لمن تكسو ، والمورثة بعد ذلك العرى ، المواضعة لمن ترفع ، والمورثة بعد ذلك الجزع ، التاركة لمن يعشقها ، والمورثة بعد ذلك الشقوة ، المغوية لمن أطاعها واغتر بها ، الغدارة بمن ائتمنها وركن إليها ، هي المركب القموص ( 1 ) والصاحب الخؤون ، و الطريق الزلق ، والمهبط المهوي ، هي المكرمة التي لا تكرم أحدا إلا أهانته ، المحبوبة التي لا تحب أحدا ، الملزومة التي لا تلزم أحدا ، يوفي لها وتغدر ، ويصدق لها و تكذب ، وينجز لها وتخلف ، هي المعوجة لمن استقام بها ، المتلاعبة بمن استمكنت ( 2 ) منه ، بينا هي تطعمه إذ حولته مأكولا ، وبينا هي تخدمه إذ جعلته خادما ، وبينا هي تضحكه إذ ضحكت منه ، وبينا هي تشمته إذ شمتت منه ( 3 ) وبينا هي تبكيه إذا بكت عليه ، وبينا هي قد بسطت يده بالعطية إذ بسطتها بالمسألة ، وبينا هو فيها عزيز إذ أذلته وبينا هو فيها مكرم إذ أهانته ، وبينا هو فيها معظم إذ صار محقورا ، وبينا هو رفيع إذ وضعته ، وبينا هي له مطيعة إذ عصته ، وبينا هو فيها مسرور إذ أحزنته ، وبينا هو فيها شبعان إذ أجاعته ، وبينا هو فيها حي إذ أماتته .
فاف لها من دار إذ كان هذا فعالها ، وهذه صفتها ، تضع التاج على رأسه غدوة وتعفر خدة بالتراب عشية ، وتحلى الايدي بأسورة الذهب عشية ، وتجعلها في الاغلال غدوة ، وتقعد الرجل على السرير غدوة ، وترمي به في السجن عشية ، تفرش له الديباج عشية ، تفرش له التراب غدوة ، وتجمع له الملاهي والمعازف غدوة ، و تجمع عليه النوائح والنوادب عشية ، تحبب إلى أهله قربه عشية ، وتحبب إليهم بعده غدوة ، تطيب ريحه غدوة وتنتن ريحه عشية ، فهو متوقع لسطواتها ، غير ناج من فتنتها وبلائها ، تمتع نفسه من أحاديثها وعينه من أعاجيبها ، ويده مملوءة من جمعها ثم تصبح الكف صفرا ، والعين هامدة ، ذهب ما ذهب ، وهوى ما هوى ، وباد ما باد ،
____________
( 1 ) القموص ـ على وزان چموش ـ وبمعناه .
( 2 ) في بعض النسخ « استمسكت » .
( 3 ) في بعض النسخ « وبينا هي تشتمه إذا شتمت منه » . ولعل الصواب « بينا هي تسمنه إذ سمنت منه » .

( 582 )

وهلك ما هلك ، تجد في كل من كل خلفا ، وترضى بكل من كل بدلا ، تسكن دار كل قرن قرنا ، وتطعم سؤر كل قوم قوما ، تقعد الاراذل مكان الافاضل ، والعجزة مكان الحزمة ( 1 ) تنقل أقواما من الجدب إلى الخصب ( 2 ) ، ومن الرجلة إلى المركب ومن البؤس إلى النعمة ، ومن الشدة إلى الرخاء ، ومن الشقاء إلى الخفض والدعة حتى إذا غمستهم في ذلك انقلبت بهم فسلبتهم الخصب ، ونزعت منهم القوة . فعادوا إلى أبأس البؤس ، وأفقر الفقر ، وأجدب الجدب .
فأما قولك أيها الملك في إضاعة الاهل وتركهم فإني لم أضيعهم ، ولم أتركهم بل وصلتهم وانقطعت إليهم ، ولكني كنت وأنا أنظر بعين مسحورة لا أعرف بها الاهل من الغرباء ولا الاعداء من الاولياء ، فلما انجلى عني السحر استبدلت بالعين المسحورة عينا صحيحة ، واستبنت الاعداء من الاولياء ، والاقرباء من الغرباء ، فإذا الذين كنت أعدهم أهلين وأصدقاء وإخوانا وخلطاء إنما هو سباع ضارية ( 3 ) لاهمة لهم إلا أن تأكلني وتأكل بي ، غير أن اختلاف منازلهم في ذلك على قدر القوة ، فمنهم كالاسد في شدة السورة ( 4 ) ومنهم كالذئب في الغارة والنهبة ، ومنهم كالكلب في الهرير والبصبصة ، ومنهم كالثعلب في الحيلة السرقة ، فالطرق واحدة والقلوب مختلفة .
فلو أنك أيها الملك في عظيم ما أنت فيه من ملكك ، وكثرة من تبعك ومن أهلك وجنودك وحاشيتك وأهل طاعتك ، نظرت في أمرك عرفت أنك فريد وحيد ، ليس معك أحد من جميع أهل الارض ، وذلك أنك قد عرفت أن عامة الامم عدو لك ، وأن هذه الامة التي اوتيت الملك عليها كثيرة الحسد ( 5 ) من أهل العداوة والغش لك الذين هم أشد عداوة لك من السباع الضارية ، وأشد حنقا عليك من كل الامم
____________
( 1 ) في بعض النسخ « الفجرة مكان البررة » .
( 2 ) الجدب : القحط ، مقابل الخصب .
( 3 ) الضاري من الكلاب ما لهج بالصيد وتعود أكله .
( 4 ) السورة ـ بالفتح ـ : الحدة .
( 5 ) في بعض النسخ « الحشد » وهو الجماعة .

( 583 )

