بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: 401 ـ 410
(401)
    سابعاً : ما حكم طلب الطلاق من المرأة اذا كان الزوج مصاباً بمرض الايدز ؟
     ثامناً : ما حكم اجهاض الحامل المصابة بمرض الايدز ؟
     تاسعاً : ما حكم حضانة الاُم المصابة لوليدها السليم وإرضاعه ( اللباء وغيره ) ؟
     عاشراً : ما حكم اعتبار مرض الايدز مرض موت (1) ؟
     حادي عشر : وقبل هذه المسائل هناك مسألة متقدمة عليها تتلخص في حكم إعلان الطبيب عن الإصابة بمرض الايدز لمن يهمهم أمر المريض ، وخصوصاً زوجته ، فهل يجوز للطبيب أو يجب عليه ان يخبر الزوجات عن أزواجهن أو العكس ، أو لا يجوز ذلك (2) ؟
     فقد يقال بعدم جواز إفشاء المرض ، وذلك :
     1 ـ لما قُرر من أنّ الطبيب هو الحافظ لسرّ المريض.
     2 ـ ولـمّا كان مرض الايدز قد يحدث غالباً عن طريق المعاشرة الجنسية غير الشرعية فالإعلان عن الإصابة معناه هتك لاعتبار المريض لاتّهامه بمرض يسيء اليه.
     ثم إنّ إطلاع الزوجة قد يجرّ الى إطلاع الأقارب والذين يشتغلون مع الفرد المصاب ، وهذا يجرهم الى اجتنابه مما يؤدي الى طرده من المجتمع بصورة غير معلنة. واذا حصل ذلك فقد تحصل للمريض حالات عصبية تجرّه الى الانتقام من المجتمع فيعمد الى نقل المرض الى غيره ( كما حدث ذلك في بعض دول العالم ).
     (1) إنّ هذه الأسئلة تدور حول المريض الذي اكتشف مرضه ، ولكن لم تظهر عليه أعراض المرض. أمّا الذي ظهرت عليه اعراض المرض فكأنّما حُسب امره مفروغاً عنه.
     (2) وهذا التساؤل يصح عند طلب المريض من طبيبه أن لا يذيع إصابته بالمرض.

(402)
    3 ـ اذا اُذيعت إصابة فرد بمرض الايدز ، وقلنا بوجوب ذلك أو جوازه فإنّ هذا قد يؤدي الى عدم كسب أي معلومات عن المرض; لعدم مراجعة المرضى الى الاطباء خوفاً من إذاعة إصابتهم. وعدم كسب المعلومات عن المرض والمرضى لأخذ الحيطة من المرض يؤدي الى انتشار الفيروس في المجتمع.
     4 ـ يمكن للطبيب أن ينصح المريض باستعمال العازل عند المجامعة مع الزوجة ، وهذا يؤدي الى عدم انتقال المرض اليها ، وهو يدل على عدم ضرورة إطلاع الزوجة على مرض زوجها.
     ولكن قد يقال ( في مقابل القول الاول ) بجواز إعلان المرض الى الزوجة أو الى من يهمّهم أمر المريض ، أو وجوبه; وذلك :
     أ ـ لأنّنا وإنْ آمنّا بأنّ الطبيب هو حافظ سرّ المريض الذي يراجعه إلاّ أنّ ذلك الأمر ليس بصورة مطلقة وغير قابلة للتغيير ، بل يمكن ان يقيّد بعدم كون كتمان سرّ المريض يؤدي الى الإضرار بالآخرين ، ذلك الاضرار الذي يوصل الى الموت ، أمّا اذا كان الكتمان يؤدي الى ضرر بالزوجة يصل الى حد الموت فلا يجب كتمان سرّ المريض.
