فيبس الغرس ، وهلك الزرع ، فلما بلغ الملك خلافهم على القيم بعد رسوله وخراب أرضه أرسل إليها رسولا آخر يحييها ويعيدها ويصلحها كما كانت في منزلتها الاولى ، وكذلك الانبياء والرسل عليهم السلام يبعث الله عزوجل منهم الواحد بعد الواحد فيصلح أمر الناس بعد فساده .
قال ابن الملك : أيخص الانبياء والرسل عليهم السلام إذا جاءت بما يبعث به أم تعم ؟
قال بلوهر : إن الانبياء والرسل إذا جاءت تدعوا عامة الناس فمن أطاعهم كان منهم ، ومن عصاهم لم يكن منهم ، وما تخلو الارض قط من أن يكون لله عز وجل فيها مطاع من أنبيائه ورسله ومن أو صيائه ، وإنما مثل ذلك مثل طائر كان في ساحل البحر يقال له قدم ( 1 ) يبيض بيضا كثيرا وكان شديدا الحب للفراخ وكثرتها ، وكان يأتي عليه زمان يتعذر عليه فيه ما يريده من ذلك ، فلا يجد بدا من اتخاذ أرض اخرى حتى يذهب ذلك الزمان فيأخذ بيضه مخافة عليه من أن يهلك من شفقته فيفرقه في أعشاش الطير فتحضن الطير بيضته مع بيضتها وتخرج فراخه مع فراخها ، فإذا طال مكث فراخ قدم مع فراخ الطير ألفها بعض فراخ الطير واستأنس بها فإذا كان الزمان الذي ينصرف فيه قدم إلى مكانه مر بأعشاش الطير وأوكارها بالليل فأسمع فراخه وغيرها صوته فإذا سمعت فراخه صوته تبعته وتبع فراخه ما كان ألفها من فراخ سائر الطير ولم يجبه ما لم يكن من فراخه ولا ما لم يكن ألف فراخه وكان قد يضم إليه من أجابه من فراخه حبا للفراخ ، وكذلك الانبياء إنما يستعرضون الناس جميعا بدعائهم فيجيبهم أهل الحكمة والعقل لمعرفتهم بفضل الحكمة ، فمثل الطير الذي دعا بصوته مثل الانبياء والرسل التي تعم الناس بدعائهم ، ومثل البيض المتفرق في أعشاش الطير مثل الحكمة ، ومثل سائر فراخ الطير التي ألفت مع فراخ قدم مثل من أجاب الحكماء قبل مجيئ الرسل ، لان الله عزوجل جعل لانبيائه ورسله من الفضل والرأي ما لم يجعل لغيرهم من الناس ، وأعطاهم من الحجج والنور والضياء ما لم
____________
( 1 ) في بعض النسخ « قرم » ولعل الصواب « قرلي » .
( 602 )

يعط غيرهم ، وذلك لما يريد من بلوغ رسالته ومواقع حججه ، وكانت الرسل إذا جاءت وأظهرت دعوتها أجابهم من الناس أيضا من لم يكن أجاب الحكماء وذلك لما جعل الله عزوجل على دعوتهم من الضياء والبرهان .
قال ابن الملك : أفرأيت ما يأتي به الرسل والانبياء إذ زعمت أنه ليس بكلام الناس ، وكلام الله عزوجل هو كلام وكلام ملائكته كلام ، قال الحكيم : أما رأيت الناس لما أرادوا أن يفهموا بعض الدواب والطير ما يريدون من تقدمها وتأخرها وإقبالها وإدبارها لم يجدوا الدواب والطير تحمل كلامهم الذي هو كلامهم ، فوضعوا من النقر والصفير والزجر ما يبلغوا به حاجتهم وما عرفوا أنها تطيق حمله ، وكذلك العباد يعجزوا أن يعلموا كلام الله عزوجل وكلام ملائكته على كنهه وكماله ولطفه وصفته فصار ما تراجع الناس بينهم من الاصوات التي سمعوا بها الحكمة شبيها بما وضع الناس للدواب ، والطير ولم يمنع ذلك الصوت مكان الحكمة المخبرة في تلك الاصوات من أن تكون الحكمة واضحة بينهم ، قوية منيرة شريفة عظيمة ، ولم يمنعها من وقوع معانيها على مواقعها وبلوغ ما احتج به الله عزوجل على العباد فيها وكان الصوت للحكمة جسدا ومسكنا ، وكانت الحكمة للصوت نفسا وروحا ، ولا طاقة للناس أن ينفذوا غور كلام الحكمة ، ولا يحيطوا به بعقولهم ، فمن قبل ذلك تفاضلت العلماء في علمهم ، فلا يزال عالم يأخذ علمه من عالم حتى يرجع العلم إلى الله عزوجل الذي جاء من عنده ، وكذلك العلماء قد يصيبون من الحكمة والعلم ما ينجيهم من الجهل ، ولكن لكل ذي فضل فضله ، كما أن الناس ينالون من ضوء الشمس ما ينتفعون به في معائشهم وأبدانهم ولا يقدرون أن ينفذوها بأبصارهم فهي كالعين الغزيرة ، الظاهر مجراها ، المكنون عنصرها ، فالناس قد يجيبون بما ظهر لهم من مائها ، ولا يدركون غورها وهي كالنجوم الزاهرة التي يهتدى بها الناس ، ولا يعلمون مساقطها ، فالحكمة أشرف وأرفع وأعظم مما وصفناها به كله ، هي مفتاح باب كل خير يرتجى ، والنجاة من كل شر يتقى ، وهي شراب الحياة التي من شرب منه لم يمت أبدا ، و الشفاء للسقم الذي من استشفى به لم يسقم أبدا ، والطريق المستقيم الذي من سلكه


( 603 )