الغريبة ، وإذا صرت إلى أهل طاعتك ومعونتك وقرابتك وجدت لهم قوما يعملون عملا باجر ، يحرصون مع ذلك أن ينقصوك من العمل فيزدادوك من الاجر ، و إذا صرت الى أهل خاصتك وقرابتك صرت الى قوم جعلت كدك وحدك ( 1 ) وكدحك ومهناك وكسبك لهم ، فانت تودي إليهم كل يوم الضريبه ، وليس كلهم وان وزعت بينهم جميع كدك عنك براض فإن أنت حبست عنهم ذلك فليس منهم البتة راض ، أفلا ترى أنك أيها الملك وحيد لا أهل لك ولا مال .
فأما أنا فإن لي أهلا ومالا وإخوانا وأخوات وأولياء ، لا يأكلوني ، ولا يأكلون بي ، يحبوني واحبهم ، فلا يفقد الحب بيننا ، ينصحوني وأنصحهم فلا غش بيننا ، ويصدقوني ، واصدقهم فلا تكاذب بيننا ، ويوالوني واواليهم فلا عداوة بيننا ، ينصروني وأنصرهم فلا تخاذل بيننا ، يطلبون الخير الذي إن طلبته معهم لم يخافوا أن أغلبهم عليه أؤ أستأثر به دونهم ، فلا فساد بيننا ولا تحاسد ، يعملون لي وأعمل لهم باجور لا تنفد ولا يزال العمل قائما بيننا ، هم هداتي إن ضللت ، نور بصري إن عميت ، وحصني إن اتيت ، ومجني إن رميت ( 2 ) وأعواني إذا فزعت ، وقد تنزهنا عن البيوت و المخاني ( 3 ) فلا نريدها وتركنا الذخاير والمكاسب لاهل الدنيا فلا تكاثر بيننا ولا تباغى ، ولا تباغض ، ولا تفاسد ، ولا تحاسد ، ولا تقاطع ، فهؤلاء أهلي أيها الملك وإخواني وأقربائي وأحبائي ، وأحببتهم وانقطعت إليهم ، وتركت الذين كنت أنظر إليهم بالعين المسحورة لما عرفتهم ، والتمست السلامة منهم .
فهذه الدنيا أيها الملك التي أخبرتك أنها لا شيء فهذا نسبها وحسبها ومصيرها إلى ما قد سمعت ، وقد رفضتها لما عرفتها ، وأبصرت الامر الذي هو الشيء فإن كنت تحب أيها الملك أن أصف لك ما أعرف عن أمر الاخرة التي هي الشيء فاستعد إلى السماع ، تسمع غير ما كنت تسمع به من الاشياء .
____________
( 1 ) الكد : السعي والجد . والكدح في العمل : المجاهدة فيه .
( 2 ) المجن : الترس وكل ما وقى من السلاح .
( 3 ) لعله جمع خان وهو الحانوت والفندق . وفي بعض النسخ « المخابي » .

( 584 )

فلم يزد الملك عليه إلا أن قال له : كذبت لم تصب شيئا ، ولم تظفر إلا بالشقاء والعناء ، فاخرج ولا تقيمن في شيء من مملكتي ، فإنك فاسد مفسد .
وولد للملك في تلك الايام بعد إياسه من الذكور غلام لم ير الناس مولودا مثله قط حسنا وجمالا وضياء ، فبلغ السرور من الملك مبلغا عظيما كاد أن يشرف منه على هلاك نفسه من الفرح ، وزعم أن الاوثان التي كان يعبدها هي التي وهبت له الغلام ، فقسم عامة ما كان في بيوت أمواله على بيوت أوثانه ، وأمر الناس بالاكل والشرب سنة وسمى الغلام يوذاسف ( 1 ) وجمع العلماء والمنجمين لتقويم ميلاده ، فرفع المنجمون إليه أنهم يجدون الغلام يبلغ من الشرف والمنزلة ما لا يبلغه أحد قط في أرض الهند ، واتفقوا على ذلك جميعا ، غير أن رجلا قال : ما أظن الشرف والمنزلة والفضل الذي وجدناه يبلغه هذا الغلام إلا شرف الاخرة ولا أحسبه إلا أن يكون إماما في الدين والنسك وذا فضيلة في درجات الاخرة لاني أرى الشرف الذي تبلغه ليس يشبه شيئا من شرف الدنيا وهو شبيه بشرف الاخرة . فوقع ذلك القول من الملك موقعا كاد أن ينغصه سروره بالغلام ، وكان المنجم الذي أخبره بذلك من أوثق المنجمين في نفسه وأعلمهم وأصدقهم عنده ، وأمر الملك للغلام بمدينة فأخلاها وتخير له من الظؤورة ( 1 ) والخدم كل ثقة ، وتقدم إليهم أن لا يذكر فيما بينهم موت ولا آخرة ولا حزن ولا مرض ولا فناء حتى تعتاد ذلك ألسنتهم وتنساه قلوبهم ، وأمرهم إذا بلغ الغلام أن لا ينطقوا عنده بذكر شيء مما يتخوفونه عليه خشية أن يقع في قلبه منه شيء فيكون ذلك داعية إلى اهتمامه بالدين والنسك ، وأن يتحفظوا ويتحرزوا من
____________
( 1 ) كذا بالياء في جميع النسخ والمظنون أنه تصحيف والصواب بوداسف والكلمة مركبة من « بوذا » و « سف » وقيل : بوذا هو الاسم الدينى لمؤسس الديانة البوذية ومعناه باللغة السنسكريتية : العالم الذى وصل الحصول على البوذة وهو العلم الكامل . لكن لم أجد في موضع يدخله أداة التعريف وعلى ما قيل ليس باسم علم بل هو صفة ، وبناء عليه يجوز أن يدخله « أل » ويقال « البوذا » والعلم عند الله .
( 2 ) جمع الظئر : المرضعة .

( 585 )

ذلك ، ويتفقد بعضهم من بعض .
وازداد الملك عند ذلك حنقا على النساك مخافة على ابنه .
وكان لذلك الملك وزير قد كفل أمره وحمل عنه مؤونة سلطانه ، وكان لا يخونه ولا يكذبه ولا يكتمه ، ولا يؤثر عليه ، ولا يتواني في شيء من عمله ، ولا يضيعه ، وكان الوزير مع ذلك رجلا لطيفا طلقا معروفا بالخير ، يحبه الناس ويرضون به إلا أن أحباء الملك وأقرباءه كانوا يحسدونه ، ويبغون عليه ، ويستقلون بمكانه ( 1 ) .
ثم إن الملك خرج ذات يوم إلى الصيد ومعه ذلك الوزير فأتى به في شعب من الشعاب على رجل قد أصابته زمانة شديدة في رجليه ، ملقى في أصل شجرة لا يستطيع براحا ( 2 ) فسأله الوزير عن شأنه فأخبره أن السباع أصابته ، فرق له الوزير فقال له الرجل : ضمني إليك واحملني إلى منزلك فإنك تجد عندي منفعة ، فقال الوزير : إني لفاعل وإن لم أجد عندك منفعة ، ولكن يا هذا ما المنفعة التي تعدنيها ، هل تعمل عملا أو تحسن شيئا ؟ فقال الرجل : نعم أنا أرتق الكلام ( 3 ) فقال : وكيف ترتق الكلام قال : إذا كان فيه فتق أرتقه حتى لا يجيئ من قبله فساد ، فلم ير الوزير قوله شيئا ، وأمر بحمله إلى منزله وأمر له بما يصلحه حتى إذا كان بعد ذلك احتال أحباء الملك للوزير وضربوا له الامور ظهرا وبطنا فأجمع رأيهم على أن دسوا رجلا منهم إلى الملك ، فقا له أيها الملك إن هذا الوزير يطمع في ملكك أن يغلب عليه من بعدك فهو يصانع الناس على ذلك ، ويعمل عليه دائبا ، فإن أردت أن تعلم صدق ذلك فأخبره أنه قد بدا لك أن ترفض الملك وتلحق بالنساك ، فإنك سترى من فرحه بذلك ما تعرف به أمره ، وكان القوم قد عرفوا من الوزير رقة عند ذكر فناء الدنيا و الموت ولينا للنساك وحبا لهم فعملوا فيه من الوجه الذي ظنوا أنهم يظفرون بحاجتهم
____________
( 1 ) في بعض النسخ « يستثقلون بمكانه » .
( 2 ) أي لا يستطيع تحولا .
( 3 ) رتق الفتق : أصلحه . يقال : هو راتق أي مصلح الامر .

