الحسن عليه السلام ، ولم يكن في ذلك دلالة على نفي الولد .
وخفي على مخالفينا فقالوا : إن موسى في ذلك الوقت لم يكن بحجة والامام عندكم حجة ، ونحن إنما شبهنا الولادة والغيبة بالولادة والغيبة ، وغيبة يوسف عليه السلام أعجب من كل عجب لم يقف على خبره أبوه وكان بينهما من المسافة ما يجب أن لا ينقطع لولا تدبير الله عزوجل في خلقه أن ينقطع خبره عن أبيه وهؤلاء إخوته دخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون .
وشبهنا أمر حياته بقصة أصحاب الكهف فانهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ، وهم أحياء .
فان قال قائل : إن هذه أمور قد كانت ولا دليل معنا على صحة ما تقولون .
قيل له : أخرجنا بهذه الامثلة أقوالنا من حد الاحالة إلى حد الجواز ، وأقمنا الادلة على صحة قولنا بأن الكتاب لا يزال معه من عترة الرسول صلى الله عليه وآله من يعرف حلاله وحرامه ومحكمه ومتشابهه ، وبما أسندناه في هذا الكتاب من الاخبار عن النبي والائمة صلوات الله عليهم .
فان قال : فكيف التمسك به ؟ ولا نهتدي إلى مكانه ولا يقدر أحد علي إتيانه ؟ قيل له : نتمسك بالاقرار بكونه وبامامته وبالنجباء الاخيار والفضلاء الابرار القائلين بامامته ، المثبتين لولادته وولايته ، المصدقين للنبي والائمة عليهم السلام في النص عليه باسمه ونسبه من أبرار شيعته ، العالمين بالكتاب والسنة ، العارفين بوحدانية الله تعالى ذكره النافين عنه شبه المحدثين المحرمين للقياس ، المسلمين لما يصح وروده عن النبي والائمة عليهم السلام .
فان قال قائل : فان جاز أن يكون نتمسك بهؤلاء الذين وصفتهم ويكون تمسكنا بهم تمسكا بالامام الغائب فلم لا يجوز أن يموت رسول الله صلى الله عليه وآله ولا يخلف أحدا فيقتصر أمته على حجج العقول والكتاب والسنة ؟ قيل له : ليس الاقتراح على الله عز وجل علينا وإنما علينا فعل ما نؤمر به وقد دلت الدلائل على فرض طاعة هؤلاء الائمة الاحد عشر عليهم السلام الذين مضوا ووجب القعود معهم إذا قعدوا والنهوض معهم إذا نهضوا ، و


( 82 )

الاسماع منهم إذا نطقوا . فعلينا أن نفعل في كل وقت ما دلت الدلائل على أن علينا أن نفعله .
اعتراض آخر لبعضهم :
قال بعض الزيدية فان للواقفه ولغيرهم أن يعارضوكم في ادعائكم أن موسى بن جعفر عليهما السلام مات وأنكم وقفتم على ذلك بالعرف والعادة والمشاهدة وذلك أن الله عزوجل قد أخبر في شأن المسيح عليه السلام فقال : « وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم » وكان عند القوم في حكم المشاهدة والعادة الجارية أنهم قد رأوه مصلوبا مقتولا فليس بمنكر مثل ذلك في سائر الائمة الذين قال بغيبتهم طائفة من الناس .
الجواب يقال لهم : ليس سبيل الائمة عليهم السلام في ذلك سبيل عيسى بن مريم عليه السلام وذلك أن عيسى بن مريم ادعت اليهود قتله فكذبهم الله تعالى ذكره بقوله « وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم » ( 1 ) وأئمتنا عليهم السلام لم يرد في شأنهم الخبر عن الله أنهم شبهوا وإنما قال ذلك قوم من طوائف الغلاة ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله بقتل أمير المؤمنين عليه السلام بقوله : « إنه ستخضب هذه من هذا » يعني لحيته من دم رأسه ، وأخبر من بعده من الائمة عليهم السلام بقتله ، وكذلك الحسن والحسين عليهما السلام قد أخبر النبي صلى الله عليه وآله عن جبرئيل بأنهما سيقتلان ، وأخبرا عن أنفسهما بأن ذلك سيجري عليهما ، وأخبر من بعدهما من الائمة عليهم السلام بقتلهما ، وكذلك سبيل كل إمام بعدهما من علي بن الحسين إلى الحسن بن علي العسكري عليهما السلام قد أخبر الاول بما يجري على من بعده وأخبر من بعده بما جرى على من قبله ، فالمخبرون بموت الائمة عليهما السلام هم النبي والائمة عليهم السلام واحد بعد واحد ، والمخبرون بقتل عيسى عليه السلام كانت اليهود ، فلذلك قلنا : إن ذلك جرى عليهم على الحقيقة والصحة لا على الحسبان والحيلولة ولا على الشك والشبهة لان الكذب على المخبرين بموتهم غير جائز لانهم معصومون وهو على اليهود جائز .
____________
( 1 ) النساء : 156 .
( 83 )

شبهات من المخالفين ودفعها :
قال مخالفونا : إن العادات والمشاهدات تدفع قولكم بالغيبة ، فقلنا : إن البراهمة ( 1 ) تقدر أن تقول مثل ذلك في آيات النبي صلى الله عليه وآله وتقول للمسلمين إنكم بأجمعكم لم تشاهدوها فلعلكم قلدتم من لم يجب تقليده أو قبلتم خبرا لم يقطع العذر ، ومن أجل هذه المعارضة قالت عامة المعتزلة ـ على ما يحكى عنهم ـ : إنه لم تكن للرسول صلى الله عليه وآله معجزة غير القرآن فأما من اعترف بصحة الايات التي هي غير القرآن احتاج إلى أن يطلق الكلام في جواز كونها بوصف الله ـ تعالى ذكره ـ بالقدرة عليها ، ثم في صحة وجود كونها على أمور قد وقفنا عليها وهي غير كثيرة الرواة .
فقالت الامامية : فارضوا منا بمثل ذلك وهو أن نصحح هذه الاخبار التى تفردنا بنقلها عن أئمتنا عليهم السلام بأن تدل على جواز كونها بوصف الله ـ تعالى ذكره ـ بالقدرة عليها وصحة كونها بالادلة العقلية والكتابية والاخبار المروية المقبولة عند نقلة العامة .
قال الجدلي فنقول : إنه ليس بازائنا جماعة تروي عن نبينا صلى الله عليه وآله ضد ما نروي مما يبطله ويناقضه ، أو يدعون أن أولنا ليس كآخرنا ؟
فيقال له : ما أنكرت من برهمي قال لك : إن العادات والمشهادات والطبيعيات تمنع أن يتكلم ذراع مسموم مشوي وتمنع من انشقاق القمر وأنه لو انشق القمر وانفلق لبطل نظام العالم .
وأما قوله : « ليس بازائهم من يدفع أن أولنا ليس كاخرنا » فانه يقال له : إنكم تدفعون عن ذلك أشد الدفع ولو شهد هذه الايات الخلق الكثير لكان حكمه حكم القرآن فقد بان أن الجدلي مستعمل للمغالطة ، مستفرق فيما لم يستفرق .
قال الجدلي : أو تدفعونا عن قولنا إنه كان لنبينا صلى الله عليه وآله من الاتباع في حياته وبعد وفاته جماعة لا يحصرهم العدد يروون آياته ويصححونها ؟ فيقال له : إن جماعة لم لم يحصرهم العدد قد عاينوا آيات رسول الله صلى الله عليه وآله التي هي تظليل الغمامة وكلام الذراع
____________
( 1 ) البراهمة قوم لا يجوزون على الله تعالى بعثة الرسل .
( 84 )

