ثم قال صاحب الكتاب : وهذه الخطابية يدعي الامامة لجعفر بن محمد من أبيه عليهما السلام بالوراثة والوصية ، ويقفون على رجعته ، ويخالفون كل من قال بالامامة و يزعمون أنكم وافقتموهم في إمامة جعفر عليه السلام وخالفوكم فيمن سواه .
فأقول ـ وبالله الثقة ـ : ليس تصح الامامة بموافقة موافق ولا مخالفة مخالف وإنما تصح بأدلة الحق وبراهينه وأحسب أن صاحب الكتاب غلط والخطابية قوم غلاة ، وليس بين الغلو والامامة ( 1 ) نسبة ، فان قال : فاني أردت الفرقة التي وقفت عليه ( 2 ) قيل له : فيقال لتلك الفرقة : نعلم أن الامام بعد جعفر موسى بمثل ما علمتم أنتم به أن الامام بعد محمد بن علي جعفر ، ونعلم أن جعفرا مات كما نعلم أن أباه مات والفصل بيننا وبينكم هو الفصل بينكم وبين السبائية والواقفة على أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، فقولوا كيف شئتم ( 3 ) .
ويقال لصاحب الكتاب : وأنت فما الفصل بينك وبين من اختار الامامة لولد العباس وجعفر وعقيل أعني لاهل العلم والفضل منهم واحتج باللغة في أنهم من عترة الرسول ، وقال : إن الرسول صلى الله عليه وآله عم جميع العترة ولم يخص إلا ثلاثة ( 4 ) هم أمير المؤمنين والحسن والحسين صلوات الله عليهم عرفناه وبين لنا .
ثم قال صاحب الكتاب : وهذه الشمطية تدعي إمامة عبد الله بن جعفر بن محمد من أبيه ( 5 ) بالوراثة والوصية وهذه الفطحية تدعي إمامة إسماعيل بن جعفر ( 6 ) عن
____________
( 1 ) في بعض النسخ « والامامية » .
( 2 ) يعني علي جعفر بن محمد عليهما السلام .
( 3 ) يعني كل ما قلتم في رد السبائية فنحن عارضناكم بمثله .
( 4 ) كذا . وفي هامش بعض النسخ : الظاهر « ولم يخص بالثلاثة » . أقول : ويمكن أن يكون « الا » في قوله « الا ثلاثة » زائدا من سهو النساخ . .
( 5 ) كذا . وفى فرق الشيعة للنوبختي « السمطية هم الذين جعلوا الامامة في محمد ابن جعفر وولده من بعده وهذه الفرقة تسمى » السمطية « نسبة إلى رئيس لهم يقال له يحيى ابن أبي السميط » انتهى . وفي المحكى عن المقريزي يحيى بن شميط الاحمسي ويذكر انه كان قائدا من قواد مختار بن أبي عبيدة الثقفي « والظاهر التعدد لتقدم المختار عن محمد بتسعين سنة .
( 6 ) كذا . وفي كتاب النوبختي الفطحية فرقة يقولون بامامة عبد الله بن جعفر وسموا

( 102 )

أبيه بالوراثة والوصية ، وقبل ذلك ( إن‍ ) ـ ما قالوا بامامة عبد الله بن جعفر ويسمون اليوم إسماعيلية لانه لم يبق للقائلين بامامة عبد الله بن جعفر خلف ولا بقية ، وفرقة من الفطحية يقال لهم : القرامطة ( 1 ) قالوا بامامه محمد بن إسماعيل بن جعفر بالوراثة والوصية . وهذه الواقفة على موسى بن جعفر تدعي الامامة لموسى وترتقب لرجعته .
وأقول : الفرق بيننا وبين هؤلاء سهل واضح قريب :
أما الفطحية فالحجة عليها أوضح من أن تخفى لان إسماعيل مات قبل أبي عبد الله عليه السلام ، والميت لا يكون خليفة الحي ، وإنما يكون الحي خليفة الميت ، ولكن القوم عملوا على تقليد الرؤساء وأعرضوا عن الحجة وما في بابها . وهذا أمر لا يحتاج فيه على إكثار لانه ظاهر الفساد ، بين الانتقاد .
وأما القرامطة فقد نقضت الاسلام حرفا حرفا ، لانها أبطلت أعمال الشريعة و جاءت بكل سوفسطائية ، وإن الامام إنما يحتاج إليه للدين وإقامة حكم الشريعة فإذا جاءت القرامطة تدعي أن جعفر بن محمد أو وصيه استخلف رجلا دعا إلى نقض الاسلام والشريعة والخروج عما عليه طبايع الامة لم نحتج في معرفة كذبهم إلى أكثر من دعواهم المتناقض الفاسد الركيك .
____________
بذلك لان عبد الله كان أفطح الرأس ، وقال بعضهم : كان أفطح الرجلين ، وقال بعض الرواة : نسبوا إلى رئيس لهم من أهل الكوفة يقال له : عبد الله بن فطيح .
( 1 ) هم فرقة من المباركية وانما سموا بهذا برئيس لهم من أهل السواد من الانباط كان يلقب « قرمطويه » كانوا في الاصل على مقالة المباركية ثم خالفوهم فقالوا : لا يكون بعد محمد صلى الله عليه وآله الا سبعة أئمة علي بن ابي طالب إلى جعفر بن محمد ثم محمد بن اسماعيل وهو الامام القائم المهدي وهو رسول . وزعموا أن النبي انقطعت عنه الرسالة في حياته في اليوم الذي امر فيه بنصب علي بن أبي طالب عليه السلام للناس في غدير خم ، فصارت الرسالة في ذلك اليوم في علي بن أبي طالب ، واعتلوا في ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وآله « من كنت مولاه فهذا على مولاه » وأن هذا القول منه خروج من الرسالة والنبوة والتسليم منه في ذلك لعلي عليه السلام بامر الله عزو جل وأن النبي صلى الله عليه وآله بعد ذلك كان مأموما لعلي محجوجا به . ( قال النوبختي ) وفي تلبيس ابليس لابن الجوزي تحقيق لسبب تسمية القرامطة بهذا الاسم .