( 586 )

منه ، فقال الملك : لئن أنا هجمت منه على هذا لم أسأل عما سواه ، فلما أدخل عليه الوزير قال له الملك : إنك قد عرفت حرصي على الدنيا وطلب الملك وإني قد ذكرت ما مضى من ذلك فلم أجد معي منه طائلا ، وقد عرفت أن الذي بقي منه كالذي مضي فإنه يوشك أن ينقضي ذلك كله بأجمعة فلا يصير في يدي منه شيء ، وأنا اريد أن أعمل في حال الاخرة عملا قويا على قدر ما كان من عملي في الدنيا ، وقد بدا لي أن الحق بالنساك واخلي هذا العمل لاهله فما رأيك ؟ قال : فرق الوزير لذلك رقة شديدة حتى عرف الملك ذلك منه ، ثم قال : أيها الملك إن الباقي وإن كان عزيزا لاهل أن يطلب ، وإن الفاني وإن استمكنت منه لاهل أن يرفض ، ونعم الرأي رأيت ، وإني لارجو أن يجمع الله لك مع الدنيا شرف الاخرة ، قال : فكبر ذلك على الملك ووقع منه كل موقع ولم يبدله شيئا غير أن الوزير عرف الثقل في وجهه فانصرف إلى أهله كئيبا حزينا لا يدري من أين اتي ولا من دهاه ( 1 ) ولا يدري ما دواء الملك فيما استنكر عليه فسهر لذلك عامة الليل ، ثم ذكر الرجل الذي زعم أنه يرتق الكلام فأرسل إليه فاتي به فقال له : إنك كنت ذكرت لي ذكرا من رتق الكلام فقال الرجل أجل فهل احتجت إلى شيء من ذلك ؟ فقال الوزير : نعم اخبرك أني صحبت هذا الملك قبل ملكه ومنذ صار ملكا فلم أستنكره فيما بيني وبينه قط لما يعرفه من نصيحتي وشفقتي وإيثاري إياه على نفسي وعلى جميع الناس ، حتى إذا كان هذا اليوم استنكرته استنكارا شديدا لا أظن لي خيرا عنده بعده ، فقال له الراتق : هل لذلك سبب أو علة ، قال الوزير : نعم دعاني أمس وقال لي كذا وكذا فقلت له كذا وكذا ، فقال : من ههنا جاء الفتق وأنا وأرتقه إن شاء الله .
إعلم أن الملك قد ظن أنك تحب أن يتخلى هو عن ملكه وتخلفه أنت فيه فإذا كان عند الصبح فاطرح عنك ثيابك وحليتك وألبس أوضع ما تجده من ذي النساك وأشهره ، ثم احلق رأسك وامض على وجهك إلى باب الملك فإن الملك سيدعو بك و يسألك عن الذي صنعت فقل له : هذا الذي دعوتني إليه ولا ينبغي لاحد أن يشير
____________
( 1 ) في بعض النسخ « ما دهاه » .
( 587 )

على صاحبه بشيء إلا واساه فيه وصبر عليه ، وما أظن الذي دعوتني إليه إلا خيرا مما نحن فيه ، فقم إذا بدا لك ، ففعل الوزير ذلك فتخلى عن نفس الملك ما كان فيها عليه .
ثم أمر الملك بنفي النساك من جميع بلاده وتوعدهم بالقتل ، فجدوا في الهرب والاستخفاء ، ثم إن الملك خرج ذات يوم متصيدا فوقع بصره على شخصين من بعيد فأرسل إليهما فاتي بهما فإذا هما ناسكان فقال لهما : ما بالكما لن تخرجا من بلادي قالا : قد أتتنا رسلك ونحن على سبيل الخروج ، قال : ولم خرجتما راجلين ، قالا : لانا قوم ضعفاء ليس لنا دواب ولا زاد ولا نستطيع الخروج إلا التقصير ، قال الملك إن من خاف الموت أسرع بغير دابة ولا زاد ، فقالا له : إنا لا نخاف الموت بل لا ننظر قرة عين في شيء من الاشياء إلا فيه .
قال الملك : وكيف لا تخافان الموت وقد زعمتما أن رسلنا لما أتتكم وأنتم على سبيل الخروج أفليس هذا هو الهرب من الموت ؟ قالا : إن الهرب من الموت ليس من الفرق ( 1 ) فلا تظن أنا فرقناك ولكنا هربنا من أن نعينك على أنفسنا ، فأسف الملك و أمر بهما أن يحرقا بالنار ، وأذن في أهل مملكته بأخذ النساك وتحريقهم بالنار فتجرد رؤساء عبدة الاوثان في طلبهم وأخذوا منهم بشرا كثيرا وأحرقوهم بالنار ، فمن ثم صار التحريق سنة باقية في أرض الهند ، وبقي في جميع تلك الارض قوم قليل من النساك كرهوا الخروج من البلاد ، واختاروا الغيبة والاستخفاء ليكونوا دعاء وهداة لمن وصلوا إلى كلامهم .
فنبت ابن الملك أحسن نبات في جمسه وعقله وعلمه ورأيه ، ولكنه لم يؤخذ بشيء من الاداب إلا بما يحتاج إليه الملوك مما ليس فيه ذكر موت ولا زوال و لا فناء واوتي الغلام من العلم والحفظ شيئا كان عند الناس من العجائب ، وكان أبوه لا يدري أيفرح بما اوتي ابنه من ذلك أو يحزن له لما يتحوف عليه أن يدعوه ذلك إلى ما قيل فيه .
____________
( 1 ) الفرق ـ محركة ـ : الخوف .
( 588 )