     ب ـ إنّ هتك اعتبار المريض المصاب بالايدز ( إذا اُذيع خبر مرضه ) منوط بالوضع الثقافي والاجتماعي لاُسرة المريض ، وعلى هذا فلا يكون إعلان الإصابة بالمرض للزوجة موجباً لإذهاب اعتبار المريض وهتكه ، خصوصاً اذا اُعلن أنّ هذا المرض قد ينتقل عن طريق نقل الدم أو استعمال الإبر الحاقنة أو غير ذلك. وبهذا لم يكن المصاب ( عند إعلان إصابته لزوجته مثلاً ) قد طُرد من المجتمع بحيث يقرر الانتقام منه.
     ج ـ ويتفرع على ما تقدم عدم امتناع المريض بمرض الايدز من مراجعة الطبيب لأخذ العلاج مثلاً.
     د ـ إنّ استعمال العازل في الجماع ليس وقاية كاملة من انتقال المرض ، فلا


(403)
    يمكن أن يكون دليلاً لعدم جواز إذاعة المرض مطلقاً.
     هـ ـ إنّ حق السليم من الزوجين في الامتناع عن المعاشرة الجنسية حتى لا ينتقل اليه المرض هو حق مشروع ; ويجب على الطبيب ( من باب وجوب حفظ نفوس الآخرين من المرض المهلك ) الاعلام حتى لا يقع الصحيح في المرض المميت.
     والآن : ما هو الحكم الشرعي في هذه المشكلة الاجتماعية ؟
     الجواب : بما أنّ حفظ نفوس العباد من المرض المهلك المميت واجب فيجب على الطبيب إعلان المرض للزوجة ـ مثلاً ـ بحيث تحفظ نفسها من الابتلاء بالمرض ، ولكن يجب أن يكون الإعـلان بصورة تُحفظ معها كرامة المصاب ، بحيث لا تخدش منزلته الاجتماعية (1).
     ويمكن تصوير إعلان المرض للزوجة مع حفظ كرامة المصاب بأنْ يُقرن الاعلان بتصريح من الطبيب : بأنَّ المرض لا يدل على ارتكاب المريض فاحشةً وفجوراً ، أو يؤكد الطبيب أنّ الانتقال قد حصل عن طريق نقل الدم أو استعمال الإبر الملوثة ، بحيث لا يكون الاعلان مؤدياً الى الانتقاص من شخصية المريض.
     ومن الطبيعيّ أن نترك للطبيب تشخيص وضع المجتمع وتقبّله بأنّ المرض قد نشأ من غير طريق المعاشرات الجنسية ، وتشخيص الوضع العائلي للمريض وتفهّمهم لحاله وكيفية الاهتمام به بحيث لا يكون الاعلان موجباً لهتك اعتبار المريض وطرده من المجتمع.
     ولنرجع الى بيان حكم المسائل العشر التي ذكرناها سابقاً فنقول :
     (1) كما لو كان المجتمع قد عرف أنّ هذا المرض أخذ ينتشر بغير طريق المعاشرة الجنسية ، وكان المجتمع يهتم بالمريض بحيث لا يُطرد من المجتمع.
(404)
أولاً : ما هو حكم عزل المصاب بالايدز ؟
     إن عزل المريض فيه نفع للمجتمع وللمريض معاً. أمّا للمجتمع فيتصور في الوقاية من انتشار المرض ، وأمّا للمريض فيتصور في حفظ المريض من أنْ تسري إليه العدوى بأمراض الآخرين وهو في حالة منهكة ، وتقديم الرعاية المركّزة له.
     وبناءً على ما ذكره المتخصّصون من الأطباء في أنّ العدوى بمرض الايدز تنتقل أساساً بثلاث طرق :
     1 ـ الاتصالات الجنسية.
     2 ـ الدم ومشتقاته ( سواء بنقل الدم العلاجي او باستخدام الإبر والمحاقن الملوثة بالفيروس ، ولا سيما في حالة تعاطي المخدرات حقناً ).