لم يضل أبدا ، هي حبل الله المتين الذي لا يخلقه طول التكرار ، من تمسك به انجلى عنه العمى ، ومن اعتصم به فاز واهتدى ، وأخذ بالعروة الوثقى .
قال ابن الملك : فما بال هذه الحكمة التي وصفت بما وصفت من الفضل والشرف والارتفاع والقوة والمنفعة والكمال والبرهان لا ينتفع بها الناس كلهم جميعا ؟ .
قال الحكيم : إنما مثل الحكمة كمثل الشمس الطالعة على جميع الناس الابيض والاسود منهم ، والصغير والكبير ، فمن أراد الانتفاع بها لم تمنعه ولم يحل بينه و بينها من أقربهم وأبعدهم ، ومن لم يرد الانتفاع بها فلا حجة له عليها ، ولا تمنع الشمس على الناس جميعا ، ولا يحول بين الناس وبين الانتفاع بها ، وكذلك الحكمة وحالها بين الناس إلى يوم القيامة ، والحكمة قد عمت الناس جميعا إلا أن الناس يتفاضلون في ذلك ، والشمس ظاهرة إذ طلعت على الابصار الناظرة فرقت بين الناس على ثلاثة منازل فمنهم الصحيح البصر الذي ينفعه الضوء ويقوى على النظر ، ومنهم الاعمى القريب من الضوء الذي لو طلعت عليه شمس أو شموس لم تغن عنه شيئا ، ومنهم المريض البصر الذي لا يعد في العميان ولا في أصحاب البصر ، كذلك الحكمة هي شمس القلوب إذا طلعت تفرق على ثلاث منازل : منزل لاهل البصر الذين يعقلون الحكمة فيكونون من أهلها ، ويعملون بها ، ومنزل لاهل العمى الذين تنبو الحكمة عن قلوبهم لا نكارهم الحكمة وتركهم قبولها كما ينبو ضوء الشمس عن العميان ، ومنزل لاهل مرض القلوب الذين يقصر علمهم ويضعف عملهم ويستوي فيهم السيئ والحسن ، والحق والباطل ، وإن أكثر من تطلع عليه الشمس وهي الحكمة ممن يعمى عنها .
قال ابن الملك : فهل يسع الرجل الحكمة فلا يجيب إليها حتى يلبث زمانا ناكبا عنها ، ثم يجيب ويراجعها ؟ قال بلوهر : نعم هذا أكثر حالات الناس في الحكمة .
قال ابن الملك : ترى والدي سمع شيئا من هذا الكلام قط ؟ قال بلوهر : لاأراه سمع سماعا صحيحا رسخ في قلبه ولا كلمه فيه ناصح شفيق .
قال ابن الملك : وكيف ترك ذلك الحكماء منه طول دهرهم ؟ قال بلوهر : تركوه


( 604 )

لعلمهم بمواضع كلامهم ، فربما تركوا ذلك ممن هو أحسن إنصافا وألين عريكة وأحسن استماعا من أبيك حتى أن الرجل ليعاش الرجل طول عمره وبينهما الاستيناس والمودة والمفاوضة ، ولا يفرق بينهما شيء إلا الدين والحكمة ، وهو متفجع عليه ، متوجع له ، ثم لا يفضي إليه أسرار الحكمة إذ لم يره لها موضعا .
وقد بلغنا أن ملكا من الملوك كان عاقلا قريبا من الناس مصلحا لامورهم ، حسن النظر والانصاف لهم ، وكان له وزير صدق صالح يعينه على الاصلاح ويكفيه مؤونته ويشاوره في اموره ، وكان الوزير أديبا عاقلا ، له دين وورع ونزاهة على الدنيا ( 1 ) ، وكان قد لقي أهل الدين ، وسمع كلامهم ، وعرف فضلهم ، فأجابهم و انقطع إليهم بإخائه ووده ، وكانت له من الملك منزلة حسنة وخاصة ، وكان الملك لا يكتمه شيئا من أمره ، وكان الوزير أيضا له بتلك المنزلة ، إلا أنه لم يكن ليطلعه على أمر الدين ، ولا يفاوضه أسرار الحكمة ، فعاشا بذلك زمانا طويلا ، وكان الوزير كلما دخل على الملك سجد الاصنام وعظمها وأخذ شيئا في طريق الجهالة والضلالة تقية له فأشفق الوزير على الملك من ذلك واهتم به واستشار في ذلك أصحابه وإخوانه فقالوا له : انظر لنفسك وأصحابك فإن رأيته موضعا للكلام فكلمه وفاوضه وإلا فانك إنما تعينه على نفسك ، وتهيجه على أهل دينك ، فإن السلطان لا يغتر به ، ولا تؤمن سطوته ، فلم يزل الوزير على اهتمامه به مصافيا له ، رفيقا به رجاء أن يجد فرصة فينصحه أو يجد للكلام موضعا فيفاوضه ، وكان الملك مع ضلالته متواضعا سهلا قريبا ، حسن السيرة في رعيته ، حريصا على إصلاحهم ، متفقدا لامورهم ، فاصطحب الوزير ( مع ) الملك على هذا برهة من زمانه .
ثم إن الملك قال للوزير ذات ليلة من الليالي بعد ما هدأت العيون : هل لك أن تركب فنسير في المدينة فننظر إلى حال الناس وآثار الامطار التي أصابتهم في هذه الايام ؟ فقال الوزير : نعم فركبا جميعا يجولان في نواحي المدينة فمرا في بعض الطريق
____________
( 1 ) في بعض النسخ « وزهادة عن الدنيا » .
( 605 )

على مزبلة تشبه الجبل ، فنظر الملك إلى ضوء النار تبدو في ناحية المزبلة ، فقال للوزير : إن لهذه لقصة فانزل بنا نمشي حتى ندنو منها فنعلم خبرها ، ففعلا ذلك فلما انتهيا إلى مخرج الضوء وجدا نقبا شبيها بالغار ، وفيه مسكين من المساكين ثم نظرا في الغار من حيث لا يراهما الرجل فإذا الرجل مشوه الخلق ، عليه ثياب خلقان من خلقان المزبلة ، متكئ على متكاء قد هيأه من الزبل ، وبين يديه إبريق فخار ، فيه شراب وفي يده طنبور ، يضرب بيده وامرأته في مثل خلقه ولباسه قائمة بين يديه تسقيه إذا استسقى منها ، وترقص له إذا ضرب ، وتحييه بتحية الملوك كلما شرب ، وهو يسميها سيدة النساء ، وهما يصفان أنفسهما بالحسن والجمال وبينهما من السرور والضحك والطرب ما لا يوصف ، فقام الملك على رجليه مليا والوزير ينظر كذلك ويتعجبان من لذتهما وإعجابهما بما هما فيه ، ثم انصرف الملك والوزير فقال الملك : ما أعلمني وإياك أصابنا الدهر من اللذة والسرور والفرح مثل ما أصاب هذين الليلة مع أني أظنهما يصنعان كل ليلة مثل هذا ، فاغتنم الوزير ذلك منه ، ووجد فرصة فقال له : أخاف أيها الملك أن يكون دنيانا هذه من الغرور ويكون ملكك وما نحن فيه من البهجة والسرور في أعين من يعرف الملكوت الدائم مثل هذه المزبلة ، ومثل هذين الشخصين اللذين رأيناهما ، وتكون مساكننا وما شيدنا منها عند من يرجو مساكن السعادة وثواب الاخرة مثل هذا الغار في أعيننا ، وتكون أجسادنا عند من يعرف الطهارة والنضارة والحسن والصحة مثل جسد هذه المشوه الخلق في أعيننا ، و يكون تعجبهم عن إعجابنا بما نحن فيه كتعجبنا من إعجاب هذين الشخصين بما هما فيه .
قال الملك وهل تعرف لهذه الصفة أهلا ؟ قال الوزير : نعم ، قال الملك : من هم ؟ قال الوزير : أهل الدين الذي عرفوا ملك الاخرة ونعيمها فطلبوه ، قال الملك : وما ملك الاخرة ؟ قال الوزير هو النعيم الذي لا بؤس بعده ، والغنى الذي لافقر بعده ، والفرح الذي لا ترح بعده ، والصحة التي لاسقم بعدها ، والرضي الذي لا سخط بعده ، والامن الذي لا خوف بعده ، والحياة التي لا موت