فلما فطن الغلام بحصرهم إياه في المدينة ومنعهم إياه من الخروج والنظر والاستماع وتحفظهم عليه ارتاب لذلك وسكت عنه وقال في نفسه هؤلاء أعلم بما يصلحني مني حتى إذا ازداد بالسن والتجربة علما قال : ما أرى لهؤلاء علي فضلا وما أنا بحقيق أن اقلدهم أمري ، فأراد أن يكلم أباه إذا دخل عليه ويسأله عن سبب حصره إياه ، ثم قال : ما هذا الامر إلا من قبله وما كان ليطلعني عليه ولكني حقيق أن ألتمس علم ذلك من حيث أرجو إدراكه ، وكان في خدمه رجل كان ألطفهم به وأرأفهم به ، وكان الغلام إليه مستأنسا فطمع الغلام في إصابة الخبر من قبل ذلك الرجل فازداد له ملاطفة وبه استيناسا ، ثم إن الغلام واضعه الكلام في بعض الليل باللين وأخبره أنه بمنزلة والده وأولى الناس به ، ثم أخذه بالترغيب والترهيب وقال له : إني لاظن هذا الملك صائر لي بعد والدي وأنت فيه صائر أحد رجلين إما أعظم الناس منه منزلة وإما أسوء الناس حالا ، قال له الخاضن ( 1 ) وبأي شيء أتخوف في ملكك سوء الحال ؟ قال : بأن تكتمني اليوم أمرا أفهمه غدا من غيرك ، فأنتقم منك بأشد ما أقدر عليك ، فعرف الحاضن منه الصدق وطمع منه في الوفاء فأفشى إليه خبره ، والذي قال المنجمون لابيه ، والذي حذر أبوه من ذلك ، فشكر له الغلام ذلك وأطبق عليه حتى إذا دخل عليه أبوه .
قال : يا أبة إني وإن كنت صبيا فقد رأيت في نفسي واختلاف حالي أذكر من ذلك ما أذكر وأعرف بما لا أذكر منه ما أعرف وأنا أعرف أني لم أكن على هذا المثال وأنك لم تكن على هذه الحال ، ولا أنت كائن عليها إلى الابد وسيغيرك الدهر عن حالك هذه ، فلئن كنت أردت أن تخفي عني أمر الزوال فما خفي علي ذلك ، ولئن كنت حبستني عن الخروج وحلت بيني وبين الناس لكيلا تتوق نفسي إلى غير ما أنا فيه لقد تركتني بحصرك إياي ، وإن نفسي لقلقة مما تحول بيني وبينه حتى ما لي هم
____________
( 1 ) الحاضن فاعل من حضنه أي جعله في حضنه ـ والحضن ما دون الابط لى االكشح أو الصدر والعضدان وما بينهما ـ أي الحافظ والمؤدب .
( 589 )

غيره ، ولا أردت سواه حتى لا يطمئن قلبي إلى شيء مما أنا فيه ولا أنتفع به ولا آلفه ، فخل عني وأعلمني بما تكره من ذلك وتحذره حتى أجتنبه وأوثر موافقتك ورضاك على ما سواهما .
فلما سمع الملك ذلك من ابنه علم أنه قد علم ما الذي يكرهه وأنه من حبسه وحصره لا يزيده إلا إغراء وحرصا على ما يحال بينه وبينه ، فقال : يا بني ما أردت بحصري إياك إلا أن انحي عنك الاذى ، فلا ترى إلا ما يوافقك ولا تسمع إلا ما يسرك ، فأما إذا كان هواك في غير ذلك فإن آثر الاشياء عندي ما رضيت وهويت .
ثم أمر الملك أصحابه أن يركبوه في أحسن زينة وأن ينحوا عن طريقه كل منظر قبيح ، وأن يعدوا له المعازف والملاهي ففعلوا ذلك ، فجعل بعد ركبته تلك يكثر الركوب ، فمر ذات يوم على طريق قد غفلوا عنه فأتى على رجلين من السؤال ( 1 ) أحدهما قد تورم وذهب لحمه ، واصفر جلده ، وذهب ماء وجهه ، وسمج منظره ، والاخر أعمى يقوده قائد ، فلما رأى ذلك اقشعر منهما وسأل عنهما فقيل له : إن هذا المورم من سقم باطن ، وهذا الاعمى من زمانة ، فقال ابن الملك : وإن هذا البلاء ليصيب غير واحد ؟ قالوا : نعم فقال : هل يأمن أحد من نفسه أن يصيبه مثل هذا ؟ قالوا : لا ، وانصرف يومئذ مهموما ثقيلا محزونا باكيا مستخفا بما هو فيه من ملكه وملك أبيه فلبث بذلك أياما .
ثم ركب ركبة فأتى في مسيره على شيخ كبير قد انحنى من الكبر ، وتبدل خلقه وابيض شعره ، واسود لونه ، وتقلص جلده ( 2 ) وقصر خطوه ، فعجب منه وسأل عنه فقالوا : هذا الهرم ، فقال : وفي كم تبلغ الرجل ما أرى ؟ قالوا : في مائة سنة أو نحو ذلك ، وقال : فما وراء ذلك ؟ قالوا : الموت ، قال : فما يخلى بين الرجل وبين ما يريد من المدة ؟ قالوا : لا وليصيرن إلى هذا في قليل من الايام ، فقال : الشهر
____________
( 1 ) في بعض النسخ « فأتى عليه رجلان من السؤال » .
( 2 ) تقلص أي انضم وانزوى .

( 590 )

ثلاثون يوما والسنة اثنا عشر شهرا وانقضاء العمر مائة سنة فما أسرع اليوم في الشهر ، وما أسرع الشهر في السنة ، وما أسرع السنة في العمر ، فانصرف الغلام وهذا كلامه يبدؤه ويعيده مكررا له .
ثم سهر ليلته كلها وكان له قلب حي ذكي وعقل لا يستطيع معه نسيانا ولا غفلة فعلاه الحزن والاهتمام فانصرف نفسه عن الدنيا وشهواتها وكان في ذلك يداري أباه و يتلطف عنده وهو مع ذلك قد أصغى بسمعه إلى كل متكلم بكلمة طمع ان يسمع شيئا يدله على غير ما هو فيه ، وخلا بحاضنه الذي كان أفضى إليه بسره ، فقال له : هل تعرف من الناس أحدا شأنه غير شأننا هذا ، قال : نعم قد كان قوم يقال لهم : النساك ، رفضوا الدنيا وطلبوا الاخرة ، ولهم كلام ، وعلم لا يدرى ما هو ، غير أن الناس عادوهم وأبغضوهم وحرقوهم ، ونفاهم الملك عن هذه الارض ، فلا يعلم اليوم ببلادنا منهم أحد فإنهم قد غيبوا أشخاصهم ينتظرون الفرج ، وهذه سنة في أولياء الله قديمة يتعاطونها في دول الباطل ، فاغتص لذلك الخبر فؤاده ، وطال به اهتمامه ، وصار كالرجل الملتمس ضالته التي لا بد له منها ، وذاع خبره في آفاق الارض وشهر بتفكره وجماله وكماله وفهمه وعقله وزهادته في الدنيا وهوانها عليه . فبلغ ذلك رجلا من النساك يقال له : بلوهر ، بأرض يقال لها : سرنديب ، كان رجلا ناسكا حكيما فركب البحر حتى أتى أرض سولابط ، ثم عمد إلى باب ابن الملك فلزمه وطرح عنه زي النساك ولبس زي التجار وتردد إلى باب ابن الملك حتى عرف الاهل والاحباء والداخلين إليه ، فلما استبان له لطف الحاضن بابن الملك ، وحسن منزلته منه أطاف به بلوهر حتى أصاب منه خلوة ، فقال له : إني رجل من تجار سرنديب ، قدمت منذ أيام ، ومعي سلعة نفيسة الثمن ، عظيمة القدر ، فأردت الثقة لنفسي فعليك وقع اختياري ، وسلعتي خير من الكبريت الاحمر ، وهي تبصر العميان ، وتسمع الصم ، وتداوي الاسقام ، وتقوي من الضعف ، وتعصم من الجنون ، وتنصر على العدو ، ولم أر بهذا أحدا هو أحق ، بها من هذا الفتى فإن رأيت أن تذكر له ذلك ذكرته فان كان له فيها حاجة أدخلتني عليه ، فإنه لم يخف عنه فضل سلعتي لو قد نظر