( 103 )

وأما الفصل بيننا وبين سائر الفرق فهو أن لنا نقله أخبار وحملة آثار قد طبقوا البلدان كثرة ، ونقلوا عن جعفر بن محمد عليهما السلام من علم الحلال والحرام ما يعلم بالعادة الجارية والتجربة الصحيحة أن ذلك كله لا يجوز أن يكون كذبا مولدا ، وحكوا مع نقل ذلك عن أسلافهم أن أبا عبد الله عليه السلام أوصى بالامامة إلى موسى عليه السلام ، ثم نقل إلينا من فضل موسى عليه السلام وعلمه ما هو معروف عند نقله الاخبار ، ولم نسمع لهؤلاء بأكثر من الدعوى وليس سبيل التواتر وأهله سبيل الشذوذ وأهله ، فتأملوا الاخبار الصادقة تعرفوا بها فصل ما بين موسى عليه السلام ومحمد وعبد الله بني جعفر ، وتعالوا نمتحن هذا الامر بخمس مسائل من الحلال والحرام مما قد أجاب فيه موسى عليه السلام فان وجدنا لهذين فيه جوابا عند أحد من القائلين بامامتهما فالقول كما يقولون ، وقد روت الامامية أن عبد الله بن جعفر سئل كم في مائتي درهم ؟ قال : خمسة دراهم ، قيل له : وكم في مائة درهم ؟ فقال : درهمان ونصف ( 1 ) .
ولو أن معترضا اعترض على الاسلام وأهله فادعى أن ههنا من قد عارض القرآن ( 2 ) وسألنا أن نفصل بين تلك المعارضة والقرآن ، لقلنا له : أما القرآن فظاهر ، فأظهر تلك المعارضة حتى نفصل بينها وبين القرآن . وهكذا نقول لهذه الفرق ، أما أخبارنا فهي مروية محفوظة عند أهل الامصار من علماء الامامية فأظهروا تلك الاخبار التي تدعونها حتى نفصل بينها وبين أخبارنا ، فأما أن تدعوا خبرا لم يسمعه سامع ولاعرفه أحد ثم تسألونا الفصل بين ( هذا ) الخبر فهذا مالا يعجز عن دعوى مثله أحد ، ولو أبطل مثل هذه الدعوى أخبار أهل الحق من الامامية لابطل مثل هذه الدعوى من البراهمة أخبار المسلمين ، وهذه واضح ولله المنة .
وقد ادعت الثنوية أن ماني أقام المعجزات وأن لهم خبرا يدل على صدقهم ،
____________
( 1 ) يعني لم يعلم عبد الله أن نصاب الدرهم في الزكاة مائتان ، ولا زكاة فيما دون ذلك فأجاب في المسألة بالقياس وأخطأ .
( 2 ) يعني ادعى أنه جاء رجل وأتى بمثل هذا القرآن .

( 104 )

فقال لهم الموحدون : هذه دعوى لا يعجز عنها أحد فأظهروا الخبر لندلكم على أنه لا يقطع عذرا ولا يوجب حجة ، وهذا شبيه بجوابنا لصاحب الكتاب .
ويقال لصاحب الكتاب : قد ادعت البكرية والاباضية ( 1 ) أن النبي صلى الله عليه وآله نص على أبي بكر وأنكرت أنت ذلك كما أنكرنا نحن أن أبا عبد الله عليه السلام أوصى إلى هذين ، فبين لنا حجتك ودلنا على الفصل بينك وبين البكرية والاباضية لندلك بمثله على الفصل بيننا وبين من سميت .
ويقال لصاحب الكتاب : أنت رجل تدعى أن جعفر بن محمد كان على مذهب الزيدية وأنه لم يدع الامامة من الجهة التي تذكرها الامامية وقد ادعى القائلون بامامة محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد خلاف ما تدعيه أنت وأصحابك ويذكرون أن أسلافهم رووا ذلك عنه فعرفنا الفصل بينكم وبينهم لنأتيك بأحسن منه ، وأنصف من نفسك فإنه أولى بك .
وفرق آخر : وهو أن أصحاب محمد بن جعفر وعبد الله بن جعفر معترفون بأن الحسين نص على علي وأن عليا نص محمد وأن محمد انص علي جعفر ودليلنا أن جعفرا نص على موسى عليهم السلام هو بعينه دون غيره دليل هؤلاء على أن الحسين نص على على ، وبعد فان الامام إذا كان ظاهرا واختلف إليه ( 2 ) شيعته ظهر علمه وتبين معرفته بالدين ، ووجدنا رواة الاخبار وحملة الاثار قد نقلوا عن موسى من علم الحلال والحرام ما هو مدون مشهور ، وظهر من فضله في نفسه ما هو بين عند الخاصة والعامة وهذه هي أمارات الامامة فلما وجدناها لموسى دون غيره علمنا أنه الامام بعد أبيه دون أخيه .
وشيء آخر : وهو أن عبد الله بن جعفر مات ولم يعقب ذكرا ولا نص على أحد فرجع القائلون بامامته عنها إلى القول بامامة موسى عليه السلام والفصل بعد ذلك بين أخبارنا وأخبارهم هو أن الاخبار لا توجب العلم حتى يكون في طرقه وواسطته قوم يقطعون
____________
( 1 ) الاباضية : فرفة من الخوارج أصحاب عبد الله بن اباض التميمي .
( 2 ) يعني بالاختلاف الاياب والذهاب .

( 105 )

العذر إذا أخبروا ، ولسنا نشاح ( 1 ) هؤلاء في أسلافهم بل نقتصر على أن يوجدونا في دهرنا من حملة الاخبار ورواة الاثار ممن يذهب مذهبهم عددا يتواتر بهم الخبر كما نوجدهم نحن ذلك ، فان قدروا على هذا فليظهروه ، وإن عجزوا فقد وضح الفرق بيننا وبينهم في الطرف الذي يلينا ويليهم ( 2 ) وما بعد ذلك موهوب لهم وهذا واضح والحمد لله .
وأما الواقفة على موسى عليه السلام فسبيلهم سبيل الواقفة على أبي عبد الله عليه السلام ، ونحن فلم نشاهد موت أحد من السلف وإنما صح موتهم عندنا بالخبر فان وقف واقف على بعضهم سألناه الفصل بينه وبين من وقف على سائرهم وهذا مالا حيلة لهم فيه .
ثم قال صاحب الكتاب : ومنهم فرقة قطعت على موسى وائتموا بعده بابنه علي ابن موسى عليهما السلام دون سائر ولد موسى عليه السلام وزعموا أنه استحقها بالوراثة والوصية ، ثم في ولده حتى انتهوا إلى الحسن بن علي عليهما السلام فادعوا له ولدا وسموه الخلف الصالح فمات قبل أبيه ( 3 ) ، ثم إنهم رجعوا إلى أخيه الحسن وبطل في محمد ما كانوا توهموا ـ وقالوا : بدا لله من محمد إلى الحسن كما بدا له من إسماعيل بن جعفر إلى موسى و قد مات إسماعيل في حياة جعفر ـ إلى أن مات الحسن بن علي في سنة ثلاث وستين ومأتين فرجع بعض أصحابه إلى إمامة جعفر بن علي ، كما رجع أصحاب محمد بن ـ علي بعد وفاة محمد إلى الحسن ، وزعم بعضهم أن جعفر بن علي استحق الامامة من أبيه علي بن محمد بالوراثة والوصية دون أخيه الحسن ، ثم نقلوها في ولد جعفر بالوراثة والوصية ، وكل هذه الفرق يتشاحون على الامامة ويكفر بعضهم بعضا ، ويكذب بعضهم بعضا ، ويبرأ بعضهم من إمامة بعض ، وتدعي كل فرقة الامامة لصاحبها بالوراثة والوصية وأشياء من علوم الغيب ، الخرافات أحسن منها ولا دليل لكل فرقة فيما تدعي وتخالف الباقين غير الوراثة والوصية ، دليلهم شهادتهم لانفسهم
____________
( 1 ) أي لا ننازع .
( 2 ) في بعض النسخ « بيننا وبينهم » .
( 3 ) في بعض النسخ بعد قوله : « وسموه الخلف الصالح » هكذا « ومنهم فرقة قالت بامامة محمد بن علي فمات قبل أبيه ثم انهم رجعوا إلى أخيه الحسن ـ الخ » .