( 606 )

بعدها ، والملك الذي لا زوال له ، هي دار البقاء ، ودار الحيوان ، التي لا انقطاع لها ، ولا تغير فيها ، رفع الله عزوجل عن ساكنيها فيها السقم والهرم والشقاء والنصب والمرض والجوع والظمأ والموت ، فهذه صفة ملك الاخرة وخبرها أيها الملك .
قال الملك : وهل تدركون إلى هذه الدار مطلبا وإلى دخولها سبيلا ؟ قال الوزير : نعم هي مهيأة لمن طلبها من وجه مطلبها ، ومن أتاها من بابها ظفر بها ، قال الملك : ما منعك أن تخبرني بهذا قبل اليوم ؟ قال الوزير : منعني من ذلك إجلالك والهيبة لسلطانك ، قال الملك : لئن كان هذا الامر الذي وصفت يقينا فلا ينبغي لنا أن نضيعه ولا نترك العمل به في إصابته ، ولكنا نجتهد حتى يصح لنا خبره ، قال الوزير : أفتأمرني أيها الملك أن أو اظب عليك في ذكره والتكرير له ؟ قال الملك : بل آمرك أن لا تقطع عني ذكره ليلا ولا نهارا ، ولا تريحني ولا تمسك عني ذكره فإن هذا أمر عجيب لا يتهاون به ، ولا يغفل عن مثله ، وكان سبيل ذلك الملك والوزير إلى النجاة .
قال ابن الملك : ما أنا بشاغل نفسي بشيء من هذه الامور عن هذا السبيل ولقد حدثت نفسي بالهرب معك في جوف الليل حيث بدالك أن تذهب .
قال بلوهر : وكيف تستطيع الذهاب معي والصبر على صحبتي وليس لي جحر يأويني ، ولا دابة تحملني ، ولا أملك ذهبا ، ولا فضة ، ولا أدخر غذاء العشاء ولا يكون عندي فضل ثوب ، ولا أستقر ببلدة إلا قليلا حتى أتحول عنها ولا أتزود من أرض إلى أرض أخري رغيفا أبدا .
قال ابن الملك : إني أرجو أن يقويني الذي قواك ، قال بلوهر : أما إنك إن أبيت إلا صحبتي كنت خليقا أن يكون كالغني الذي صاهر الفقير .
قال يوذاسف : وكيف كان ذلك ؟ قال بلوهر : زعموا أن فتى كان من أولاد الاغنياء فأراد أبوه أن يزوجه ابنة عم له ذات جمال ومال ، فلم يوافق ذلك الفتى ولم يطلع أباه على كراهته حتى خرج من عنده متوجها إلى أرض أخري ، فمر


( 607 )

في طريقه على جارية عليها ثياب خلقان لها ، قائمة على باب بيت من بيوت المساكين فأعجبته الجارية ، فقال لها : من أنت أيتها الجارية ؟ قالت : أنا ابنة شيخ كبير في هذا البيت ، فنادى الفتى الشيخ فخرج إليه فقال له : هل تزوجني ابنتك هذه ؟ قال : ما أنت بمتزوج لبنات الفقراء وأنت فتى من الاغنياء ، قال : أعجبتني هذه الجارية ولقد خرجت هاربا من امرأة ذات حسب ومال أرادوا مني تزويجها ، فكرهتها فزوجني ابنتك فإنك واجد عندي خيرا إن شاء الله .
قال الشيخ : كيف أزوجك ابنتي ونحن لا تطيب أنفسنا أن تنقلها عنا ، ولا أحسب مع ذلك أن أهلك يرضون أن تنقلها إليهم ، قال الفتي : فنحن معكم في منزلكم هذا ، قال الشيخ : إن صدقت فيما تقول فاطرح عنك زيك وحليتك هذه ، قال : ففعل الفتى ذلك وأخذ أطمارا رثة من أطمارهم فلبسها وقعد معهم ، فسأله الشيخ عن شأنه وعرض له بالحديث حتى فتش عقله فعرف أنه صحيح العقل وأنه لم يحمله على ما صنع السفه ، فقال له الشيخ : أما إذا اخترتنا ورضيت بنا فقم معي إلى هذا السرب فأدخله فإذا خلف منزله بيوت ومساكن لم ير مثلها قط سعة وحسنا ، وله خزائن من كل ما يحتاج إليه ، ثم دفع إليه مفاتيحه وقال له : إن كل ما ههنا لك فاصنع به ما أجببت ، فنعم الفتى أنت وأصاب الفتى ما كان يريده .
قال يوذاسف : إني لارجو أن أكون أنا صاحب هذا المثل إن الشيخ فتش عقل هذا الغلام حتى وثق به ، فلعلك تطول بي على تفتيش عقلي فأعلمني ما عندك في ذلك ، قال الحكيم لو كان هذا الامر إلي لاكتفيت منك بأدنى المشافهة ولكن فوق رأسي سنة قد سنها أئمة الهدى في بلوغ الغاية في التوفيق ، وعلم ما في الصدور فأنا أخاف إن خالفت السنة أن أكون قد أحدثت بدعة ، وأنا منصرف عنك الليلة وحاضر بابك في كل ليلة ، ففكر في نفسك بهذا واتعظ به ، وليحضرك فهمك وتثبت ولا تعجل بالتصديق لما يورده عليك همك حتى تعلمه بعد التؤدة والاناة وعليك بالاحتراس في ذلك أن يغلبك الهوى والميل إلى الشبهة والعمى ، واجتهد في المسائل التي تظن أن


( 608 )

فيها شبهة ، ثم كلمني فيها وأعلمني رأيك في الخروج إذا أردت ، وافترقا على هذا تلك الليلة .
ثم عاد الحكيم إليه فسلم عليه ودعا له ، ثم جلس فكان من دعائه أن قال : أسأل الله الاول الذي لم يكن قبله شيء ، والاخر الذي لا يبقى معه شيء ، والباقي الذي لا منتهي له ، والواحد الفرد الصمد الذي ليس معه غيره ، والقاهر الذي لا شريك له ، البديع الذي لا خالق معه ، القادر الذي ليس له ضد ، الصمد الذي ليس له ند ، الملك الذي ليس معه أحد أن يجعلك ملكا عدلا ، إماما في الهدى ، قائدا إلى التقوى ، ومبصرا من العمي ، وزاهدا في الدنيا ، ومحبا لذوي النهى ، ومبغضا لاهل الردى حتى يفضي بنا وبك إلى ما وعد الله أوليائه على ألسنة أنبيائه من جنته ورضوانه ، فإن رغبتنا إلى الله في ذلك ساطعة ، ورهبتنا منه باطنة ، وأبصارنا إليه شاخصة ( 1 ) و أعناقنا له خاضعة ، وأمورنا إليه صائرة .
فرق ابن الملك لذلك الدعاء رقة شديدة ، وازداد في الخير رغبة ، وقال متعجبا من قوله : أيها الحكيم أعلمني كم أتى لك من العمر ؟ فقال : اثنتا عشر سنة ، فارتاع لذلك ، وقال : ابن اثنتى عشرة سنة طفل وأنت مع ما أرى من التكهل لابن ستين سنة . قال الحكيم ، أما المولد فقد راهق الستين سنة ، ولكنك سألتني عن العمر وإنما العمر الحياة ، ولا حياة إلا في الدين والعمل به ، والتخلي من الدنيا ولم يكن ذلك لي إلا من اثنتي عشرة سنة ، فأما قبل ذلك فإني كنت ميتا ولست أعتد في عمري بأيام الموت ، قال ابن الملك : كيف تجعل الاكل والشارب والمتقلب ميتا ؟ قال الحكيم : لانه شارك الموتى في العمى والصم والبكم وضعف الحياة وقلة الغنى ، فلما شاركهم في الصفة وافقهم في الاسم .
قال ابن الملك : لئن كنت لا تعد حياة ولا غبطة ما ينبغي لك أن تعد ما يتوقع من الموت موتا ، ولا تراه مكروها ، قال الحكيم : تغريري في الدخول عليك بنفسي يا ابن الملك مع علمي لسطوة أبيك على أهل ديني يدلك على أني [ لا أرى الموت موتا ]
____________
( 1 ) في بعض النسخ « وأبصارنا إليه خاشعة » .
( 609 )