     ولكن من حسن الحظ قلّت خطورة العدوى بنقل الدم العلاجي بعد التأكد من خلو الدم من الفيروس بوسائل متطوّرة. أمّا انتقاله في حالة تعاطي المخدرات حقناً فلا تزال له خطورة كبيرة.
     3 ـ انتقال العدوى من الام لجنينها وهو في الرحم ، وهذا الانتقال يحصل بنسبة ضئيلة.
     وعلى هذا فلا مسوّغ لعزل المريض بالايدز من المجتمع في مصحّات خاصة ، لعدم وجود أي احتمال أساسي لانتقال المرض عن طريق الطعام أو الشراب أو المرافق الصحية أو المسابح أو التنفس أو المقاعد أو أدوات الطعام أو الملابس أو اللمس.
     ولكن هنا أمرٌ يتوجه الى المريض نفسه ، وهو : أن يتجنب طرق العدوى للآخرين (1) ممن هو محترم النفس ، لما ثبت من نصوص الشرع الحنيف
     (1) هناك روايات عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) مضمونها : أن لا عدوى في الاسلام. كما أنّ هناك روايات ـ كما ستأتي توجب عدم ورود الممرَض على المصحّ فهل هناك تعارض بينهما ؟
     والجواب : أنّ العرب في الجاهلية كانت تزعم وتعتقد أنّ المرض والعاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى ، فجاء الحديث يردّ هذه المزاعم ، فقال : « لا عدوى » اي لا عدوى بطبعها من دون إذن الله تعالى. وأمّا حديث لا يورد ممرَض على مصحّ فهو إرشاد الى حكم عقليٍّ يبعد الإنسان عن ضرر الآخرين عادةً بفعل الله تعالى وقدره ، ويحذّر الصحيح من الضرر الذي يحصل بفعل الله سبحانه وإرادته وقدره.

(405)
    من حرمة الاضرار وإلقاء الأنفس في التهلكة ; لأنّ مصير المريض بالايدز القبر لا محالة.
     وإليك النصوص :
     1 ـ « لا ضرر ولا ضرار في الاسلام » (1) حسب الحديث المشهور بين المسلمين.
     2 ـ قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « لا يوردُ ممرضٌ على مُصِحّ » (2).
     3 ـ قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « الطاعون رجز أو عذاب اُرسل على بني إسرائيل أو على مَن قبلكم ، فاذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، واذا وقع بأرض وانتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه » (3).
     فالنهي قد توجه الى الفرد الذي كان في ارض الطاعون ، وليس إلاّ لأجل احتمال إصابته وعدواه للآخرين ، فينتشر المرض في مساحة اكبر من الارض ، وفيه مفسدة للمجتمع أوجبت ذلك النهي (4).
     (1) تراجع مصادر الحديث في رسالة ( لا ضرر ولا ضرار ) لشيخ الشريعة الاصفهاني ، تحقيق مؤسسة آل البيت ( عليهم السلام ) ـ قم المقدّسة.
     (2) صحيح مسلم بشرح النووي : ج7 ، باب لا عدوى ، ح 2221 وما بعده.
     (3) المصدر السابق : ج 7 ، باب الطاعون والطيرة ، ح 2218.
     (4) إنّ الروايات الواردة في مرض الطاعون ( الوباء ) وجواز خروج من كان في أرض الطاعون على ثلاثة أقسام :
     الأول يقول : لا تخرج من أرض الطاعون مطلقاً.
     الثاني يقول : اُخرج من أرض الطاعون مطلقاً.
     الثالث يقول : اُخرج من أرض الطاعون اذا لم تكن في محل الاصابة ، ولا تخرج من ارض الطاعون اذا كنت في محل الاصابة. وهذا القسم هو شاهد جمع بين القسمين الأوّلين ، فممّـا روي في كتاب ( معاني الأخبار ) عن علي بن جعفر قال : سألت أخي موسى بن جعفر ( الامام الكاظم ) ( عليه السلام ) عن الوباء يقع في ارض هل يصلح للرجل أن يهرب منه ؟ قال ( عليه السلام ) : « يهرب منه ما لم يقع في ( أهل ) مسجده الذي يصلي فيه ، فاذا وقع في اهل مسجده الذي يصلي فيه فلا يصلح الهرب منه ». بحار الأنوار : ج6 ، ص122.