( 106 )

دون غيرهم قولا بلا حقيقة ودعوى بلا دليل ، فإن كان ههنا دليل فيما يدعي كل طائفة غير الوراثة والوصية وجب إقامته وإن لم يكن غير الدعوى للامامة بالوراثة والوصية فقد بطلت الامامة لكثرة من يدعيها بالوراثة والوصية ولا سبيل إلى قبول دعوى طائفة دون الاخرى إن كانت الدعوى واحدة ، ولا سيما وهم في إكذاب بعضهم بعضا مجتمعون ، وفيما يدعى كل فرقة منهم منفردون .
فأقول ـ والله الموفق للصواب ـ : لو كانت الامامة تبطل لكثرة من يدعيها لكان سبيل النبوة سبيلها ، لانا نعلم أن خلقا قد ادعاها ، وقد حكى صاحب الكتاب عن الامامية حكايات مضطربة وأوهم أن تلك مقالة الكل وأنه ليس فيهم إلا من يقول بالبداء .
ومن قال : إن الله يبدو له من إحداث رأي وعلم مستفاد فهو كافر بالله . وما كان غير هذا فهو قول المغيرية ، ومن ينحل للائمة علم الغيب . فهذا كفر بالله ، وخروج عن الاسلام عندنا .
وأقل ما كان يجب عليه أن يذكر مقالة أهل الحق ، وأن لا يقتصر على أن القوم اختلفوا حتى يدل على أن القول بالامامة فاسد .
وبعد فان الامام عندنا يعرف من وجوه سنذكرها ثم نعتبر ما يقول هؤلاء ، فان لم نجد بيننا وبينهم فصلا حكمنا بفساد المذهب ، ثم عدنا نسأل صاحب الكتاب عن أن أي قول هو الحق من بين الاقاويل :
أما قوله : « إن منهم فرقة قطعت على موسى وائتموا بعده بابنه علي بن موسى » فهو قول رجل لا يعرف أخبار الامامية ( 1 ) لان كل الامامية ـ إلا شرذمة وقفت وشذوذ قالوا بامامة إسماعيل وعبد الله بن جعفر ـ قالوا بامامة علي بن موسى ورووا فيه ما هو مدون في الكتب ، وما يذكر من حملة الاخبار ونقلة الاثار خمسة مالوا إلى هذه المذاهب في أول حدوث الحادث ، وإنما كثر من كثر منهم بعد ، فكيف استحسن صاحب
____________
( 1 ) في بعض النسخ « أخبار الناس » .
( 107 )

الكتاب أن يقول : « ومنهم فرقة قطعت على موسى » ؟ وأعجب من هذا قوله « حتى انتهوا إلى الحسن فادعوا له ابنا » وقد كانوا في حياة علي بن محمد وسموا للامامة ابنه محمدا إلا طائفة من أصحاب فارس بن حاتم ، وليس يحسن بالعاقل أن يشنع على خصمة بالباطل الذي لا أصل له .
والذي يدل على فساد قول القائلين بامامة محمد هو بعينه ما وصفناه في باب إسماعيل ابن جعفر لان القصة واحدة وكل واحد منهما مات قبل أبيه ، ومن المحال أن يستخلف الحي الميت ويوصي إليه بالامامة ، وهذا أبين فسادا من أن يحتاج في كسره إلى كثرة القول .
والفصل بيننا وبين القائلين بامامة جعفر أن حكاية القائلين بامامته عنه اختلفت وتضادت لان منهم ومنا من حكى عنه أنه قال : « إني إمام بعد أخي محمد » ومنهم من حكى عنه أنه قال : « إني إمام بعد أخي الحسن » ومنهم من قال : إنه قال : « إني إمام بعد أبي علي بن محمد » .
وهذه أخبار كما ترى يكذب بعضها بعضا ، وخبرنا في أبي الحسن بن علي خبر متواتر لا يتناقض وهذا فصل بين ، ثم ظهر لنا من جعفر ما دلنا على أنه جاهل ، بأحكام الله عزوجل وهو أنه جاء يطالب أم أبي محمد بالميراث وفي حكم آبائه « أن الاخ لا يرث مع الام » فإذا كان جعفر لا يحسن هذا المقدار من الفقه حتى تبين فيه نقصه وجهله ، كيف يكون إماما ؟ وإنما تعبدنا الله بالظاهر من هذه الامور ولو شئنا أن نقول لقلنا وفيما ذكرناه كفاية ودلالة على أن جعفرا ليس بامام .
وأما قوله : « إنهم ادعوا للحسن ولدا » فالقوم لم يدعوا ذلك إلا بعد أن نقل إليهم أسلافهم حاله وغيبته وصورة أمره واختلاف الناس فيه عند حدوث ما يحدث ، وهذه كتبهم فمن شاء أن ينظر فيها فلينظر .
وأما قوله : « إن كل هذه الفرق يتشاحون ( 1 ) ويكفر بعضهم بعضا » فقد صدق
____________
( 1 ) أي يتنازعون . وتشاح القوم أو الخصمان في الجدل : أراد كل أن يكون هو الغالب .
( 108 )