ولا أرى هذه الحياة حياة ، ولا ما أتوقع من الموت مكروها ، فكيف يرغب في الحياة من قد ترك حظه منها ؟ أو يهرب من الموت من قد أمات نفسه بيده ، أو لا ترى يا ابن الملك أن صاحب الدين قد رفض في الدنيا من أهله وماله وما لا يرغب في الحياة إلا له ( 1 ) واحتمل من نصب العبادة ما لا يريحه منه إلا الموت ، فما حاجة من لا يتمتع بلذة الحياة إلى الحياة ؟ أو مهرب من لا راحة له إلا في الموت من الموت .
قال ابن الملك : صدقت أيها الحكيم فهل يسرك أن ينزل بك الموت من غد ؟ قال الحكيم : بل يسرني أن ينزل بى الليلة دون غد فإنه من عرف السيئ والحسن وعرف ثوابهما من الله عزوجل ترك السيئ مخافة عقابه ، وعمل بالحسن رجاء ثوابه ، ومن كان موقنا بالله وحده مصدقا بوعده فإنه يحب الموت لما يرجو بعد الموت من الرخاء ويزهد في الحياة لما يخاف على نفسه من شهوات الدنيا والمعصية لله فيها فهو يحب الموت مبادرة من ذلك ، فقال ابن الملك : إن هذا لخليق أن يبادر الهلكة لما يرجو في ذلك من النجاة فاضرب لي مثل امتنا هذه وعكوفها على أصنامها .
قال الحكيم : إن رجلا كان له بستان يعمره ويحسن القيام عليه إذ رأى في بستانه ذات يوم عصفورا واقعا على شجرة من شجر البستان يصيب من ثمرها ، فغاضه ذلك فنصب فخا فصاده ، فلما هم بذبحه أنطقه الله عزوجل بقدرته ، فقال لصاحب البستان : إنك تهتم بذبحي وليس في ما يشبعك من جوع ولا يقويك من ضعف فهل لك في خير مما هممت به ؟ قال الرجل : ما هو ؟ قال العصفور : تخلي سبيلي واعلمك ثلاث كلمات إن أنت حفظتهن كن خيرا لك من أهل ومال هولك ، قال : قد فعلت فأخبرني بهن ، قال العصفور : احفظ عني ما أقول لك : لا تأس على ما فاتك ولا تصدقن بما لا يكون : ولا تطلبن لا ما تطيق : فلما قضى الكلمات خلى سبيله ، فطار فوقع على بعض الاشجار ، ثم قال للرجل : لو تعلم ما فاتك مني لعلمت أنك قد فاتك مني عظيم جسيم
____________
( 1 ) في بعض النسخ « ما لا يرغب فيها مالا الا له » .
( 610 )

من الامر ، فقال الرجل وما ذاك ؟ قال العصفور : لو كنت مضيت على ما هممت به من ذبحي لا ستخرجت من حوصلتي درة كبيضة الوزة فكان لك في ذلك غنى الدهر ، فلما سمع الرجل منه ذلك أسر في نفسه ندما على ما فاته ، وقال : دع عنك ما مضى ، وهلم أنطلق بك إلى منزلي فأحسن صحبتك وأكرم مثواك ، فقال له العصفور : أيها الجاهل ما أراك حفظتني إذا ظفرت بي ، ولا انتفعت بالكلمات التي افتديت بها منك نفسي ، ألم أعهد إليك ألا تأس على ما فاتك ولا تصدق ما لا يكون ، ولا تطلب مالا يدرك ؟ أما أنت متفجع على ما فاتك وتلتمس مني رجعتي إليك وتطلب مالا تدرك وتصدق أن في حوصلتي درة كبيضة الوزة ، وجميعي أصغر من بيضها ، وقد كنت عهدت إليك أن لا تصدق بما لا يكون وأن أمتكم صنعوا أصنامهم بأيديهم ثم زعموا أنها هي التي خلقتهم وخفظوها من أن تسرق مخافة عليها وزعموا أنها هي التي تحفظهم ، وأنفقوا عليها من مكاسبهم و أموالهم ، وزعموا أنها هي التي ترزقهم فطلبوا من ذلك مالا يدرك وصدقوا بما لا يكون فلزمهم منه ما لزم صاحب البستان .
قال ابن الملك : صدقت أما الاصنام فإني لم أزل عارفا بأمرها ، زاهدا فيها ، آيسا من خيرها ، فأخبرني بالذي تدعوني إليه والذي ارتضيته لنفسك ما هو ؟
قال بلوهر : جماع الدين أمر ان أحدهما معرفة الله عزوجل والاخر العمل برضوانه ، قال ابن الملك : وكيف معرفة الله عزوجل ؟
قال الحكيم : أدعوك إلى أن تعلم أن الله واحد ليس له شريك ، لم يزل فردا ربا ، وما سواه مربوب ، وأنه خالق وما سواه مخلوق ، وأنه قديم وما سواه محدث ، و أنه صانع وما سواه مصنوع ، وأنه مدبر وما سواه مدبر ، وأنه باق وما سواه فان ، وأنه عزيز وما سواه ذليل ، وأنه لا ينام ولا يغفل ولا يأكل ولا يشرب ولا يضعف ولا يغلب ولا يضجر ، ولا يعجزه شيء ، لم تمتنع منه السماوات والارض والهواء والبر والبحر ، وأنه كون الاشياء لا من شيء ، وأنه لم يزل ولا يزال ، ولا تحدث فيه الحوادث ، ولا تغيره الاحوال ، ولا تبدله الازمان ، ولا يتغير من حال إلى حال ، ولا يخلو منه مكان ، ولا يشتغل به مكان ، ولا يكون من مكان أقرب منه إلى مكان ، ولا