( 591 )

إليها ، قال الحاضن للحكيم : إنك لتقول شيئا ما سمعنا به من أحد قبلك ولا أرى بك بأسا وما مثلي يذكر ما لا يدري ما هو ، فأعرض علي سلعتك أنظر إليها فإن رأيت شيئا ينبغي لي أن أذكره ذكرته ، قال له بلوهر : إني رجل طبيب وإني لارى في بصرك ضعفا فأخاف إن نظرت إلى سلعتي أن يلتمع بصرك ، ولكن ابن الملك صحيح البصر حدث السن ولست أخاف عليه أن ينظر إلى سلعتي فإن رأى ما يعجبه كانت له مبذولة على ما يحب وإن كان غير ذلك لم تدخل عليه مؤونة ولا منقصة ، وهذا أمر عظيم لا يسعك أن تحرمه إياه أو تطويه دونه ، فانطلق الحاضن إلى ابن الملك فأخبره خبر الرجل فحس قلب ابن الملك بأنه قد وجد حاجته ، فقال : عجل إدخال الرجل علي ليلا وليكن ذلك في سرو كتمان ، فإن مثل هذا لا يتهاون به .
فأمر الحاضن بلوهر بالتهيئ للدخول عليه ، فحمل معه سفطا فيه كتب له ، فقال الحاضن : ما هذا السفط ؟ قال بلوهر : في هذا السفط سلعتي فإذا شئت فأدخلني عليه ، فانطلق به حتى أدخله عليه فلما دخل عليه بلوهر سلم عليه وحياه وأحسن ابن الملك إجابته ، وانصرف الحاضن ، وقعد الحكيم عند الملك فأول ما قال له بلوهر : رأيتك يا ابن الملك زدتني في التحية على ما تصنع بغلمانك وأشراف أهل بلادك ؟ قال ابن الملك : ذلك لعظيم ما رجوت عندك ، قال بلوهر : لئن فعلت ذلك بي فقد كان رجلا من المملوك في بعض الافاق يعرف بالخير ويرجى فبينا هو يسير يوما في موكبه إذ عرض له في مسيره رجلان ما شيان ، لباسهما الخلقان ، وعليهما أثر البؤس والضر ، فلما نظر إليهما الملك لم يتمالك أن وقع على الارض فحياهما وصافحهما ، فلما رأى ذلك وزراؤه اشتد جزعهم مما صنع الملك فأتوا أخا له وكان جريا عليه فقالوا له : إن الملك أزرى بنفسه ، وفضح أهل مملكته ، وخر عن دابة لانسانين دنيين ، فعاتبه على ذلك كيلا يعود ، ولمه على ما صنع ، ففعل ذلك أخ الملك فأجابه الملك بجواب لا يدري ما حاله فيه أساخط عليه الملك أم راض عنه ، فانصرف إلى منزله حتى إذا كان بعد أيام أمر الملك مناديا وكان يسمى منادي الموت فنادى في فناء داره ، وكانت تلك سنتهم فيمن أرادوا قتله ، فقامت النوائح والنوادب في دار أخ الملك ولبس ثياب الموتى وانتهى


( 592 )

إلي باب الملك وهو يبكي بكاء شديدا ونتف شعره ، فلما بلغ ذلك الملك دعابه ، فلما أذن له الملك دخل عليه ووقع على الارض ونادى بالويل والثبور ورفع يده بالتضرع فقال له الملك : اقترب أيها السفيه أنت تجزع من مناد نادى على بابك بأمر مخلوق وليس بأمر خالق ، وأنا أخوك وقد تعلم أنه ليس لك إلي ذنب أقتلك عليه ، ثم أنتم تلومونني على وقوعي إلى الارض حين نظرت إلى منادي ربي إلي وأنا أعرف منكم بذنوبي ، فاذهب فإني قد علمت أنه إنما استفزك وزرائي وسيعلمون خطأهم .
ثم أمر الملك بأربعة توابيت فصنعت له من خشب فطلى تابوتين منها بالذهب و تابوتين بالقار ، فلما فرغ منها ملا تابوتي القار ذهبا وياقوتا وزبرجدا ، وملأ تابوتي الذهب جيفا ودما وعذرة وشعرا ، ثم جمع الوزراء والاشراف الذين ظن أنهم أنكروا صنيعه بالرجلين الضعيفين الناسكين فعرض عليهم التوابيت الاربعة وأمرهم بتقويمها فقالوا : أما في ظاهر الامر وما رأينا ومبلغ علمنا فإن تابوتي الذهب لا ثمن لهما لفضلهما وتابوتي القار لا ثمن لهما لرذالتهما ، فقال الملك : أجل هذا لعلمكم بالاشياء ومبلغ رأيكم فيها ، ثم أمر بتابوتي القار فنزعت عنهما صفايحهما فأضاء البيت بما فيهما من الجواهر فقال : هذان مثل الرجلين الذين ازدريتم لباسهما وظاهرهما وهما مملوءان علما وحكمة وصدقا وبرا وسائر مناقب الخير الذي هو أفضل من الياقوت واللؤلؤ والجوهر والذهب .
ثم أمر بتابوتي الذهب فنزع عنهما أثوابهما فاقشعر القوم من سوء منظرهما و تاذوا بريحهما نتنهما ، فقال الملك : وهذان مثل القوم المتزينين بظاهر الكسوة واللباس وأجوافهما مملوءة جهالة وعمى وكذبا وجورا وسائر أنواع الشر التي هي أفظع وأشنع وأقذر من الجيف .
قال القوم للملك : قد فقهنا واتعظنا أيها الملك . ثم قال بلوهر : هذا مثلك يا ابن الملك فيما تلقيتني به من التحية والبشر فانتصب يوذاسف ـ ابن الملك ـ وكان متكئا ، ثم قال : زدني مثلا قال الحكيم :


( 593 )