(406)
    وحينئذ نقول بذلك فيما نحن فيه ( مرض الايدز ) بالأولوية ، لأنّ كلامنا في من اُصيب بمرض الايدز قطعاً ، فيجب عليه التحرّز من عدوى الآخرين ، وهذه الأولوية هنا قطعية.
     4 ـ قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « فرّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد » (1).
     واذا أوجب الشارع الفرار من المجذوم فهل يمكن أن يجوّز للمجذوم أن يعدي الآخرين عن قصد وعمد ؟
     والجواب بالنفي; للمنافرة بين افراد الصحيح من المجذوم وجواز عدوى المجذوم لغيره عن عمد وقصد.
     وقد يقال في بطلان الاستدلال المتقدم على عدم جواز عدوى المريض للصحيح : بأنّ الروايات المتقدمة ـباستثناء الاُولىـ غير إلزامية ، بل هي إرشادية الى ما ينبغي أن يفعله المريض أو الصحيح.
     والجواب أولاً : أنّنا لا طريق لنا بالقطع بأنّ هذه الأوامر والنواهي غير إلزامية ، بل الآية القرآنية ( ... ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ... ) (2) تقول بإلزامية أوامر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ونواهيه في مورد الشك في كونها إلزاميةً أو إرشادية.
     ثانياً : اذا لم تكن الادلة المتقدمة إلزامية إلهية فهي من صلاحيات الحاكم
     (1) صحيح البخاري بحاشية السَنَدي : ج 4 ، باب الجذام ص 12 ، ط دار بيروت. من لا يحضره الفقيه : ج4 ، ص357 ، ط طهران.
     (2) الحشر : 7.

(407)
     ( على أقل تقدير ) فيجب ان يتجنب المريض بالايدز طرق عدوى الآخرين.
     ثالثاً : يكفينا للاستدلال على الحكم الشرعي الإلهي حديث ( لا ضرر ولا ضرار ) الذي يوجب على المريض عدم الاضرار بالآخرين ، ذلك الإضرار الذي يؤدي الى الموت.
     وقد يقال أيضاً : إنّ تجنب المريض طرق العدوى قد يكون واجباً وجوباً الهياً ، ولكن فيما اذا كان احتمال العدوى كبيراً جداً فإنّ المتخصّصين قد ذكروا : « أنّ درجة شدة سراية المرض أو احتمالات العدوى من جماع واحد لا تتعدّى نصفاً بالمائة ( أي مرّةً في كلّ مائتي مرة ) الا اذا كان احد الطرفين مصاباً بمرض تناسلي آخر فتصل نسبة احتمال العدوى الى اثنين بالمائة » (1).
     وهذه النسبة لا توجِد وجوباً على المصاب في تجنب المواقعة الجنسية ، لأنّ كلّ مواقعة جنسية يشكّ المصاب في حرمتها عليه لضآلة احتمال الاصابة فتكون العملية بالنسبة له محلّلة.
     أقول : صحيح أنّ احتمال الاصابة وإن كان ضئيلاً إلاّ أنّ المصاب يعلم من الاول بتعدد المقاربات الجنسية ، وهذا التعدد يقوّي احتمال الاصابة لا محالة ، فمثلاً اذا قارب هذا المصاب زوجته مائتين مرة في السنة فهناك احتمالات كثيرة :
     أولها : أنّ الاصابة وقعت في واحد من المائتين.
     وثانيها : أنّها وقعت في اثنين من المائتين ... الى وقوع الاصابة في جميع المائتين ، كما يبقى احتمال أنّ الإصابة لا تقع أصلاً (2).