المسمومة وحنين الجذع وما في بابه ولكن هذه عامة الامة تقول : إن هذه آيات رواها نفر يسير في الاصل فلم ادعيت أن أحدا لا يدفعك عن هذه الدعوى ؟ .
قال الجدلي : ولما كان هذا هكذا كانت أخبارنا عن آيات نبينا صلى الله عليه وآله كالاخبار عن آيات موسى والاخبار عن آيات المسيح التي ادعتها النصارى لها ومن أجلها ما ادعوا وكأخبار المجوس والبراهمة عن أيام آبائهم وأسلافهم .
قلنا : قد عرفنا أن البراهمة تزعم أن لابائهم وأسلافهم أمثالا موجودة ونظائر مشاهدة فلذلك قبلوه على طريق الاقناع ، وليس هذا مما تنكره ، وإنما عرفناه للوجه الذي من أجله عورض بما عورض به ، فليكن من وراء الفصل من حيث طولب ( 1 ) .
قال الجدلي : وبازاء هذه الفرقة من القطعية جماعات تفضلها وجماعات في مثل حالها تروي عمن يسندون إليه الخبر خبرهم في النص ضد ما يروون .
فيقال له : ومن هذه الجماعات التي تفضلها ؟ وأين هم في ديار الله ؟ وأين يسكنون من بلاد الله ؟ أو ما وجب عليك أن تعلم أن كتابك يقرء ؟ ومن ليس من أهل الصناعة يعلم استعمالك للمغالطة .
قال الجدلي : وما كنت أحسب أن امرءا مسلما تسمح نفسه بأن يجعل الاخبار عن آيات رسول الله صلى الله عليه وآله عروضا ( 2 ) للاخبار في غيبة ابن الحسن بن علي بن محمد بن علي ابن موسى بن جعفر عليهم السلام ويدعى تكافؤ التواتر فيهما . والله المستعان .
فيقال له : إنا قد بينا الوجه الذي من أجله ادعينا التساوي في هذا الباب وعرفناك أن الذي نسميه الخبر المتواتر هو الذي يرويه ثلاثة أنفس فما فوقهم وأن الاخبار عن آيات رسول الله صلى الله عليه وآله في الاصل إنما يرويها العدد القليل ، والمحنة ( 3 ) بيننا وبينك أن نرجع إلى أصحاب الحديث فنطلب منهم من روى انشقاق القمر وكلام الذراع المسمومة وما يجانس ذلك من آياته ، فان أمكنه أن يروي كل آية من هذه الايات عن عشرة أنفس من أصحاب رسو ل الله صلى الله عليه وآله عاينوا أو شاهدوا فالقول قوله ، وإلا فان الموافق
____________
( 1 ) في بعض النسخ « فليكن من ذكر الفضل ـ الخ » .
( 2 ) العروض من الكلام فحواه . يقال : « هذه المسألة عروض هذه » أي نظيره .
( 3 ) في بعض النسخ « والمجنة » وهي الترس .

( 85 )

ادعى التكافؤ فيما هما مثلان ونظيران ومشبهان ، والحمد لله .
وأقول ـ وبالله التوفيق ـ : إنا قد استعبدنا بالاقرار بعصمة الامام كما استعبدنا بالقول به ، والعصمة ليست في ظاهر الخليقة فترى وتشاهده ولو أقررنا بامامة إمام وأنكرنا أن يكون معصوما لم نكن أقررنا به ، فإذا جاز أن نكون مستعبدين من كل إمام بالاقرار بشيء غائب عن أبصارنا فيه جاز أن نستعبد بالاقرار بامامة إمام غائب عن أبصارنا لضرب من ضروب الحكمة يعلمه الله تبارك وتعالى اهتدينا إلى وجهه أو لم نهتد ولافرق .
وأقول أيضا : إن حال إمامنا عليه السلام اليوم في غيبته حال النبي صلى الله عليه وآله في ظهوره ، وذلك أنه عليه السلام لما كان بمكة لم يكن بالمدينة ، ولما كان بالمدينة لم يكن بمكة ، ولما سافر لم يكن بالحضر ، ولما حضر لم يكن في السفر ، وكان عليه السلام في جميع أحواله حاضرا بمكان ، غائبا عن غيره من الاماكن ، ولم تسقط حجته صلى الله عليه وآله عن أهل الاماكن التي غاب عنها ، فهكذا الامام عليه السلام لا تسقط حجته وإن كان غائبا عنا كما لم تسقط حجة النبي صلى الله عليه وآله عمن غاب عنه ، وأكثر ما استعبد به الناس من شرائط الاسلام وشرائعه فهو مثل ما استعبدوا به من الاقرار بغيبة الامام ، وذلك أن الله تبارك وتعالى مدح المؤمنين على إيمانهم بالغيب قبل مدحه لهم على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والايمان بسائر ما أنزل الله عزوجل على نبيه وعلى من قبله من الانبياء صلوات الله عليهم أجمعين وبالاخرة فقال : « هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلوة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالاخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفحلون » ( 1 ) وإن النبي صلى الله عليه وآله كان يكون بين أصحابه فيغمى عليه وهو يتصاب عرقا فإذا أفاق قال : قال الله عزوجل كذا وكذا ، أمركم بكذا ، ونهاكم عن كذا . وأكثر مخالفينا يقولون : إن ذلك كان يكون عند نزول جبرئيل عليه السلام عليه ، فسئل الصادق عليه السلام عن الغشية التي كانت تأخذ النبي صلى الله عليه وآله أكانت تكون عند هبوط جبرئيل عليه السلام فقال : لا إن جبرئيل كان إذ أتى النبي صلى الله عليه وآله لم يدخل عليه حتى يستأذنه وإذا دخل عليه قعد بين يديه قعدة العبد وإنما ذلك عند
____________
( 1 ) البقرة : 3 و 4 و 5 .
( 86 )