إن الزارع خرج ببذره الطيب ليبذره ، فلما ملا كفيه ونثره وقع بعضه على حافة الطريق فلم يلبث أن التقطه الطير ووقع بعضه على صفاة قد أصابها ندى وطين فمكث حتى اهتز . فلما صارت عروقه إلى يبس الصفاة مات ويبس ، ووقع بعضه بأرض ذات شوك فنبت حتى سنبل ، وكاد أن يثمر فغمه الشوك فأبطله ، وأما ما كان منه وقع في الارض الطيبة وإن كان قليلا فإنه سلم وطاب وزكى ، فالزارع حامل الحكمة ، وأما البذر ففنون الكلام ، وأما ما وقع منه على حافة الطريق فالتقطه الطير فما لا يجاوز السمع منه حتى يمر صفحا ، وأما ما وقع على الصخرة في الندى فيبس حين بلغت عروقه الصفاة فما استحلاه صاحبه حتى سمعه بفراغ قلبه وعرفه بفهمه ولم يفقه بحصافة ولا نية ، وأما ما نبت منه وكاد أن يثمر فغمه الشوك فأهلكه فما وعاه صاحبه حتى إذا كان عند العمل به حفته الشهوات فأهلكته ، وأما ما زكى وطاب و سلم منه وانتفع به فما رآه البصر ووعاه الحفظ ، وأنفذه العزم بقمع الشهوات وتطهير القلوب من دنسها .
قال ابن الملك : إني أرجوا أن يكون ما تبذره أيها الحكيم ما يزكو ويسلم و يطيب ، فاضرب لي مثل الدنيا وغرور أهلها بها .
قال بلوهر : بلغنا أن رجلا حمل عليه فيل مغتلم ( 1 ) فانطلق موليا هاربا وأتبعه الفيل حتى غشيه فاضطره إلى بئر فتدلى فيها وتعلق بغصنين نابتين على شفير البئر و وقعت قدماه على رؤوس حيات ، فلما تبين له أنه متعلق بالغصنين فإذا في أصلهما جرذان يقرضان الغصنين ، أحدهما أبيض والاخر أسود ، فلما نظر إلى تحت قدميه ، فإذا رؤوس أربع أفاع قد طلعن من جحرهن ، فلما نظر إلى قعر البئر إذا بتنين فاغر فاه ( 2 ) نحوه يريد التقامه ، فلما رفع رأسه إلى أعلا الغصنين إذا عليهما شيء من عسل النحل فيطعم من ذلك العسل ، فألهاء ما طعم منه ، وما نال من لذة العسل وحلاوته عن التفكر في
____________
( 1 ) أي شديد الشهوة ، يعني فيل مست ، اغتلم الشراب : اشتدت سورته .
( 2 ) الفاغر : الفاتح فاه .

( 594 )

أمر الافاعي اللواتي لا يدري متي يبادرنه وألهاه عن التنين الذي لا يدري كيف مصيره بعد وقوعه في لهواته .
أما البئر فالدنيا مملوءة آفات وبلايا وشرورا ، وأما الغصنان فالعمر ، وأما الجرذان فالليل والنهار يسرعان في الاجل ، وأما الافاعي الاربعة فالاخلاط الاربعة التي هي السموم القاتلة من المرة والبلغم والريح والدم التي لا يدري صاحبها متي تهيج به ، وأما التنين الفاغر فاه ليلتقمه فالموت الراصد الطالب ، أما العسل الذي اغتر به المغرور فما ينال الناس من لذة الدنيا وشهواتها ونعيمها ودعتها من لذة المطعم والمشرب والشم واللمس والسمع والبصر .
قال ابن الملك : إن هذا المثل عجيب وإن هذا التشبيه حق ، فزدني مثلا للدنيا وصاحبها المغرور بها المتهاون بما ينفعه فيها ؟
قال بلوهر : زعموا أن رجلا كان له ثلاثة قرناء ، وكان قد آثر أحدهم على الناس جميعا ، ويركب الاهوال والاخطار بسببه ويغرر بنفسه له ، ويششغل ليله ونهاره في حاجته ، وكان القرين الثاني دون الاول منزلة وهو على ذلك حبيب إليه أمير عنده ، يكرمه ويلاطفه ويخدمه ويطيعه ويبذل له ولا يغفل عنه ، وكان القرين الثالث مجفوا محقورا مستثقلا ، ليس له من وده وماله إلا أقله . حتى إذا نزل بالرجل الامر الذي يحتاج فيه إلى قرنائه الثلاثة ، فأتاه زبانية الملك لذهبوا به ففزع إلى قرينه الاول فقال له : قد عرفت إيثاري إياك وبذل نفسي لك ، وهذا اليوم يوم حاجتي إليك فماذا عندك ؟ قال : ما أنا لك بصاحب وإن لي أصحابا يشغلوني عنك ، هم اليوم أولى بي منك ولكن لعلي ازودك ثوبين لتنتفع بهما .
ثم فزع إلى قرينه الثاني ذي المحبة واللطف ، فقال له : عرفت كرامتي إياك ولطفي بك وحرصي على مسرتك ، وهذا يوم حاجتي إليك فماذا عندك ؟ فقال : إن أمر نفسي يشغلني عنك وعن أمرك ، فاعمد لشأنك ، واعلم أنه قد انقطع الذي بيني وبينك وأن طريقي غير طريقك إلا أني لعلي أخطو معك خطوات يسيره لا تنتفع بها ، ثم أنصرف إلى ما هو أهم إلى منك


( 595 )

ثم فزع إلى قرينه الثالث الذي كان يحقره ، ويعصيه ولا يلتفت إليه أيام رخائه فقال له : إني منك لمستح ولكن الحاجة اضطرتني إليك فماذا لي عندك ؟ قال : لك عندي المواساة ، : والمحافظة عليك ، وقلة الغفلة عنك ، فابشر وقر عينا فإني صاحبك الذي لا يخذلك ولا يسلمك ، فلا يهمنك قلة ما أسلفتني واصطنعت إلي ، فإني قد كنت أحفظ لك ذلك وأوفره عليك كله ، ثم لم أرض لك بعد ذلك حتى اتجرت لك به فربحت أرباحا كثيرة ، فلك اليوم عندي من ذلك أضعاف ما وضعت عندي منه فأبشر ، وإني أرجو أن يكون في ذلك رضي الملك عنك اليوم وفرجا مما أنت فيه فقال الرجل عند ذلك : ما أدري على أي الامرين أنا أشد حسرة عليه على ما فرطت في القرين الصالح أم على ما اجتهدت فيه من المحبة لقرين السوء ؟ .
قال بلوهر : فالقرين الاول هو المال ، والقرين الثاني هو الاهل والولد ، والقرين الثالث هو العمل الصالح .
قال ابن الملك : إن هذا هو الحق المبين فزدني مثلا للدنيا وغرورها وصاحبها المغرور بها ، المطمئن إليها .
قال بلوهر : كان أهل مدينة يأتون الرجل الغريب الجاهل بأمرهم فيملكونه عليهم سنة فلا يشك أن ملكه دائم عليهم لجهالته بهم فإذا انقضت السنة أخرجوه من مدينتهم عريانا مجردا سليبا ، فيقع في بلاء وشقاء لم يحدث به نفسه ، فصار ما مضي عليه من ملكه وبالا وخزيا ومصيبة وأذى ، ثم إن أهل تلك المدينة أخذوا رجلا آخر فملكوه عليهم فلما رأى الرجل غربته فيهم لم يستأنس بهم وطلب رجلا من أهل أرضه خيبرا بأمرهم حتى وجده فأفضى إليه بسر القوم وأشار إليه أن ينظر إلى الاموال التي في يديه فيخرج منها ما استطاع الاول فالاول حتى يحرزه في المكان الذي يخرجونه إليه فإذا أخرجه القوم صار إلى الكفاية والسعة بما قدم وأحرز ، ففعل ما قال له الرجل ولم يضيع وصيته .
قال بلوهر : وإني لارجو أن تكون أنت ذلك الرجل يا ابن الملك الذي لم يستأنس


( 596 )