     ونحن يهمنا نفي الاحتمال الأخير حتى تكون الاصابة متيقّنةً من الاتصالات
     (1) رؤية إسلامية للمشاكل الاجتماعية لمرض الايدز : 17 ، د. احمد رجائي الجندي.
     (2) وأمّا ما هو اكبر الاحتمالات ؟ فالجواب : أنّ أكبر الاحتمالات هو ما كانت له صور متعددة ممكنة ; ولمعرفة ذلك لابدّ من مراجعة نظرية التوزيع لـ ( برنولي ) لمعرفة أقوى الاحتمالات ، واذا عرفنا أقوى الاحتمالات فإنّ هذا لا يجعل الاحتمالات الاُخرى صغيرةً بدرجة يمكن إهمالها.

(408)
    الجنسية المتعددة وإن كان احتمال الاصابة في المرة الاُولى أو في غيرها ضعيفاً.
     واذا نفي الاحتمال الأخير ـ ولو بأن نفرض أنّ المقاربات ستمائة مرّةً في ثلاث سنين ـ فهل يكفي هذا للقول بحرمة اتصال المريض بزوجته اذا كان يعلم أنّه يقاربها بالقدر المتقدم من المقاربات ، أو يبقى جواز ذلك ، لأنّه في كل مرّة يبقى عنده احتمال الإصابة احتمالاً ضعيفاً لا يعتدّ به ؟
     الجواب : اذا نفي الاحتمال الاخير أو أصبح غير عرفي فلابد من القول بحرمة الاتصالات الجنسية ، لأنَّه إلقاء للنفس في التهلكة (1).
     وأمّا اذا كان احتمال الإصابة قد قوي بصورة عرفية ، بحيث يكون العرف مهتماً بهذا الاحتمال ( ولم ينتف الاحتمال الاخير ) وكان المحتمل مهماً جداً ـ كالموت كما في فرضنا ـ فلا يبعد ان تكون القاعدة هي منع المريض من الاتصال بزوجته ( قبل ان يخبرها بالواقع ) وذلك :
     أ ـ لأنّ أدلة حرمة الاضرار تشكل هذه الصورة عرفاً.
     ب ـ كما أنّ الرواية المروية عن الرسول الاعظم ( صلى الله عليه وآله ) القائلة : « اذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها ، واذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها » تشمل ما نحن فيه ; حيث إنّ وقوع الطاعون بأرض وأنا فيها ليس معناه أنّني مصاب بالطاعون قطعاً ، وليس معناه أنّني سوف أنقل مرضي ـ على تقدير وجوده ـ للآخرين ، بل يحتمل أن أكون مصاباً ، ويحتمل أن أنقل المرض للآخرين ، وهذا الاحتمال عقلائي ، فَمنَعَ الشارع الشخص الموجود في أرض الطاعون من خروجه منها ، وما نحن فيه أيضاً كذلك ; لأنّ احتمال الإصابة اذا كان معتدّاً به فللشارع المقدّس أن يمنع من إيجاد طرق العدوى.
     فاذا قلنا : إنّ الطاعون قد ذكر في الرواية كمثال فيكون ما نحن فيه مشمولاً
     (1) بناءً على منجزية العلم الإجمالي التدريجي.
(409)
    للمنع ، كما أنّ رواية « لايورد ممرض على مصحّ » تفيد نفس المعنى المتقدم.
     وبعبارة اُخرى : أنّ الشارع قد اهتم بنفسه لسدّ طرق العدوى المحتملة احتمالاً عقلائياً ، فاذا كانت طرق العدوى من الاتصال الجنسي بين الزوج وزوجته محتملةً احتمالاً عقلائياً ، ومع عدم الفرق بين الطاعون ومرض الايدز فالمنع حسب النص هو الصحيح.