( 611 )

يغيب عنه شيء ، عالم لا يخفى عليه شيء ، قدير لا يفوته شيء ، وأن تعرفه بالرأفة و الرحمة والعدل ، وأن له ثوابا أعده لمن أطاعه ، وعذابا أعده لمن عصاه ، وأن تعمل لله برضاه ، وتجتنب سخطه .
قال ابن الملك : فما رضي الواحد الخالق من الاعمال ؟ قال الحكيم : يا ابن الملك رضاه أن تطيعه ولا تعصيه ، وأن تأتي إلى غيرك ما تحب أن يؤتى إليك ، وتكف عن غيرك ما تحب أن يكف عنك في مثله ، فان ذلك عدل وفي العدل رضاه ، وفي اتباع آثار أنبياء الله ورسله بأن لا تعدو سنتهم .
قال ابن الملك : زدني أيها الحكيم تزهيدا في الدنيا وأخبرني بحالها .
قال الحكيم : إني لما رأيت الدنيا دار تصرف وزوال وتقلب من حال إلى حال ، ورأيت أهلها فيها أغراضا للمصائب ، ورهائن للمتالف ، ورأيت صحة بعدها سقما ، وشبابا بعده هرما ، وغنى بعده فقرا ، وفرحا بعده حزنا ، وعزا بعده ذلا ، و رخاء بعده شدة ، وأمنا بعده خوفا ، وحياة بعدها مماة ، ورأيت أعمارا قصيرة وحتوفا راصدة ( 1 ) وسهاما قاصدة ، وأبدانا ضعيفة مستسلمة غير ممتنعة ولا حصينة ، وعرفت أن الدنيا منقطعة بالية فانية ، وعرفت بما ظهر لي منها ما غاب عني منها ، وعرفت بظاهرها باطنها ، وغامضها بواضحها ، وسرها بعلانيتها ، وصدورها بورودها ، فحذرتها لما عرفتها ، وفررت منها لما أبصرتها ، بينا تري المرء فيها مغتبطا محبورا ( 2 ) وملكا مسرورا ( 3 ) في خفض ودعة ونعمة وسعة ، في بهجة من شبابه ، وحداثة من سنه ، وغبطة من ملكه ، وبهاء من سلطانه ، وصحة من بدنه إذا انقلبت الدنيا به أسر ما كان فيها نفسا ، وأقر ما كان فيها عينا ، فأخرجته من ملكها وغبطتها وخفضها ودعتها وبهجتها ، فأبدلته بالعز ذلا ، وبالفرح ترحا ، وبالسرور حزنا ، وبالنعمة بؤسا ، وبالغني فقرا ، وبالسعة ضيقا ، وبالشباب هرما ، وبالشرف ضعة ، وبالحياة موتا ، فدلته في حفرة ضيقة شديدة الوحشة ، وحيدا فريدا غريبا قد فارق الاحبة وفارقوه ، وخذله إخوانه
____________
( 1 ) الحتف : الموت من غير قتل والجمع حتوف . والراصد : المراقب .
( 2 ) أي مسرورا ، والحبر ـ بفتح الحاء وكسرها ـ السرور والجمع حبور وأحبار
( 3 ) في بعض النسخ « مشعوفا » .

( 612 )

فلم يجد عندهم منعا وغره أعداؤه فلم يجد عندهم دفعا ، وصار عزه وملكه وأهله وماله نهبة من بعده ، كأن لم يكن في الدنيا ولم يذكر فيها ساعة قط ولم يكن له فيها خطر ، ولم يملك من الارض حظا قط ، فلا تتخذها يا ابن الملك دارا ، ولا تتخذن فيها عقدة ( 1 ) ولا عقارا ، فاف لها وتف .
قال ابن الملك : اف لها ولمن يغتر بها إذا كان هذا حالها . ورق ابن الملك وقال : زدني أيها الملك الحكيم من حديثك فإنه شفاء لما في صدري .
قال الحكيم : إن العمر قصير ، والليل والنهار يسرعان فيه ، والارتحال من الدنيا حثيث قريب ، وإنه وإن طال العمر فيها فإن الموت نازل ، والظاعن لا محالة راحل فيصير ما جمع فيها مفرقا ، وما عمل فيها متبرا ، وما شيد فيها خرابا ، ويصير اسمه مجهولا ، وذكره منسيا ، وحسبه خاملا ، وجسده باليا ، وشرفه وضيعا ، ونعمته وبالا ، وكسبه خسارا ، ويورث سلطانه ، ويستذل عقبه ، ويستباح حريمه ، وتنقض عهوده ، وتخفر ذمته ، وتدرس آثاره ، ويوزع ماله ، ويطوي رحله ، ويفرح عدوه ويبيد ملكه ، ويورث تاجه ، ويخلف على سريره ، ويخرج من مساكنه مسلوبا مخذولا فيذهب به إلى قبره ، فيدلى في حفرته في وحدة وغربة وظلمة ووحشة ومسكنة وذلة ، قد فارق الاحبة وأسلمته العصبة فلا تؤنس وحشته أبدا ، ولا ترد غربته أبدا ، واعلم أنها يحق على المرء اللبيب من سياسة نفسه خاصة كسياسة الامام العادل الحازم الذي يؤدب العامة ، ويستصلح الرعية ، ويأمرهم بما يصلحهم ، وينهاهم عما يفسدهم ، ثم يعاقب من عصاه منهم ، ويكرم من أطاعه منهم ، فكذلك للرجل اللبيب أن يؤدب نفسه في جميع أخلاقها وأهوائها وشهواتها وأن تحملها وإن كرهت على لزوم منافعها فيما أحبت وكرهت ، وعلى اجتناب مضارها ، وأن يجعل لنفسه عن نفسه ثوابا وعقابا من مكانها من السرور إذا أحسنت ، ومن مكانها من الغم إذا أساءت ، ومما يحق على ذي العقل النظر فيما ورد عليه من أموره ، والاخذ بصوابها ، وينهى نفسه عن خطائها ،
____________
( 1 ) العقدة : الضيعة وهي المتاع والعقار .
( 613 )