مخاطبة الله عزوجل إياه بغير ترجمان وواسطة .
حدثنا بذلك الحسن بن أحمد بن إدريس ـ رضي لله عنه ـ عن أبيه ، عن جعفر ابن محمد بن مالك ، عن محمد بن الحسين بن زيد ( 1 ) ، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن ثابت ، عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام : فالناس لم يشاهدوا الله تبارك وتعالى يناجي رسول الله صلى الله عليه وآله ويخاطبه ولا شاهدوا الوحي ووجب عليهم الاقرار بالغيب الذي لم يشاهدوه وتصديق رسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك وقد أخبرنا الله عزوجل في محكم كتابه أنه ليس منا أحد « يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ( 2 ) » وقال عزوجل « وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون » ( 3 ) ونحن لم نرهم ولم نشاهدهم ولو لم نوقع التصديق بذلك لكنا خارجين من الاسلام ، رادين على الله تعالى ذكره قوله ، وقد حذرنا الله تبارك وتعالى من فتنة الشيطان فقال : « يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة » ( 4 ) ونحن لا نرى ويجب علينا الايمان بكونه والحذر منه ، وقال النبي صلى الله عليه وآله في ذكر المسألة في القبر : « إنه إذا سئل الميت فلم يجب بالصواب ضربه منكر ونكير ضربة من عذاب الله ، ما خلق الله من دابة إلا تذعر لها ( 5 ) ما خلا الثقلين » ونحن لا نرى شيئا من ذلك ، ولا نشاهده ولا نسمعه ، وأخبرنا عنه عليه السلام أنه عرج به إلى السماء . ونحن لم نر ( شيئا من ) ذلك ( ولا نشاهده ولا نسمعه ) . وأخبرنا عليه السلام « من زار أخاه في الله عزوجل شيعه سبعون ألف ملك يقولون : ألا طبت وطابت لك الجنة » ونحن لا نراهم ولا نسمع كلامهم ولو لم نسلم الاخبار الواردة في مثل ذلك وفيما يشبهه من أمور الاسلام لكنا كافرين بها ، خارجين من الاسلام .
____________
( 1 ) هو أبو جعفر الزيات . وفى بعض النسخ « محمد بن الحسين بن يزيد » لم أجده .
( 2 ) ق : 18 . والاية هكذا « ما يلفظ من قول ـ الاية »
( 3 ) الانفطار : 11 ـ 13 .
( 4 ) الاعراف : 27 .
( 5 ) أي تفزع . وذعرته ذعرا : أفزعته ، وقد ذعر فهو مذعور .

( 87 )

مناظرة المؤلف مع ملحد عند ركن الدولة :
ولقد كلمني بعض الملحدين في مجلس الامير السعيد ركن الدولة ـ رضي الله عنه ـ فقال لي : وجب على إمامكم أن يخرج فقد كاد أهل الروم يغلبون على المسلمين . فقلت له : إن أهل الكفر كانوا في أيام نبينا صلى الله عليه وآله أكثر عددا منهم اليوم وقد أسر عليه السلام أمره وكتمه أربعين سنة بأمر الله جل ذكره وبعد ذلك أظهره لمن وثق به وكتمه ثلاث سنين عمن لم يثق به ، ثم آل الامر إلى أن تعاقدوا على هجرانه وهجران جميع بني هاشم والمحامين عليه لاجله ، فخرجوا إلى الشعب وبقوا فيه ثلاث سنين فلو أن قائلا قال في تلك السنين : لم لا يخرج محمد صلى الله عليه وآله فانه واجب عليه الخروج لغلبة المشركين على المسلمين ، ما كان يكون جوابنا له إلا أنه عليه السلام بأمر الله تعالى ذكره خرج إلى الشعب حين خرج وباذنه غاب ( 1 ) ومتى أمره بالظهور والخروج خرج وظهر ، لان النبي صلى الله عليه وآله بقي في الشعب هذه المدة حتى أوحى الله عزوجل إليه أنه قد بعث أرضة على الصحيفة المكتوبة بين قريش في هجران النبي صلى الله عليه وآله وجميع بني هاشم ، المختومة بأربعين خاتما ، المعدلة ( 2 ) عند زمعة بن الاسود فأكلت ما كان فيها من قطيعة رحم وتركت ما كان فيها من اسم الله عزوجل ، فقام أبو طالب فدخل مكة ، فلما رأته قريش قدروا أنه قد جاء ليسلم إليهم النبي صلى الله عليه وآله حتى يقتلوه أو يرجعوه عن نبوته ، فاستقبلوه وعظموه فلما جلس قال لهم : يا معشر قريش إن ابن أخي محمد لم أجرب عليه كذبا قط وإنه قد أخبرني أن ربه أوحى إليه أنه قد بعث على الصحيفة المكتوبة بينكم الارضة فأكلت ما كان فيها من قطيعة رحم وتركت ما كان فيها من أسماء الله عزوجل . فأخرجوا الصحيفة وفكوها فوجدوها كما قال ، فآمن بعض وبقي بعض على كفره ، ورجع النبي عليه السلام وبنو هاشم إلى مكة . هكذا الامام عليه السلام إذا أذن الله له في الخروج خرج .
وشيء آخر وهو أن الله تعالى ذكره أقدر على أعدائه الكفار من الامام فلو أن قائلا قال : لم يمهل الله أعداءه ولا يبيدهم وهم يكفرون به ويشركون ؟ لكان جوابنا له
____________
( 1 ) مثل قوله تعالى : « واهجرهم هجرا جميلا » .
( 2 ) كذا ، ولعل الصواب « المحفوظة » أو « المودعة » .

( 88 )

أن الله تعالى ذكره لا يخاف الفوت فيعاجلهم بالعقوبة ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون . ولا يقال له : لم ولا كيف ، وهكذا إظهار الامام إلى الله الذي غيبه فمتى أراده أذن فيه فظهر .
فقال الملحد : لست اومن بامام لا أراه ولا تلزمني حجته ما لم أره ، فقلت له : يجب أن تقول : إنه لا تلزمك حجة الله تعالى ذكره لانك لا تراه ولا تلزمك حجة الرسول عليه السلام لانك لم تره .
فقال للامير السعيد ركن الدولة ـ رضي الله عنه ـ : أيها الامير راع ما يقول هذا الشيخ فانه يقول : إن الامام إنما غاب ولا يرى لان الله عزوجل لا يرى ، فقال له الامير ـ رحمه الله ـ : لقد وضعت كلامه غير موضعه وتقولت عليه وهذا انقطاع منك وإقرار بالعجز .
وهذا سبيل جميع المجادلين لنا في أمر صاحب زماننا عليه السلام ما يلفظون في دفع ذلك وجحوده إلا بالهذيان والوساوس والخرافات المموهة .
وذكر أبو سهل اسماعيل بن علي النوبختي ( 1 ) في آخر كتاب التنبيه : وكثيرا ما يقول خصومنا : لو كان ما تدعون من النص حقا لادعاه علي عليه السلام بعد مضي النبي صلى الله عليه وآله .
فيقال لهم : كيف يدعيه فيقيم نفسه مقام مدع يحتاج إلى شهود على صحة دعواه وهم لم يقبلوا قول النبي عليه السلام فكيف يقبلون دعواه لنفسه ، وتخلفه عن بيعة
____________
( 1 ) هو اسماعيل بن علي بن اسحاق بن أبي سهل بن نوبخت ، كان شيخ المتكلمين من أصحابنا الامامية ببغداد ووجههم ، متقدم النوبختيين في زمانه ، له جلالة في الدين والدنيا ، يجري مجرى الوزارء ، صنف كتبا كثيرة جملة منها في الرد على أرباب المقالات الفاسدة ، وله كتاب الانوار في تواريخ الائمة الاطهار ( ع ) . رأى مولانا الحجة عليه السلام عند وفاة أبيه الحسن بن على عليهما السلام ، وله احتجاج على الحلاج صار ذلك سببا لفضيحة الحلاج و خذلانه . ( الكنى والالقاب للمحدث القمي ره )
( 89 )