     كما أنّ أهل الخبرة في الطب قد أمروا بالتحرز من مصاحبة أهل الأمراض المعدية ، ومن طرق نقل العدوى ، وكما يرجع اليهم في تشخيص الدواء فكذلك يرجع اليهم في هذا وأشباهه.

ثانياً : ما هو حكم تعمّد نقل العدوى ؟
     إنّ تعمّد نقل العدوى الى الآخرين عمل محرم; لارتكازية حرمة الإضرار بالآخرين; وبخاصة الأضرار المؤدية الى الموت.
     ثمّ إنّ القتل بالاسباب الخفية يوجب القصاص اذا استند القتل اليها ، كالقتل بالاسباب الظاهرة بلا فرق بينهما; وذلك لما دلّ على أنّ إسناد القتل الى شخص مع سبق النية عليه يوجب القصاص ، وبما أنّ العدوى لمرض الايدز مع الاصرار عليها توجب اسناد القتل الى المعدِي ـ حامل الفيروس ـ فهي توجب القصاص. واليك التفصيل :
     أ ـ اذا كان قصد المعدي هو قتل مَن يَنقل اليه المرض ، وقد تحقق القتل قبل أن يموت المعدِي فيثبت على المعدِي القود ( القصاص ).
     ب ـ اذا كان قصد المعدي هو قتل المعدى ، وقد تحقق القتل بعد أن مات المعدي فالحكم هو ثبوت الدية في ما تركه المعدي ، وذلك لعدم إمكان القصاص فنتنزّل الى الدية.
     ج ـ اذا كان قصد ناقل المرض هو قتل من ينقل اليه المرض وقد حصلت


(410)
    العدوى فقط فهنا لا يجوز قتل الناقل ( المصاب ) ; وذلك لعدم جواز القصاص قبل وقوع الجناية ( القتل ).
     ولا ينطبق على قتل الناقل عنوان الدفاع عن النفس ، ولكن يستحق الناقل للمرض التعزير من قبل الحاكم الشرعي حسب ما يراه مناسباً.
     د ـ إذا كان قصد الناقل للمرض ( أي حامل الفيروس ) هو قتل الآخر ( المنقول اليه المرض ) ولم تحصل الاصابة بالمرض فان توقف الدفاع عن النفس والممانعة عن العدوى على قتله جاز قتله دفاعاً عن النفس ، كما اذا أجبر ( حامل الفيروس ) الآخر السليم على المواقعة الجنسية بقصد تلويثه بالمرض ، أو أجبره على ثقب جسمه بإبرة ملوثة ، أو أراد نقل الدم من بدنه الى بدن السليم بقصد العدوى.
     واذا رُفعت دعوى ( قصد المعدي عمداً ) الى الحاكم الشرعي عند عدم حصول العدوى وأقرّ التاقل بها فيستحق التعزير أيضاً.
     هـ ـ إذا كان قصد ( حامل الفيروس ) نقل المرض الى المجتمع ( لإشاعة الفساد ) وصرح بذلك ، وتوقف التحفظ عن سراية مرضه الى المجتمع على قتله جاز قتله ، بل وجب ، وذلك دفاعاً عن النفوس التي يجب حفظها عن المرض المهلك.
     وأمّا إذا لم يتوقف التحفظ منه على قتله ، كما اذا أمكن سجنه بصورة انفرادية فلا يجوز قتله ، بل يعزّر بالسجن طيلة عمره ، لأنَّ المرض ملازم له حتى الموت حسب قول المتخصصين في هذا الوقت.
     و ـ إذا كان قصد حامل الفيروس نقل المرض لفرد معين واعترف بذلك ولم تحصل الاصابة فينطبق عليه عنوان التجري وحكمه فلا يبعد استحقاقه التعزير بسبب قصده الإيذاء وإيقاع الفساد.
     ز ـ وإذا لم يكن قصد المصاب العدوى ـ وقد حصلت في الخارج ـ فيكون

بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: فهرس