وأن يحتقر عمله ونفسه في رأيه لكيلا يدخله عجب ، فإن الله عزوجل قد مدح أهل العقل وذم أهل العجب ، ومن لا عقل له : وبالعقل يدرك كل خير بإذن الله تبارك وتعالى وبالجهل تهلك النفوس ، وإن من أوثق الثقات عند ذوي الالباب ما أدركته عقولهم ، وبلغته تجاربهم ، ونالته أبصارهم في الترك للاهواء والشهوات ، وليس ذوا العقل بجدير أن يرفض ما قوي على حفظه من العمل احتقارا له إذا لم يقدر على ما هو أكثر منه ، وإنما هذا من أسلحة الشيطان الغامضة التي لا يبصرها إلا من تدبرها ، ولا يسلم منها إلا من عصمه الله منها ، ومن رأس أسلحته سلاحان أحدهما إنكار العقل أن يوقع في قلب الانسان العاقل أنه لا عقل له ولا بصر ولا منفعة له في عقله وبصره ، ويريد أن يصده عن محبة العلم وطلبه ، ويزين له الاشتغال بغيره من ملاهي الدنيا ، فإن اتبعه الانسان من هذا الوجه فهو ظفره ، وإن عصاه وغلبه فزع إلى السلاح الاخر وهو أن يجعل الانسان إذا عمل شيئا وأبصر عرض له بأشياء لا يبصرها ليغمه ويضجزه بما لا يعلم حتى يبغض إليه ما هو فيه بتضعيف عقله عنده ، وبما يأتيه من الشبهة ، ويقول : ألست ترى أنك لا تستكمل هذا الامر ولا تطيقه أبدا فبم تعني نفسك وتشقيها فيما لا طاقه لك به ، فبهذا السلاح صرع كثيرا من الناس ، فاحترس من أن تدع اكتساب علم ما تعلمه وأن تخدع عما اكتسبت منه ، فإنك في دار قد استخوذ على أكثر أهلها الشيطان بألوان حيله ووجوه ضلالته ، ومنهم من قد ضرب على سمعه وعقله وقلبه فتركه لا يعلم شيئا ، ولا يسأل عن علم ما يجهل منه كالبهيمة ، وإن لعامتهم أديانا مختلفة فمنهم المجتهدون في الضلالة حتى أن بعضهم ليستحل دم بعض وأموالهم ، ويموه ضلالتهم بأشياء من الحق ليلبس عليهم دينهم ، ويزينه لضعيفهم ، ويصدهم عن الدين القيم ، فالشيطان وجنوده دائبون في إهلاك الناس ، وتضليلهم لا يسأمون ، ولا يفترون ولا يحصى عددهم إلا الله ، ولا يستطاع دفع مكائدهم إلا بعون من الله عزوجل والاعتصام بدينه ، فنسأل الله توفيقا لطاعته ونصرا على عدونا ، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله .


( 614 )

قال ابن الملك : صف لي الله سبحانه وتعالى حتى كأني أراه ، قال : إن الله تقدس ذكره لا يوصف بالرؤية ، ولا يبلغ بالعقول كنه صفته ، ولا تبلغ الالسن كنه مدحته ، ولا يحيط العباد من علمه إلا بما علمهم منه على ألسنة أنبيائه عليهم السلام بما وصف به نفسه ، ولا تدرك الاوهام عظم ربوبيته ، هو أعلى من ذلك و أجل وأعز واعظم وأمنع وألطف ، فباح للعباد من علمه بما أحب ، وأظهرهم من صفته على ما أراد ، ودلهم على معرفته ومعرفة ربوبيته بإحداث ما لم يكن ، و إعدام ما أحدث .
قال ابن الملك : وما الحجة ؟ قال : إذا رأيت شيئا مصنوعا غاب عنك صانعه علمت بعقلك أن له صانعا ، فكذلك السماء والارض وما بينهما ، فأي حجة أقوى من ذلك .
قال ابن الملك : فأخبرني أيها الحكيم أبقدر من الله عزوجل يصيب الناس ما يصيبهم من الاسقام والاوجاع والفقر والمكاره أو بغيره قدر .
قال بلوهر : لا بل بقدر ، قال : فأخبرني عن أعمالهم السيئة ، قال : إن الله عزوجل من سيئ أعمالهم برئ ولكنه عزوجل أوجب الثواب العظيم لمن أطاعه والعقاب الشديد لمن عصاه .
قال : فأخبرني من أعدل الناس ، ومن أجورهم ، ومن أكسيم ومن أحمقهم ، ومن أشقاهم ومن أسعدهم ؟ قال : أعدلهم أنصفهم من نفسه وأجورهم من كان جوره عنده عدلا وعدل أهل العدل عنده جورا ، وأما أكسيهم فمن أخذ لاخرته اهبتها ( 1 ) وأحمقهم من كانت الدنيا همه ، والخطايا عمله ، وأسعدهم من ختم عاقبة عمله بخير ، وأشقاهم من ختم له بما يسخط الله عزوجل .
ثم قال : من دان الناس بما إن دين بمثله هلك فذلك المسخط لله ، المخالف لما يحب ، ومن دانهم بما إن دين بمثله صلح فذلك المطيع لله الموافق لما يحب
____________
( 1 ) الاهبة : العدة ، يقال : أخذ للسفر أهبته أي أسبابه .
( 615 )

المجتنب لسخطه ، ثم قال : لا تستقبحن الحسن وإن كان في الفجار ، ولا تستحسنن القبيح وإن كان في الابرار .
ثم قال له : أخبرني أي الناس أولى بالسعادة ؟ وأيهم أولى بالشقاوة ؟ .
قال بلوهر : أولاهم بالسعادة المطيع لله عزوجل في أوامره ، والمجتنب لنواهية ، وأولاهم بالشقاوة العامل بمعصية الله ، التارك لطاعته ، المؤثر لشهوته على رضي الله عزوجل ، قال : فأي الناس أطوعهم لله عزوجل ؟ قال : أتبعهم لامره ، وأقواهم في دينه وأبعدهم من العمل باسيئات ، قال : فما الحسنات والسيئات ؟ قال : الحسنات صدق النية والعمل ، والقول الطيب ، والعمل الصالح ، والسيئات سوء النية ، وسوء العمل ، والقول السيئ ، قال : فما صدق النية ؟ قال : الاقتصاد في الهمة ، قال : فما سوء ( 1 ) القول ؟ قال : الكذب ، قال : فما سوء العمل ( 1 ) ؟ قال : معصية الله عزوجل قال : أخبرني كيف الاقتصاد في الهمة ؟ قال : التذكر لزوال الدنيا وانقطاع أمرها ، والكف عن الامور التي فيها النقمة والتبعة في الاخرة .
قال : فما السخاء ؟ قال : إعطاء المال في سبيل الله عزوجل ، قال : فما الكرم ؟ قال : التقوى ، قال : فما البخل ؟ قال : منع الحقوق عن أهلها وأخذها من غير وجهها قال : فما الحرص ؟ قال : الاخلاد إلى الدنيا ، والطماح إلى الامور التي فيها الفساد وثمرتها عقوبة الاخرة ، قال : فما الصدق ؟ قال : الطريقة في الدين بأن لا يخادع المرء نفسه ولا يكذبها ، قال : فما الحمق ؟ قال : الطمأنينة إلى الدنيا وترك ما يدوم ويبقى ، قال : فما الكذب ؟ قال : أن يكذب المرء نفسه فلا يزال بهواه شعفا ولدينه مسوفا ، قال : أي الرجال أكملهم في الصلاح ؟ قال : أكملهم في العقل وأبصرهم بعواقب الامور ، وأعلمهم بخصومة ، وأشدهم منهم احتراسا ، قال : أخبرني ما تلك العاقبة وما اولئك الخصماء الذين يعرفهم العاقل فيحترس منهم ؟ قال : العاقبة الاخرة والفناء الدنيا ، قال : فما الخصماء ؟ قال : الحرص والغضب والحسد الحمية والشهوة والرياء واللجاجة .
____________
( 1 ) في بعض النسخ « شر » مكان « سوء » .
( 616 )