أبي بكر ودفنه فاطمة عليهما السلام من غير أن يعرفهم جمعيا خبرها حتى دفنها سرا أدل دليل على أنه لم يرض بما فعلوه .
فان قالوا : فلم قبلها بعد عثمان ؟ قيل لهم : اعطوه بعض ما وجب له فقبله ، وكان في ذلك مثل النبي صلى الله عليه وآله حين قبل المنافقين والمؤلفة قلوبهم .
وربما قال خصومنا ـ إذا عضهم الحجاج ( 1 ) ولزمتهم الحجة في أنه لا بد من إمام منصوص عليه ، عالم بالكتاب والسنة ، مأمون عليهما ، لا ينساهما ولا يغلط فيها ، ولا تجوز مخالفته ، واجب الطاعة بنص الاول عليه ـ فمن هو هذا الامام سموه لنا ودلونا عليه ؟ .
فيقال لهم : هذا كلام في الاخبار وهو انتقال من الموضع الذي تكلمنا فيه لانا إنما تكلمنا فيما توجبه العقول إذا مضى النبي عليه السلام وهل يجوز أن لا يستخلف وينص على إمام بالصفة التي ذكرناها ؟ فإذا ثبت ذلك بالادلة فعلينا وعليهم التفتيش عن عين الامام في كل عصر من قبل الاخبار ونقل الشيع النص على علي عليه السلام وهم الان من الكثرة واختلاف الاوطان والهمم على ما هم عليه يوجب العلم والعمل لاسيما وليس بازائهم فرقة تدعي النص لرجل عبد النبي صلى الله عليه واله غير علي عليه السلام ، فان عارضونا بما يدعيه أصحاب زرادشت ( 2 ) وغيرهم من المبطلين ، قيل لهم : هذه المعارضة تلزمكم في آيات النبي صلى الله عليه وآله فإذا انفصلتم بشيء فهو فصلنا لان صورة الشيع في هذا الوقت كصورة المسلمين في الكثرة فانهم لا يتعارفون وإن أسلافهم يجب أن يكونوا كذلك ( 3 ) بل أخبار الشيع أوكد لانه ليس معهم دولة ولا سيف ولا رهبة ولا رغبة وإنما تنقل الاخبار الكاذبة لرغبة أو رهبة أو حمل عليها بالدول ، وليس في أخبار الشيعة شيء من ذلك وإذا صح بنقل الشيعة النص من النبي صلى الله عليه وآله على علي عليه السلام صح بمثل ذلك نقلها النص من علي على الحسن ومن الحسن على الحسين ثم على إمام إمام إلى الحسن بن علي ، ثم
____________
( 1 ) عض الرجل بصاحبه يعض عضيضا أي لزمه ( الصحاح ) .
( 2 ) كناية عن المخالفين للحق . وزرادشت رئيس مذهب المجوس .
( 3 ) في بعض النسخ « وان اسلامهم يجب أن يكون كذلك » .

( 90 )

على الغائب الامام بعده عليهم السلام لان رجال أبيه الحسن عليه السلام الثقات كلهم قد شهدوا له بالامامة ، وغاب عليه السلام لان السلطان طلبه طلبا ظاهرا ، ووكل بمنازله وحرمه سنتين .
فلو قلت : إن غيبة الامام عليه السلام في هذا العصر من أدل الادلة على صحة الامامة قلت : صدقا لصدق الاخبار المتقدمة في ذلك وشهرتها .
وقد ذكر بعض الشيعة ممن كان في خدمة الحسن بن علي عليهما السلام وأحد ثقاته أن السبب بينه وبين ابن الحسن بن علي عليهما السلام متصل وكان يخرج من كتبه وأمره ونهيه على يده إلى شيعته إلى أن توفي وأوصى إلى رجل من الشيعة مستور فقام مقامه في هذا الامر .
وقد سألونا في هذه الغيبة ( 1 ) وقالوا : إذا جاز أن يغيب الامام ثلاثين سنة وما أشبهها فما تنكرون من رفع عينه عن العالم ؟ فيقال لهم : في ارتفاع عينه ارتفاع الحجة من الارض وسقوط الشرائع إذا لم يكن لها من يحفظها . وأما إذا استتر الامام للخوف على نفسه بأمر الله عزوجل وكان له سبب معروف متصل به وكانت الحجة قائمة إذ كانت عينه موجودة في العالم وبابه وسببه معروفان وإنما عدم إفتائه وأمره ونهيه ظاهرا وليس في ذلك بطلان للحجة ، ولذلك نظائر قد أقام النبي صلى الله عليه وآله في الشعب مدة طويلة وكان يدعو الناس في أول أمره سرا إلى أن أمن وصارت له فئة وهو في كل ذلك نبي مبعوث مرسل فلم يبطل توقيه وتستره من بعض الناس بدعوته نبوته ولا أدحض ذلك حجته ، ثم دخل عليه السلام الغار فأقام فيه فلا يعرف أحد موضعه ولم يبطل ذلك نبوته ولو ارتفعت عينه لبطلت نبوته وكذلك الامام يجوز أن يحبسه السلطان المدة الطويلة ويمنع من لقائه حتى لا يفتي ولا يعلم ولا يبين ، والحجة قائمة ثابتة واجبة وإن لم يفت ولم يبين لانه موجود العين في العالم ، ثابت الذات ، ولو أن نبيا أو إماما لم يبين ويعلم ويفت ( 2 ) لم تبطل نبوته ولا إمامته ولا حجته ، ولو ارتفعت ذاته لبطلت
____________
( 1 ) في بعض النسخ « وقد سألونا في ذلك » .
( 2 ) في بعض النسخ « ويقل » .