في حكايته وحال المسلمين في تكفير بعضهم بعضا هذه الحال ، فليقل كيف أحب ، وليطعن كيف شاء ، فان البراهمة تتعلق به فتطعن بمثله في الاسلام من سأل خصمه عن مسألة يريد بها نقض مذهبه إذا ردت عليه كان فيها من نقض مذهبه مثل الذي قدر أن يلزمه خصمه ، فإنما هو رجل يسأل نفسه وينقض قوله ، وهذه قصة صاحب الكتاب ، و النبوة أصل والامامة فرع فإذا أقر صاحب الكتاب بالاصل لم يحسن به أن يطعن في الفرع بما رجع على الاصل والله المستعان .
ثم قال : ولو جازت الامامة بالوراثة والوصية لمن يدعى له بلا دليل متفق عليه لكانت المغيرية أحق بها للاجماع الكل معها على إمامة الحسن بن علي الذي هو أصلها المستحق للامامة من أبيه بالوراثة والوصية وامتناعها بعد اجماع الكل معها على إمامة الحسن من إجازتها لغيره .
هذا مع اختلاف المؤتمة في دينهم ، منهم من يقول بالجسم ، ومنهم من يقول بالتناسخ . ومنهم من تجرد التوحيد ومنهم من يقول بالعدل ويثبت الوعيد ، ومنهم من يقول بالقدر ويبطل الوعيد . ومنهم من يقول بالرؤية ، ومنهم من ينفيها مع القول بالبداء ، وأشياء يطول الكتاب بشرحها ، يكفر بها بعضهم بعضا ويتبرأ بعضهم من دين بعض ولكل فرقة من هذه الفرق بزعمها رجال ثقات عند أنفسهم ، أدوا إليهم عن أئمتهم ما هم متمسكون به .
ثم قال صاحب الكتاب : وإذا جاز كذا جاز كذا ، شيء لا يجوز عندنا ولم نأت بأكثر من الحكاية ، فلا معنى لتطويل الكتاب بذكر ما ليس فيه حجة ولا فائدة .
فأقول ـ وبالله الثقة لو كان الحق لا يثبت إلا بدليل متفق عليه ما صح حق أبدا ولكان أول مذهب يبطل مذهب الزيدية لان دليلها ليس بمتفق عليه ، وأما ما حكاه عن المغيرية فهو شئ أخذته عن اليهود لانها تحتج أبدا باجماعنا وإياهم على نبوة موسى عليه السلام ومخالفتهم إينا في نبوة محمد صلى الله عليه وآله .
وأما تعييره إيانا بالاختلاف في المذاهب وبأنه كل فرقة منا تروي ما تدين به عن أمامها ، فهو مأخوذ من البراهمة لانها تطعن به ـ بعينه دون غيره ـ على الاسلام


( 109 )

ولولا الاشفاق من أن يتعلق بعض هؤلاء المجان ( 1 ) بما أحكيه عنهم لقلت كما يقولون . والامامة ـ أسعدكم الله ـ إنما تصح عندنا بالنص وظهور الفضل والعلم بالدين مع الاعراض عن القياس والاجتهاد في الفرائض السمعية وفي فروعها ومن هذا الوجه عرفنا إمامة الامام ، وسنقول في اختلاف الشيعة قولا مقنعا .
قال صاحب الكتاب : ثم لم يخل اختلافهم من أن يكون مولدا من أنفسهم أو من عند الناقلين إليهم أو من عند أئمتهم ، فان كان اختلافهم من قبل أئمتهم فالامام من جمع الكلمة ، لا من كان سببا للاختلاف بين الامة لاسيما وهم أولياؤه دون أعدائه ، ومن لا تقية بينهم وبينه ، وما الفرق بين المؤتمة والامة إذ كانوا ( 2 ) مع أئمتهم وحجج الله عليهم في أكثر ما عابوا على الامة التى لا إمام لها من المخالفة في الدين وإكفار بعضهم بعضا ، وإن يكن اختلافهم من قبل الناقلين إليهم دينهم فما يؤمنهم من أن يكون هذا سبيلهم معهم فيما ألقوا إليه من الامامة ، لا سيما إذا كان المدعى له الامامة معدوم العين غير مرئي الشخص ، وهو حجة عليهم فيما يدعون لامامهم من علم الغيب إذا كان خيرته والتراجمة بينه وبين شيعته كذا بين يكذبون عليه ، ولا علم له بهم ، وإن يكن اختلاف المؤتمة في دينها من قبل أنفسها دون أئمتها فما حاجة المؤتمة إلى الائمة إذ كانوا بأنفسهم مستغنين وهو بين أظهرهم ولا ينهاهم وهو التراجمان لهم من الله والحجة عليهم ؟ هذا أيضا من أدل الدليل على عدمه وما يدعى من علم الغيب له ، لانه لو كان موجودا لم يسعه ترك البيان لشيعته كما قال الله عزوجل : « وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه ـ الاية » ( 3 ) فكما بين الرسول صلى الله عليه وآله لامته وجب على الامام مثله لشيعته .
فأقول ـ وبالله الثقة ـ : إن اختلاف الامامية إنما هو من قبل كذا بين دلسوا
____________
( 1 ) مجن الشيء غلظ وصلب . مزح وقل حياء ، كانه صلب وجهه فهو ما جن والجمع مجان ، وفيء بعض النسخ « الفجار » وفى بعضها « المخالفين » . والاشفاق : الخوف .
( 2 ) في بعض النسخ « بين المؤتمة والائمة إذا كانوا » .
( 3 ) النحل : 66 .

( 110 )

أنفسهم فيهم في الوقت بعد الوقت ، والزمان بعد الزمان ، حتى عظم البلاء ، وكان أسلافهم قوم يرجعون إلى ورع واجتهاد وسلامة ناحية ، ولم يكونوا أصحاب نظر و تميز فكانوا إذا رأوا رجلا مستورا يروي خبرا أحسنوا به الظن وقبلوه ، فلما كثر هذا وظهر شكوا إلى أئمتهم فأمرهم الائمة عليهم السلام بأن يأخذوا بما يجمع عليه فلم يفعلوا وجروا على عادتهم ، فكانت الخيانة من قبلهم لامن قبل أئمتهم ، والامام أيضا لم يقف على كل هذه التخاليط التي رويت لانه لا يعلم الغيب ( 1 ) ، وإنما هو عبد صالح يعلم الكتاب والسنة ، ويعلم من أخبار شيعته ما ينهى إليه .
وأما قوله « فما يؤمنهم أن يكون هذا سبيلهم فيما ألقوا إليهم من أمر الامامة » فإن الفصل بين ذلك أن الامامة تنقل إليهم بالتواتر ، والتواتر لا ينكشف عن كذب وهذه الاخبار فكل واحد منها إنما خبر واحد لا يوجب خبره العلم وخبر الواحد قد يصدق ويكذب وليس هذا سبيل التواتر . هذا جوابنا وكل ما أتى به سوى هذا فهو ساقط .
ثم يقال له : أخبرنا عن اختلاف الامة هل تخلوا من الاقسام التي قسمتها ؟ فإذا قال : لا ، قيل له : أفليس الرسول إنما بعث لجمع الكلمة ؟ فلابد من نعم ، فيقال له : أو ليس قد قال الله عزوجل : « وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه » ؟ فلابد من نعم ، فيقال له : فهل بين ؟ فلابد من نعم ، فيقال له : فما سبب الاختلاف عرفناه واقنع منا بمثله .
وأما قوله : « فما حاجة المؤتمة إلى الائمة إذ كانوا بأنفسهم مستغنين وهو بين أظهرهم لا ينهاهم ـ إلى آخر الفصل » فيقال له : أولى الاشياء بأهل الدين الانصاف أي قول قلناه ؟ وأومأنا به إلى أنا بأنفسنا مستغنين حتى يقرعنا به صاحب الكتاب ويحتج علينا أو أي حجة توجهت له علينا توجب ما أوجبه ؟ ومن لم يبال بأي شيء قابل خصومه كثرت مسائله وجواباته .
____________
( 1 ) أي لا يعلمه بذاته ومن عند نفسه بل يعلم الغيب من جانب الله تعالى متى أراد إذا أراد الله أن يعلمه .
( 111 )