قال : أي هؤلاء الذين عددت أقوى وأجدر أن يسلم منه ؟ قال : الحرص أقل رضا وأفحش غضبا ، والغضب أجور سلطانا وأقل شكرا وأكسب للبغضاء ، والحسد أسوء الخيبة للنية ، وأخلف للظن ، والحمية أشد لجاجة وأفظع معصية ، والحقد أطول توقدا وأقل رحمة وأشد سطوة ، والرياء أشد خديعة ، وأخفى اكتتاما وأكذب ، واللجاجة أعي خصومة ، وأقطع معذرة .
قال : أي مكائد الشيطان للناس في هلاكهم أبلغ ؟ قال : تعميته عليهم البر والاثم والثواب والعقاب وعواقب الامور في ارتكاب الشهوات ، قال : أخبرني بالقوة التي قوى الله عزوجل بها العباد في تغالب تلك الامور السيئة والاهواء المردية ؟ قال : العلم والعقل والعمل بهما ، وصبر النفس عن شهواتها ، والرجاء للثواب في الدين ، وكثرة الذكر لفناء الدنيا ، وقرب الاجل ، والاحتفاط من أن ينقض ما يبقى بما يفني ، فاعتبار ماضى الامور بعاقبتها والاحتفاظ بما لا يعرف إلا عند ذوي العقول وكف النفس عن العادة السيئة وحملها على العادة الحسنة ، والخلق المحمود ، وأن يكون أمل المرء بقدر عيشه حتى يبلغ غايته ، فإن ذلك هو القنوع وعمل الصبر والرضا بالكفاف واللزوم للقضاء والمعرفة بما فيه في الشدة من التعب و ما في الافراط من الاقتراف ، وحسن العزاء عمافات ، وطيب النفس عنه وترك معالجة ما لا يتم ، والصبر بالامور التي إليها يرد ، واختيار سبيل الرشد على سبيل الغي ، وتوطين النفس على أنه إن عمل خيرا أجزي به وإن عمل شرا أجزي به والمعرفة بالحقوق والحدود في التقوى وعمل النصيحة وكف النفس عن اتباع الهوى . وركوب الشهوات ، وحمل الامور على الرأي والاخذ بالحزم والقوة ، فإن أتاه البلاء أتاه وهو معذور غير ملوم .
قال ابن الملك : أي الاخلاق أكرم وأعز ؟ قال : التواضع ولين الكلمة اللاخوان في الله عزوجل ، قال : أي العبادة أحسن ؟ قال : الوقار والمودة قال : فأخبرني أي الشيم أفضل ؟ قال : حب الصالحين ، قال : أي الذكر أفضل ، قال : ما كان في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال : فأي الخصوم ألد ؟ قال : ارتكاب الذنوب ، قال ابن


( 617 )

الملك : أخبرني أي الفضل أفضل ؟ قال : الرضا بالكفاف ، قال : أخبرني أي الادب أحسن ؟ قال : أدب الدين ، قال : أي الشيء أجفا ؟ قال : السلطان العاتي ، والقلب القاسي ، قال : أي شيء أبعد غاية ، قال : عين الحريص التي لا تشبع من الدنيا ، قال : أي الامور أخبث عاقبة ؟ قال : التماس رضي الناس في سخط الرب عز وجل ، قال : أي شيء أسرع تقلبا ، قال : قلوب الملوك الذين يعملون للدنيا ، قال : فأخبرني أي الفجور أفحش ؟ قال : إعطاء عهد الله والغدر فيه ، قال : فأي شيء أسرع انقطاعا ، قال : مودة الفاسق ، قال : فأي شيء أخون ؟ قال : لسان الكاذب ، قال : فأي شيء أشد اكتتاما ؟ قال : شر المرائي المخادع ، قال : فأي شيء أشبه بأحوال الدنيا ، قال : أحلام النائم ، قال : أي الرجال أفضل رضي ؟ قال : أحسنهم ظنا بالله عزوجل وأتقاهم وأقلهم غفلة عن ذكر الله وذكر الموت وانقطاع المدة . قال أي شيء من الدنيا أقر للعين ، قال : الولد الاديب والزوجة الموافقة المؤاتية المعينة على أمر الاخرة ، قال : أي الداء ألزم في الدنيا ؟ قال : الولد السوء والزوجة السوء اللذين لا يجد منهما بدا ، قال : أي الخفض أخفض ؟ قال : رضي المرء بحظه واستيناسه بالصالحين .
ثم قال ابن الملك للحكيم : فرغ لي ذهنك فقد أردت مساءلتك عن أهم الاشياء إلي بعد إذ بصرني الله عزوجل من أمري ما كنت به جاهلا ، ورزقني من الدين ما كنت منه آيسا .
قال الحكيم : سل عما بدالك ، قال ابن الملك : أرأيت من أوتي الملك طفلا ودينه عبادة الاوثان وقد غذي بلذات الدنيا واعتادها ونشأ فيها إلى أن كان رجلا وكهلا ، لا ينتقل من حالته تلك في جهالته بالله تعالى ذكره وإعطائه نفسه شهواتها متجردا لبلوغ الغاية فيما زين له من تلك الشهوات مشتغلا بها ، مؤثرا لها ، جريا عليها ، لا يري الرشد إلا فيها ، ولا تزيده الايام إلا حبالها واغترارا بها ، وعجبا وحبا لاهل ملته ورأيه .
وقد دعته بصيرته في ذلك إلى أن جهل أمر آخرته وأغفلها فاستخف


( 618 )

بها وسها عنها قساوة قلب وخبث نية وسوء رأي ، واشتدت عداوته لمن خالفه من أهل الدين والاستخفاء بالحق والمغيبين لاشخاصهم انتظارا للفرج من ظلمه و عداوته هل يطمع له إن طال عمره في النزوع عما هو عليه ؟ والخروج منه إلى ما الفضل فيه بين والحجة فيه واضحة ؟ والحظ جزيل من لزوم ما أبصر من الدين فيأتي ما يرجى له ( به ) مغفرة لما قد سلف من ذنوبه وحسن الثواب في مآبه . قال الحكيم : قد عرفت هذه الصفة ، وما دعاك إلى هذه المسألة .
قال ابن الملك : ما ذاك منك بمستنكر لفضل ما أوتيت من الفهم وخصصت به من العلم .
قال الحكيم : أما صاحب هذه الصفة فالملك والذي دعاك إليه العناية بما سألت عنه ، والاهتمام به من أمره ، والشفقة عليه من عذاب ما أوعد الله عزوجل من كان على مثل رأيه وطبعه وهواه ، مع ما نويت من ثواب الله تعالى ذكره في أداء حق ما أوجب الله عليك له ، وأحسبك تريد بلوغ غاية العذر في التلطف لانقاذه وإخراجه عن عظيم الهول ودائم البلاء الذي لا انقطاع له من عذاب الله إلى السلامة وراحة الابد في ملكوت السماء .
قال ابن الملك : لم تجرم ( 1 ) حرفا عما أردت فأعلمني رأيك فيما عنيت من أمر الملك وحاله التي أتخوف أن يدركه الموت عليها فتصيبه الحسرة والندامة حين لا أغني عنه شيئا فاجعلني منه على يقين وفرج عما أنا به مغموم شديد الاهتمام به فإني قليل الحيلة فيه .
قال الحكيم : أما رأينا فإنا لا نبعد مخلوقا من رحمة الله خالقه عزوجل ولا نأيس له منها ما دام فيه الروح ، وإن كان عاتيا طاغيا ضالا لما قد وصف ربنا تبارك وتعالى به نفسه من التحنن والرأفة والرحمة ودل عليه من الايمان وما أمر به من
____________
( 1 ) هذه اللفظة يمكن أن يكون بالجيم والراء أي لم تخطأ ، أو بالحاء المهملة على صيغة المفعول أي لم تمنع من فهمه . أو بالخاء المعجمة أي لم تترك ، أو بالراي أي لم تشك .
( 619 )

