.
4 ـ إنّ عمر المصابين يتراوح بين 15 ـ 49 سنة ، وهو عمر الانتاج والعمل.
5 ـ إنّ هذا المرض أكثر انتشاراً في أفريقيا « التي فيها من الاصابات ما يربو
على تسع ملايين إصابة ، توفّي منهم مليونان » وجنوب شرق آسيا « التي فيها من
الاصابات نحو مليوني إصابة » والهند حيث يكثر الفقر ويقلّ الوازع الديني ، وتكون
الدعارة مصدراً للرزق أو تجارةً يقوم بها تجار الموت.
6 ـ من مضاعفات الإصابة بمرض الإيدز : انتشار كثير من الامراض التي كان العالم
على وشك اعلان التخلّص منها ، مثل حالات السلّ الرئوي.
المشاكل الاجتماعية لمرض الإيدز
كان ما تقدم توطئةً لهذ البحث ، وسنتعرّض الى تساؤلات نشأت عند الفرد والمجتمع
يطلب فيها تحديد حكمها الشرعي ، ويمكن تلخيصها بما يأتي :
أولاً : ما هو حكم عزل المصاب بالإيدز ؟
ثانياً : ما هو حكم تعمّد نقل العدوى ؟
ثالثاً : ما هي حقوق المصاب وواجباته ؟
رابعاً : ما حكم زواج حاملي فيروس الايدز ؟
خامساً : ما حكم المعاشرة الجنسية بالنسبة للمصاب بمرض الايدز ؟
سادساً : ما حكم حق السليم من الزوجين في طلب الفرقة ؟