وأما قوله : « وهذا من أدل دليل على عدمه لانه لو كان موجودا لم يسعه ترك البيان لشيعته كما قال الله عزوجل : « وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه » فيقال لصاحب الكتاب : أخبرنا عن العترة الهادية يسعهم أن لا يبينوا للامة الحق كله ؟ فان قال : نعم حج نفسه وعاد كلامه وبالا عليه لان الامة قد اختلفت وتباينت وكفر بعضها بعضا ، فان قال : لا ، قيل : هذا من أدل دليل على عدم العترة وفساد ما تدعيه الزيدية لان العترة لو كانوا كما تصف الزيدية لبينوا للامة ولم يسعهم السكوت والامساك ، كما قال الله عزوجل : « وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه » فان ادعى أن العترة قد بينوا الحق للامة غير أن الامة لم تقبل ومالت إلى الهوى ، قيل له : هذا بعينه قول الامامية في الامام و شيعته . ونسأل الله التوفيق .
ثم قال صاحب الكتاب : ويقال لهم ( لم ) استتر إمامكم عن مستر شده ؟ فان قالوا : تقية على نفسه ، قيل لهم : فالمسترشد أيضا يجوز له أن يكون في تقية من طلبه لاسيما إذا كان المسترشد يخاف ويرجو ولا يعلم ما يكون قبل كونه فهو في تقية ، وإذا جازت التقية للامام فهي للمأموم أجوز ، وما بال الامام في تقية من أرشادهم وليس هو في تقية من تناول أموالهم والله يقول : « اتبعوا من لا يسئلكم أجرا ـ الاية » ( 1 ) وقال : إن كثيرا من الاحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله » ( 2 ) فهذا مما يدل على أن أهل الباطل عرض الدنيا يطلبون ، والذين يتمسكون بالكتاب لا يسألون الناس أجرا وهم مهتدون . ثم قال : وإن قالوا كذا قيل كذا فشيء لا يقوله إلا جاهل منقوص .
والجواب عما سأل : أن الامام لم يستتر عن مسترشده إنما استتر خوفا على نفسه من الظالمين . فأما قوله : « فإذا جازت التقية للامام فهي للمأموم أجوز » فيقال له : إن كنت تريد أن المأموم يجوز له أن يتقي من الظالم ويهرب عنه متى خاف على نفسه
____________
( 1 ) يس : 21 .
( 2 ) التوبة : 34 .

( 112 )

كما جاز للامام فهذا لعمري جائز ، وإن كنت تريد أن المأموم يجوز له أن لا يعتقد إمامة الامام للتقية فذلك لا يجوز إذا قرعت الاخبار سمعه وقطعت عذره ، لان الخبر الصحيح يقوم مقام العيان وليس على القلوب تقية ، ولا يعلم ما فيها إلا الله .
وأما قوله : « وما بال الامام في تقية من إرشادهم وليس في تقية من تناول أموالهم والله يقول : « اتبعوا من لا يسئلكم أجرا » فالجواب عن ذلك إلى آخر الفصل يقال له : إن الامام ليس في تقية من إرشاد من يريد الارشاد وكيف يكون في تقية وقد بين لهم الحق وحثهم عليه ، ودعاهم إليه ، وعلمهم الحلال والحرام حتى شهروا بذلك وعرفوا به ، وليس يتناول أموالهم وإنما يسألهم الخمس الذي فرضه الله عز وجل ليضعه حيث أمر أن يضعه ، والذي جاء بالخمس هو الرسول وقد نطق القرآن بذلك قال الله عزوجل : « واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ـ الاية » ( 1 ) وقال : « خذ من أموالهم صدقة ـ الاية » ( 2 ) فان كان في أخذ المال عيب أو طعن فهو على من ابتدأ به . والله المستعان .
ويقال لصاحب الكتاب : أخبرنا عن الامام منكم إذا خرج وغلب هل يأخذ الخمس وهل يجبى الخراج ( 3 ) وهل يأخذ الحق من الفيء والمغنم والمعادن وما أشبه ذلك ؟ فان قال : لا فقد خالف حكم الاسلام وإن قال : نعم ، قيل له : فان احتج عليه رجل مثلك بقول الله عزوجل : « اتبعوا من لا يسئلكم أجرا » وبقوله : « إن . كثيرا من الاحبار والرهبان ـ الاية » بأي شيء تجيبه حتى تجيبك الامامية بمثله ، و هذا وفقكم الله شيء كان الملحدون يطعنون به على المسلمين وما أدري من دلسه لهؤلاء . واعلم ـ علمك الله الخير وجعلك من أهله ـ إنما يعمل بالكتاب والسنة ولا يخالفهما ، فان أمكن خصومنا أن يدلونا على أنه خالف في أخذ ما أخذ الكتاب والسنة فلعمري أن الحجة واضحة لهم ، وإن لم يمكنهم ذلك فليعلموا أنه ليس في العمل
____________
( 1 ) الانفال : 41 .
( 2 ) التوبة : 103 .
( 3 ) من الجباية وهي أخذ الخراج أو الزكاة وجمعها .

( 113 )

بما يوافق الكتاب والسنة عيب ، وهذا بين .
ثم قال صاحب الكتاب : ويقال لهم : نحن لا نجيز الامامة لمن لا يعرف فهل توجدونا سبيلا إلى معرفة صاحبكم الذي تدعون حتى نجيز له الامامة كما نجوز للموجودين من سائر العترة وإلا فلا سبيل إلى تجويز الامامة للمعدومين ، وكل من لم يكن موجودا فهو معدوم ، وقد بطل تجويز الامامة لمن تدعون .
فأقول ـ وبالله أستعين ـ : يقال لصاحب الكتاب : هل تشك في وجود علي بن ـ الحسين وولده عليهم السلام الذين نأتم بهم ؟ فإذا قال : لا ، قيل له : فهل يجوز أن يكونوا أئمة ؟ فان قال : نعم ، قيل له : فأنت لا تدري لعلنا على صواب في اعتقاد إمامتهم وأنت على خطأ وكفى بهذا حجة عليك ، وإن قال : لا ، قيل له : فما ينفع من إقامة الدليل على وجود إمامنا ؟ وأنت لا تعترف بامامة مثل علي بن الحسين عليهما السلام مع محله من العلم والفضل عند المخالف والموافق ، ثم يقال له : إنا إنما علمنا أن في العترة من يعلم التأويل ويعرف الاحكام بخبر النبي صلى الله عليه وآله الذي قدمناه ، وبحاجتنا إلى من يعرفنا المراد من القرآن ومن يفصل بين أحكام الله وأحكام الشيطان ، ثم علمنا أن الحق في هذه الطائفة من ولد الحسين عليهم السلام لما رأينا كل من خالفهم من العترة يعتمد في الحكم والتأويل على ما يعتمد عليه علماء العامة من الرأي والاجتهاد والقياس في الفرائض السمعية التي لا علة في التعبد بها إلا المصلحة فعلمنا بذلك أن المخالفين لهم مبطلون . ثم ظهر لنا من علم هذه الطائفة بالحلال والحرام والاحكام ما لم يظهر من غيرهم ، ثم ما زالت الاخبار ترد بنص واحد على آخر حتى بلغ الحسن بن علي عليهما السلام فلما مات ولم يظهر النص والخلف بعده رجعنا إلى الكتب التي كان أسلافنا رووها قبل الغيبة فوجدنا فيها ما يدل على أمر الخلف من بعد الحسن عليه السلام وأنه يغيب عن الناس ويخفى شخصه ، وأن الشيعة تختلف وأن الناس يقعون في حيرة من أمره ، فعلمنا أن أسلافنا لم يعلموا الغيب وأن الائمة أعلموهم ذلك بخبر الرسول ، فصح عندنا من هذا الوجه بهذه الدلالة كونه ووجوده وغيبته ، فان كان ههنا حجة تدفع ما قلناه فلتظهرها الزيدية ، فما بيننا وبين الحق معاندة ، والشكر لله .