بالغرباء ولم يغتر بالسلطان ، وأنا الرجل الذي طلبت ولك عندي الدلالة والمعرفة والمعونة .
قال ابن الملك : صدقت أيها الحكيم أنا ذلك الرجل وأنت طلبتي التي كنت طلبتها فصف لي أمر الاخرة تاما ، فأما الدنيا فلعمري لقد صدقت ولقد رأيت منها ما يدلني على فنائها ويزهدني فيها ، ولم يزل أمرها حقيرا عندي .
قال بلوهر : إن الزهادة في الدنيا يا ابن الملك مفتاح الرغبة في الاخرة ، ومن طلب الاخرة فأصاب بابها دخل ملكوتها وكيف لا تزهد في الدنيا يا ابن ملك وقد آتاك الله من العقل ما آتاك ، وقد ترى أن الدنيا كلها وإن كثرت إنما يجمعها أهلها لهذه الاجساد الفانية ، والجسد لاقوام له ، ولا امتناع به ، فالحر يذيبه ، والبرد يجمده ، و السموم تتخلله ، والماء يغرقه ، والشمس تحرقه ، والهواء يسقمه ، والسباع يفترسه والطير تنقره ، والحديد يقطعه والصدام يحطمه ، ثم هم معجون بطينة من ألوان الاسقام والاوجاع والامراض ، فهو مرتهن بها ، مترقب لها ، وجل منها ، غير طامع في السلامة منها ، ثم هو مقارن الافات السبع التي لا يتخلص منها ذو جسد وهي الجوع والظمأ والحر والبرد والوجع والخوف والموت .
فأما ما سألت عنه من الامر الاخرة ، فإني أرجو أن تجد ما تحسبه بعيدا قريبا وما كنت تحسبه عسيرا ويسيرا ، وما كنت تحسبه قليلا كثيرا .
قال ابن الملك : أيها الحكيم أرأيت القوم الذين كان والدي حرقهم بالنار و نفاهم أهم أصحابك ؟ قال بلوهر : نعم ، فإنه بلغني أن الناس اجتمعوا على عداوتهم وسوء الثناء عليهم ، قال بلوهر : نعم قد كان ذلك ، قال : فما سبب ذلك أيها الحكيم قال بلوهر : أما قولك يا ابن الملك في سوء الثناء عليهم فما عسى أن يقولوا فيمن يصدق ولا يكذب ، ويعلم ولا يجهل ، ويكف ولا يؤذي ، ويصلي ولا ينام ، ويصوم ولا يفطر ويبتلي فيصبر ، ويتفكر فيعتبر ، ويطيب نفسه عن الاموال والاهلين ، ولا يخافهم الناس على أموالهم وأهليهم .
قال ابن الملك : فكيف اتفق الناس على عداوتهم وهم فيما بينهم مختلفون ؟


( 597 )

قال بلوهر : مثلهم في ذلك مثل كلاب اجتمعوا على جيفة تنهشها ويهار بعضها بعضا ، مختلفة الالوان والاجناس فبينا هي تقبل على الجيفة إذ دنى رجل منهم فترك بعضهن بعضا وأقبلن على الرجل فيهرن عليه جميعا متعاويات عليه وليس للرجل في جيفتهن حاجة ، ولا أراد أن ينازعهن فيها ، ولكنهن عرفن غربته منهن فاستوحشن منه و استأنس بعضهن ببعض وإن كن مختلفات متعاديات فيما بينهن من قبل أن يرد الرجل عليهن .
قال بلوهر : فمثل الجيفة متاع الدنيا ومثل صنوف الكلاب ضروب الرجال الذين يقتتلون على الدنيا ويهرقون دماءهم وينفقون لها أموالهم ، ومثل الرجل الذي اجتمعت عليه الكلاب ولا حاجة له في جيفهن كمثل صاحب الدين الذي رفض الدنيا وخرج منها ، فليس ينازع فيها أهلها ولا يمنع ذلك الناس من أن يعادونه لغربته عندهم ، فإن عجبت فاعجب من الناس أنهم لاهمة لهم إلا الدنيا وجمعها والتكاثر والتفاخر والتغالب عليها حتى إذا رأوا من قد تركها في أيديهم وتخلى عنها كانوا له أشد حنقا منهم للذي يشاحهم عليها ، فأي حجة يا ابن الملك أدحض من تعاون المختلفين على من لاحجة لهم عليه ؟ قال ابن الملك : أعمد لحاجتي ، قال بلوهر : إن الطبيب الرفيق إذ رأى الجسد قد أهلكته الاخلاط الفاسدة فأراد أن يقويه ويسمنه لم يغذه بالطعام الذي يكون منه اللحم والدم والقوة لانه يعلم أنه متى أدخل الطعام على الاخلاط الفاسدة أضر بالجسد ولم ينفعه ولم يقوه ، ولكن يبدأ بالادوية والحمية من الطعام ، فإذا أذهب من جسده الاخلاط الفاسدة أقبل عليه بما يصلحه من الطعام ، فحينئذ يجد طعم الطعام ويسمن ويقوي ويحمل الثقل بمشيئة الله عزوجل .
وقال ابن الملك أيها الحكيم : أخبرني ماذا تصيب من الطعام والشراب ؟
قال الحكيم : زعموا أن ملكا من الملوك كان عظيم الملك كثير الجند والاموال وأنه بداله أن يغزو ملكا آخر ليزداد ملكا إلى ملكه ومالا إلى ماله ، فسار إليه بالجنود والعدد والعدة ، والنساء والاولاد والاثقال ، فأقبلوا نحوه فظهروا عليه و


( 598 )

استباحوا عسكره فهرب وساق امرأته وأولاده صغارا فألجأه الطلب عند المساء إلى أجمة على شاطئ النهر فدخلها مع أهله وولده وسيب دوابه مخافة أن تدل عليه بصهيلها فباتوا في الاجمة وهم يسمعون وقع حوافر الخيل من كل جانب فأصبح الرجل لا يطيق براحا ، وأما النهر فلا يستطيع عبوره ، وأما الفضاء فلا يستطيع الخروج إليه لمكان العدو ، فهم في مكان ضيق قد أذا هم البرد وأهجرهم الخوف وطواهم الجوع ، وليس لهم طعام ولا معهم زاد ولا إدام ، وأولاده صغار جياع يبكون من الضر الذي قد أصابهم فمكث بذلك يومين ، ثم إن أحد بنيه مات فألقوه في النهر فمكث بعد ذلك يوما آخر فقال الرجل لامرأته : إنا مشرفون على الهلاك جميعا وإن بقي بعضنا وهلك بعضنا كان خيرا من أن نهلك جميعا وقد رأيت أن أعجل ذبح صبي من هؤلاء الصبيان فنجعله قوتا لنا ولاولادنا إلى أن يأتي الله عزوجل بالفرج فإن أخرنا ذلك هزل الصبيان حتى لا يشبع لحومهم ونضعف حتى لا نستطيع الحركة إن وجدنا إلى ذلك سبيلا ، وطاوعته امرأته فذبح بعض أولاده ووضعوه بينهم ينهشونه ، فما ظنك يا ابن الملك بذلك المضطر ؟ أكل الكلب المستكثر يأكل ؟ أم أكل المضطر المستقل ؟ قال ابن الملك : بل أكل المستقل ، قال الحكيم : كذلك أكلي وشربي يا ابن الملك في الدنيا .
فقال له ابن الملك : أرأيت هذا الذي تدعوني إليه أيها الحكيم أهو شيء نظر الناس فيه بعقولهم وألبابهم حتى اختاروه على ما سواه لانفسهم أم دعاهم الله إليه فأجابوا ، قال الحكيم : علا هذا الامر ولطف عن أن يكون من أهل الارض أو برأيهم دبروه ، ولو كان من أهل الارض لدعوا إلى عملها وزينتها وحفظها ودعتها ونعيمها ولذتها ولهوها ولعبها وشهواتها ، ولكنه أمر غريب ودعوة من الله عزوجل ساطعة ، وهدى مستقيم ، ناقض على أهل الدنيا أعمالهم ، مخالف لهم ، عائب عليهم ، وطاعن ناقل لهم عن أهوائهم ، داع لهم إلى طاعة ربهم ، وإن ذلك لبين لمن تنبه ، مكتوم عنده عن غير أهله حتى يظهر الله الحق بعد خفائه ويجعل كلمته العليا وكلمة الذين جهلوا السفلى .