( 91 )

الحجة ، وكذلك يجوز أن يستتر الامام المدة الطويلة إذا خاف ولا تبطل حجة الله عزوجل .
فان قالوا : فكيف يصنع من احتاج إلى أن يسأل عن مسالة ؟ قيل له : كما كان يصنع والنبي صلى الله عليه وآله في الغار من جاء إليه ليسلم وليتعلم منه ، فان كان ذلك سائغا في الحكمة كان هذا مثله سائغا .
ومن أوضح الادلة على الامامة أن الله عزوجل جعل آية النبي صلى الله عليه وآله أنه أتى بقصص الانبياء الماضين عليهم السلام وبكل عليم [ من ] توراة وإنجيل وزبور من غير أن يكون يعلم الكتابة ظاهرا ، أو لقى نصرانيا أو يهوديا فكان ذلك أعظم آياته ، وقتل الحسين بن علي عليهما السلام وخلف علي بن الحسين عليهما السلام متقارب السن كانت سنة أقل من عشرين سنة ، ثم انقبض عن الناس فلم يلق أحدا ولا كان يلقاه إلا خواص أصحابه و كان في نهاية العبادة ولم يخرج عنه من العلم إلا يسيرا لصعوبة الزمان وجور بني امية ثم ظهر ابنه محمد بن علي المسمى بالباقر عليه السلام لفتقه العلم ( 1 ) فأتى من علوم الدين و الكتاب والسنة والسير والمغازي بأمر عظيم ، وأتى جعفر بن محمد عليهما السلام من بعده من ذلك بما كثر وظهر وانتشر ، فلم يبق فن في فنون العلم إلا أتى فيه بأشياء كثيرة ، وفسر القرآن والسنن ، ورويت عنه المغزي وأخبار الانبياء من غير أن يرى هو وأبوه محمد بن علي أو علي بن الحسين عليهم السلام عند أحد من رواة العامة أو فقهائهم يتعلمون منهم شيئا ، وفي ذلك أدل دليل على أنهم إنما أخذوا ذلك العلم عن النبي صلى الله عليه وآله ، ثم عن علي عليه السلام ، ثم عن واحد واحد من الائمة ، وكذلك جماعة الائمة عليهم السلام هذه سنتهم في العلم ( 2 ) يسألون عن الحلال والحرام فيجيبون جوابات متفقة من غير أن يتعلموا ذلك من أحد من الناس ، فأي دليل أدل من هذا على إمامتهم وأن النبي صلى الله عليه وآله نصبهم وعلمهم وأودعهم علمه وعلوم الانبياء عليهم السلام قبله ، وهل رأينا في العادات
____________
( 1 ) في بعض النسخ " لبقره العلم " .
( 2 ) في بعض النسخ " سبيلهم في العلم . "

( 92 )

من ظهر عنه مثل ما ظهر عن محمد بن علي وجعفر بن محمد عليهم السلام من غير أن يتعلموا ذلك من أحد من الناس .
فان قال قائل : لعلهم كانوا يتعلمون ذلك سرا ، قيل لهم : قد قال مثل ذلك الدهرية في النبي صلى الله عليه وآله أنه كان يتعلم الكتابة ويقرأ الكتاب سرا . وكيف يجوز أن يظن ذلك بمحمد بن علي وجعفر بن محمد بن علي عليهم السلام وأكثر ما أتوا به لا يعرف إلا منهم ، ولا سمع من غيرهم .
وقد سألونا فقالوا : ابن الحسن لم يظهر ظهورا تاما للخاصة والعامة فمن أين علمتم وجوده في العالم ؟ وهل رأيتموه أو أخبرتكم جماعة ( قد ) تواترت أخبارها أنها شاهدته وعاينته ؟
فيقال لهم : إن أمر الدين كله بالاستدلال يعلم ، فنحن عرفنا الله عزوجل بالادلة ولم نشاهده ، ولا أخبرنا عنه من شاهده ، وعرفنا النبي صلى الله عليه وآله وكونه في العالم بالاخبار ، وعرفنا نبوته وصدقه بالاستدلال ، وعرفنا أنه استخلف علي بن ـ أبي طالب عليه السلام بالاستدلال ، وعرفنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسائر الائمة عليهم السلام بعده عالمون بالكتاب والسنة ولا يجوز عليهم في شيء من ذلك الغلط ولا النسيان ولا تعمد الكذب بالاستدلال ، وكذلك عرفنا أن الحسن بن علي عليهما السلام إمام مفترض الطاعة ، وعلمنا بالاخبار المتواترة عن الائمة الصادقين عليهم السلام أن الامامة لا تكون بعد كونها في الحسن والحسين عليهما السلام إلا في ولد الامام ولا يكون في أخ ولا قرابة ، فوجب من ذلك أن الامام لا يمضي إلا أن يخلف من ولده إماما ( 1 ) فلما صحت إمامة الحسن عليه السلام وصحت وفاته ثبت أنه قد خلف من ولده إماما ، هذا وجه من الدلالة عليه .
ووجه آخر : وهو أن الحسن عليه السلام خلف جماعة من ثقاته ممن يروي ( 2 ) عنه الحلال والحرام ويؤدي كتب شيعته وأموالهم ويخرجون الجوابات وكانوا بموضع من الستر ( 3 ) والعدالة بتعديله إياهم في حياته ، فلما مضى أجمعوا جميعا على أنه قد خلف
____________
( 1 ) في بعض النسخ « من بعده اماما » .
( 2 ) في بعض النسخ « يؤدى عنه الحلال » .
( 3 ) في بعض النسخ « في الستر » .

( 93 )