الاستغفار والتوبة وفي هذا فضل الطمع لك في حاجتك إن شاء الله ، وزعموا أنه كان في زمن من الازمان ملك عظيم الصوت في العلم ، رفيق سايس يحب العدل في أمته والاصلاح لرعيته ، عاش بذلك زمانا بخير حال ، ثم هلك فجزعت عليه أمته وكان بامرأة له حمل فذكر المنجمون والكهنة أنه غلام وكان يدبر ملكهم من كان يلي ذلك في زمان ملكهم فاتفق الامر كما ذكره المنجمون والكهنة وولد من ذلك الحمل غلام فأقاموا عند ميلاده سنة بالمعازف والملاهي والاشربة والا طعمة ، ثم إن أهل العلم منهم والفقة والربانيين قالوا لعامتهم : إن هذا المولود إنما هو هبة من الله تعالى وقد جعلتم الشكر لغيره وإن كان هبة من غير الله عزوجل فقد أديتم الحق إلى من أعطاكموه واجتهدتم في الشكر لمن رزقكموه ، فقال لهم العامة : ما وهبه لنا إلا الله تبارك وتعالى ، ولاامتن به علينا غيره ، قال العلماء : فإن كان الله عزوجل هو الذي وهبه لكم فقد أرضيتم غير الذي أعطاكم وأسخطهم الله الذي وهبه لكم فقالت لهم الرعية : فأشيروا لنا أيها الحكماء وأخبرونا أيها العلماء فنتبع قولكم ونتقبل نصيحتكم ، ومرونا بأمركم ، قالت العلماء : فإنا نرى لكم أن تعدلوا عن اتباع مرضات الشيطان بالمعازف والملاهي والمسكر إلى ابتغاء مرضات الله عزوجل وشكره على ما أنعم به عليكم أضعاف شكركم للشيطان حتى يغفر لكم ما كان منكم قالت الرعية : لا تحمل أجسادنا كل الذي قلتم وأمرتم به ، قالت العلماء : يا أولى الجهل كيف أطعتم من لاحق له عليكم وتعصون من له الحق الواجب عليكم وكيف قويتم على ما لا ينبغي وتضعفون عما ينبغي ؟ ! قالوا لهم : يا أئمة الحكماء عظمت فينا الشهوات وكثرت فينا اللذات فقوينا بما عظم فينا منها على العظيم من شكلها و ضعفت منا النيات فعجزنا عن حمل المثقلات فارضوا منا في الرجوع عن ذلك يوما فيوما ، ولا تكلفونا كل هذا الثقل . قالوا لهم : يا معشر السفهاء ألستم أبناء الجهل وإخوان الضلال حين خفت عليكم الشقوة وثقلت عليكم السعادة ، قالوا لهم : أيها السادة الحكماء والقادة العلماء إنا نستجير من تعنيفكم إيانا بمغفرة الله عزوجل


( 620 )

ونستتر من تعييركم لنا بعفوه فلا تؤنبونا ( 1 ) ولا تعيرونا بضعفنا ولا تعيبوا الجهالة علينا فإنا إن أطعنا الله مع عفوه وحمله وتضعيفه الحسنات واجتهدنا في عبادته مثل الذي بذلنا لهوانا من الباطل بلغنا حاجتنا وبلغ الله عزوجل بنا غايتنا ورحمنا كما خلقنا ، فلما قالوا ذلك أقر لهم علماؤهم ورضوا قولهم فصلوا وصاموا وتعبدوا وأعظموا الصدقات سنة كاملة ، فلما انقضى ذلك منهم قالت الكهنة : إن الذي صنعت هذه الامة على هذا المولود يخبر أن هذا الملك يكون فاجرا ويكون بارا ، ويكون متجبرا و يكون متواضعا ويكون مسيئا ويكون محسنا .
وقال المنجمون مثل ذلك ، فقيل لهم : كيف قلتم ذلك ؟ قال الكهنة : قلنا هذا من قبل اللهو والمعازف والباطل الذي صنع عليه ، وما صنع عليه من ضده بعد ذلك ، وقال المنجمون : قلنا ذلك من قبل استقامة الزهرة والمشتري ، فنشأ الغلام بكبر لا توصف عظمته ، ومرح لا ينعت ، وعدوان لا يطاق ، فعسف وجار وظلم في الحكم وغشم وكان أحب الناس إليه من وافقه على ذلك وأبغض الناس إليه من خالفه في شيء من ذلك ، واغتر بالشباب والصحة والقدرة والظفر والنظر فامتلا سرورا وإعجابا بما هو فيه ورأى كلما يحب وسمع كلما اشتهى حتى بلغ اثنين وثلاثين سنة ثم جمع نساء من بنات الملوك وصبيانا والجواري والمخدرات وخيله المطهمات العناق ( 2 ) وألوان مراكبه الفاخرة ووصائفه وخدامه الذين يكونون في خدمته فأمرهم أن يلبسوا أجد ثيابهم ويتزينوا بأحسن زينتهم وأمر ببناء مجلس مقابل مطلع الشمس صفائح أرضه الذهب ، مفضضا بأنواع الجواهر ، طوله مائة وعشرون ذراعا وعرضه ستون ذراعا ، ومزخرفا سقفه وحيطانه ، قد زين بكرائم الحلي وصنوف الجوهر و اللؤلؤء النظيم وفاخره ، وأمر بضروب الاموال فاخرجت من الخزائن ونضدت سماطين ( 3 ) أمام مجلسه ، وأمر جنوده وأصحابه وقواده وكتابه وحجابه وعظماء
____________
( 1 ) انبه ـ بشد النون ـ : عنفه ولامه .
( 2 ) أي تام الحسن .
( 3 ) نضد المتاع ـ بشد الضاد وتخفيفها ـ رتبه وضم بعضه إلى بعض متسقا أومر كوما والسماط : الشيء المصطف . وسماط الطريق جانباه .