( 599 )

قال ابن الملك : صدقت أيها الحكيم . ثم قال الحكيم : إن من الناس من تفكر قبل مجيئ الرسل عليهم السلام فأصاب ، ومنهم من دعته الرسل بعد مجيئها فأجاب وأنت يا ابن الملك ممن تفكر بعقله فأصاب .
قال ابن الملك : فهل تعلم أحدا من الناس يدعو إلى التزهيد في الدنيا غيركم ؟ قال الحكيم : أما في بلادكم هذه فلا ، وأما في سائر الامم ففيهم قوم ينتحلون الدين بألسنتهم ولم يستحقوه بأعمالهم ، فاختلف سبيلنا وسبيلهم ، قال ابن الملك : كيف صرتم أولى بالحق منهم ( 1 ) وإنما أتاكم هذا الامر الغريب من حيث أتاهم ؟ قال الحكيم : الحق كله جاء من عند الله عزوجل وإنه تبارك وتعالى دعا العباد إليه فقبله قوم بحقه وشروطه حتى أدوه إلى أهله كما امروا ، لم يظلموا ولم يخطئوا ولم يضيعوا وقبله آخرون فلم يقوموا بحقه وشروطه ، ولم يؤدوه إلى أهله ، ولم يكن لهم فيه عزيمة ، ولا على العمل به نية ضمير ، فضيعوه واستثقلوه فالمضيع لا يكون مثل الحافظ ، المفسد لا يكون كالمصلح ، والصابر لا يكون كالجازع ، فمن ههنا كنا نحن أحق به منهم وأولى .
ثم قال الحكيم : إنه ليس يجري على لسان أحد منهم من الدين والتزهيد والدعاء إلى الاخرة إلا وقد اخذ ذلك عن أصل الحق ( 2 ) الذي عنه أخذنا ، ولكنه فرق بيننا وبينهم أحداثهم التي أحدثوا وابتغاؤهم الدنيا وإخلادهم إليها ، وذلك أن هذه الدعوة لم تزل تأتي وتظهر في الارض مع أنبياء الله ورسله صلوات الله عليهم في القرون الماضية على ألسنة مختلفة متفرقة ، وكان أهل دعوة الحق أمرهم مستقيم ، وطريقهم واضح ، ودعوتهم بينة ، ولا فرقة بينهم ولا اختلاف ، فكانت الرسل عليهم السلام إذا بلغوا رسالات ربهم ، واحتجو الله تبارك وتعالى على عباده بحجته وإقامة معالم الدين وأحكامه ، قبضهم الله عزوجل إليه عند انقضاء آجالهم ومنتهى مدتهم ، ومكثت الامة من الامم بعد نبيها برهة من دهرها لا تغير ولا تبدل ثم صار الناس بعد ذلك يحدثون
____________
( 1 ) في بعض النسخ « فيما جعلكم الله أولى بالحق منهم » .
( 2 ) في بعض النسخ « أهل الحق » .

( 600 )

الاحداث ويتبعون الشهوات ، ويضيعون العلم ، فكان العالم البالغ المستبصر منهم يخفى شخصه ولا يظهر علمه ، فيعرفونه باسمه ولا يهتدون إلى مكانه ولا يبقى منهم إلا الخسيس من أهل العلم ، يستخف به أهل الجهل والباطل ، فيخمل العلم ويظهر الجهل ، ويتناسل القرون فلا يعرفون إلا الجهل والباطل ، ويزداد الجهال استعالاء وكثرة ، والعلماء خمولا وقلة ، فحولوا معالم الله تبارك وتعالى عن وجوهها ، وتركوا قصد سبيلها ، وهم مع ذلك مقرون بتنزله ، متبعون شبهه ابتغاء تأويله ، متعلقون بصفته ، تاركون لحقيقته ، نابذون لاحكامه فكل صفة جاءت الرسل تدعوا إليها فنحن لهم موافقون في تلك الصفة ، مخالفون لهم في أحكامهم وسيرتهم ، لسنا نخالفهم في شيء إلا ولنا عليهم الحجة الواضحة والبينة العادلة من نعت ما في أيديهم من الكتب المنزلة من الله عزوجل ، فكل متكلم منهم يتكلم بشيء من الحكمة فهي لنا وهي بيننا وبينهم تشهد لنا عليهم بأنها توافق صفتنا وسيرتنا وحكمنا ، وتشهد عليهم بأنها مخالفة لسنتهم وأعمالهم ، فليسوا يعرفون من الكتاب إلا وصفه ، ولا من الدين إلا اسمه ، فليسوا بأهل الكتاب حقيقة حتى يقيموه .
قال ابن الملك : فما بال الانبياء والرسل عليهم السلام يأتون في زمان دون زمان ؟ قال الحكيم : إنما مثل ذلك كمثل ملك كانت له أرض موات لا عمران فيها ، فلما أراد أن يقبل عليها بعمارته أرسل إليها رجلا جلدا أمينا ناصحا ، ثم أمره أن يعمر تلك الارض وأن يغرس فيها صنوف الشجر وأنواع الزرع ، ثم سمى له الملك ألوانا من الغرس معلومة ، وأنواعا من الزرع معروفة ، ثم أمره أن لا يعدو ما سمى له وأن لا يحدث فيها من قبله شيئا لم يكن أمره به سيده ، وأمره أن يخرج لها نهرا ويسد عليها حائطا ، ويمنعها من أن يفسدها مفسد ، فجاء الرسول الذي أرسله الملك إلى تلك الارض فأحياها بعد موتها وعمرها بعد خرابها ، وغرس فيها وزرع من الصنوف التي أمره بها ، ثم ساق الماء إليها ، حتى نبت الغرس واتصل الزرع ، ثم لم يلبث قليلا حتى مات قيمها ، وأقام بعده من يقوم مقامه وخلف من بعده خلف خالفوا من أقامه القيم بعده وغلبوه على أمره ، فأخرجوا العمران ، وطموا الانهار ،