ولدا هو الامام وأمروا الناس أن لا يسألوا عن اسمه وأن يستروا ذلك من أعدائه ، و طلبه السلطان أشد طلب ووكل بالدور والحبالى من جواري الحسن عليه السلام ، ثم كانت كتب ابنه الخلف بعده تخرج إلى الشيعة بالامر والنهي على أيدي رجال أبيه الثقات أكثر من عشرين سنة ، ثم انقطعت المكاتبة ومضى أكثر رجال الحسن عليه السلام الذين كانوا شهدوا بأمر الامام بعده وبقي منهم رجل واحد قد أجمعوا على عدالته وثقته فأمر الناس بالكتمان وأن لا يذيعوا شيئا من أمر الامام ، وانقطعت المكاتبة فصح لنا ثبات عين الامام بما ذكرت من الدليل ، وبما وصفت عن أصحاب الحسن عليه السلام ورجاله ونقلهم خبره ، وصحة غيبته بالاخبار المشهورة في غيبة الامام عليه السلام وأن له غيبتين احديهما أشد من الاخرى .
ومذهبنا في غيبة الامام في هذا الوقت لا يشبه مذهب الممطورة ( 1 ) في موسى بن جعفر لان موسى مات ظاهرا ورآه الناس ميتا ودفن دفنا مكشوفا ومضى لموته أكثر من مائة سنة وخمسين سنة لا يدعي أحد أنه يراه ولا يكاتبه ولا يراسله ، ودعواهم أنه حي فيه إكذاب الحواس التي شاهدته ميتا وقد قام بعده عدة أئمة فأتوا من العلوم بمثل ما أتى به موسى عليه السلام . وليس في دعوانا هذه ـ غيبة الامام ـ إكذاب للحس ولا محال ولا دعوى تنكرها العقول ولا تخرج من العادات وله إلى هذا الوقت من يدعي من شيعته الثقات المستورين أنه باب إليه وسبب يؤدي عنه إلى شيعته أمره ونهيه ولم تطل
____________
( 1 ) المراد بالممطورة : الواقفية . كما في المجمع قال فيه : والممطر ـ كمنبر ـ ما يلبس في المطر يتوقى به . والممطورة : الكلاب المبتلة بالمطر . وقال أبو محمد الحسن ابن موسى النوبختي في كتابه « فرق الشيعة » وقد لقب الواقفة بعض مخالفيها ممن قال بامامة علي بن موسى « الممطورة » وغلب عليها هذا الاسم وشاع لها . وكان سبب ذلك أن علي ابن اسماعيل الميثمي ويونس بن عبد الرحمن ناظرا بعضهم فقال له على بن اسماعيل ـ وقد اشتد الكلام بينهم ـ : ما أنتم الا كلاب ممطورة . أراد أنكم أنتن من جيف لان الكلاب إذا أصابها المطر فهى أنتن من الجيف . فلزمهم هذا اللقب فهم يعرفون به اليوم ، لانه إذا قيل للرجل أنه ممطور فقد عرف أنه من الواقفة علي موسى بن جعفر عليهما السلام خاصة لان كل من مضى منهم فله واقفة قد وقفت عليه وهذا اللقب لاصحاب موسى خاصة . انتهى .
( 94 )

المدة في الغيبة طولا يخرج من عادات من غاب ، فالتصديق بالاخبار يوجب اعتقاد إمامة ابن الحسن عليه السلام على ما شرحت وأنه قد غاب كما جاءت الاخبار في الغيبة فانها جاءت مشهورة متواترة وكانت الشيعة تتوقعها وتترجاها ( 1 ) كما ترجون بعد هذا من قيام القائم عليه السلام بالحق وإظهار العدل . ونسأل الله عزوجل توفيقا وصبرا جميلا برحمته .
وقال أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي في نقض كتاب الاشهاد لابي زيد العلوي ، قال صاحب الكتاب بعد أشياء كثيرة ذكرها لا منازعة فيها : وقالت الزيدية والمؤتمة ( 2 ) : الحجة من ولد فاطمة بقول الرسول المجمع عليه في حجة الوداع ، ويوم خرج إلى الصلاة في مرضه الذي توفي فيه : « أيها الناس قد خلفت فيكم كتاب الله وعترتي ألا إنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ، ألا وإنكم لن تضلوا ما استمستكم بهما » . ثم أكد صاحب الكتاب هذا الخبر وقال فيه قولا لا مخالفة فيه ، ثم قال بعد ذلك : إن المؤتمة خالفت الاجماع وادعت الامامة في بطن من العترة ولم توجبها لسائر العترة ( 3 ) ، ثم لرجل من ذلك البطن في كل عصر .
فأقول ـ وبالله الثقة : إن في قول النبي صلى الله عليه وآله على ما يقول الامامية دلالة واضحة وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله قال : « إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي » دل على أن الحجة من بعده ليس من العجم ولا من سائر قبايل العرب بل من عترته أهل بيته ، ثم قرن قوله بما دل ( به ) على مراده فقال : ألا وإنها لن يفترقا حتى يردا علي الحوض « فأعلمنا أن الحجة من عترته لا تفارق الكتاب ، و إنا متى تمسكنا بمن لا يفارق الكتاب لن نضل ، ومن لا يفارق الكتاب ممن فرض على الامة أن يتمسكوا به ، ويجب في العقول أن يكون عالما بالكتاب مأمونا عليه يعلم ناسخه من منسوخه ، وخاصه من عامه ، وحتمه من ندبه ، ومحكمه من متشابهه
____________
( 1 ) في بعض النسخ « تتوخاها » .
( 2 ) يعني الامامية ـ الاثنى عشرية ـ .
( 3 ) يريد أن لفظ العترة عام يشملهم جميعا فجميع العترة داخل .

( 95 )

ليضع كل شيء من ذلك موضعه الذي وضعه الله عزوجل ، لا يقدم مؤخرا ، ولا يؤخر مقدما . ويجب أن يكون جامعا لعلم الدين كله ليمكن التمسك به والاخذ بقوله فيما اختلفت فيه الامة وتنازعته من تأويل الكتاب والسنة ، ولانه إن بقي منه شئ لا يعلمه لم يمكن التمسك به ثم متى كان بهذا المحل أيضا لم يكن مأمونا على الكتاب ، ولم يؤمن أن يغلط فيضع الناسخ منه مكان المنسوخ ، والمحكم مكان المتشابه ، والندب مكان الحتم ، إلى غير ذلك مما يكثر تعداده ، وإذا كان ( هذا ) هكذا صار الحجة والمحجوج سواء ، وإذا فسد هذا القول صح ما قالت الامامية من أن الحجة من العترة لا يكون إلا جامعا لعلم الدين معصوما مؤتمنا على الكتاب ، فان وجدت الزيدية في أئمتها من هذه صفته فنحن أول من ينقاد له ، وإن تكن الاخرى فالحق أولى ما اتبع .
وقال شيخ من الامامية : إنا لم نقل : إن الحجة من ولد فاطمة عليهما السلام قولا مطلقا وقلناه بتقييد وشرائط ، ولم نحتج لذلك بهذا الخبر فقط بل احتججنا به و بغيره ، فأول ذلك أنا وجدنا النبي صلى الله عليه وآله قد خص من عترته أهل بيته أمير المؤمنين و الحسن والحسين عليهم السلام بما خص به ودل على جلالة خطرهم وعظم شأنهم وعلو حالهم عند الله عزوجل بما فعله بهم في الموطن بعد الموطن والموقف بعد الموقف مما شهرته تغني عن ذكره بيننا وبين الزيدية ، ودل الله تبارك وتعالى على ما وصفناه من علو شأنهم بقوله : « إنما يريد الله ليذهب عنك الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا » ( 1 ) و بسورة هل أتى وما يشاكل ذلك ، فلما قدم عليه السلام هذه الامور وقرر عند امته أنه ليس في عترته من يتقدمهم في المنزلة والرفعة ولم يكن عليه السلام ممن ينسب إلى المحاباة ولا ممن يولي ويقدم إلا على الدين علمنا أنهم عليهم السلام نالوا ذلك منه استحقاقا بما خصهم به ، فلما قال بعد ذلك كله : « قد خلفت فيكم كتاب الله وعترتي » علمنا أنه عنى هؤلاء دون غيرهم لانه لو كان هناك من عترته من له هذه المنزلة لخصه عليه السلام و
____________
( 1 ) الاحزاب : 33 .
( 96 )