( 114 )

ثم رجع صاحب الكتاب إلى أن يعارضنا بما تدعيه الواقفة على موسى بن جعفر ونحن ( 1 ) فلم نقف على أحد ونسأل الفصل بين الواقفين ، وقد بينا أنا علمنا أن موسى عليه السلام قد مات بمثل ما علمنا أن جعفرا مات وأن الشك في موت أحدهما يدعو إلى الشك في موت الاخر ، وأنه قد وقف على جعفر عليه السلام قوم أنكرت الواقفة على موسى عليهم ، و كذلك أنكرت قول الواقفة على ( 2 ) أمير المؤمنين عليه السلام .
فقلنا لهم : يا هؤلاء حجتكم على أولئك هي حجتنا عليكم ، فقولوا كيف شئتم تحجوا أنفسكم .
ثم حكى ( 3 ) عنا أنا كنا نقول للواقفة : إن الامام لا يكون إلا ظاهرا موجودا . وهذه حكاية من لا يعرف أقاويل خصمه وما زالت الامامية تعتقد أن الامام لا يكون إلا ظاهرا مكشوفا أو باطنا مغمورا ، وأخبارهم في ذلك أشهر وأظهر من أن تخفى ، ووضع الاصول الفاسدة للخصوم أمر لا يعجز عنه أحد ولكنه قبيح بذي الدين والفضل والعلم ، ولو لم يكن في هذا المعنى إلا خبر كميل بن زياد ( 4 ) لكفى .
ثم قال : فان قالوا كذا ، قيل لهم كذا ـ لشيء لا نقوله ـ . وحجتنا ما سمعتم وفيها كفاية والحمد لله .
ثم قال : ليس الامر كما تتوهمون في بني هاشم لان النبي صلى الله عليه وآله دل أمته على عترته باجماعنا وإجماعكم التي هي خاصته التي لا يقرب أحد منه عليه السلام كقربهم ، فهي لهم دون الطلقاء وأبناء الطلقاء ويستحقها واحد منهم في كل زمان إذ كان الامام لا يكون إلا واحدا بلزوم الكتاب والدعاء إلى إقامته بدلالة الرسول صلى الله عليه وآله عليهم « أنهم لا يفارقون الكتاب حتى يردوا علي الحوض » وهذا إجماع والذي اعتللتم به من بني هاشم ليس هم من ذرية الرسول صلى الله عليه وآله وإن كانت لهم ولادة ، لان كل بني
____________
( 1 ) من كلام أبي جعفر ابن قبة في دفع المعارضة .
( 2 ) في هامش بعض النسخ الظاهر أن الصواب « الواقفة على محمد بن أمير المؤمنين » .
( 3 ) يعني أبا زيد العلوي .
( 4 ) سيجيئ الخبر في باب ما أخبر به أمير المؤمنين عليه السلام من وقوع الغيبة .

( 115 )

ابنة ينتمون إلى عصبتهم ( 1 ) ما خلا ولد فاطمة ، فان رسول الله صلى الله عليه وآله عصبتهم وأبوهم ، والذرية هم الولد لقول الله عزوجل : « إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم » ( 2 ) .
فأقول ـ وبالله أعتصم ـ : إن هذا الامر لا يصح باجماعنا وإياكم عليه وإنما يصح بالدليل والبرهان فما دليلك على ما ادعيت ، وعلى أن الاجماع بيننا إنما هو في ثلاثة أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام ولم يذكر الرسول صلى الله عليه وآله ذريته و إنما ذكر عترته ، فملتم أنتم إلى بعض العترة دون بعض بلا حجة وبيان أكثر من الدعوى ، واحتججنا نحن بما رواه أسلافنا عن جماعة حتى انتهى خبرهم إلى نص الحسين بن على عليهما السلام على علي ابنه ونص علي على محمد ، ونص محمد على جعفر ثم استدللنا على صحة إمامة هؤلاء دون غيرهم ممن كان في عصرهم من العترة بما ظهر من علمهم بالدين وفضلهم في أنفسهم ، وقد حمل العلم عنهم الاولياء والاعداء ، وذلك مبثوث في الامصار ، معروف عند نقلة الاخبار ، وبالعلم تتبين الحجة من المحجوج ، والامام من المأموم ، والتابع من المتبوع ، وأين دليلكم يا معشر الزيدية على ما تدعون .
ثم قال صاحب الكتاب : ولو جازت الامامة لسائر بني هاشم مع الحسن والحسين عليهما السلام لجازت لبني عبد مناف مع بني هاشم ولو جازت لبني عبد مناف مع بني هاشم لجازت لسائر ولد قصي ، ثم مد في هذا القول .
فيقال له : أيها المحتج عن الزيدية إن هذا لشيء لا يستحق بالقرابة وإنما يستحق بالفضل والعلم ، ويصح بالنص والتوقيف ، فلو جازت الامامة لاقرب رجل
____________
( 1 ) أي ينتسبون . وعصبة الرجل ـ محركة ـ : بنوه وقرابته لابيه وانما سموا عصبة لانهم عصبوا به أي أحاطوا به ، فالاب طرف والابن طرف والعم جانب والاخ جانب ( الصحاح ) . والعصبة اسم جنس يطلق على الواحد والكثير . وقال الفيروز آبادي : العصبة : الذين يرثون الرجل عن كلالة من غير والد ولا ولد ، فأما في الفرائض فكل من لم يكن له فريضة مسماة فهو عصبة .
( 2 ) آل عمران : 36 .

( 116 )

من العترة لقرابته لجازت لا بعدهم فافصل بينك وبين من ادعى ذلك وأظهر حجتك وافصل الان بينك وبين من قال : ولو جازت لولد الحسن لجازت لولد جعفر ، ولو جازت لهم لجازت لولد العباس ، وهذا فصل لا تأتي به الزيدية أبدا إلا أن تفزع إلى فصلنا وحجتنا وهو النص من واحد على واحد وظهور العلم بالحلال والحرام .
ثم قال صاحب الكتاب : وإن اعتلوا بعلي عليه السلام فقالوا : ما تقولون فيه أهو من العترة أم لا ؟ قيل لهم : ليس هو من العترة ولكنه بان من العترة ومن سائر القرابة بالنصوص عليه يوم الغدير باجماع .
فأقول : ـ وبالله أستعين ـ : يقال لصاحب الكتاب : أما النصوص يوم الغدير فصحيح وأما إنكارك أن يكون أمير المؤمنين من العترة فعظيم ، فدلنا على أي شيء تعول فيما تدعي ؟ فان أهل اللغة يشهدون أن العم وابن العم من العترة ، ثم أقول : إن صاحب الكتاب نقض بكلامه هذا مذهبه لانه معتقد أن أمير المؤمنين ممن خلفه الرسول في أمته ويقول في ذلك إن النبي صلى الله عليه وآله خلف في أمته الكتاب والعترة وإن أمير المؤمنين صلوات عليه ليس من العترة وإذا لم يكن من العترة فليس ممن خلفه الرسول صلى الله عليه وآله ، وهذا متناقض كما ترى ، اللهم إلا أن يقول : إنه صلى الله عليه وآله خلف العترة فينا بعد أن قتل أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، فنسأله أن يفصل بينه وبين من قال وخلف الكتاب فينا منذ ذلك الوقت لان الكتاب والعترة خلفا معا ، والخبر ناطق بذلك شاهد به ، ولله المنة .
ثم أقبل صاحب الكتاب بما هو حجة عليه فقال : ونسأل من ادعى الامامة لبعض دون بعض إقامة الحجة ، ونسي نفسه وتفرده بادعائها لولد الحسن والحسين عليهما السلام دون غيرهم ، ثم قال : فان أحالوا على الاباطيل من علم الغيب وأشباه ذلك من الخرافات وما لا دليل لهم عليه دون الدعوى عورضوا بمثل ذلك لبعض ، فجاز أن العترة من الظالمين لانفسهم إن كان الدعوى هو الدليل .
فيقال لصاحب الكتاب : قد أكثرت في ذكر علم الغيب ، والغيب لا يعلمه إلا الله ، وما ادعاه لبشر إلا مشرك كافر ، وقد قلنا لك ولاصحابك : دليلنا على ما ندعي الفهم


( 117 )

والعلم فان كان لكم مثله فأظهروه وإن لم يكن إلا التشنيع والتقول وتقريع الجميع بقول قوم غلاة فالامر سهل ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
ثم قال صاحب الكتاب : ثم رجعنا إلى إيضاح حجة الزيدية بقول الله تبارك و تعالى : « ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ـ الاية » .
فيقال له : نحن نسلم لك أن هذه الاية نزلت في العترة ، فما برهانك على أن السابق بالخيرات هم ولد الحسن والحسين دون غيرهم من سائر العترة ؟ فانك لست تريد إلا التشنيع على خصومك وتدعي لنفسك .
ثم قال : قال الله عزوجل وذكر الخاصة والعامة من أمة نبيه : « واعتصموا بحبل الله جميعا ـ الاية » ثم قال : انقضت مخاطبة العامة ، ثم استأنف مخاطبة الخاصة فقال : « ولتكن منكم أمة يدعون ألى الخير ـ إلى قوله للخاصة ـ كنتم خير أمة أخرجت للناس » فقال : هم ذرية إبراهيم عليه السلام دون سائر الناس ، ثم المسلمون دون من أشرك من ذرية إبراهيم عليه السلام قبل إسلامه وجعلهم شهداء على الناس فقال : « يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ـ إلى قوله ـ وتكونوا شهداء على الناس » ( 1 ) وهذا سبيل الخاصة من ذرية إبراهيم عليه السلام ، ثم اعتل بآيات كثيرة تشبه هذه الايات من القرآن .
فيقال له : أيها المحتج أنت تعلم أن المعتزلة وسائر فرق الامة تنازعك في تأويل هذه الايات أشد منازعة ، وأنت فليس تأتي بأكثر من الدعوى ، ونحن نسلم لك ما ادعيت ونسألك الحجة فيما تفردت به من أن هؤلاء هم ولد الحسن والحسين عليهما السلام دون غيرهم فإلى متى تأتي بالدعوي وتعرض عن الحجة ؟ وتهول علينا بقراءة القرآن وتوهم أن لك في قراءته حجة ليست لخصومك ؟ والله المستعان .
ثم قال صاحب الكتاب : فليس من دعا إلى الخير من العترة ـ كمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وجاهد في الله حق جهاده ـ سواء وسائر العترة ممن لم يدع إلى الخير ولم يجاهد في الله حق جهاده ، كما لم يجعل الله من هذا سبيله من أهل الكتاب سواء وسائر أهل الكتاب ، وإن كان تارك ذلك فاضلا عابدا لان العبادة نافلة و
____________
( 1 ) الحج : 76 .
( 118 )

الجهاد فريضة لازمة كسائر الفرائض صاحبها يمشي بالسيف إلى السيف ، ويؤثر على الدعة الخوف ، ثم قرأ سورة الواقعة وذكر الايات التى ذكر الله عزوجل فيها الجهاد وأتبع الايات بالدعاوي ولم يحتج لشيء من ذلك بحجة فنطالبه بصحتها [ أ ] ونقابله بما نسأله فيه الفصل .
فأقول ـ وبالله أستعين ـ : إن كان كثرة الجهاد هو الدليل على الفضل والعلم والامامة فالحسين عليه السلام أحق بالامامة من الحسن عليه السلام لان الحسن وادع معاوية و الحسين عليه السلام جاهد حتى قتل ، وكيف يقول صاحب الكتاب ؟ وبأي شيء يدفع هذا ؟ وبعد فلسنا ننكر فرض الجهاد ولا فضله ولكنا رأينا الرسول صلى الله عليه وآله لم يحارب أحدا حتى وجد أعوانا وأنصارا وإخوانا فحينئذ حارب ، ورأينا أمير المؤمنين عليه السلام فعل مثل ذلك بعينه ، ورأينا الحسن عليه السلام قد هم بالجهاد فلما خذله أصحابه وادع ولزم منزله ، فعلمنا أن الجهاد فرض في حال وجود الاعوان والانصار ، والعالم ـ بإجماع العقول ـ أفضل من المجاهد الذي ليس بعالم ، وليس كل من دعا إلى الجهاد يعلم كيف حكم الجهاد ، ومتى يجب القتال ، ومتى تحسن الموادعة ، وبماذا يستقبل أمر هذه الرعية ، وكيف يصنع في الدماء والاموال والفروج ، وبعد فانا نرضى من إخواننا بشيء واحد وهو أن يدلونا على رجل من العترة ينفي التشبيه والجبر عن الله ولا يستعمل الاجتهاد والقياس في الاحكام السمعية ويكون مستقلا كافيا حتى نخرج معه فان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة على قدر الطاقة وحسب الامكان ، و العقول تشهد أن تكليف ما لا يطاق فاسد والتغرير بالنفس قبيح ، ومن التغرير أن تخرج جماعة قليلة لم تشاهد حربا ولا تدربت بدربة أهل ( 1 ) إلى قوم متدر بين بالحروب تمكنوا في البلاد وقتلوا العباد وتدربوا بالحروب ، ولهم العدد والسلاح والكراع ( 2 ) ومن نصرهم من العامة ـ ويعتقدوا أن الخارج عليهم مباح الدم ـ مثل جيشهم أضعافا
____________
( 1 ) درب به ـ كفرح ـ دربا ودربة ـ بالضم ـ : ضرى ، كتدرب . والدربة : ـ بالضم ـ عادة وجرأة على الامر والحرب .
( 2 ) الكراع ـ بالضم ـ : اسم لجمع الخيل .