نبه على مكانه ، ودل على موضعه لئلا يكون فعله بأمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام محاباة ، وهذا واضح ، والحمد لله ، ثم دلنا على أن الامام بعد أمير المؤمنين الحسن باستخلاف أمير المؤمنين عليه السلام إياه واتباع أخيه له طوعا .
وأما قوله : « إن المؤتمة خالفت الاجماع وادعت الامامة في بطن من العترة » فيقال له : ما هذا الاجماع السابق الذي خالفناه فانا لا نعرفه ، اللهم إلا أن تجعل مخالفة الامامية للزيدية خروجا من الاجماع ، فان كنت إلى هذا تومي فليس يتعذر على الامامية أن تنسبك إلى مثل ما نسبتها إليه وتدعي عليك من الاجماع مثل الذي ادعيته عليها ، وبعد فأنت تقول : إن الامامة لا تجوز ( 1 ) إلا لولد الحسن والحسين عليهما السلام فبين لنا لم خصصت ولدهما دون سائر العترة لنبين لك بأحسن من حجتك ما قلناه ، وسيأتي البرهان في موضعه إن شاء الله .
ثم قال صاحب الكتاب : وقالت الزيدية : الامامة جائزة للعترة وفيهم لدلالة رسول الله صلى الله عليه وآله عليهم عاما لم يخصص بها بعضا دون بعض ، ولقول الله عزوجل لهم دون غيرهم باجماعهم : « ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ـ الاية » ( 2 ) .
فأقول ـ وبالله التوفيق ـ : قد غلط صاحب الكتاب فيما حكى لان الزيدية إنما تجيز الامامة لولد الحسن والحسين عليهما السلام ( 3 ) خاصة ، والعترة في اللغة العم و بنو العم ، الاقرب فالاقرب ، وما عرف أهل اللغة قط ولا حكى عنهم أحد أنهم قالوا : العترة لا تكون إلا ولد الا بنة من ابن العم ، هذا شيء تمنته الزيدية وخدعت به أنفسنا وتفردت بادعائه بلا بيان ولا برهان ، لان الذي تدعيه ليس في العقل و لا في الكتاب ولا في الخبر ولا في شئ من اللغات وهذه اللغة وهؤلاء أهلها فاسألوهم
____________
( 1 ) في بعض النسخ « لا تكون » .
( 2 ) فاطر : 32 ، وتمام الاية « فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات باذن الله ذلك هو الفضل الكبير » .
( 3 ) في منقوله المترجم في كتاب المسمى بنامه دانشوران ج 4 ص 278 « الزيدية انما تجيز الامامة لولد الحسين عليه السلام » .

( 97 )

يبين لكم أن العترة في اللغة الاقرب فالاقرب من العم وبني العم .
فان قال صاحب الكتاب : فلم زعمت أن الامامة لا تكون ( 1 ) لفلان وولده ، وهم من العترة عندك ؟
قلنا له : نحن لم نقل هذا قياسا وإنما قلناه اتباعا لما فعله صلى الله عليه وآله بهؤلاء الثلاثة ( 2 ) دون غيرهم من العترة ولو فعل بفلان ( 3 ) ما فعله بهم لم يكن عندنا إلا السمع والطاعة . وأما قوله : إن الله تبارك وتعالى قال : « ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ـ الاية » .
فيقال له : قد خالفك خصومك من المعتزلة وغيرهم في تأويل هذه الاية وخالفتك الامامية وأنت تعلم من السابق بالخيرات عند الامامية ، وأقل ما كان يجب عليك ـ وقد ألفت كتابك هذا لتبين الحق وتدعو إليه ـ أن تؤيد الدعوى بحجة ، فان لم تكن فاقناع ، فان لم يكن فترك الاحتجاج ( 4 ) بما لم يمكنك أن تبين أنه حجة لك دون خصومك ، فان تلاوة القرآن وادعاء تأويله بلا برهان أمر لا يعجز عنه أحد ، وقد ادعى خصومنا وخصومك أن قول الله عزوجل : « كنتم خير أمة أخرجت للناس ـ الاية » ( 5 ) هم جميع علماء الامة وأن سبيل علماء العترة وسبيل علماء المرجئة سبيل واحد وأن الاجماع لا يتم والحجة لا تثبت بعلم العترة فهل بينك وبينها فصل ؟ وهل تقنع منها بما ادعت أو تسألها البرهان ؟ فان قال : بل أسألها البرهان ، قيل له : فهات برهانك أولا على أن المعنى بهذه الاية التي تلوتها هم العترة ، وأن العترة هم الذرية وأن الذرية هم ولد الحسن والحسين عليهما السلام دون غيرهم من ولد جعفر وغيره ممن
____________
( 1 ) في بعض النسخ « لا تجوز » .
( 2 ) يعني امير المؤمنين والسبطين عليهم السلام .
( 3 ) أي لو فعل رسول الله صلى الله عليه وآله مثلا بعباس وولديه عبد الله والفضل ما فعل بهؤلاء الثلاثة لم يكن ـ الخ .
( 4 ) يعني ان لم تكن حجة فبدليل اقناعي وان لم يكن دليل اقناعي فترك الاحتجاج بما ليس لك حجة بل يمكن أن يكون حجة لخصومك .
( 5 ) آل عمران : 110 .

( 98 )

امهاتهم فاطميات .
ثم قال : ويقال للمؤتمة : ما دليلكم على إيجاب الامامة لواحد دون الجميع وحظرها على الجميع ، فان اعتلوا بالوراثة والوصية ، قيل لهم : هذه المغيرية ( 1 ) تدعي الامامة لولد الحسن ثم في بطن من ولد الحسن بن الحسن في كل عصر وزمان بالوراثة والوصية من أبيه وخالفوكم بعد فيما تدعون كما خالفتم غيركم فيما يدعي .
فأقول ـ وبالله الثقة ـ : الدليل على أن الامامة لا تكون إلا لواحد أن الامام لا يكون إلا الافضل والافضل يكون على وجهين : إما أن يكون أفضل من الجميع أو أفضل من كل واحد من الجميع ، فكيف كانت القصة فليس يكون الافضل إلا واحدا لانه من المحال أن يكون أفضل من جميع الامة أو من كل واحد من الامة وفي الامة من هو أفضل منه ، فلما لم يجز هذا وصح بدليل تعترف الزيدية بصحته أن الامام لا يكون إلا الافضل صح أنها لا تكون إلا لواحد في كل عصر ، والفصل فيما بيننا وبين المغيرية سهل واضح قريب والمنة لله ، وهو أن النبي صلى الله عليه آله دل على الحسن والحسين عليهما السلام دلالة بينة وبان بهما من سائر العترة بما خصهما به مما ذكرناه ووصفناه ، فلما
____________
( 1 ) المغيرية هم أصحاب المغيرة بن سعيد العجلي مولى بجيلة الذى خرج بظاهر الكوفة في امارة خالد بن عبد الله القسري فظفر به وأحرقه وأحرق أصحابه سنة 119 كما في تاريخ الطبري وقد تظافرت الروايات بكونه كذابا وروى الكشى روايات كثيرة في ذمه . وهو وأصحابه أنكروا امامة أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام وقالوا بامامة محمد ابن عبد الله بن الحسن فلما قتل صاروا لا امام لهم ولا وصى ولا يثبتون لاحد امامة بعد وفى بعض النسخ المصححة « المفترية » وفى هامشه « اعلم أن الفرق بين المفترية والزيدية أن المفترية لا يقولون بامامة الحسين بعد أخيه الحسن عليهما السلام بل يقولون : ان الامام بعد الحسن عليه السلام ابنه الحسن المثنى والزيدية قائلون بامامة علي بن الحسين من بعد أبيه لكن لم يقولوا بامامة محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام بل قائلون بامامة زيد بن علي بن الحسين عليهما السلام بعد أبيه وأيضا قائلون بامامة ولد الحسن من كان منهم ادعى الامامة » انتهى . وفي بعض النسخ « المعترية » .
( 99 )