( 119 )

مضاعفة فكيف يسومنا ( 1 ) صاحب الكتاب أن نلقى بالاغمار ( 2 ) المتدر بين بالحروب . وكم عسى أن يحصل في يد داع إن دعا من هذا العدد ؟ ( 3 ) هيهات هيهات ، هذا أمر لا يزيله إلا نصر الله العزيز العليم الحكيم .
قال صاحب الكتاب بعد آيات من القرآن تلاها ينازع في تأويلها أشد منازعة ولم يؤيد تأويله بحجة عقل ولا سمع : فافهم ـ رحمك الله ـ من أحق أن يكون لله شهيدا من دعا إلى الخير كما امر ، ونهى عن المنكر ، وأمر بالمعروف ، جاهد في الله حق جهاده حتى استشهد ؟ ! أم من لم يروجهه ولا عرف شخصه ؟ ! أم كيف يتخذه الله شهيدا ؟ على من لم يرهم ولا نهاهم ولا أمرهم فإن أطاعوه ادوا ما عليهم وإن قتلوه مضى إلى الله عزوجل شهيدا ؟ ! ولو أن رجلا استشهد قوما على حق يطالب به لم يروه ولا شهدوه هل كان شهيدا ؟ وهل يستحق بهم حقا إلا أن يشهدوا على ما لم يروه فيكونوا كذا بين وعند الله مبطلين ؟ ! وإذا لم يجز ذلك من العباد فهو غير جائز عند الحكم العدل الذي لا يجور ، ولو أنه استشهد قوما قد عاينوا وسمعوا فشهدوا له ، والمسألة على حالها أليس كان يكون محقا وهم صادقون وخصمه مبطل وتمضي الشهادة ويقع الحكم ، و كذلك قال الله تعالى : إلا من شهد بالحق وهم يعلمون « ( 4 ) أولا ترى أن الشهادة لا تقع بالغيب دون العيان ، وكذلك قول عيسى « وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ـ الاية » ( 5 ) .
فأقول ـ وبالله أعتصم ـ : يقال لصاحب الكتاب : ليس هذا الكلام لك بل هو للمعتزلة وغيرهم علينا وعليك ، لانا نقول : إن العترة غير ظاهرة وإن من شاهدنا منها لا يصلح أن يكون إماما ، وليس يجوز أن يأمرنا الله عزوجل بالتمسك بمن لا نعرف منهم ولا نشاهده ولا شاهده أسلافنا ، وليس في عصرنا ممن شاهدناه منهم ممن
____________
( 1 ) سامه الامر : كلفه أباه .
( 2 ) الغمر ـ مثلثة الغين ـ : من لم يجرب الامور والجاهل ، جمعه أغمار .
( 3 ) يعنى ان دعا الامام أو غيره مثلا المتدربين بالحروب كم يجتمع له منهم .
( 4 ) الزخرف : 86 .
( 5 ) المائدة : 112 .

( 120 )

يصلح أن يكون إماما للمسلمين والذين غابوا لا حجة لهم علينا ، وفي هذا أدل دليل على أن معنى قول النبي صلى الله عليه وآله « إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي » ليس ما يسبق إلى قلوب الامامية والزيدية . وللنظام ( 1 ) وأصحابه أن يقولوا : وجدنا الذي لا يفارق الكتاب هو الخبر القاطع للعذر ، فانه ظاهر كظهور الكتاب ينتفع به ، ويمكن اتباعه والتمسك به .
فأما العترة فلسنا نشاهد منهم عالما يمكن أن نقتدي به ، وإن بلغنا عن واحد منهم مذهب بلغنا عن آخر أنه يخالفه ، الاقتداء بالمختلفين فاسد ، فكيف يقول صاحب الكتاب ؟ .
ثم اعلم أن النبي صلى الله عليه وآله لما أمرنا بالتمسك بالعترة كان بالعقل والتعارف و السيرة ما يدل على أنه أراد علماءهم دون جهالهم ، والبررة الاتقياء دون غيرهم ، فالذي يجب علينا ويلزمنا أن ننظر إلى من يجتمع له العلم بالدين مع العقل والفضل والحلم والزهد في الدنيا والاستقلال بالامر فنقتدي به ونتمسك بالكتاب وبه .
وإن قال : فان اجتمع ذلك في رجلين وكان أحدهما ممن يذهب إلى مذهب الزيدية والاخر إلى مذهب الامامية بمن يقتدى منهما ولمن يتبع ؟ قلنا له : هذا لا يتفق ، فان اتفق فرق بينهما دلالة واضحة إما نص من إمام تقدمه وإما شيء يظهر في علمه كما ظهر في أمير المؤمنين يوم النهر حين قال : « والله ما عبروا النهر ولا يعبروا ، والله ما يقتل منكم عشرة ولا ينجوا منهم عشرة » وإما أن يظهر من أحدهما مذهب يدل على أن الاقتداء به لا يجوز كما ظهر من علم الزيدية القول بالاجتهاد والقياس في الفرائض السمعية والاحكام فيعلم بهذا أنهم غير أئمة . ولست اريد بهذا القول زيد ابن علي وأشباهه لان اولئك لم يظهروا ما ينكر ولا ادعوا أنهم أئمة وإنما
____________
( 1 ) هو أبو إسحاق ابراهيم بن سيار بن هانيء البصري ابن اخت أبي هذيل العلاف شيخ المعتزلة . وكان النظام صاحب المعرفة بالكلام أحد رؤساء المعتزلة ، استاد الجاحظ . ولقب بالنظام ـ كشداد ـ لانه كان ينظم الخرز في سوق البصرة ويبيعها . وقالت المعتزلة : انما سمى ذلك لحسن كلامه نثرا ونظما ( الكنى والالقاب للمحدث القمي ) .