مضى الحسن كان الحسين أحق وأولى بدلالة الحسن لدلالة الرسول صلى الله عليه وآله عليه واختصاصه إياه وإشارته إليه ، فلو كان الحسن أوصى بالامامة إلى ابنه لكان مخالفا للرسول صلى الله عليه وآله وحاشا له من ذلك ، وبعد فلسنا نشك ولا نرتاب في أن الحسين عليه السلام أفضل من الحسن ابن الحسن بن علي والافضل هو الامام على الحقيقة عندنا وعند الزيدية ، فقد تبين لنا بما وصفنا كذب المغيرية وانتقض الاصل الذي بنوا عليه مقالتهم ، ونحن لم نخص علي بن الحسين بن علي عليهم السلام بما خصصناه به محاباة ، ولا قلدنا في ذلك أحدا ، ولكن الاخبار قرعت سمعنا فيه بما لم تقرع في الحسن بن الحسن . ودلنا على أنه أعلم منه ما نقل ( 1 ) من علم الحلال والحرام عنه ، وعن الخلف من بعده ، وعن أبي عبد الله عليه السلام ، ولم نسمع للحسن بن الحسن بشيء يمكننا أن نقابل بينه وبين من سمعناه من علم علي بن الحسين عليهما السلام ، والعالم بالدين أحق بالامامة ممن لا علم له ، فان كنتم يا معشر الزيدية عرفتم للحسن بن الحسن علما بالحلال و الحرام فأظهروه وإن لم تعرفوا له ذلك فتفكروا في قول الله عزوجل « أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون » ( 2 ) ، فلسنا ندفع الحسن بن الحسن عن فضل وتقدم وطهارة وزكاة وعدالة ، والامامة لا يتم أمرها إلا بالعلم بالدين والمعرفة بأحكام رب العالمين وبتأويل كتابه ، وما رأينا إلى يومنا هذا ولا سمعنا بأحد قالت الزيدية بامامته إلا وهو يقول في التأويل ـ أعني تأويل القرآن ـ على الاستخراج وفي الاحكام على الاجتهاد والقياس ، وليس يمكن معرفة تأويل القرآن بالاستنباط ( 3 ) ، لان ذلك كان ممكنا لو كان القرآن إنما أنزل بلغة واحدة وكان علماء أهل تلك اللغة يعرفون المراد ، فأما القرآن قد نزل بلغات كثيرة ، وفيه أشياء لا يعرف المراد منها إلا بتوقيف مثل الصلاة والزكاة والحج ( 4 ) وما في هذا الباب منه ،
____________

( 1 ) في بعض النسخ « ما فضل » .
( 2 ) يونس : 35 .
( 3 ) في بعض النسخ « بالاستخراج » .
( 4 ) يعنى لفظ « الصلاة » و « الزكاة » و « الحج » .

( 100 )

وفيه أشياء لا يعرف المراد منها إلا بتوقيف مما نعلم وتعلمون أن المراد منه إنما عرف بالتوقيف دون غيره ، فليس يجوز حمله على اللغة لانك تحتاج أولا أن تعلم أن الكلام الذي تريد أن تتأوله ليس فيه توقيف أصلا ، لا في جمله ولا في تفصيله .
فان قال منهم قائل : لم ينكر أن يكون ما كان سبيله أن يعرف بالتوقيف فقد وقف الله رسوله صلى الله عليه وآله ، وما كان سبيله أن يستخرج فقد وكل إلى العلماء وجعل بعض القرآن دليلا على بعض فاستغنينا بذلك عما تدعون من التوقيف والموقف .
قيل له : لا يجوز أن يكون ذلك على ما وصفتم لانا نجد للاية الواحدة تأويلين متضادين كل واحد منهما يجوز في اللغة ويحسن أن يتعبد الله به ، وليس يجوز أن يكون للمتكلم الحكيم كلام يحتمل مرادين متضادين .
فان قال : ما ينكر أن يكون في القرآن دلالة على أحد المرادين وأن يكون العلماء بالقرآن متى تدبروه علموا المراد بعينه دون غيره .
فيقال للمعترض بذلك : أنكرنا هذا الذي وصفته لامر نخبرك به : ليس تخلو تلك الدلالة التي في القرآن على أحد المرادين من أن تكون محتملة للتأويل أو غير محتملة فان كانت محتملة للتأويل فالقول فيها كالقول في هذه الاية وإن كانت لا تحتمل التأويل فهي إذا توقيف ونص على المراد بعينه ويجب أن لا يشكل على أحد علم اللغة معرفة المراد ، وهذا ما لا تنكره العقول ، وهو من فعل الحكيم جائز حسن ، ولكنا إذا تدبرنا آي القرآن لم نجد هكذا ووجدنا الاختلاف في تأويلها قائما بين أهل العلم بالدين و اللغة ، ولو كان هناك آيات تفسر آيات تفسيرا لا يحتمل التأويل لكان فريق من المختلفين في تأويله من العلماء باللغة معاندين ، ولامكن كشف أمرهم بأهون السعي ، ولكان من تأول الاية خارجا من اللغة ومن لسان أهلها ، لان الكلام إذا لم يحتمل التأويل فحملته على ما لا يحتمله خرجت عن اللغة التي وقع الخطاب بها ، فدلونا يا معشر الزيدية على آية واحدة اختلف أهل العلم في تأويلها في القرآن ما يدل نصا و توقيفا على تأويلها ، وهذا أمر متعذر وفي تعذره دليل على أنه لا بد للقرآن من مترجم يعلم مراد الله تعالى فيخبر به ، وهذا عندي واضح .